L'existentialisme : Une très courte introduction
الوجودية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
علاوة على هذا، فإن استثناء ما لا يقبل القياس مما يعد معرفة ترك بعضا من أهم أسئلتنا ليس بلا إجابة فقط، لكن أيضا غير قابل للإجابة. فهل قيمنا وقواعدنا الأخلاقية ليست سوى تعبير عن تفضيلاتنا الشخصية؟ إذا أعدنا صياغة ما قاله عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل، وهو أبعد ما يكون عن الوجودية: هل يمكن أن يصدق أحد حقا أن الاشمئزاز الذي ينتابه عندما يشهد القسوة غير المبررة هو ببساطة تعبير عن حقيقة أن ذلك تصادف أنه لا يروق له وحسب؟ كان هذا هو مذهب «الانفعاليين» في النظرية الأخلاقية، التي أحيانا يطلق عليها «النظرية الانفعالية للأحكام الأخلاقية». لقد دفعوا إلى هذا الاتجاه بسبب قبولهم لقصر الوضعيين للمعرفة على ما يمكن قياسه. لكن هل نحن حقا مؤهلون لنوع المعرفة الخالصة التي يطلبها الوضعيون من العلم؟ ربما يمكن إعادة تقديم الفرد المدرك إلى هذه المناقشات دون المخاطرة بموضوعيته. لكن سيعتمد الكثير على مراجعتنا لتعريفنا للموضوعية، وكذلك على اكتشاف استخدامات أخرى لكلمة «حقيقي» إلى جانب «قبول الوضعيين بالتجربة الشعورية». وقد استجاب الوجوديون ضمن آخرين لهذا التحدي.
يضرب جان بول سارتر (1905-1980) مثالا لهذه الاستجابة عندما يقول: إن النظرية الوحيدة التي تصلح اليوم عن المعرفة هي تلك التي تقوم على هذه الحقيقة الفيزيائية الميكروسكوبية القائلة : المجرب جزء من المنظومة التجريبية. ما كان يدور في عقله هو ما يطلق عليه «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج» في الفيزياء الذرية الذي ينص - في تفسيره المعروف على الأقل - على أن الأدوات التي تمكننا من رصد مقدار زخم إلكترون مداري وموضعه تتدخل في عملية الرصد بحيث يمكننا أن نحدد إحدى السمتين فقط، لا كلتيهما في آن واحد. بالمثل، قد يعترض المرء على أن الفعل المجرد المتمثل في التدخل في حياة قبيلة «بدائية» يمنع الباحث في علم الأعراق من دراسة هؤلاء القوم بحالتهم الفطرية. أدت مثل هذه الاعتبارات إلى تقويض مفهوم الوضعيين عن المعرفة بوصفها قابلية القياس. لكنها حجبت أيضا رأي العقلانيين عن الواقع باعتباره خاضعا على سبيل الحصر لمنطق «إما/أو» دون مساحة للتفاوض. مثال آخر على هذا الأمر هو الضوء، الذي يتسم بصفات تشير إلى أنه موجة وأخرى تشير إلى أنه جسيم، ومع هذا يبدو أن هاتين السمتين تنفي إحداهما الأخرى، وهو ما يجعل السؤال: «هل الضوء موجة أو جسيم؟» غير قابل للإجابة وفق منطق «إما/أو» التقليدي؛ إذ يبدو الضوء كلا الشيئين، وفي الوقت نفسه ليس أيهما على وجه حصري. هنا نحتاج نوعا آخر من المنطق لفهم هذه الظاهرة. وقد ظهرت أمثلة عديدة أخرى من مجالي الفيزياء والرياضيات في مطلع القرن العشرين تناقض ادعاءات الوضعيين والعقلانيين عن المعرفة والعالم. (2) التجربة المعاشة
