L'existentialisme : Une très courte introduction
الوجودية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
تمهيد
شكر وتقدير
1 - الفلسفة كأسلوب حياة
2 - التحول إلى الفردية
3 - الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
4 - الصدق
5 - فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
6 - الوجودية في القرن الحادي والعشرين
المراجع
قراءات إضافية
Page inconnue
مسرد المصطلحات
تمهيد
شكر وتقدير
1 - الفلسفة كأسلوب حياة
2 - التحول إلى الفردية
3 - الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
4 - الصدق
5 - فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
6 - الوجودية في القرن الحادي والعشرين
المراجع
Page inconnue
قراءات إضافية
مسرد المصطلحات
الوجودية
الوجودية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
توماس آر فلين
ترجمة
مروة عبد السلام
مراجعة
Page inconnue
محمد فتحي خضر
إلى روز وبوب فلين، وبرادي وكولين وألانا
تمهيد
شاع ارتباط الوجودية بالمقاهي الباريسية في ليفت بانك و«عائلة» الفيلسوفين: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، التي اجتمعت هناك في الأعوام التي أعقبت مباشرة تحرير باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية. يتصور المرء مفكرين غير تقليديين وطليعيين، لا تفارقهم السجائر، يستمعون إلى موسيقى الجاز وهم يناقشون في حرارة تبعات حريتهم السياسية والفنية المكتسبة حديثا. يسودهم مزاج الحماس والإبداع وتحليل الذات القلق، والحرية ... دائما الحرية.
على الرغم من أن هذا يعكس الصورة التي تروج لها وسائل الإعلام اليوم ويجسد - بلا شك - روح العصر، فإنه يخفي الدلالة الفلسفية للفكر الوجودي، مصورا إياه كظاهرة ثقافية مرتبطة بفترة تاريخية معينة. ربما يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه أسلوب فكري يميل إلى النظر إلى الفلسفة نظرة مادية بدلا من نظرة مجردة وخالدة. كانت رغبة الوجوديين في الارتباط بالعصر سببا في التزامهم الاجتماعي والسياسي، لكنها ربطتهم أيضا بمشكلات زمانهم، ودعت الأجيال اللاحقة إلى النظر إليهم كظاهرة عفى عليها الزمن.
هذا سوء تفسير للفكر الوجودي آمل أن أصححه في هذا الكتاب القصير. لو كانت الوجودية تحمل آثار ظهورها بعد الحرب، فإنها على الأقل - من حيث كونها أسلوبا للتفلسف والتعامل مع الموضوعات المهمة في حياة الناس - قديمة قدم الفلسفة نفسها، وهي معاصرة شأن الحالة الإنسانية التي تعكف على دراستها. ولكي أضمن منذ البداية عدم إغفال هذه النقطة، سأبدأ
الفصل الأول
بمناقشة علم الفلسفة، لا كمذهب أو نظام فكري وإنما كأسلوب حياة. وقد استوحيت عنوان
الفصل الأول
من دراسة الباحث الكلاسيكي بيير هادو عن عودة المذهب الرواقي كمثال يوضح كيف تستطيع الفلسفة «القديمة» أن تجعل لحياة الناس معنى حتى في أيامنا المعاصرة. ومع أن هادو يفضل فلسفة الإغريق والرومان، فإنه يجد اهتماما مشابها في كتابات سورين كيركجارد وفريدريك نيتشه، المعروفين ب «رائدي» الحركة الوجودية في القرن التاسع عشر، ولدى خلفائهما في القرن العشرين.
Page inconnue
من المعروف عموما أن الوجودية فلسفة تدور حول الفرد بكيانه المادي الملموس. وهذه نقطة قوتها ونقطة ضعفها في الآن ذاته. ففي عصر وسائل الإعلام الجماهيرية والدمار الشامل، يحسب للوجودية دفاعها عن القيمة الأصيلة لمن يسميه مناصرها الرئيسي سارتر «الفرد الطبيعي الحر»، أي الفرد الفاعل المكون من لحم ودم. ونظرا إلى الانجذاب الذي يكاد لا يقاوم نحو الانصياع للعادات في مجتمعنا الحديث، فإن ما سنسميه «فردية وجودية» يعد إنجازا، لكن ليس دائما. فنحن نولد مخلوقات بيولوجية، لكننا يجب أن نصبح أفرادا وجوديين عن طريق تحمل مسئولية أفعالنا. هذا تطبيق لنصيحة نيتشه بأن «تتصرف على طبيعتك التي جبلت عليها». لا يعترف كثير من الناس بهذه المسئولية وإنما يتهربون من فرديتهم الوجودية إلى أمان الزحام المفتقر إلى الهوية. وكدرس عملي للتحول إلى الفردية، سأتناول في
الفصل الثاني
ما يسميه كيركجارد «دوائر» الوجود أو «خطوات على طريق الحياة»، وسأختم ببعض الملاحظات حول كيف كان نيتشه سينظر إلى مشروع التحول إلى الفردية الوجودية هذا.
بعد انتهاء الحرب بقليل، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» هزت الحياة الثقافية في باريس وكانت بمنزلة بيان رسمي بإطلاق الحركة الوجودية. منذ ذلك الحين، ارتبطت الوجودية بنوع معين من الفلسفة الإنسانية التي تولي الإنسان والقيم الإنسانية مكانة مرموقة، وارتبطت بانتقاد صور بديلة من الفلسفة الإنسانية المقبولة وقتذاك. في
الفصل الثالث
أناقش آثار هذه المحاضرة المعقدة، وهي الوحيدة التي ندم سارتر على نشرها، علاوة على «رد» معاصره مارتن هايدجر في مقاله الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية».
ومع أنه قد شاع أن القيمة الأسمى للفكر الوجودي هي الحرية، فإن فضيلته التي تحتل الصدارة هي الصدق. يخصص
الفصل الرابع
للحديث عن هذا الموضوع بالإضافة إلى طبيعة وصور خداع الذات، التي تمثل نقيضا له. وقد ربطت بين الصدق والفردية الوجودية، وفكرت في احتمالية وجود خلق صدق قائم على المسئولية الوجودية.
ولكي أواجه النقد، الذي انتشر عقب الحرب مباشرة، بأن الوجودية ليست إلا صورة أخرى من الفردية البرجوازية المجردة من الوعي الجمعي وغير المبالية بالحاجة إلى تناول المشكلات الأخلاقية للعصر، خصصت
Page inconnue
الفصل الخامس
للحديث عن مشكلة «الفردية المكبوتة»، حسبما يحاول الوجوديون تصور التضامن الاجتماعي بأسلوب سيعزز حرية ومسئولية الفرد بدلا من أن يهددهما، وهو ما يبقى أمرا غير قابل للتفاوض.
أما في الفصل الأخير، فإنني أتناول الجوانب السابقة وغيرها التي يتسم بها الفكر الوجودي للتدبر في ارتباط الفلسفة الوجودية المستمر بعصرنا. من الضروري أن نفصل بين الدلالة الفلسفية للحركة ورؤاها القوية واهتمامها بالملموس، وبين الزخارف الجذابة والبالية في الوقت نفسه التي اتسمت بها في سنوات مراهقتها في ليفت بانك. ومن بين عدة موضوعات مرشحة محتملة اخترت أربعة موضوعات مهمة في عصرنا كان للوجوديين فيها إضافة فلسفية.
ثمة سمتان لهذا الكتاب المختصر قد يعتبرهما القارئ من أوجه القصور، حتى في مقدمة قصيرة، وهما: غياب عدد كبير من «الوجوديين» المعروفين، وعلى النقيض من ذلك، الحضور - المفرط أحيانا - لجان بول سارتر على مدار صفحات الكتاب. فيما يتعلق بالسمة الأولى، فعلى الرغم من أنه كان بمقدوري أن أذكر - على سبيل المثال - ديستويفسكي أو كافكا، أو جياكوميتي أو بيكاسو، أو يونسكو أو بيكيت، وكلهم نماذج قوية للموضوعات الوجودية في الفن، فقد انصب اهتمامي على التعامل مع الوجودية كحركة فلسفية ذات آثار فنية بدلا من اعتبارها (مجرد) حركة أدبية ذات ادعاءات فلسفية، وهو المفهوم الشائع مع خطئه. السبب وراء عدم مناقشتي بوبير أو بيرديف، أو أورتيجا إي جاسيت أو أونامونو، وغيرهم الكثير من الفلاسفة الذين يستحقون الذكر هنا، هو أن هذا الكتاب ما هو سوى مقدمة قصيرة «جدا». وسيجد المهتمون بقراءة المزيد عن الموضوعات التي نوقشت هنا اقتراحات بمصادر مفيدة في نهاية الكتاب.
أما فيما يخص الإكثار من ذكر سارتر، فهو وسيمون دي بوفوار الفيلسوفان الوحيدان في هذه المجموعة اللذان اعترفا بأنهما وجوديان. ونظرا لأن الوجودية حركة منتمية إلى القرن العشرين، فقد تركزت هذه الحركة بالتأكيد على أعماله. ولا يوجد من يمثل الاتحاد والتوتر بين الفلسفة والأدب، التصوري والخيالي، النقدي والملتزم، الفلسفة باعتبارها تأملا والفلسفة باعتبارها أسلوبا للحياة، وهي السمات المحددة للحالة الوجودية للتفلسف؛ أفضل من جان بول سارتر.
شكر وتقدير
ألف هذا الكتاب المختصر في ظل ظروف مثالية وفرها لي «مركز البحث الإنساني» بجامعة إيموري. وأوجه جزيل الشكر إلى «زمالة الأبحاث العليا» بالإضافة إلى مساندة تينا براونلي وستيف إيفريت وكيث أنطوني وإيمي إربيل وكوليت بارلو من المركز، والذين ساعدوني في إتمام تأليف الكتاب.
بالغ تقديري لتعليقات ديفيد كار وتوني جينسن وفانيسا رامبل وسيندي ويليت على أجزاء معينة من المخطوطة الأولية للكتاب. وإنني لأتحمل المسئولية الكاملة عن أي إغفال وسهو وأخطاء من المحتم أن تظهر في هذه الدراسة القصيرة البسيطة عن هذا الموضوع شديد الطول والتعقيد. وبالغ شكري أيضا لجون ميرسير على إسهامه.
