قبل أن تقرأ
الإهداء
مدخل
يوميات
1962
1963
1964
فذلكة ختامية
هوامش
قبل أن تقرأ
Page inconnue
الإهداء
مدخل
يوميات
1962
1963
1964
فذلكة ختامية
هوامش
يوميات الواحات
يوميات الواحات
Page inconnue
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
Page inconnue
صنع الله إبراهيم
الإهداء
إلى ذكرى حسين عبد ربه، الذي لولاه ما كان هذا الكتاب.
مدخل
السجن هو جامعتي؛ ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة، ومارست الاستبطان والتأمل، وقرأت في مجالات متباينة. وفيه أيضا قررت أن أكون كاتبا. أما أبي فهو المدرسة. •••
كان حكاء عظيما، يتقن سبك حكاياته ونوادره المختلفة، النابعة من تجاربه أو قراءاته، بحيث يستولي على مستمعيه. وكدت أصبح المستمع الوحيد في السنوات الأخيرة من عمره؛ فقد كان على مشارف الستين عندما أنجبني من زوجة ثانية. وخلق بيننا تقدمه في السن - واختفاء أمي المبكر - العلاقة الحميمة التي تنشأ عادة بين الجد والحفيد. كنا نلعب معا النرد والورق، وأشاركه مزة البيرة التي يحبها ويشربها مرة في الشهر، ثم كان هو الذي شجعني على القراءة. وما زلت أذكر الليلة التي عاد فيها إلى المنزل حاملا ربطة كبيرة من «روايات الجيب» المستعملة المتنوعة. وعندما دخلت طور المراهقة كان هو الوحيد الذي لجأت إليه فجمعت مجموعة من الكتابات عن الممارسات الطبيعية لتلك المرحلة، قدمتها إليه ليقرأها ويسديني النصيحة. وكانت هذه الكتابات تحيط هذه الممارسات بإطار من الترويع والجهل، فيما عدا مقالا في مجلة جديدة اسمها «الطب النفسي» أصدرها ممارس للتنويم المغناطيسي يدعى الدكتور
محب ، حقق شهرة كبيرة في تلك الفترة، ونسب لنفسه نجاحات عديدة، أهمها استعادة ساعة
مصطفى أمين
الضائعة. تعرض المقال للأوهام المنتشرة بشأن «العادة السرية»، ونفى أية أضرار لها، وهاجم دعاة العفة المطلقة قائلا: إن الكف عن استعمال أية عضلة في الجسم يؤدي إلى ضمورها! قرأ أبي هذا المقال باهتمام لكنه ظل حائرا، وحاول أن يدفعني إلى الصلاة، ثم أخذني إلى صيدلي صديق له شاركه الحيرة ونصح بإعطائي بعض الفيتامينات. •••
وكان أبي مثل الكثيرين من أبناء عصره، متدينا مستنيرا، يربط التعاليم الدينية والأخلاقية بالواقع المستوحى من تجاربه الواسعة، وبعضها نابع من تنقلاته في أنحاء
Page inconnue
مصر والسودان
بحكم وظيفته المدنية في وزارة الحربية. وآمن في الوقت نفسه بكثير من الأمور الغيبية وبالسحر والشعوذة. وقد أفادني هذا التناقض في شخصيته؛ فقد تشربت منه احترام الكثير من القيم الدينية السامية، وفي الوقت نفسه كراهية المحتل الإنجليزي والملك والأحزاب الفاسدة، والاستعداد للتمرد على الأوضاع والأفكار السائدة، وعدم التسليم بما لا يتفق مع العقل. وفتحت لي حكاياته عالما مثيرا من المثل والبطولات، وشاركته الإعجاب
بعمر بن الخطاب
و
علي بن أبي طالب
وكراهية
معاوية بن أبي سفيان . وعندما بلغت في تطوري مرحلة التمرد عليه، وجدت هدفا لتمردي في الجزء الغيبي من أفكاره.
