من العبث أن يقصر الشاعر همه على الفضيلة؛ فالفضيلة والرذيلة على السواء من مواد الفنان كما يقول أوسكار وايلد، وليست مرائي الشعر عند استيعابه هي مرائي الحياة ولكنها نفوس قرائه، والشعر الذي يثير خلافا حادا حوله يدل على حيويته وقوته. كذلك كانت أشعار المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء المعري بين أعلام الشعر العربي ... والشعر فن تعبيري لا يقصد منه إلى الفائدة، ولكنه كفيل بها في تربية الروح الفني، وما يؤدي إليه ذلك من التسامي بنفسية الأمة بل بالإنسانية عامة، شأن جميع الفنون الجميلة. فلا غبار إذن على فائدة الشعر إذا جاءت عفوا، وكل شعر عظيم له فائدته الثقافية، ولو كان في أصله لهوا؛ لأن العبرة بنبعه الفني الخالص.
ولا مشاحة في أن الإنسانية في القرن العشرين تقدمت كثيرا من الوجهة المادية التي تتفق وأهواء العقل المدرك، ولكن أحوالها النفسية والخلقية ما تزال متأخرة تأخرا بليغا ... وللعقل الباطن ارتباط بهذه الوجدانيات، فالعناية بتهذيبه وتنظيم صلاته بالعقل الواعي المدرك مما يعود بأجزل الفوائد على الإنسانية، وهذا ما تستطيع الفنون الجميلة - وبينها الشعر - أن تقوم به خير قيام؛ فتشجيع الفنون الجميلة واجب حتمي، ونحن أحوج إليها في هذا العصر المادي القاسي من حاجتنا إليها في أي عصر مضى. وعندي أن أديب الذكاء والصناعة يعتمد أولا على عقله الواعي خلافا للأديب المطبوع، ويلوح لي أن العقل الباطن متصل بجوانب الخلق والغريزة اتصالا خطيرا، ويتعاون العقل الواعي والعقل الباطن بنسب مختلفة في تكييف طباع الأدباء وطوابع آدابهم. والشاعر الحي هو الذي يكون شعره مثال نفسه، وهذا معناه الانسجام التام بين العقل المدرك والعقل الباطن، وقد لا يكون الانسجام تاما في جميع الظروف. ومهما يكن من شيء فهذا ما أراه تفسيرا للتباين وللاتفاق في أحوال الشعراء ومظاهر شعرهم من معان ومرام وديباجة وموسيقى هي موسيقى النفس والخواطر قبل أن تكون موسيقى الحروف التي لا تتعدى في الواقع الرموز لحالات الوجدان والفكر، وهم في كل ذلك غير مستقلين، بل يتفاعلون مع البيئة ومع الحياة عامة، وتتجلى مرائيها في نفوسهم قبل أن يبرزوها، كما تتردد أصداؤها في نفوسهم قبل أن يلحنوها.
وإذا كنت أومن إيمانا عميقا بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة، فلست أعني بذلك أن تقديرها شامل في الظروف الحاضرة، فكم تتباين الأذواق. وعلى حد تعبير برونزلاو هوبرمان لا يرتقب أن يجيد عزف موسيقى بيتهوفن إجادة المتذوق المعجب بها من ليست لديه أثارة من عواطف بيتهوفن، وكذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة، فإن أصدق المتأثرين بالشعر - مثلا - هم من يشاركون الشاعر عواطفه وأهواءه، ولا ينتظر مثل ذلك من غيرهم، وبنسبة هذه المشاركة تختلف درجة التجاوب بين الشاعر وقرائه ونقاده.