وأخيرا، أود إهداء هذا العمل إلى أختي وزوجها وأسرتهما، الذين يبقى حبهم لي صادقا وإنسانيا. كم هو جميل ولطيف أن نبقى معا على وئام!
الفصل الأول
Page inconnue
الفلسفة كأسلوب حياة
لو لم أعبر عن آرائي في العدالة بالكلمة، فإني أعبر عنها بالفعل.
سقراط إلى زينوفون
على الرغم من ادعاء الوجودية أنها مفهوم جديد غير مسبوق، فإنها تجسد تقليدا راسخا في تاريخ الفلسفة في الغرب، يعود على الأقل إلى زمن سقراط (469-399ق.م)؛ ألا وهو مزاولة الفلسفة باعتبارها «اعتناء بالنفس». فتركيز الوجودية ينصب على الأسلوب اللائق للتصرف لا على مجموعة مجردة من الحقائق النظرية؛ لذلك، يعترف الجنرال الأثيني لاشيز - في إحدى محاورات أفلاطون التي تحمل اسم لاشيز - أن ما يعجبه في سقراط ليس تعاليمه، وإنما التوافق بين تعاليمه وحياته الخاصة. ويحذر سقراط نفسه المحكمة الأثينية في محاكمة إعدامه من أنهم لن يجدوا بسهولة شخصا آخر مثله يعلمهم أن يعتنوا بأنفسهم أكثر من أي شيء آخر.
ازدهر هذا المفهوم عن الفلسفة وسط الرواقيين والأبيقوريين في العصر الهيليني؛ إذ انصب اهتمامهم بصورة أساسية على القضايا الأخلاقية وتبين الأسلوب المناسب لأن يعيش المرء به حياته. وكما قال أحد الباحثين القدماء: «كانت الفلسفة عند الإغريق تشكيلية في طبيعتها أكثر منها تثقيفية.» كان الفيلسوف أشبه بطبيب الروح الذي يصف السلوكيات والممارسات اللائقة التي تعزز الصحة والسعادة.
لا شك أن الفلسفة بوصفها سعيا وراء أبجديات الطبيعة البشرية والكون كانت منتشرة بين الإغريق القدماء، وكانت أحد مقومات الاعتناء بالنفس. وقد أدى هذا المنهج النظري إلى نهوض العلم، وهو الذي سيطر على تعليم الفلسفة في العصور الوسطى والحديثة. وفي واقع الأمر، يشيع اليوم اعتبار كلمة «نظرية» مرادفا لكلمة «فلسفة» عموما، كما في تعبيري «النظرية السياسية» و«النظرية الأدبية»، حتى إن تعبير «الفلسفة النظرية» يعد نوعا من التكرار غير الضروري.
في قلب هذا التمييز بين شكلي الفلسفة (ضمن أشياء أخرى) هناك استخدامان مختلفان لكلمة «حقيقة»، وهما: الاستخدام العلمي والاستخدام الأخلاقي. الأول معرفي ونظري بدرجة أكبر، والثاني أكثر تشكيلا للذات وعملي بدرجة أكبر، كما في «كن صادقا مع نفسك». وبينما لم يحدد الاستخدام الأول شروطا لنوع الشخص الذي يجب أن يتحول إليه المرء كي يعرف الحقيقة (في نظر فيلسوف القرن السابع عشر رينيه ديكارت، يستطيع الآثم أن يفهم معادلة رياضية تماما مثل القديس)، فإن النوع الثاني من الحقيقة اشترط على المرء كي يستطيع بلوغه ضبطا معينا للنفس؛ أي مجموعة من الممارسات تجاه الذات مثل: الاهتمام بالتغذية، والتحكم في القول، والتأمل المنتظم. كانت المسألة متعلقة بالتحول إلى نوع معين من الأشخاص، وفق أسلوب الحياة الخاص الذي جسده سقراط، وليس بالوصول إلى وضوح معين في الحجة أو الرؤية على النحو الذي اتبعه أرسطو. فعلى مدار تاريخ الفلسفة، همش الاعتناء بالنفس شيئا فشيئا واقتصر تدريجيا على مجالات التوجيه الروحي، والتكوين السياسي، والاستشارة النفسية. كانت هناك استثناءات مهمة لهذا الإقصاء للحقيقة «الأخلاقية» عن المجتمع الأكاديمي. وكتاب «اعترافات القديس أوجستين » (397 بعد الميلاد) وكتاب «خواطر» لبليز باسكال (1669) وكتابات الرومانسيين الألمان في مطلع القرن التاسع عشر؛ هي أمثلة لأعمال شجعت على هذا الفهم للفلسفة باعتبارها اعتناء بالنفس.
في إطار هذا المنهج الأوسع يمكن اعتبار الوجودية حركة فلسفية، ويمكن النظر إلى الوجوديين على أنهم هم من أحيوا هذا المفهوم ذا الصبغة الذاتية عن «الحقيقة»؛ الحقيقة التي نعيشها بمعزل عن الاستخدام العلمي والموضوعي للمصطلح، وكثيرا في تضاد معهما.
ليس غريبا أن تكون لدى كل من سورين كيركجارد (1813-1855) وفريدريك نيتشه (1844-1900) - «رائدي الوجودية» في القرن التاسع عشر - مواقف متضاربة تجاه فلسفة سقراط؛ فمن ناحية، كان ينظر إلى سقراط كمدافع عن نوع من العقلانية يتخطى القيم التقليدية والشخصية الخالصة إلى معايير أخلاقية عالمية، وهو ما أشاد به كيركجارد وانتقده نيتشه. لكن كليهما احترم «قفزته» الفريدة عبر فجوة العقلانية بين أدلة الخلود الشخصي واختياره قبول حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الأثينية. (حوكم سقراط وأدين بتهمتي الإلحاد وإفساد عقول الشباب بتعاليمه). بعبارة أخرى: أدرك كلا الفيلسوفين أن الحياة لا تتبع التدفق المتواصل للحجة المنطقية، وأن المرء عليه غالبا أن يخاطر بتجاوز حدود المعقول كي يعيش الحياة بكل معانيها. وكما علق كيركجارد، قدم الكثيرون أدلة على خلود الروح، لكن سقراط - بعد افتراضه أن الروح «قد» تكون خالدة - خاطر بحياته وفي ذهنه هذا الاحتمال. لقد شرب السم كما أمرته المحكمة الأثينية، وهو يتحدث طوال الوقت مع أتباعه عن احتمال أن حياة أخرى «قد» تكون في انتظاره. اعتبر كيركجارد هذا مثالا على «الحقيقة الذاتية». وكان يقصد بهذا القناعة الشخصية التي يكون الشخص مستعدا للتضحية بحياته من أجلها. وفي كتابه «اليوميات»، كتب متأملا: «المسألة هي إيجاد حقيقة صحيحة في نظري، إيجاد الفكرة التي يمكنني أن أعيش وأموت من أجلها» (1 أغسطس 1835). (1) الوضوح ليس كافيا
كتب جاليليو يقول: إن كتاب الطبيعة كتب برموز رياضية. وبدا أن التطورات اللاحقة في العلم الحديث تؤكد هذا الادعاء؛ فقد بدا أن ما هو قابل للوزن والقياس (تحديد كميته) يستطيع أن يمدنا بمعرفة موثوق بها، في حين أن ما لا يقبل القياس يترك لعالم الآراء المجردة. مجدت الفلسفة الوضعية هذا الرأي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ إذ أصرت العقلية الوضعية على أن ما هو «موضوعي» مرادف لما هو قابل للقياس وما هو «مجرد من القيم». كان هدفها هو استخلاص الذات من التجربة للوصول إلى «رأي لا مرجع له» يتسم بالموضوعية الخالصة. أدى هذا إلى عدد من الاكتشافات المهمة، لكن سرعان ما اتضح أن مثل هذا المنهج غير متسق؛ فقصر ما يمكن معرفته على ما يمكن قياسه كان في حد ذاته قيمة لا يمكن قياسها. بمعنى أن اختيار هذا الإجراء كان في حد ذاته «قفزة» نوعية؛ أي يستتبع الإيمان بمجموعة من القيم التي لم تكن في حد ذاتها قابلة للقياس.
Page inconnue
علاوة على هذا، فإن استثناء ما لا يقبل القياس مما يعد معرفة ترك بعضا من أهم أسئلتنا ليس بلا إجابة فقط، لكن أيضا غير قابل للإجابة. فهل قيمنا وقواعدنا الأخلاقية ليست سوى تعبير عن تفضيلاتنا الشخصية؟ إذا أعدنا صياغة ما قاله عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل، وهو أبعد ما يكون عن الوجودية: هل يمكن أن يصدق أحد حقا أن الاشمئزاز الذي ينتابه عندما يشهد القسوة غير المبررة هو ببساطة تعبير عن حقيقة أن ذلك تصادف أنه لا يروق له وحسب؟ كان هذا هو مذهب «الانفعاليين» في النظرية الأخلاقية، التي أحيانا يطلق عليها «النظرية الانفعالية للأحكام الأخلاقية». لقد دفعوا إلى هذا الاتجاه بسبب قبولهم لقصر الوضعيين للمعرفة على ما يمكن قياسه. لكن هل نحن حقا مؤهلون لنوع المعرفة الخالصة التي يطلبها الوضعيون من العلم؟ ربما يمكن إعادة تقديم الفرد المدرك إلى هذه المناقشات دون المخاطرة بموضوعيته. لكن سيعتمد الكثير على مراجعتنا لتعريفنا للموضوعية، وكذلك على اكتشاف استخدامات أخرى لكلمة «حقيقي» إلى جانب «قبول الوضعيين بالتجربة الشعورية». وقد استجاب الوجوديون ضمن آخرين لهذا التحدي.
