وما دمنا قد أشرنا إلى الأسلوب فحتم أن نصرح بأننا نحترم أصول اللغة وتراثها، ونعنى بمفرداتها، ونوصي باستيعاب روائعها، ولكننا نوصي في الوقت ذاته بأن يطلق الشاعر نفسه على سجيتها ما دام قد أخذ قسطا وافرا من أدب اللغة. وكل شاعر لا يستطيع أن يملك حرية التعبير عن أزماته النفسية، وعواطفه الشعرية، وعالمه الوجداني تعبيرا خالدا مستقلا تتجلى فيه براعته الطليقة، يعد بعيدا عن الكمال الفني. وكم من عائب لأساليب اللغة المبتكرة وهو جاهل بمرونة اللغة، وغافل عن كنوزها التي لا تجد المستغلين القادرين، بينما هؤلاء العائبون يتغاضون عن توجه الشعراء إلى تغذية العامية بإنتاجهم في الأغاني وغيرها؛ مما يحولها تدريجيا إلى لغة فنية، ويجعلها خطرا أدبيا إلى حد ما على اللغة الفصحى التي تفقد جهود أولئك الشعراء لخيرها. ولست أنكر أن للغة العامية رسالة تؤديها في أوساطها، ولكن من الممكن إبلاغها منزلة العربية البسيطة السهلة.
إن الفن فن في أية لغة وفي أية صورة وتعبير، ولو كانت اللغة العربية السلسة السليمة عاجزة عن البيان السائغ لعذرنا أنصار العامية من غير أهلها على اللجوء إليها. أما والواقع نقيض ذلك فهذا التدلي بلغتنا لا معنى له ولا موجب، والأولى بمن يأخذون علينا تطويع لغتنا للتعبير عن كل ما توحي به الحياة بدل أن نواجهها كالبكم المشدوهين، الأولى بهم - إذا لم يعرفوا تقدير ذلك لنا - أن ينظروا في الخطر الداهم على اللغة الفصحى من سيل العامية الذي يعززه أولئك الشعراء المتقربون إلى الجماهير على حساب الإساءة إلى الأدب الرفيع، وإن عانت الفصحى من وراء ذلك ما تعاني من إعراض وإصغار.
ويرى بعض الشعراء المقلين وبعض النقاد أن الوزن والقافية من أعداء الفكرة، ومن هذا يتدرجون إلى تثبيط المنجبين من الشعراء، وينتقدون محاولاتهم الجريئة، وهذا خطأ ظاهر؛ فالشعر ليس ميدانا لدراسة الموضوعات العلمية وغير العلمية المجردة، كما أن الشاعر الناضج القوي الإيقاع لا تعوقه مطلقا الأوضاع عن التعبير الحي، ولا عن التسامي أو التعمق، بل يدفعه نضوجه، وثقته بنفسه، ومرانته إلى تكييف اللغة وأوزانها وقوافيها التكييف الذي يناسب موضوعات شعره بعيدا كل البعد عن المحاكاة، مطلقا نفسه على سجيتها كالطائر الحر الغرد حينا، وكالحكيم الذي يملي عليه القدر وحي الحياة الطليقة حينا آخر. ومن ثمة اختلفت أساليب الشعراء المتحررين حسب أمزجتهم ونزعاتهم وموضوعاتهم، بل قد يختلفون في نفس الموضوع الواحد بحكم اختلاف الطابع الشخصي؛ فأسلوب ملتون الإنجليزي شاعر القرن السابع عشر في «الفردوس المفقود» غير أسلوب بيير جان جوف الفرنسي شاعر القرن العشرين في نفس هذا الموضوع، وهو اختلاف طبيعي ولا غبار على ذلك، بل هو أمر ممدوح.
الشعر ليس صناعة بل هو فن من الفنون، وجميع الفنون في أصلها مواهب، والروح التي خلفها شائعة في مظاهر الطبيعة التي يستوحيها جميع الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين ومثالين وغيرهم. ووحدة هذه الروح التي تلمح خلف مرائي الطبيعة والحياة هي التي تجعل النقاد يصفون التصوير بأنه شعر الأصباغ، والنحت بأنه الشعر الصامت، والشعر بأنه التصوير الناطق، وهلم جرا ... وما ذلك إلا بسبب المشاركة الروحية بين جميع هذه الفنون. وأما النظم فيرجع إلى طبيعة إيقاعية توجد عند كثيرين من الناس، وقد لا تكون قوية عند بعض الشعراء، بل قد لا توجد عندهم بتاتا، فهؤلاء أمين الريحاني، وفؤاد صروف، وأحمد الصاوي محمد، وإبراهيم المصري، وتوفيق مفرج بين شعراء العربية المجيدين، ولكنهم لا ينظمون لأن سليقتهم لا تواتيهم بالنظم وإن تفجرت بالشعر الصافي. وإذا كانت كلمة «شعر» مأخوذة أصلا من كلمة «شير» العبرية بمعنى غناء، فليس كل شعر غناء، كما أنه ليس كل شعر نظما. والشاعر المثقف البعيد التأملات يستطيع بفطرته أن يجعل شعره مسرحا لفنون ومعارف شتى في غير كلفة يحس بها، كما أنه بقدرته النظمية - إذا كانت ناضجة لديه - يستطيع التعبير عن شتى الخواطر الوجدانية بحرية تامة، فليس النثر وحده اللغة الحرة للتعبير عن الآراء. والشاعر الممتاز هو الذي يجمع بين صفتي النضوج والتحرر، وكلتاهما وليدتا المواهب أولا، والاطلاع أو التأمل ثانيا، والمرانة ثالثا؛ فالموهبة الشعرية ودقة التأمل والمرانة هي التي أنطقت الشاعرة العربية حميدة بنت زياد بهذه الأبيات الرائعة تصف واديا:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
Page inconnue