دفعني الملل من الدراسة (التي كنت فيها متواضع الأداء )، فضلا عن ظروفي العائلية، إلى عالم القصص الساحر. ومن حسن حظي وحظ جيلي من الكتاب، أن وجدنا أمامنا مجلة أسبوعية تدعى «روايات الجيب» تصدر منذ الثلاثينيات، وتنشر ملخصات وافية لكافة أنواع الروايات العالمية من كلاسيكية إلى بوليسية. وقد أسبغ عليها ناشرها عمر عبد العزيز أمين، ما يتميز به من أسلوب عصري بعيد عن التقعر. وشاركه في ذلك عدد من المترجمين المتميزين مثل
شفيق أسعد فريد
و
Page inconnue
صادق راشد
و
محمود مسعود
و
بدر الدين خليل . وصار أبطالي هم «
أرسين لوبين » و«
روبن هود »، «الفرسان الثلاثة» و«الكابتن
بلود »، وهم مغامرون رومانسيون، وضحايا للظلم الاجتماعي، ويتميزون بالجرأة والشجاعة، وفي أغلب الأحيان يأخذون من الغني ليعطوا الفقير.
شجعني أبي على قراءتها، فشغفت بالروايات البوليسية التي دفعتني إلى كتابة أولى رواياتي وأنا بعد في الثانية عشرة من عمري. جمعت كمية من الورق الفولوسكاب المسطر ونقلت عليه خفية رواية بوليسية اسمها «الرجل المقنع» بعد أن غيرت أسماء الشخصيات ووضعت اسمي مكان اسم المؤلف الحقيقي. وفي السنة التالية حاولت أن أؤلف فعلا رواية عن سرقة مجوهرات - تجري أحداثها في لندن - لم أتقدم فيها أبعد من الفصل الأول. كما حاولت أن أترجم بعض القصص الإنجليزية.
في سنة 1950 انتقلت مع أبي وأختي الصغيرة من حارة
Page inconnue
المرصفي بالعباسية
إلى شارع السبكي
بالدقي
قريبا من كلية الفنون التطبيقية وجامعة القاهرة. وانتقلت بدوري من مدرسة
فاروق الأول
الثانوية إلى مدرسة
السعيدية . أقمنا في منزل قديم من ثلاثة طوابق، يمثل كل طابق شقة واحدة من عدة غرف واسعة عالية الأسقف، تتألف أرضياتها من بلاطات حجرية كبيرة، واقتطع أصحابه ثلاث غرف من الطابق الأول متصلة ببعضها في خط مستقيم وحولوها إلى مسكن مستقل. وكانت الغرفة الداخلية بنافذتين تطل إحداهما على حديقة صغيرة، تمتد أمام طابق أرضي تسكنه عجوز سوداء طالما روعتني. وتطل الثانية مباشرة على نصبة شواء صغيرة بجوار مقهى شعبي في شارع يشبه شوارع القرى ويحمل الاسم التقليدي لأكبرها وهو شارع «داير الناحية»، مدللا على التاريخ الريفي القريب للمنطقة كلها. أما الغرفة الثالثة - التي خصصت للطهي، وأقيم في ركن منها حمام صغير بجدارين خشبيين - فكانت تطل على الحديقة الجرداء الأمامية التي تؤدي إلى الشارع ذي المساكن البرجوازية القديمة.
1 •••
تزامن هذا الانتقال مع دخولي مرحلة المراهقة وتغير اهتماماتي ونوعية قراءاتي، فاتسعت لقصص من نوع «خذني بعاري»، وعندما أزمع مؤلفها عزيز أرماني تنظيم مسابقة لكتاب القصة الشبان، اشتركت فيها بأول قصة قصيرة في حياتي. وفزت بالجائزة الثالثة، فيما أعتقد، ومقدارها ثلاثة جنيهات.