يضرب جان بول سارتر (1905-1980) مثالا لهذه الاستجابة عندما يقول: إن النظرية الوحيدة التي تصلح اليوم عن المعرفة هي تلك التي تقوم على هذه الحقيقة الفيزيائية الميكروسكوبية القائلة : المجرب جزء من المنظومة التجريبية. ما كان يدور في عقله هو ما يطلق عليه «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج» في الفيزياء الذرية الذي ينص - في تفسيره المعروف على الأقل - على أن الأدوات التي تمكننا من رصد مقدار زخم إلكترون مداري وموضعه تتدخل في عملية الرصد بحيث يمكننا أن نحدد إحدى السمتين فقط، لا كلتيهما في آن واحد. بالمثل، قد يعترض المرء على أن الفعل المجرد المتمثل في التدخل في حياة قبيلة «بدائية» يمنع الباحث في علم الأعراق من دراسة هؤلاء القوم بحالتهم الفطرية. أدت مثل هذه الاعتبارات إلى تقويض مفهوم الوضعيين عن المعرفة بوصفها قابلية القياس. لكنها حجبت أيضا رأي العقلانيين عن الواقع باعتباره خاضعا على سبيل الحصر لمنطق «إما/أو» دون مساحة للتفاوض. مثال آخر على هذا الأمر هو الضوء، الذي يتسم بصفات تشير إلى أنه موجة وأخرى تشير إلى أنه جسيم، ومع هذا يبدو أن هاتين السمتين تنفي إحداهما الأخرى، وهو ما يجعل السؤال: «هل الضوء موجة أو جسيم؟» غير قابل للإجابة وفق منطق «إما/أو» التقليدي؛ إذ يبدو الضوء كلا الشيئين، وفي الوقت نفسه ليس أيهما على وجه حصري. هنا نحتاج نوعا آخر من المنطق لفهم هذه الظاهرة. وقد ظهرت أمثلة عديدة أخرى من مجالي الفيزياء والرياضيات في مطلع القرن العشرين تناقض ادعاءات الوضعيين والعقلانيين عن المعرفة والعالم. (2) التجربة المعاشة
دخل الوجوديون في هذا العالم ذي الملاحظات والتقييمات المحدودة والنسبية بدافع «شخصنة» أكثر الظواهر موضوعية في حياتنا. ماذا - على سبيل المثال - يمكن أن يكون أكثر موضوعية وحيادية من الزمان والمكان؟ حتى وجهة النظر المنقحة عن الزمكان التي تقدمها لنا نظرية النسبية تعتمد على مرجع مطلق أو ثابت؛ ألا وهو سرعة الضوء. فنحن نقيس الزمن بالدقائق والثواني، ونقيس المكان بالياردات والأمتار. يبدو هذا أيضا كميا؛ ومن ثم موضوعيا في عرف الوضعيين. ومع هذا يضيف المفهوم الذي يطلق عليه الوجوديون اسم الوقتية «الوجدانية» بعدا كيفيا وذاتيا لظاهرة الوعي بالزمن. في نظر الفيلسوف الوجودي، فإن قيمة ومعنى كل بعد وقتي من الزمن المعاش مرتبطان بمواقفنا واختياراتنا. بعض الناس - مثلا - مضغوطون دوما للوفاء بالتزاماتهم، في حين هناك أناس آخرون لا يجدون ما يشغل وقتهم. يجري الوقت بسرعة حين تكون مستمتعا، لكنه يمر ببطء عندما تكون متألما. وحتى النصيحة الكمية بحسن استثمار أوقاتنا، من وجهة النظر الوجودية، هي توصية لمراجعة وتقييم قرارات الحياة التي تشكل أولوياتنا الوقتية في المقام الأول. لو أن «الوقت هو الجوهر»، ويصر الوجوديون على أنه كذلك، فجزء من كينونتنا إذن هو الأسلوب الذي نعيش به وجودنا «الحالي» و«المستقبلي»، والذي تشكله الكيفية التي نتعامل بها مع انخراطنا في الحياة اليومية.
غالبا ما يعبر الفيلسوف الوجودي تعبيرا دراميا عن هذا «الزمن المعاش». هكذا يصف ألبير كامو (1913-1960) في حكايته الرمزية عن الاحتلال النازي لباريس - بعنوان «الطاعون» - المواطنين في مدينة موبوءة بالطاعون وخاضعة للحجر الصحي، فيقول: «عدائيون مع الماضي، ونافدو الصبر مع الحاضر، ومخدوعون في المستقبل، كنا مثل من أجبرتهم عدالة البشر، أو كراهيتهم، على العيش خلف قضبان السجن.» إن مفهوم الاحتجاز وكأنه «قضاء عقوبة في السجن» هو مفهوم وجودي بصورة واضحة. وسارتر - في تحليل ثاقب للوعي الانفعالي - يتحدث عن شخص «يقفز من أجل السعادة» كأسلوب لاستخدام تغيراته الجسمانية في استحضار احتمال إحداث موقف مرغوب فيه «فجأة»، وكأنما بفعل السحر، دون الاضطرار إلى انتظار التكشف الزمني اللازم. ومع أن سارتر ذكر هذه الفرضية في ثلاثينيات القرن العشرين، فالمرء يتذكر فورا صورة هتلر وهو «يختال فرحا» أسفل قوس النصر خلال الاحتلال الألماني لباريس. للوقت لزوجته الخاصة، كما قال ميشيل فوكو. والوقتية الوجدانية تجسد تدفقه.
لكن المكان الوجودي مشخصن أيضا. يستشهد سارتر بالمفهوم الذي وضعه عالم النفس الاجتماعي كيرت لوين عن الحيز «النفسي» (المكان المعاش) كمرادف كيفي للزمن المعاش خلال وجودنا اليومي. تحكي القصة عن شخصين: أحدهما يفضل أن يقترب أكثر ما يمكن وجها لوجه في محادثته، والآخر يفضل الابتعاد والانعزال، فيستحثان وينفر أحدهما من الآخر في الغرفة في حفل كوكتيل عند محاولة إجراء حوار. المكان المعاش مفهوم شخصي؛ هو الطريق المعتاد الذي أسلكه إلى عملي، أو تجهيزات الجلوس التي تفرض نفسها بسرعة في الفصل الدراسي، أو ترتيب الأدوات على مكتبي؛ هو ما يسميه علماء النفس «منطقة راحتي». هذا أيضا مرتبط بمشروع حياتي. وتعتمد كيفية تعاملي مع «الأماكن» التي تهمني على كيفية اختياري تنظيم حياتي.
هناك بالطبع اعتبارات نفسية، لكن من السمات المحددة للفكر والمنهج الوجودي أن هذه الاعتبارات تحمل دلالة وجودية كذلك؛ فهي تعبر عن طرائقنا في الوجود وتفتح بابا لمعنى واتجاه حياتنا. وكما سنرى لاحقا، مع أن العديد من الفلاسفة مالوا إلى انتقاص أو حتى انتقاد الدلالة الفلسفية لمشاعرنا وأحاسيسنا، فقد رفع الوجوديون من شأن مشاعر مثل «القلق» (الذي وصفه كيركجارد بأنه وعينا بحريتنا) وأحاسيس مثل «الغثيان» (الذي وصفه سارتر بأنه تجربتنا مع صدفة الوجود و«ظاهرة الكينونة»). يضعهم هذا فورا في حوار محتمل مع الفنانين المبدعين الذين يتاجرون بحياتينا العاطفية والخيالية. في واقع الأمر، لطالما كانت العلاقة بين الوجودية والفنون الجميلة قوية، حتى إن نقادها غالبا ما كانوا يرفضون الاعتراف بها كحركة أدبية وحسب. وبطبيعة الحال، فإن ما يثبت هذا الارتباط هو الطبيعة الدرامية للفكر الوجودي، علاوة على احترامه للقوة الكاشفة للوعي الشعوري واستخدامه «التواصل غير المباشر»، الذي سنتحدث عنه بعد قليل. لكن القضايا التي يتناولها الوجوديون، والاختلافات الدقيقة التي يحددونها، وتوصيفاتهم المتزمتة، وفوق كل هذا، حوارهم الصريح مع أبناء المذاهب الفلسفية الأخرى يجعل الوجودية بشكل واضح حركة فلسفية في المقام الأول، حتى وهم يشددون على غموض الحد الفاصل بين الخيالي والمجازي، وبين الفلسفي والأدبي. (3) «حقيقة تستحق الموت من أجلها»
لو أمكن شخصنة المكان والزمان الموضوعيين وإخضاعهما لاختيارنا ومسئوليتنا، كذلك سيكون الأمر مع مفهوم الحقيقة «الموضوعية». فكما هو مذكور في البداية، فرق كيركجارد بين «الموضوعي» و«الشخصي» في التفكير والحقيقة. وقد أخذ بعين الاعتبار الاستخدامات العلمية الشائعة للتفكير الموضوعي التي وصفها كالتالي:
يجعل أسلوب التفكير الموضوعي الذات عرضية؛ وبالتالي يحول الوجود إلى شيء محايد، شيء متلاش. وبعيدا عن الذات يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى الحقيقة الموضوعية، وفي الوقت الذي تصبح فيه الذات وذاتيتها محايدتين، تصبح الحقيقة أيضا محايدة، وهذه الحيادية هي بالضبط ما يمنحها صلاحيتها الموضوعية؛ لأن كل منفعة - مثل كل قرار - متجذرة في الذاتية. يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى التفكير التجريدي، إلى الرياضيات، إلى المعرفة التاريخية بمختلف الأمور، ودائما ما يبتعد عن الذات التي يصبح وجودها أو عدم وجودها، بحق، حياديا إلى ما لا نهاية.