ومن الطبيعي ألا يرضى عن شعر صاحب هذا الديوان كثيرون من الخاصة ومن غير الخاصة كما هو المعهود إزاء كل أدب غير مألوف، فإن أكثر الناس يؤثرون من الشعر ما يخيل لك عند سماعه أنك سمعته قبل ذلك مرارا ولو في صور متقاربة، وهذا الجفاء هو وحده المبرر للتعاون الأدبي من أقران الشاعر ومريديه شرحا ودراسة، إذ لا أنسى كيف قوبل صدور ديواني «أشعة وظلال» منذ بضع سنوات بنقد كثير لتجرده التام عن كل تصدير وتعقيب. بيد أني أرجو من صميم قلبي أن يحين اليوم الذي يستغنى فيه عن نظير ذلك في دواويني المقبلة، فتصير نماذج هذا الشعر مألوفة معهودة، وتسترعي الأنظار والحوار بدلها النماذج الجديدة القوية لشعراء الشباب الثائرين. وبودي الصادق ألا يحمل القارئ هذه الدراسات والشروح على أكثر من محمل التجاوب الأدبي مع نفسية الشاعر؛ فإن فيها الكريم من التمجيد والإشادة بمحامد لا أعرفها في نفسي، ولكنها فيما عدا ذلك لها قيمتها الأدبية الممتازة في تصوير مواقف المدارس الأدبية نحو الشعر العصري.
إن الشعر العصري هو قبل كل شيء لسان الحياة العصرية، والحياة العصرية ذات صلات شتى بالماضي وذات تطلع إلى المستقبل، فليس غريبا في الثورة الروحية والفكرية الحاضرة أن يأتي هذا الشعر مزيجا منوعا لا في مصر وحدها بل في العالم الأدبي بأسره، ولا ينتظر من مثلي أو من أي شاعر عصري آخر إلا أن يكون صادق الشعور والتعبير، فلا غبار على هذا التنويع الصادق ما دام نتيجة أحاسيس شتى، هذا التنويع الذي نجده في العواطف والتأملات والأساليب، كما حدث في عهد الشاعر الألماني العظيم «هنريش هيني
Heinrich Heine »، فقد جمع شعره بين نفحات القديم وبين النزعة الرومانطيقية التي كان آخر شعرائها في قومه وبين نزعة التحرر العصري التي ساعد على تكوينها، وقد أصبحت الصورة الغالبة على الشعر العصري في الغرب صورة الرومانطيقية الواقعية
romantic realism .
ونزعة التحرر هي صديقة الأسلوب الشخصي الذي هو سمة من سمات الأدب الحي، فإن الثالوث العظيم في الشعر العربي «المتنبي، والمعري، وابن الرومي» يمتاز بهذه النزعة التي تشمل الأسلوب وغير الأسلوب، وإنه لخير ألف مرة أن يكون الشاعر غامضا في بعض نواحيه ويكون مستقلا في تعابيره، من أن يكون ببغاويا أو صاحب شعر مستعار، فهذا «هيني» على عظمته الليريكية كان غامضا عميقا في مناسبات كثيرة ، حتى أن أبياته ترى حائمة حول خواطره لا متناولة لها مباشرة، كما لاحظ مترجمه الشاعر «لويس أنترميير
Louis Untermeyer ».
وقد كان شعراء العربية السالفو الذكر يعابون في حياتهم على أساليبهم جزاء ما كانوا يبذلونه من جهد لتجويد أدواتهم اللغوية القاصرة، ثم دار الزمن دورته فإذا بتلك الأساليب الطريفة تكتسب حرمة، ويصبح جديدها مألوفا محترما، وما كان يحسب بعيدا عن الأناقة لطرافته وخروجه على التقاليد صار يعد غير ذلك في معظم الأحوال. ومهما يكن من شيء فالأناقة التي ترادف التصنع مرذولة بغيضة، وهي تنافي روح الفن، ولخير منها ألف مرة الجمال المتواضع، بل الجمال العربيد. وليست العبرة في الواقع بالأساليب ذاتها بل بالاستعداد للتأثر بها، وهذا الاستعداد يختلف بين جيل وآخر، وبغير وجوده لا يستطيع الشعر أن ينشئ في النفوس تصوير الحالات التي خلقته.
Page inconnue