وأقول لابني دسوقي عند عودته من المدرسة: هيا احفظ القرآن فعندك امتحان غدا. - إنني حفظته في المدرسة وسأقرؤه عليك.
وقرأه كلاما غير مفهوم ليس فيه حرف واحد سليم، وأخطاء في التشكيل وفي النطق. - اقرأ بالتشكيل. - إن المدرسة لا تطالبنا بذلك فلماذا تصممين أنت عليه؟ - لأن القرآن كلام الله ويجب أن نقرأه قراءة صحيحة، ثم إن أسلوبه جميل وأنت بنطقك هذا تجعلني لا أريد أن أسمعه. - إننا نكتبه في الامتحان ولا ننطقه؛ فلماذا أتعب نفسي؟ هل أنت أكثر معرفة وأكثر دقة من المدرسة؟
ولأن موضوع النقاش بيني وبين ابني يدور حول القرآن واللغة؛ لهذا السبب فقط تدخل الأب وهاله استهانة ابنه بحفظه، وعدم اهتمامه بالنطق والشكل؛ فعنفه بشدة، وبقي معه إلى أن قرأ القرآن كما يجب أن يقرأ. وكانت جدته لأبيه تحبه حبا عارما؛ فقد سمي على اسم زوجها الذي كان كل حياتها، ولأنه صبي، وكانت الجدات في هذا الوقت يفضلن الذكور على الإناث، وكانت تقول لأبي بكل فخر: دسوقي يقرأ القرآن كما أنزل. ولما كبر دسوقي تعمق في دينه وتمسك بتعاليمه في السر أكثر منه في العلن.
عندما كان دسوقي في الثالثة عشرة من عمره أراد أن يهرب من مدرس اللغة العربية بحجة أن المدرس تأخر، فغضبت وأصررت أن ينتظره إلى أن جاء متأخرا عن ميعاده ساعتين، فكتم دسوقي غيظه ولكنه خاصمني، وفي مساء ذلك اليوم حدثت مشادة بيني وبين أبيه لا أذكر سببها ولكن الذي أذكره أن ثروت خرج من الغرفة غاضبا وذهب ليقضي الليلة في غرفة أخرى، وذهلت عندما رأيت ابني الذي أغضبته منذ قليل يروح ويجيء بهمة ونشاط بين حجرتي وحجرة أبيه؛ لا ليقرب وجهات النظر وإنما لنقل «راديو» أبيه إلى الغرفة الجديدة، ثم يعود مسرعا وهو يغني ليأخذ «الأباجورة» والكتاب، ثم يرجع مهرولا لأنه نسي أن يأخذ «الترموس»، وهو يعلم جيدا أنني لا أطيق هذه المظاهر أمام أهل البيت ولكنه مع ذلك أصر على أن يظهر لي شماتته؛ فثارت ثائرتي وقلت لنفسي: لأنهين تلك الأعمال الصبيانية ولأشمتن أنا فيه. ولأول مرة أتصرف على عكس مشاعري وذهبت إلى زوجي في حجرته بابتسامة متشنجة وقلت له: إن ما تفعله أكثر مما يحتمل الأمر، سأنقل كل هذا إلى مكانه وكأن شيئا لم يكن. - إنني أتعب طول النهار وعندما أعود تتشاجرين معي. - لقد انتهت المشاجرة الآن ولا داعي لكل ذلك.
وعدنا إلى غرفتنا هو يمسك بالراديو والكتاب وأنا أمسك بالأباجورة والترمس، ومشينا بهذا الموكب أمام الشرير الصغير، وفرحت في نفسي أن ابني لم تتم فرحته في.
ويستغل أولاده طيبته وحبه الذي لا نهاية له ويمكرون عليه؛ فقد أرادت أمينة أن تسافر في رحلة تمر بموانئ البحر الأبيض فرفضت لأنني لا أحب أن تسافر وحدها وهي في السادسة عشرة من عمرها في رحلة مع آخرين لا أعرفهم، ولكن ابنتي أمينة لا تيئس، فأعادت الطلب ولكن من أبيها وقالت له إن صديقتها ووالدتها ستكونان في هذه الرحلة فلم لا تذهب في حمايتهما؟ فرحبت حينئذ بالفكرة ولو أني لا أعرف الصديقة ولا والدتها ولكنها ستكون في رعاية أم مثلي على كل حال. ودفعنا مصاريف الرحلة وتحدد ميعاد السفر فاتصلت بوالدة صديقتها تليفونيا لأوصيها أن ترعى أمينة كما ترعى ابنتها، وجاءني في التليفون صوت هامس فيه نعومة واستكانة؛ صوت مدرب ومثقف ثقافة معينة؛ صوت اقشعر منه بدني؛ فقررت في التو واللحظة أن أمينة لن تسافر مع هذا الصوت، ورويت القصة لزوجي؛ فسخر مني: هل تحرمين البنت من رحلة تتمناها وتنتظرها بلهفة؛ لأن أذنك لم ترتح للصوت؟
فقلت ضاحكة: أنا لا أخطئ، هذا الصوت لا يمكن أن يكون إلا لامرأة من نوع معين. - ارحمي ابنتك. - أأرحم ابنتي إذا أرسلتها في رحلة مع هذا الصوت؟ - البنت ستجن، ارحمي. - لا لن أرحم.
ولم تذهب أمينة إلى الرحلة على رغم احتجاجها وثورتها وبكائها. ولما هدأت ثائرتها جاءت وجلست بجانبي وقالت: أتعرفين يا مامي أم صديقتي تعمل ...؟ - يا خبر أسود، وكنت تعرفين؟ - طبعا، ولكن ماذا يضيرني؟ إنني لست محتاجة لمن يحافظ علي؛ فأنا التي أحافظ على نفسي. - وترمينني بالظلم وأنت تعرفين أنني على حق وأن أذني لم تخطئ؟ - الرحلة تستاهل.
وقلت ضاحكة: سأقول لأبيك ليكف عن الوقوف بجانبك. - أتعرف ابنتك كانت ستسافر مع من؟ - مع من؟! - مع سيدة تعمل ... - يا خبر أسود! - لست في حاجة أن أقول إنني كنت على حق.
ولم يدر كيف يدافع عن ابنته.
Page inconnue