موضوعات الوجودية الخمسة
هناك خمسة موضوعات أساسية ينظر الفلاسفة الوجوديون إلى كل منها بأسلوبه الخاص. وبدلا من حصر «الوجودية» في تعريف ضيق، يمكن تبينها من خلال التشابه (تداخل الموضوعات وتلاقيها) بين هؤلاء الفلاسفة. (1) الوجود يسبق الجوهر:
Page inconnue
ما أنت عليه (جوهرك) هو نتاج اختياراتك (وجودك) وليس العكس. الجوهر ليس المصير؛ فأنت من تختار لنفسك ما تكون عليه. (2) الوقت هو الجوهر:
نحن أساسا كائنات مرتبطة بالزمن. وعلى عكس زمن الساعة القابل للقياس، فإن الوقت المعاش كيفي؛ فمصطلحات زمنية مثل «ليس بعد» و«بالفعل» و«الحاضر» تختلف فيما بينها في المعنى والقيمة. (3) الإنسانية:
الوجودية فلسفة تركز على الإنسان. وعلى الرغم من أنها لا تعارض العلم، ينصب تركيزها على بحث الذات الإنسانية عن الهوية والمعنى وسط الضغوط الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكبير الساعية لفرض السطحية والامتثال للتقاليد. (4) الحرية والمسئولية:
الوجودية فلسفة تدور حول الحرية، وقوامها يتمحور حول حقيقة أننا نستطيع الانفصال عن حياتنا لوهلة وتأمل ما كنا نفعله فيها. بهذا المعنى فإننا دائما «أكثر» من أنفسنا. لكننا مسئولون مثلما نحن أحرار. (5) الاعتبارات الأخلاقية هي الأهم:
مع أن كل فيلسوف وجودي يفهم الأخلاق - مثل الحرية - من منظوره الخاص، فالاهتمام الأساسي ينصب على تحفيزنا على تأمل جودة حياتنا الشخصية ومجتمعنا.
الوجوديون ليسوا لاعقلانيين بحيث ينكرون صلاحية الجدال المنطقي والتفكير العلمي، لكنهم ببساطة يشككون في قدرة مثل هذا التفكير على التغلغل إلى المعتقدات الشخصية الراسخة التي توجه حياتنا. يقول كيركجارد عن العقلانية الجدلية لهيجل: «محاولة أن تعيش حياتك بهذه الفلسفة التجريدية تشبه محاولتك إيجاد طريقك داخل دولة الدانمارك بخريطة تظهر فيها هذه الدولة بحجم رأس الدبوس.»
على عكس التفكير الموضوعي الذي يتجاهل الوجود الفردي ، يتحدث كيركجارد عن التفكير الشخصي وما يرافقه من حقيقة بوصفه الذاتية:
عندما تصبح الذاتية هي الحقيقة، يجب أن يضم تعريف الذاتية تعبيرا عن معارضة الموضوعية؛ رسالة تذكير بمفترق الطرق، ويجب أن يعكس هذا التعبير أيضا التوتر الداخلي [علاقة الذات بنفسها]. إليك مثل هذا التعريف للحقيقة: الحقيقة هي عدم اليقين الموضوعي الصامد في مواجهة أي عملية استيلاء على الجوهر الأكثر انفعالا، وهي أسمى حقيقة متاحة لشخص موجود.
إنها أيضا مسألة تغيير للاتجاه الذي يسلكه المرء في حياته، هي «مفترق الطرق». هذا ما يجعل خيار التفكير الذاتي خيارا وجوديا. لو كانت المسألة ادعاء موضوعيا عن إحدى حقائق أو قوانين الطبيعة، لكنا تعاملنا في هذه الحالة مع «اليقين الموضوعي» ولن يكون للوجود الشخصي أهمية. سيكون المرء ببساطة متبعا لجميع الاتجاهات. كانت هذه ستصبح حال سقراط لو كان إيمانه بخلود الذات مجرد نتيجة منطقية توصل إليها. لكن «الحقيقة» هنا ذات طبيعة «أخلاقية». وكما يقول كيركجارد، هي مسألة «استيلاء» (تملك) لا «اقتراب» من حالة موضوعية، بنفس الأسلوب الذي يزن به الإنسان احتمالات نتيجة معقولة أو يقرأ لافتات المسافات بطول الطريق إلى وجهة معينة. وكما يشير في مكان آخر، فلكي تكون الحقيقة ذاتية، يكون التركيز على «كيفية» ممارستنا لمعتقداتنا وليس على «ما» تكونه هذه المعتقدات. دفع هذا البعض إلى إساءة فهمه؛ فحسبوا أنه يدعي أنه لا يهم ما تؤمن به ما دمت مقتنعا به. لكن مع أن كيركجارد نادرا ما كان يدافع عن النسبية الدينية، لكونه مسيحيا ملتزما، فإنه كان مهتما بمقاومة الإيمان الديني الفاتر أو الاسمي أكثر من اهتمامه بالدفاع عن المسيحية.
لو ترجم المرء إحدى الحقائق الوجودية العلمانية إلى لغة فلسفة معنى الحياة، فستشير إلى أنه لا وجود لطريق صحيح «موضوعي» يمكن اختياره. بدلا من ذلك، في نظر الوجودي، بعد أن تتضح له الخيارات والنتائج المحتملة، فإنه «يتخذ» الخيار الصحيح بتنفيذها. في نظر الوجودي، هذه الحقيقة هي مسألة قرار لا اكتشاف. لكن، بالطبع، لا يتخذ المرء هذه الخيارات جزافا أو دون معايير (بعكس المغالطة الشائعة). لكن طبيعة الاختيار نفسها تكون «مؤسسة» للمعايير وليست خالية من المعايير، مثلما اعترض البعض. ما يتحدث عنه كيركجارد يعبر عما يمكن أن يسميه المرء بتجربة «تحول»، حيث لا يكون الانتقال الحاسم فكريا محضا بل مسألة إرادة وإحساس (ما يسميه كيركجارد ب «العاطفة») أيضا. هذه هي طبيعة ما يسمى ب «القفزة الإيمانية العمياء» التي تلقي بالمرء إلى المحيط الديني للوجود، كما سنرى في الفصل القادم. لكنها تنطبق أيضا على «تحولات» أخرى جوهرية في حياة المرء، بدءا من التغير الأساسي في معتقداته السياسية وصولا إلى الوقوع في الحب.
Page inconnue
شكل 1-1: سقراط يتحدث عن خلود الذات قبيل تجرعه السم بأمر المحكمة.
1
ليس هذا إلا جانبا واحدا من الجوانب الكثيرة التي تتداخل فيها الفلسفة الوجودية والبراجماتية و«التحليلية». يقدم عالم النفس الأمريكي العظيم والفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس - مثلا - ادعاء مماثلا في كتابه «إرادة الإيمان» عندما لاحظ أن طبيعتنا العاطفية لا تجعلنا نتخذ خيارا بعينه من الخيارات المطروحة فقط، وإنما تلزمنا بذلك، وهذا وقتما يكون الخيار حقيقيا لا يمكن بالطبيعة حسمه بناء على الأسس العقلية. لكن بعضا من هذه الخيارات هي، كما أطلق عليها عالم الأخلاق البريطاني آر إم هير، «قرارات المبدأ». لا تقوم مثل هذه القرارات في حد ذاتها على المبادئ؛ لأنها هي التي تؤسس المبادئ التي بناء عليها سنتخذ خياراتنا اللاحقة في الحياة. تشبه هذه المبادئ «قواعد اللعبة» التي يختارها المرء عندما يقرر المشاركة في اللعبة لكنها لا تطبق قبلها. فأنت لا تلتزم بهذه القواعد قبل أن تقرر أن تلعب اللعبة، ويعني قرارك باللعب التقيد بهذه القواعد تحديدا. هذه هي نوعية الخيارات التي سميتها بالخيارات «المؤسسة للمعايير». وكما سنرى، هذا مشابه لما يسميه سارتر «الخيار الأساسي» أو المبدئي الذي يعطي الوحدة والاتجاه لحياة المرء. ونحن نكتشفه بواسطة تأمل اتجاه حياتنا وصولا إلى الوقت الحاضر. إنه «خيار»، حسب زعم سارتر، نكتشف أننا اتخذناه ضمنيا بالفعل طوال الوقت. (4) فلسفة وأدب ملتزمان
كانت «الحقيقة» الذاتية التي تحدث عنها كيركجارد بشيرا بما سماه سارتر «الالتزام» في القرن التالي. وكأن سارتر يريد الانتقاص من أهمية مفهوم الحقيقة الموضوعية، أو على الأقل تأييد معنى جديد «للموضوعية» في ضوء العلوم الحديثة، فيعلق قائلا: «توجد فقط معرفة ملتزمة.» على الجانب الآخر، فإنه يؤيد أيضا النظرة «الموضوعية» الكلاسيكية للمعرفة والحقيقة التي يقترحها إدموند هوسرل (1859-1938) وأسلوبه الوصفي للظواهر (انظر لاحقا). إحدى الطرق للتوفيق بين هاتين النظرتين الادعاء مع كيركجارد بأن كلا من النظرتين تشير إلى استخدام مختلف لمصطلح «الحقيقة». في حالة سارتر، قد تكون مسألة دمج الأوصاف الظاهرية (الفينومينولوجية) في مفهوم أكثر براجماتية وجدلية للحقيقة؛ بمعنى التوفيق بين المزاعم المتباينة في وجهة نظر أسمى. سيتوافق هذا أكثر مع ظاهرة تفسيرية أو تأويلية كتلك التي طرحها مارتن هايدجر (1889-1976) في نهاية عشرينيات القرن العشرين (انظر
الفصل السادس ). أصر نيتشه على أن جميع المعارف تأويلية وأنه لا وجود لنص «أصلي» غير قابل للتأويل. بعبارة أخرى: ما يعتبر معرفة كان تأويلا «في أساسه». وعليه، فسواء كنت تتفق كلية مع نيتشه أو جزئيا مع كيركجارد، فإن الحقيقة أيضا قد «شخصنها» الوجوديون. وهكذا لم يعد تعبير «حقيقتي» تعبيرا يناقض نفسه.