دخل الوجوديون في هذا العالم ذي الملاحظات والتقييمات المحدودة والنسبية بدافع «شخصنة» أكثر الظواهر موضوعية في حياتنا. ماذا - على سبيل المثال - يمكن أن يكون أكثر موضوعية وحيادية من الزمان والمكان؟ حتى وجهة النظر المنقحة عن الزمكان التي تقدمها لنا نظرية النسبية تعتمد على مرجع مطلق أو ثابت؛ ألا وهو سرعة الضوء. فنحن نقيس الزمن بالدقائق والثواني، ونقيس المكان بالياردات والأمتار. يبدو هذا أيضا كميا؛ ومن ثم موضوعيا في عرف الوضعيين. ومع هذا يضيف المفهوم الذي يطلق عليه الوجوديون اسم الوقتية «الوجدانية» بعدا كيفيا وذاتيا لظاهرة الوعي بالزمن. في نظر الفيلسوف الوجودي، فإن قيمة ومعنى كل بعد وقتي من الزمن المعاش مرتبطان بمواقفنا واختياراتنا. بعض الناس - مثلا - مضغوطون دوما للوفاء بالتزاماتهم، في حين هناك أناس آخرون لا يجدون ما يشغل وقتهم. يجري الوقت بسرعة حين تكون مستمتعا، لكنه يمر ببطء عندما تكون متألما. وحتى النصيحة الكمية بحسن استثمار أوقاتنا، من وجهة النظر الوجودية، هي توصية لمراجعة وتقييم قرارات الحياة التي تشكل أولوياتنا الوقتية في المقام الأول. لو أن «الوقت هو الجوهر»، ويصر الوجوديون على أنه كذلك، فجزء من كينونتنا إذن هو الأسلوب الذي نعيش به وجودنا «الحالي» و«المستقبلي»، والذي تشكله الكيفية التي نتعامل بها مع انخراطنا في الحياة اليومية.
غالبا ما يعبر الفيلسوف الوجودي تعبيرا دراميا عن هذا «الزمن المعاش». هكذا يصف ألبير كامو (1913-1960) في حكايته الرمزية عن الاحتلال النازي لباريس - بعنوان «الطاعون» - المواطنين في مدينة موبوءة بالطاعون وخاضعة للحجر الصحي، فيقول: «عدائيون مع الماضي، ونافدو الصبر مع الحاضر، ومخدوعون في المستقبل، كنا مثل من أجبرتهم عدالة البشر، أو كراهيتهم، على العيش خلف قضبان السجن.» إن مفهوم الاحتجاز وكأنه «قضاء عقوبة في السجن» هو مفهوم وجودي بصورة واضحة. وسارتر - في تحليل ثاقب للوعي الانفعالي - يتحدث عن شخص «يقفز من أجل السعادة» كأسلوب لاستخدام تغيراته الجسمانية في استحضار احتمال إحداث موقف مرغوب فيه «فجأة»، وكأنما بفعل السحر، دون الاضطرار إلى انتظار التكشف الزمني اللازم. ومع أن سارتر ذكر هذه الفرضية في ثلاثينيات القرن العشرين، فالمرء يتذكر فورا صورة هتلر وهو «يختال فرحا» أسفل قوس النصر خلال الاحتلال الألماني لباريس. للوقت لزوجته الخاصة، كما قال ميشيل فوكو. والوقتية الوجدانية تجسد تدفقه.
لكن المكان الوجودي مشخصن أيضا. يستشهد سارتر بالمفهوم الذي وضعه عالم النفس الاجتماعي كيرت لوين عن الحيز «النفسي» (المكان المعاش) كمرادف كيفي للزمن المعاش خلال وجودنا اليومي. تحكي القصة عن شخصين: أحدهما يفضل أن يقترب أكثر ما يمكن وجها لوجه في محادثته، والآخر يفضل الابتعاد والانعزال، فيستحثان وينفر أحدهما من الآخر في الغرفة في حفل كوكتيل عند محاولة إجراء حوار. المكان المعاش مفهوم شخصي؛ هو الطريق المعتاد الذي أسلكه إلى عملي، أو تجهيزات الجلوس التي تفرض نفسها بسرعة في الفصل الدراسي، أو ترتيب الأدوات على مكتبي؛ هو ما يسميه علماء النفس «منطقة راحتي». هذا أيضا مرتبط بمشروع حياتي. وتعتمد كيفية تعاملي مع «الأماكن» التي تهمني على كيفية اختياري تنظيم حياتي.
