أتاني هواها بل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فإذا خيض بها في شيء من غير ذلك جمت إلى مألوفها حنين الثكلى وقالت:
ما الحب إلى للحبيب الأول
واستصعبت ذلك وخليت دونه، فاحتيج إلى أن يصور لها ذلك بصورة شيء مما كانت تألفه لتستأنس به وتطمئن. والاستئناس بالمألوف مركوز في جلية النفوس، حتى إنّه ورد في حديث الإسراء أن النبي ﷺ لمّا زج به في النور وفارقه جبريل أسمعه الله تعالى كلام صاحبه أبي بكر الصديق ﵁ تأنيسا له به في ذلك المقام الهائل وهذه حكمة ربانية تعجز العقول عن الإحاطة بها وحدها، فكيف بملكوت السماوات والأرض؟ فتبارك الله أحسن الخالقين! ثم إنّه كلما عرف الإنسان ضربا من العلوم ومارسه ألفته نفسه واستأنست به؛ فإذا ارتحل عنه إلى منزلة أخرى حنت النفس إلى الأولى المألوفة أيضًا، فاحتيج إلى أن يضرب لها مثل بشيء مما ألفه أو نظيره لتستأنس به ونطمئن إليه حتى لا يختص التمثيل بالمحسوسات الصرفة، وهكذا أبدا. فقد تبين بهذه الكلمات الاحتجاج إلى التمثيل ووجه الاحتجاج، وإنّه لا غنى عنه لعام ولا خاص؛ غير أن الاحتجاج قد يكون ضروريا، وذلك عند العجز عن الوصول إلى المطلوب بدونه، وقد يكون تحسينيا، وذلك عند الاحتياج إلى الاستعانة به والاستئناس والاطمئنان. هذا الأصل، وقد يكون الاحتياج لأغراض آخر ستأتي.
هذا ما ألهمني الله تعالى في هذا المقام على سبيل الإجمال، وأما بسطه كل البسط فلا يسعه الوقت، وفيما ذكرناه كفاية، إذ ليس من الغرض الإكثار إذا فهم المقصود وأدرك المراد. فقد ظهر بهذا عظم فائدة التمثيل، وبذلك تبين فضله. وقد ضرب الله تعالى الحكيم في القرآن ضروبا من الأمثال للخلق، وقال تعالى:) إنَّ اللهَ لا يستحيي أن يضربَ مثلًا ما بعوضة فما فوقها (الآية. وقال تعالى:
1 / 34