في مجموعة مقالات شهيرة بعنوان «ما الأدب؟» نشرت عام 1948، وضع سارتر مفهوم «الأدب الملتزم». اعتمدت فكرته الأساسية على أن الكتابة هي شكل من أشكال الفعل التي يجب أن نتحمل عنها المسئولية، لكن هذه المسئولية تتعلق بمضمون الفعل لا بشكله فقط. لقد أمدت تجربة الحرب العالمية الثانية سارتر بحس المسئولية الاجتماعية التي - حسبما يزعم - كانت مفقودة أو على الأقل غير متقنة الصياغة في رائعته «الوجود والعدم» (1943). في واقع الأمر، طالما لاقى الوجوديون انتقادا عاما بسبب ذاتيتهم المفرطة وافتقارهم الواضح للضمير الاجتماعي. أما سارتر - الذي ميز نفسه بالفعل بعدد من المسرحيات التي لاقت قبولا جماهيريا وبروايته المثيرة للإعجاب «الغثيان» - فيتناول الآن المسئولية الأخلاقية لكاتب النثر. وهو يعترف قائلا: «على الرغم من أن الأدب شيء والأخلاق شيء آخر، فإننا في قلب الضرورة الفنية نجد الضرورة الأخلاقية.» وتحديدا الثقة في حرية كلا الطرفين. يعتبر مفهوم العلاقة بين الفنان والجمهور القائمة على «جاذبية الموهبة » مفهوما محوريا في جماليات سارتر، وسيفيد قريبا كنموذج للعلاقات الاجتماعية المتوطدة بصفة عامة؛ تلك العلاقات التي لا تعامل البشر كجمادات أو أدوات، لكن كقيم في حد ذاتهم. إن ما قد يتبدى على أنه حالة احترام شكلية من طرف إحدى الحريات لأخرى يقضي بوجود شخصية حقيقية، وعن هذا يقول سارتر:
إن وجهة النظر الفريدة التي يستطيع المؤلف أن يعرض العالم بها لتلك الحريات التي يتمنى أن يحقق الانسجام بينها هي عن عالم مخصب دائما بالمزيد من الحرية. لن يكون معقولا استخدام هذا التعبير عن الكرم الذي يستثيره الكاتب في فرض الظلم، وأن يستمتع القارئ بحريته وهو يقرأ عملا يوافق على استعباد إنسان لإنسان، أو يقبله، أو ببساطة «يمتنع عن إدانته».
بعبارة أخرى كما سنرى: تنمي الوجودية ضميرا اجتماعيا، إلى جانب الإيمان بأن الفنون الجميلة - أو الأدب على الأقل - يجب أن تكون ملتزمة اجتماعيا وسياسيا.
في هذا المقال المبتكر، المكتوب في السنوات التالية مباشرة للحرب العالمية، وفي تعليق سيندم سارتر عليه بعد ذلك، نجده يميز بين الشعر والنثر. يدل الشعر، وفق هذا التمييز، على أية صورة غير أدواتية للغة، أو أي شكل فني مثل الموسيقى والفنون التشكيلية والبصرية. تسعى مثل هذه الأشكال بصفة أساسية وراء الفن من أجل الفن؛ وبالتالي تكون عاجزة عن الالتزام بالتغيير المجتمعي خشية انتهاك طبيعتها الفنية. أما النثر - من ناحية أخرى - فبما أنه أدواتي بطبيعته، فإنه يستطيع ويجب، في أيامنا، أن يكون ملتزما برعاية الحرية الفردية والجمعية عن طريق الموضوع الذي يتناوله وأسلوب تناوله. ومع أن سارتر سيعدل لاحقا هذا الفرق في مقال عن الطابع الثوري في الشعر الفرانكفوني للأفارقة، فتبقى فرضيته العامة بأن الأدب، على الأقل في موقفنا الحالي الذي يرى فيه قمعا اجتماعيا واستغلالا اقتصاديا، يجب أن يلتزم بطابعه التسكيني. وكما كتب، فإن مجرد العجز عن إدانة هذه الممارسات غير كاف. المعارضة القوية مطلوبة. وسوف نستكمل الحديث عن موضوع المسئولية الاجتماعية لدى عدد من الكتاب الوجوديين في
الفصل الخامس . لكن الآن يكفينا أن نذكر طابع «الالتزام » الاجتماعي والسياسي للأعمال الفنية التي أنتجها العديد من هؤلاء الكتاب.
Page inconnue
شكل 1-2: سارتر يخطب في إحدى مظاهرات الطلاب في عام 1968.
2
جان بول سارتر (1905-1980)
ولد في باريس، وقد يكون أشهر فلاسفة القرن العشرين. جاب العالم كثيرا، عادة مع رفيقة حياته سيمون دي بوفوار. أصبح اسمه مرادفا للحركة الوجودية. كتب العديد من المسرحيات والروايات والأعمال الفلسفية، لعل أشهرها مقال «الوجود والعدم» (1943). فاز بجائزة نوبل في الأدب، لكنه رفض هذا التكريم. كان شديد الالتزام تجاه اليسارية معظم حياته العامة. وعندما مات، نزل الآلاف من معجبيه إلى الشوارع بصورة عفوية للانضمام إلى موكبه الجنائزي. ووقتها جاء عنوان إحدى المطبوعات: «فقدت فرنسا ضميرها». (5) الوجودية والفنون الجميلة: التواصل غير المباشر
لطالما كانت الوجودية وثيقة الصلة بالفنون الجميلة بسبب نظرتها الدرامية إلى الوجود، واستخدامها الواسع للصور القوية في نقاشاتها، ومناشدتها الاستجابة الشخصية في تواصلاتها. في واقع الأمر، عرض على كل من كامو وسارتر جائزة نوبل في الأدب (لكن سارتر رفضها). وكان كيركجارد شاعرا يستخدم الأسماء المستعارة والحكايات الرمزية وصورا أخرى من «التواصل غير المباشر» ليحفز ارتباطنا الشخصي بالموضوع المطروح. وكان نيتشه أحد كتاب النثر العظماء في اللغة الألمانية وحكايته الرمزية عن النبي التقي في «هكذا تحدث زرادشت»، مثل رواية سارتر «الغثيان»، هي نموذج للدراما الفلسفية. وكذلك كانت روايات سيمون دي بوفوار (1908-1986) تعبيرا عن آرائها الفلسفية. وكتب جابرييل مارسيل (1889-1973) الفلسفة بأسلوب تأملي وصفه ذات مرة بأنه تبدى على أوضح ما يكون في مسرحياته الثلاثين المنشورة. من بين الفلاسفة الذين نناقشهم، ربما لا ينطبق هذا التصنيف بالدرجة عينها من الدقة على هايدجر وكارل ياسبرز (1883-1969) وموريس ميرلوبونتي (1908-1961). ومع هذا، باستثناء ياسبرز، كتب الآخران دراسات مهمة في علم الجمال، واستعان ثلاثتهم بالمنهج الفينومينولوجي الذي يعطي قيمة للنقاش بالأمثلة. أصر كل منهم على أن الفنان - خصوصا الشاعر في حالة هايدجر، والفنان التشكيلي في حالة ميرلوبونتي - يتوقع وغالبا ما يعبر كما ينبغي عما يحاول الفيلسوف تصوره. قوي هو تأثير الأفكار الوجودية في الفنون الجميلة إلى حد أن البعض - كما رأينا - يفضل أن يصف الوجودية بأنها حركة أدبية. لا شك أن مؤلفين مثل دوستويفسكي وكافكا، وكتاب مسرحيين مثل بيكيت ويونسكو، وفنانين مثل جياكوميتي وبيكاسو يجسدون العديد من السمات المميزة للفكر الوجودي.
يجد مفهوم الالتزام تجاه الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي الذي يميز كل هؤلاء الكتاب أنسب تعبير له فيما أطلق عليه استخدامهم «التواصل غير المباشر» لنقل أفكارهم. يعكس المصطلح خطوة بلاغية تخفي هوية الفيلسوف الأدبية كي يستدعي توحد القارئ مع شخصيات العمل الأدبي عن طريق تعطيل حالة عدم التصديق لديه. هكذا استطاع كيركجارد أن يكتب تحت أسماء مستعارة مختلفة لمؤلفين وهميين، كل منهم يشير إلى وجهة نظر معينة مرتبطة بهذه الشخصية وليس بالفيلسوف نفسه تحديدا. كما تمكن نيتشه من تأليف محاكاة ساخرة عن نبوءة مكتوبة رغم تقليله من شأن الإيمان الديني في «هكذا تحدث زرادشت». وحتى أقواله المأثورة، مع أنها تحمل اسمه، تحمل قوة بلاغية صادمة، بصرف النظر عن هواجس المرء العابرة حول مصدرها، أي نوع «الحجة» الكامنة وراءها. بالمثل، كان كل من سيمون دي بوفوار وسارتر وكامو ومارسيل قادرا على كتابة الروايات والمسرحيات التي تعكس أفكاره بصورة ملموسة أمام جمهور عطل - في الوقت الراهن على الأقل - فتوره النقدي. وقد سئل سارتر ذات مرة عن سبب تصويره مسرحياته في الأحياء البرجوازية من المدينة بدلا من المناطق التي تضم الطبقة العاملة، فأجاب بأنه ما من برجوازي يستطيع مشاهدة عرض إحدى مسرحياته دون تكوين أفكار مسلية «تخون طبقته». هذه هي قوة الفن في توصيل دعوة فلسفية لأسلوب حياة. (6) هوسرل والمنهج الفينومينولوجي
على الرغم من أن المنهج الفينومينولوجي الذي وضعه إدموند هوسرل في الثلث الأول من القرن العشرين تبناه بشكل أو بآخر الوجوديون في نفس تلك الفترة، فإن الكثيرين من معتنقي المنهج الفينومينولوجي - وربما معظمهم - ليسوا وجوديين. لكن كلهم يقبل الادعاء الأشهر والأخطر لهذا المنهج، وهو أن كل وعي هو وعي بالآخر. بعبارة أخرى: من طبيعة الوعي أن يستهدف (يقصد) الآخر. وحتى حين يكون الوعي موجها نحو نفسه، فإنه يكون موجها بالمثل نحو «الآخر». يسمى هذا بمبدأ القصدية. في هذا السياق، فإن «القصد» ليست له علاقة ب «التعمد»، بل هو مصطلح فني يعكس ما هو فريد في أفعالنا العقلية؛ حيث تمتد هذه الأفعال فيما وراء نفسها ونحو الآخر.
إدموند هوسرل (1859-1938)
ولد في مدينة بروسنيتز بجمهورية التشيك، وحصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات قبل التحول إلى دراسة الفلسفة. درس في جامعة جوتنجين بألمانيا بين عامي 1901 و1916، وفي فرايبورج إم برايجاو منذ عام 1916 وحتى تقاعده في عام 1928. يعد رائد المنهج الفينومينولوجي، ولعب دورا تأسيسيا في الفلسفة الأوروبية في القرن العشرين. كان مارتن هايدجر أشهر تلامذته وقد خلفه في فرايبورج. بسبب أصوله اليهودية شهدت سنوات حياته الأخيرة كربا شديدا مع بزوغ النازية. عقب وفاته في فرايبورج، نقل صديق له - قس بلجيكي - أرملته ومخطوطاته إلى جامعة لوفين قبل أن يتمكن النازيون من تدميرها.