هناك بالطبع اعتبارات نفسية، لكن من السمات المحددة للفكر والمنهج الوجودي أن هذه الاعتبارات تحمل دلالة وجودية كذلك؛ فهي تعبر عن طرائقنا في الوجود وتفتح بابا لمعنى واتجاه حياتنا. وكما سنرى لاحقا، مع أن العديد من الفلاسفة مالوا إلى انتقاص أو حتى انتقاد الدلالة الفلسفية لمشاعرنا وأحاسيسنا، فقد رفع الوجوديون من شأن مشاعر مثل «القلق» (الذي وصفه كيركجارد بأنه وعينا بحريتنا) وأحاسيس مثل «الغثيان» (الذي وصفه سارتر بأنه تجربتنا مع صدفة الوجود و«ظاهرة الكينونة»). يضعهم هذا فورا في حوار محتمل مع الفنانين المبدعين الذين يتاجرون بحياتينا العاطفية والخيالية. في واقع الأمر، لطالما كانت العلاقة بين الوجودية والفنون الجميلة قوية، حتى إن نقادها غالبا ما كانوا يرفضون الاعتراف بها كحركة أدبية وحسب. وبطبيعة الحال، فإن ما يثبت هذا الارتباط هو الطبيعة الدرامية للفكر الوجودي، علاوة على احترامه للقوة الكاشفة للوعي الشعوري واستخدامه «التواصل غير المباشر»، الذي سنتحدث عنه بعد قليل. لكن القضايا التي يتناولها الوجوديون، والاختلافات الدقيقة التي يحددونها، وتوصيفاتهم المتزمتة، وفوق كل هذا، حوارهم الصريح مع أبناء المذاهب الفلسفية الأخرى يجعل الوجودية بشكل واضح حركة فلسفية في المقام الأول، حتى وهم يشددون على غموض الحد الفاصل بين الخيالي والمجازي، وبين الفلسفي والأدبي. (3) «حقيقة تستحق الموت من أجلها»
لو أمكن شخصنة المكان والزمان الموضوعيين وإخضاعهما لاختيارنا ومسئوليتنا، كذلك سيكون الأمر مع مفهوم الحقيقة «الموضوعية». فكما هو مذكور في البداية، فرق كيركجارد بين «الموضوعي» و«الشخصي» في التفكير والحقيقة. وقد أخذ بعين الاعتبار الاستخدامات العلمية الشائعة للتفكير الموضوعي التي وصفها كالتالي:
يجعل أسلوب التفكير الموضوعي الذات عرضية؛ وبالتالي يحول الوجود إلى شيء محايد، شيء متلاش. وبعيدا عن الذات يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى الحقيقة الموضوعية، وفي الوقت الذي تصبح فيه الذات وذاتيتها محايدتين، تصبح الحقيقة أيضا محايدة، وهذه الحيادية هي بالضبط ما يمنحها صلاحيتها الموضوعية؛ لأن كل منفعة - مثل كل قرار - متجذرة في الذاتية. يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى التفكير التجريدي، إلى الرياضيات، إلى المعرفة التاريخية بمختلف الأمور، ودائما ما يبتعد عن الذات التي يصبح وجودها أو عدم وجودها، بحق، حياديا إلى ما لا نهاية.
موضوعات الوجودية الخمسة
هناك خمسة موضوعات أساسية ينظر الفلاسفة الوجوديون إلى كل منها بأسلوبه الخاص. وبدلا من حصر «الوجودية» في تعريف ضيق، يمكن تبينها من خلال التشابه (تداخل الموضوعات وتلاقيها) بين هؤلاء الفلاسفة. (1) الوجود يسبق الجوهر:
Page inconnue