2
Page inconnue
كانت القصة ساذجة للغاية تحمل عنوان «الأصل والصورة». ولم أدرك وقتها أن حياتي كلها ستدور حول هذه المقارنة الصعبة، والمحاولة المستمرة للمواءمة بين المثال والواقع. •••
اتسعت اهتماماتي أيضا للموضوعات السياسية؛ فقد كانت البلاد - في ظل الحكم الوفدي وبعد إلغاء معاهدة 36 - تغلي بالمشاعر الوطنية ضد الإنجليز والطبقة الإقطاعية الحاكمة. وتكونت كتائب الفدائيين في منطقة القناة، بينما شن
أحمد حسين
3
هجوما صاعقا على الملك، وقفز توزيع جريدته «الاشتراكية» بعناوينها المثيرة التي تدعو إلى الثورة. وانتشرت الصحف المعارضة مثل «الجمهور المصري» لصاحبها
أبو الخير نجيب ، و«الملايين» التي كانت تصدرها «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو)
4
علانية. ومن ناحية أخرى كانت «أخبار اليوم» تشن حملة مركزة على
مصطفى النحاس
وحكومته وتنشر صورا له تبرز خاتمه الماسي وفراء زوجته الفاخر. وكان أبي يحتفظ بنسخة من «الكتاب الأسود» الشهير،
Page inconnue
5
فجعلته نواة الأرشيف السياسي الذي شرعت في تكوينه من المواد الصحفية. واتسع هذا الأرشيف أيضا لصور نجمات السينما الشهيرات مثل
جين راسل
صاحبة الصدر الأعظم، و
كاميليا
ذات الفم الدافئ، وبيتي جرابل صاحبة السيقان الذهبية، فضلا عن
أستر ويليامز
والسابحات الفاتنات. وقد لازمتني هذه العادة إلى الآن وإن اختفت منها صور الممثلات بالتدريج. •••
كانت سنة 1952 سنة حاسمة في حياتي وحياة البلاد. في بدايتها اشتركت في المظاهرات التي خرجت من كليتي العلوم والهندسة بقيادة
عادل فهمي
Page inconnue
و
عادل حسين
و
حسن صدقي (واجتمعنا جميعا فيما بعد بسجن الواحات). وحضرت الاجتماع الحاشد في قاعة الاجتماعات الكبرى في الجامعة قبل حريق القاهرة بأيام، والذي هتف فيه الطالب الوفدي
أحمد الخطيب (وكان يبدو بطربوشه في سن أبي) بسقوط الملك. وسمح لي أبي بالذهاب إلى الاجتماع العام الأسبوعي لحزب
أحمد حسين
الاشتراكي في مقره بشارع «ضريح «
سعد »». فشاهدته في بزة بيضاء وفوجئت بقصر قامته. وفي نهاية الاجتماع حاصرت الشرطة المكان وقبض علي لأول مرة، وقضيت ليلة في قسم شرطة
السيدة زينب . وبعدها بأسبوع شاهدت
القاهرة
Page inconnue
تحترق.
وبينما جرت محاكمة
أحمد حسين
الذي اتهم بالحريق، وطالبت النيابة برأسه، كنت أجاهد عبثا لفهم أربعة كتب في الفلسفة تضمنتها المسابقة السنوية التي تنظمها وزارة المعارف، ويتمتع الناجح فيها بمجانية التعليم الجامعي، أذكر منها «التأملات الميتافيزيقية»
لديكارت ، ترجمة
عثمان أمين ، و«المنقذ من الضلال»
للغزالي ، ومع ذلك نجحت في المسابقة وكدت أرسب في امتحان الشهادة الثانوية ذاتها (التوجيهية). وكان معي في نفس الفصل
بهاء طاهر
الذي اشترك في المسابقة الخاصة بالتاريخ.