لهذا المبدأ أهمية مضاعفة، فهو يتغلب على مشكلة «الربط» بين الأفكار الموجودة «داخل» العقل والعالم الخارجي الذي يجب أن تتشابه الأفكار معه. ليست لدينا «عين ثالثة» لنقارن ما يوجد داخل العقل بما يوجد خارجه لتأكيد ادعائنا بأننا نعرف العالم الخارجي. ورثنا هذه المشكلة عن رائد الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت (1596-1650) وأتباعه. فخلال رحلة بحثه عن اليقين في مواجهة الشك، استخلص ديكارت أنه متيقن من شيء واحد، ألا وهو أنه مفكر؛ لأن الشك صورة من صور التفكير. بدا هذا وكأنه يبرر ادعاءه البديهي: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» إلا أن هذا اليقين الذي بلغه بصعوبة لم يكن إلا نصرا مصحوبا بالخسائر؛ إذ تركه محاصرا «داخل» عقله، ليواجه مشكلة «رأب» الفجوة بين الواقع الداخلي والخارجي. فكيف يمدد هذا اليقين إلى العالم «الخارجي»؟
Page inconnue
شكل 1-3: إدموند هوسرل، مؤسس الحركة الفينومينولوجية.
3
حسب مبدأ القصدية، كانت هذه مشكلة زائفة؛ إذ لا يوجد وعي داخلي خارجي. فكل فعل واع «يقصد» شيئا موجودا بالفعل «داخل» العالم (أي مرتبط عن قصد به). أسلوبنا في «قصد» هذه الأشياء سيختلف عندما نفهمها، أو نعيها، أو نتخيلها، أو نتذكرها - مثلا - أو عندما نرتبط بها ارتباطا عاطفيا. لكن في كل حالة، الوعي هو طريقة للوجود في العالم.
فكر مثلا في انطباعاتنا الذهنية. أشار سارتر في دراسة قديمة إلى أن الانطباعات الذهنية ليست منمنمات محفورة «داخل العقل» تنعكس على العالم الخارجي؛ مما يثير مشكلة التوافق بين الداخل والخارج مرة أخرى. بدلا من ذلك، يعتبر الوعي الانطباعي أسلوبا «للاغتراب» عن عالم مدركاتنا الذي يظهر سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي الدقيق. لو تخيلنا تفاحة سبق أن رأيناها - على سبيل المثال - فإن وصفا دقيقا للتجربة سيكشف كيف يختلف التخيل عن رؤية نفس هذه التفاحة؛ لسبب واحد: أن التفاحة المتخيلة لا تحمل إلا تلك السمات التي نختار أن نعطيها لها، على عكس التفاحة المرئية. والانطباعات الذهنية بهذا الشكل لا تعلمنا شيئا. هكذا هي الحال مع بقية أفعالنا الواعية؛ حيث يكشف كل منها سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي.
لكن لأن الوعي «يقصد» موضوعاته بطرق مختلفة، يمكننا استخدام منهج الوصف الفينومينولوجي المسمى «الاختزال الاستحضاري» أو «التنويع التخيلي الحر للأمثلة» للوصول إلى الحد أو الجوهر الواضح لأي من هذه التجارب الواعية المتنوعة. وهذه المهمة التخيلية المتعلقة بالوصف الدقيق لما «يعطى» للوعي في حالات «عطائه» المتنوعة هي ما يفضلها الوجوديون عند بناء حججهم المتماسكة. وقد قال هوسرل ذات مرة، هدف المنهج الفينومينولوجي ليس الشرح (بإيجاد الأسباب) وإنما دفعنا إلى الرؤية (بتقديم الجوهر أو رسم الحدود الواضحة).
تأمل هذين المثالين: قد تقوم رسامة جنائية برسم صورة مجرم كي يتعرف عليها شاهد العيان. وحسبما تضيفه أو تلغيه من ملامح في الصورة، سيوافق شاهد العيان أو يعترض على مدى التشابه إلى أن يقول عند الوصول إلى أفضل نتيجة: «نعم، هذا هو الجاني؛ هذا كان شكله.» هذا تشبيه بسيط للوصف الاستحضاري الذي يستعين بالتنويع التخيلي الحر للأمثلة للوصول إلى الرؤية، أي الإدراك الفوري للشيء المقصود.
دعونا نتناول في مثالنا الثاني «حجة» فينومينولوجية شهيرة من مقال سارتر «الوجود والعدم»، التي أعتبرها صورة أقل فنية للاختزال الاستحضاري: يتلصص أحدهم عبر ثقب المفتاح على زوجين، حتى يسمع فجأة ما يعتقد أنها خطوات أقدام خلفه. خلال نفس هذا الفعل، يشعر أن جسمه أصبح «موضوعا» لوعي آخر. إحساسه المتصاعد بالحرج، ووجهه المتقد احمرارا، هما مرادف لحجة مزدوجة عن وجود عقول أخرى (لغز فلسفي قديم) وعن جسمه باعتباره عرضة للتجسيد الموضوعي بصورة لا يتحكم فيها. حتى لو كان المتلصص متوهما (كان مصدر الصوت هو الرياح التي تداعب الستائر أمام النافذة المفتوحة مثلا)، فستظل التجربة تبرر إيماننا بالعقول الأخرى بشكل أسرع وبيقين أكبر مقارنة بأي حجة يطرحها التشبيه، الذي هو الدليل المعياري لمعتنق التجريبية. هذا مصدر قوة «الاختزال الاستحضاري» الناجح؛ فهو يرصد الجوهر أو الحد الواضح في تجربة ذات أخرى باعتبارها ذاتا، وليست موضوعا وحسب.
يكمن موطن قوة هذه الحجج ونقاط ضعفها المحتملة - فيما يتعلق بالوصف الفينومينولوجي أو التنويع التخيلي الحر للأمثلة - في تركيزها على تسميته «الحد الواضح». هذا نوع من الرصد الفوري لوجود «الشيء نفسه»، حسب قول هوسرل، وهو شبيه ب «لحظة التجلي» التي نمر بها في نهاية مسألة منطقية أو رياضية (يحمل هوسرل درجة الدكتوراه في الرياضيات). المفترض أنه لو كان الوصف محددا بدقة، فسيرى السائل الشيء بوضوح من تلقاء نفسه. أما نقطة الضعف المحتملة بالطبع فهي أنه - استجابة للادعاء «لا أراه» - لا يستطيع متبني المنهج الفينومينولوجي الرد إلا بأن يقول: «حسنا، انظر عن كثب.» لكننا، في الحقيقة، غالبا ما نفهم المقصود؛ إذ ننجح في رؤية «الجوهر» الثابت عبر الأشكال المتغيرة المتعددة. هذه الحجج القائمة على الأمثلة لا تمد الوجودي فقط بأسلوب التفكير المادي الذي يسعى إليه، بل إنها تكاد تتوسل من أجل التجسد في الأدب التخيلي والأفلام والمسرحيات.
ذكرت أن العديد من معتنقي المنهج الفينومينولوجي لا يؤمنون بالوجودية. والعكس صحيح أيضا؛ فمع أن فلاسفة الوجودية في القرن العشرين تقبلوا مفهوم هوسرل عن القصدية لأنه فتح بابا واسعا لمنهجهم الوصفي، فقد رفضوا سمة أخرى في فكره اللاحق بسبب تعارضها مع معنى الوجودية، وهي مشروعه عن «تعطيل» الوجود. تحدث هوسرل عن السلوك الطبيعي، الذي قد يوصف بأنه دون فلسفي وساذج في تقبله غير النقدي لعالم التجارب اليومية الواقعي. أصر هوسرل، في سعيه إلى تحويل المنهج الفينومينولوجي إلى علم شديد الحسم كالفلسفة نفسها، على أنه يجب على المرء تعطيل الإدراك الساذج للسلوك الطبيعي والتغاضي عن - أو تعطيل - مسألة وجود أو كينونة الأشياء الخاضعة للوصف الفينومينولوجي. أطلق هوسرل على هذا اسم «الاختزال الفينومينولوجي»، أو «التوقف»، وتصور أنه قادر على إعاقة الاعتراضات الشكوكية التي يخضع لها السلوك الطبيعي. وقد اعترف بأن المرء يستطيع القيام ب «اختزال استحضاري» للسلوك الطبيعي والوصول إلى نوع من النفسية «الاستحضارية». لكنه برهن لاحقا أن هذا ترك سؤالا شكوكيا بلا إجابة: «هل ما تصفه حقيقي في العالم الواقعي؟» كان هدف هوسرل أنك إذا قمت بهذا الاختزال الإضافي وعطلت «مسألة وجود» الأشياء محل السؤال (أي التغاضي عن مسألة ما إذا كانت الأشياء موجودة «في الحقيقة» أم أنها «داخل العقل» وحسب)، فإنك تجرد الشاك؛ الذي يشك في قدرتك على بلوغ «الواقع» أبدا، بتوصيفاتك. هدف الاختزال الفينومينولوجي هو ترك كل شيء كما هو «باستثناء» الأشياء التي يجري «اختزالها»، والمسماة الآن «الظواهر». عندما تعطل مسألة الوجود، فإنك تحتفظ بكل التجارب وما يتعلق بها من أشياء كنت تعرفها سابقا (الإدراكات الحسية، والصور، والذكريات، وغيرها)، لكن باعتبارها الآن مرتبطة بالوعي؛ أي كظواهر. بطريقة ما، أنت تتمتع بنفس اللحن الذي تتمتع به خلال السلوك الطبيعي لكن بمقام موسيقي مختلف. فبعد أن صرت محصنا ضد الشك - الذي كان قوة سلبية تحرك الفلسفة منذ زمن الإغريق - يمكنك الآن القيام بتحليلات وصفية دقيقة لأي ظاهرة مهما كانت. ستوضح التوصيفات نفسها الفرق بين التفاحة المرئية - مثلا - والتفاحة المتخيلة. تبدو هذه طريقة مبتكرة لتهميش الشك الفلسفي والتأكيد على معرفتنا اليقينية بالعالم. كان هذا حلم هوسرل.
