صنع الله إبراهيم
الإهداء
إلى ذكرى حسين عبد ربه، الذي لولاه ما كان هذا الكتاب.
مدخل
السجن هو جامعتي؛ ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة. وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا. أما أبي فهو المدرسة. •••
كان حكاء عظيما، يتقن سبك حكاياته ونوادره المختلفة، النابعة من تجاربه أو قراءاته، بحيث يستولي على مستمعيه. وكدت أصبح المستمع الوحيد في السنوات الأخيرة من عمره؛ فقد كان على مشارف الستين عندما أنجبني من زوجة ثانية. وخلق بيننا تقدمه في السن - واختفاء أمي المبكر - العلاقة الحميمة التي تنشأ عادة بين الجد والحفيد. كنا نلعب معا النرد والورق، وأشاركه مزة البيرة التي يحبها ويشربها مرة في الشهر، ثم كان هو الذي شجعني على القراءة. وما زلت أذكر الليلة التي عاد فيها إلى المنزل حاملا ربطة كبيرة من «روايات الجيب» المستعملة المتنوعة. وعندما دخلت طور المراهقة كان هو الوحيد الذي لجأت إليه فجمعت مجموعة من الكتابات عن الممارسات الطبيعية لتلك المرحلة، قدمتها إليه ليقرأها ويسديني النصيحة. وكانت هذه الكتابات تحيط هذه الممارسات بإطار من الترويع والجهل، فيما عدا مقالا في مجلة جديدة اسمها «الطب النفسي» أصدرها ممارس للتنويم المغناطيسي يدعى الدكتور
محب ، حقق شهرة كبيرة في تلك الفترة، ونسب لنفسه نجاحات عديدة، أهمها استعادة ساعة
مصطفى أمين
الضائعة. تعرض المقال للأوهام المنتشرة بشأن «العادة السرية»، ونفى أية أضرار لها، وهاجم دعاة العفة المطلقة قائلا: إن الكف عن استعمال أية عضلة في الجسم يؤدي إلى ضمورها! قرأ أبي هذا المقال باهتمام لكنه ظل حائرا، وحاول أن يدفعني إلى الصلاة، ثم أخذني إلى صيدلي صديق له شاركه الحيرة ونصح بإعطائي بعض الفيتامينات. •••
وكان أبي مثل الكثيرين من أبناء عصره، متدينا مستنيرا، يربط التعاليم الدينية والأخلاقية بالواقع المستوحى من تجاربه الواسعة، وبعضها نابع من تنقلاته في أنحاء
Page inconnue