وفي منتصف السنة قامت الثورة. وقرب نهايتها التحقت بجامعة
Page inconnue
القاهرة
لدراسة القانون. لكن علاقتي بالجامعة لم تختلف عن علاقتي بالمدرسة؛ فسرعان ما هربت من قاعات المحاضرات إلى عالم الكبار المثير. وحررت بمفردي جريدة حائط باسم «الحزب الاشتراكي» دون أن يعلم الحزب عنها شيئا. •••
وكان يسكن المنزل المجاور زميل لي في الكلية مغرم بالرسم الكاريكاتيري وبتقليد الرسام المعروف
طوغان . واشتركنا سويا في إصدار مجلة مطبوعة باسم «أنوار الجامعة»، على نفقتنا الخاصة (أعطاني أبي عشرين جنيها لهذا الغرض)، مقتفين أثر تجربة مجلة «أخبار الجامعات» الناجحة التي أصدرها
محمد جلال
بالتعاون مع «أخبار اليوم». أصدرنا من مجلتنا ثلاثة أعداد، طبع العدد الأول بالحروف اليدوية في مطبعة «المستقبل» بشارع
نجيب الريحاني
التي كان يملكها يهودي يدعى
سولومون (كتبت به عدة موضوعات وقعتها جميعا باسمي الثلاثي، أذكر منها واحدا عن الشاعر الهندي
طاغور ، وملخصا لعرض قدمته مجلة «كتابي» التي كان يصدرها
Page inconnue
حلمي مراد
لكتاب
بوكاشيو
المعروف «
ديكاميرون »)، وطبعنا الثالث في مطابع «أخبار اليوم».
وفيما بعد تعرفنا على
محفوظ عبد الرحمن
الذي يسكن في نهاية شارعي، كما كنا نلتقي أحيانا على ناصيته
جلال أمين
الذي كان عضوا بالتنظيم السري لحزب «البعث»، وأعطانا مجلة سرية غريبة الشكل مطبوعة على ورق فاخر تسمى «الثأر»، ودخل معنا في نقاشات معقدة تجاوزت مستوانا الذهني. •••
Page inconnue
وفي الصف المواجه لمنزلي كان
فاروق منيب
زميلي بكلية الحقوق، يقيم مع أخته وزوجها في طابق أرضي، وكانت غرفته تطل على الشارع، فأنادي عليه وأنتظر حتى يفتح النافذة، فأعتلي قاعدتها وأقفز إلى الداخل. وينضم إلينا
مصطفى الحسيني
الذي كان يسكن في حي بين السرايات المجاور مع إخوته
بهي
و
عادل
و
عظيمة
Page inconnue
و
مهدي
و
هاني ، قريبا من أسرتي النقاش (
رجاء
و
وحيد
و
عطاء
و
Page inconnue
فريدة
وغيرهم!) و
جبر (إسماعيل و
محمد
و
عبد الرحيم
وغيرهم! أشقاء زوجة
عبد الرحمن الخميسي ) ومن أسرة
إبراهيم فتحي
وأخيه
Page inconnue
صلاح قنصوه . كان لقاؤنا بدعوى الاستذكار المشترك لكن
فاروق
كان يقضي الوقت في الكتابة مرارا وتكرارا فوق صفحات كتب القانون: «قصة بقلم
فاروق منيب » (ترك كلية الحقوق بعد سنتين، والتحق بكلية الآداب ثم عمل في الصحافة. وأصبح من كتاب القصة المعروفين) بينما كنت أستسلم لأحلام يقظة تدور حول العمل في الصحافة. أما
مصطفى
فكان سريع الاستيعاب والوحيد بيننا الذي استذكر بجدية. •••
كان ينضم إلينا أحيانا الشاعر السوداني
جيلي عبد الرحمن (الذي نشأ مع
فاروق
في بلدة
Page inconnue
أنشاص ) ونذهب معه إلى النادي النوبي؛ حيث تعرفنا
بمحمود شندي
و
إبراهيم شعراوي
و
تاج السر الحسن
وغيرهم، وأغرمنا بشرب الشاي النوبي الممزوج باللبن، والغشية التي تنتاب
جيلي عبد الرحمن - مصحوبة بعرق غزير - عندما يلقي شعره. وتداولنا كتب
جوركي
و
Page inconnue
تشيخوف
و
شتاينبك
و
كالدويل
و
أمادو
و
بريخت
و
Page inconnue
إيلوار
و
سارتر
و
مارلو
و
كامو
و
توماس مان . وحاولنا عبثا أن نفهم كتب «
هنري لوفافر » في ترجمتها البيروتية. وترددنا على جمعية الأدباء ومجلة «
Page inconnue