يقدم الوجوديون سببين لرفض الاختزال الفينومينولوجي الذي طرحه هوسرل؛ أولا: أنه يجعل علاقتنا الأساسية بالعالم نظرية أكثر منها عملية، كما لو أننا ولدنا نظريين ثم تعلمنا العملية. أصر تلميذ هوسرل - مارتن هايدجر - على العكس؛ أي إننا كنا أصلا «في العالم» بفضل اهتماماتنا العملية، وإن الفلسفة يجب أن تحلل هذا الوعي «دون النظري» بهدف الوصول إلى الوجود. بالمثل، أصر سارتر - كما رأينا - على أن كل المعرفة «ملتزمة». كما تحدث ميرلوبونتي عن «قصدية فاعلة» معينة لأجسادنا العائشة كانت تتفاعل مع العالم قبل تصورنا التأملي له. حتى هوسرل، في سنوات حياته اللاحقة، بدا وكأنه يعترف بهذه الادعاءات عن طريق تقديم مفهوم «عالم الحياة» باعتباره الأساس دون النظري لتفكيرنا النظري.
Page inconnue
بيد أن الاعتراض الأساسي للوجوديين هو أن الوجود نفسه ليس «جوهرا» خاضعا للاختزال، كما صاغ ميرلوبونتي عبارته الشهيرة «الاختزال [الفينومينولوجي] الكامل أمر مستحيل» لأنك لا تستطيع «اختزال» الموجود «المختزل». يمثل الفرد الموجود ما هو أكثر من «صفاته» التي قد يتمنى المرء تحديدها في مفهوم نظري. وقد احتج سارتر قائلا إن هناك «ظواهر وجودية»، مثل تجربتنا الشعور بالغثيان، تكشف أننا موجودون وأننا لا نحتاج إلى الوجود «صدفتنا». إلا أن هذه التجربة ليست إدراكية، وإنما هي مسألة إحساس أو وعي وجداني؛ أي مسألة تحديد الأوصاف والطباع.
هوامش
الفصل الثاني
التحول إلى الفردية
لا يوجد كائنان، ولا موقفان، متكافئان تماما أحدهما مع الآخر.
الوعي بهذه الحقيقة يعني التعرض لأزمة من نوع ما.
جابرييل مارسيل
عرفت الوجودية باعتبارها فلسفة «فردية». وسوف نقيم وجهة النظر هذه عندما نستعرض بعدها الاجتماعي في
الفصل الخامس . لكن من البداية يجب أن نلاحظ أنه، في نظر الوجودي، كونك فردا في مجتمعنا الضخم هو إنجاز وليس نقطة انطلاق. مرة أخرى، سيتعامل كل وجودي مع هذا الموضوع بأسلوبه الخاص، إلا أن فكرتهم الأساسية هي أن اتجاه المجتمع الحديث يبعدنا عن الفردية ويأخذنا نحو الامتثال المجتمعي. في هذا الشأن، يشير كيركجارد إلى «الدهماء»، في حين يتحدث نيتشه بلهجة أكثر انتقادا عن «القطيع»، وهايدجر عن «الفرد»، وسارتر عن «الذات». في كل حالة، تكون الإشارة إلى التفكير، والفعل، واللبس، والتكلم، وغير هذا مما يفعلونه «هم». في القصة القصيرة التي كتبها ليو تولستوي بعنوان «موت إيڤان إيليتش»، غالبا ما يشير المتحدث - وهو شخص ممتثل للأعراف المجتمعية ووصولي - إلى اتباع سلوك «لائق»، حتى إلى درجة استخدام العبارات الفرنسية التي تفضلها الطبقات الاجتماعية الأرقى التي يطمح إلى الانضمام إليها. بهذا المعنى، فإن التحول إلى الفردية هو مهمة يمكن تنفيذها ومواصلتها لكنها ربما لا تكتمل على نحو دائم أبدا. فكما أشرنا في الفصل السابق، تتطلب الطبيعة الزمنية للحالة الإنسانية أن يكون وجود الفرد دائما ديناميكيا وقيد التشكيل، وألا يكون أبدا ساكنا وتاما. وبحسب الظروف، قد ينطوي الأمر أيضا على مخاطرة كبيرة.
تحدث نيتشه بفصاحة عن الوحدة التي يشعر بها الفرد الذي يرتقي فوق القطيع. وكما هي حال الوجوديين غالبا، كانت حياته الخاصة برهانا مأساويا على الثمن الذي يدفع دائما مقابل هذا الخروج عن الامتثال المجتمعي، وذلك خلال سعيه - وفق أسلوب سقراط - إلى تحقيق التناغم بين حياته وتعاليمه. لسنوات جاب نيتشه أوروبا دون أن يمكث في مكان واحد أكثر من بضعة أشهر، فنزل في غرف مؤجرة أو كضيف لدى أحدهم، وكان يعاني صداعا نصفيا حادا وآلاما في المعدة، ومضطرا في أغلب الأوقات إلى دفع ثمن نشر أعماله التي لم تصل أبدا إلى جمهور عريض خلال سنوات حياته. لقد شبه نفسه بإسبينوزا، فيلسوف القرن السابع عشر الهولندي المنحدر من أصول يهودية الذي نبذه الكنيس اليهودي بسبب آرائه غير التقليدية. وهو يقول في إحدى مقولاته المأثورة: «يقول أرسطو إن المرء لكي يعيش وحده يجب أن يكون وحشا أو إلها، متجاهلا الحالة الثالثة: يجب أن يكون المرء كليهما؛ أي فيلسوفا.» يصر نيتشه على أن الفيلسوف يجب أن يتصرف ضد أفكار عصره المتلقاة، فيقول:
Page inconnue
اليوم ... عندما يكرم حيوان القطيع ... فإن مفهوم «العظمة» يستلزم أن يكون نبيلا، وراغبا في أن يصبح على طبيعته، وقادرا على أن يكون مختلفا، واقفا وحده ومضطرا إلى أن يعيش مستقلا، ولسوف يخون الفيلسوف أحد مثله العليا عندما يفترض أن «الأعظم هو من يستطيع أن يكون الأشد وحدة، والأكثر اختباء، وانحرافا، الكائن البشري غير خاضع لمعايير الخير والشر».
بهذه المعايير، كان سورين كيركجارد صورة مصغرة من نيتشه، مع أن الثاني بدا أن له مجرد معرفة عابرة بعمله. كتب كيركجارد مقالات ونشرات يهاجم فيها القوى الثلاث الأوسع تأثيرا للامتثال المجتمعي في كوبنهاجن عصره؛ ألا وهي الصحف العامة ، والكنيسة الرسمية، والفلسفة السائدة، وهي فلسفة جي دابليو إف هيجل (1770-1831)، وفي كل منها كان يتحدث باسم الفرد. كانت الصحف العامة، في رأيه، تفكر بالنيابة عن الناس، والكنيسة تؤمن بالنيابة عن الناس، والفلسفة الهيجلية تختار بالنيابة عن الناس، بمعنى أنها «توسطت» بين ما كان سيصبح قرارات فردية وحولته إلى وجهة نظر عليا وشاملة في عملية تسمى «الجدلية». بعبارة أخرى: حولت الفلسفة الهيجلية تحدي «إما/أو» إلى عملية «كل من/و» مريحة. ومع أن هذه الآراء السلبية اتخذت بحجة التحول إلى الفردية، فقد عزلت كيركجارد عن مجتمعه وتسببت في ردود فعل عنيفة من جانب المؤسسة الدينية. في واقع الأمر، روي أنه كان يفضل أن يكون النقش المكتوب على شاهد قبره هذه العبارة البسيطة: «هذا فرد منعزل». أضف إلى هذا حادثة فسخ خطبته الشهيرة والقاسية فيما يبدو مع ريجين أولسن؛ لأنه ظاهريا لم يرغب في أن يثقل كاهلها بندائه الداخلي الفردي، علاوة على حياته المتبتلة اللاحقة، فصار لدينا المفكر المنعزل الذي يمجده نيتشه بوصفه الفيلسوف الحقيقي. وبطريقة ما - كما سنرى بعد قليل - كان فارس الإيمان المثالي في نظر كيركجارد أيضا «لا يقيم بمعايير الخير والشر»، وإن لم يكن بنفس دقة استخدام نيتشه لهذا التعبير الشهير. (1) نظرية المراحل لكيركجارد
يظهر أكثر التحليلات شمولا لمشروع التحول إلى الفردية في عملين، هما: «إما/أو» و«خطوات على طريق الحياة» لكيركجارد، وكلاهما مثال لأسلوبه في التواصل غير المباشر. يحكي كلاهما قصة - أكثر من قصة في الواقع - تحت أسماء مستعارة لتمكيننا من رؤية واختبار الأخلاق الفردية الواردة بهذه القصص في حياتنا. تقدم حججهما القصصية مجتمعة وصفا دقيقا إلى حد ما لدوائر الوجود الثلاث التي شكلها كيركجارد ليتعقب عملية التحول إلى الفردية. ومع أنه سيكون علينا أن نعدل ونفصل هذه العملية عند وضعها، فإن الدوائر أو المراحل ثلاث (جمالية وأخلاقية ودينية). لكل مرحلة نموذجها الخاص بما يناسب القصة الأخلاقية: دون جوان، ضمن آخرين، في الدائرة الجمالية، وسقراط، أيضا ضمن آخرين، في الدائرة الأخلاقية، وإبراهيم في الدائرة الدينية. تمثل هذه الشخصيات قوة عاطفية ملموسة «للحجة» لدى تكشفها. ومثل المحاضر في المعرض الفني، يظل كيركجارد يشير إلى النموذج ليمكننا من أن نرى كيف يدعم هذا النموذج السمة محل النقاش؛ لذا دعونا نسر على هذا الدرب ونقابل شخصياته الأدبية والتاريخية ونحن نتلمس طريقنا نحو الفردية. ومثلما يتوقع المرء من تحليل وجودي، ستكشف كل مرحلة أو دائرة عن علاقتها بالوقتية، التي تميزها عن الدوائر الأخرى. ومرة أخرى، الوقت هو جوهر كل شيء.
ربما أفضل طريقة للبدء هي البدء من النهاية، عندما تلخص إحدى الشخصيات - شخصية «الأخ تاسيتيرنوس» - في خطاب موجه إلى قراء «خطوات على طريق الحياة» المراحل أو الدوائر كالآتي:
هناك ثلاث دوائر وجودية: الجمالية والأخلاقية والدينية ... الدائرة الأخلاقية هي مجرد دائرة انتقالية؛ ولهذا فأسمى تعبير لها هو التوبة كفعل سلبي. الدائرة الجمالية هي دائرة الفورية، والدائرة الأخلاقية هي دائرة الحاجة (وهذه الحاجة لامتناهية للغاية حتى إن الفرد دائما ما يكون مفلسا)، والدائرة الدينية هي دائرة الإشباع، لكن انتبه من فضلك، فليس المقصود بالإشباع أن يملأ المرء صندوق صدقات أو أن يملأ حقيبة بالذهب؛ لأن التوبة خلقت بالتحديد فضاء لا حدود له؛ وبالتالي خلقت تناقضا دينيا؛ أن تكون وسط ماء يبلغ ارتفاعه 70 ألف قامة وتظل سعيدا في نفس الوقت.
يقلل تحليل الأخ تاسيتيرنوس - الذي من الواضح أنه كتب من وجهة نظر «دينية» - من شأن استقرار ودوام الدائرة الأخلاقية، كما لو أن أوجه قصورها - التي سنشهدها عما قليل - تجعلها غير ملائمة عند التعامل مع أكثر مشكلات الحياة إلحاحا، على سبيل المثال: الأمر الشائن المتمثل في وقوع الأمور السيئة لأناس طيبين. من منظور معاكس، سيعلن سارتر، كما سيعرض كامو في روايته «الطاعون»، أن «الشر لا يمكن الخلاص منه». هذه - على الأقل - هي وجهة نظر الوجودي الملحد. على أي حال، من الواضح أن ما سوف تسمى لاحقا ب «الوجودية» تتعامل مع أفراد محددين في مواقف متأزمة ملموسة؛ لهذا دعونا نتناول هذه المراحل عن كثب.
شكل 2-1: سورين كيركجارد، في الحادية والأربعين من عمره، قبل وفاته بعام واحد .
1
سورين كيركجارد (1813-1855)
ولد في كوبنهاجن وعاش بها طوال حياته، وقد عرف بأبي الوجودية الإلحادية. درس اللاهوت والفلسفة الهيجلية في الجامعة المحلية، ودخل في مجادلات حادة مع الكنيسة الرسمية، والصحف العامة، وأنصار الفلسفة الهيجلية؛ ربما لأنه اعتبر رسالته الخاصة مهمة مؤلمة وفردية. فسخ خطبته مع ريجين أولسين - ابنة عائلة محلية بارزة - وبقي عزبا بقية حياته. نشر الكثير من الأعمال الفلسفية واللاهوتية، العديد منها بأسماء مستعارة، وهي تتميز بمنطقها الحصيف وأفكارها النفسية الثاقبة. (1-1) المرحلة الجمالية
Page inconnue
هذه هي دائرة الحاضر «الفوري» من المنظور الزمني. وقد لوحظ أن نطاق الاختلافات التي تتصف بها قد يمتد من المادية البسيطة إلى أعلى درجات التطهير الفكري. يركز الشخص الذي يعيش هذه المرحلة - والمرء يستطيع أن يعيشها طيلة حياته - على الحاضر ويظل غير مبال بالتوبة من الماضي أو بالالتزام تجاه المستقبل إلا على نحو حذر يهدف إلى تجميل الحاضر، كما سنرى بعد قليل في حالة يوهان فاتن النساء. لقد أعجب كيركجارد بأوبرا «دون جيوفاني» التي تروي قصة زير النساء غير التائب «دون جوان»، الذي لحن موتزارت قصته كغاو لا يمل من ملاحقة النساء في أحد أفضل العروض الأوبرالية على الإطلاق. الدون، الذي يأخذه كيركجارد نموذجا رئيسيا للدائرة الجمالية، يعيش فقط من أجل الإشباع الجسدي في اللحظة الحالية. ويتكرر حضوره في الأوصاف الواردة في كل من «خطوات على طريق الحياة» و«إما/أو».
القصة الأولى في كتاب «خطوات على طريق الحياة» هي قصة اجتماع «جمالي» عادي بعنوان «النبيذ مصل الحقيقة»، وهي تمثل كلمة السر في الحدث. القصة محاكاة ساخرة لمأدبة أفلاطون الشهيرة عن الحب «المائدة». في كلا العملين ينصب تركيز حاضري المأدبة السكارى على الشرب والخطب تمجيدا في الحب. لكن إن كانت حفلة أفلاطون تركز أخيرا على مشاعر «الحب» الدائم والصادق التي تنتاب المرء بالتضاد مع الانجذاب العابر للجمال الحسي، فإن «النبيذ مصل الحقيقة» هي احتفال بالجمال الحسي في لحظاته العابرة. في حقيقة الأمر، فورية وآنية الحدث مفهومة من خلال تقديم الدعوات في الدقيقة الأخيرة واستعداد طاقم العمل لتفكيك مكان الاجتماع فور انتهائه. وكما يعلق أحد المشاركين: «لكي يكون الشيء جميلا، لا بد أن يكون فوريا؛ لأن «الفورية» هي الأروع من بين جميع الصفات ...» تذكر تحليل سارتر للشخص الذي «يقفز من أجل السعادة» حرفيا في محاولته العبثية لتكثيف تجربة مبهجة في لحظة واحدة.
المثير للدهشة أن المعربدين يدخلون قاعة المأدبة على ألحان أوبرا موتزارت، وتدور حواراتهم المتنوعة حول الحب الشهواني أو العلاقات المبتذلة بين الرجال والنساء. يقدم الحوار الختامي إحدى شخصيات كيركجارد - يوهان فاتن النساء - التي قدمها في عمل سابق، وهو «إما/أو». وبما أنه يجسد الحياة في الدائرة الجمالية، دعونا نستعرض هذا النطاق بالتفصيل بالرجوع إلى مقدمته في ذلك العمل السابق. «مذكرات فاتن نساء» هي إحدى أروع قصص كيركجارد عن الحياة في الدائرة الأولى، وتحكي عن مكائد «يوهان فاتن النساء»، الذي تعد خططه محاكاة ساخرة للتطور الخليع لدون جوان. في حقيقة الأمر، استخدمت سطور من الأوبرا كقصيدة قصيرة ساخرة في بداية القصة. ينجذب يوهان إلى شابة تبلغ ستة عشر عاما، اسمها كورديليا؛ حيث يلاحظها في الشارع برفقة خالتها التي تعتبر أيضا راعيتها، ثم يصادف بعد ذلك رجلا شابا من الواضح أنه مسحور بنفس الفتاة، ويشرع في مصادقته بحجة مساعدته في التودد إليها. وبعد أن يتمكن من دخول بيت الفتاة بصفته صديق الرجل الشاب، يشرع يوهان في الفوز باستحسان الخالة حتى وهو يفتن الفتاة العذراء. وسرعان ما ينبذ الرجل الشاب من صحبة يوهان لاعتباره عائقا أكثر منه ميزة. تروى قصة إغواء الشابة كورديليا وهجرها لاحقا في سلسلة من الخطابات المتبادلة بينهما. يبدو يوهان غير مبال بالألم الذي يسببه، عاقدا العزم بشدة على الحصول على «اللذة المطلقة»، التي يحتال بعدها على كورديليا ليقنعها بأن تفسخ خطبتهما فتتحمل هي مسئولية الانفصال. يعلق يوهان: «يكمن شقاء الخطبة دائما في جانبها الأخلاقي. والأخلاقي ممل في الفلسفة مثلما هو كذلك في الحياة ... سأعمل ما بوسعي بالتأكيد كي تفسخ هي الخطبة.» لا شك أن يوهان أقل عفوية من الدون، إلا أن هدفه واحد: الاستمتاع اللحظي الذي يعقبه هجر دون ندم. يجسد يوهان الغموض الثري لمصطلح «الجمالي» ولهذه الدائرة الوجودية عندما يجادل قائلا: «إضفاء طابع شعري على الذات للتأثير على فتاة شابة هو فن، أما إضفاء طابع شعري على الذات للهروب منها فهو تحفة فنية.» إن محب الجمال هو شاعر من نوع ما. (1-2) المرحلة الأخلاقية
يدرك كيركجارد أن يوهان ليس فاسقا، وإنما يفشل ببساطة في ممارسة اللعبة الأخلاقية من الأساس؛ فقواعد الصواب والخطأ لا تنطبق على دائرة وجوده. فكل اعتبار لديه يستهدف الحاضر، حتى لو كان هذا «الحاضر» يكمن في المستقبل، كما في تقديرات فاتن النساء بخصوص كورديليا. لا مجال هنا للتوبة من الماضي أو التعهد تجاه المستقبل، وهما السمتان المميزتان للدائرة الأخلاقية. يغيب مفهوم الوجودي عن «الالتزام» عن هذا الحديث. فالتوبة، والتعهد، والالتزام هي صفات أخلاقية يظهر دورها بعد تجربة «الانتقال» أو «التحول» التي تعتبر تدريبا على الاختيار الحر؛ وبالتالي على الفعل الفردي. وفي خطوة سوف نستفيض فيها بعد قليل، فإن هذا «الانتقال» ليس التطور الطبيعي - ناهيك عن كونه الضروري - للمرحلة السابقة كما توحي القراءة الهيجلية للموقف. يبدو أن كيركجارد يؤمن بأن معظم الناس يعيشون طيلة حياتهم في الدائرة الجمالية. على أي حال، فإنه يرى أن محب الجمال غير قادر على الاختيار الذي يمكنه من أن يصبح فردا. مثلما يحذر القاضي ويليام - شخصية أخرى من شخصيات كيركجارد - محب الجمال الشاب الذي يصر - في «إما/أو» - على أن الحياة حفلة تنكرية:
ألا تعلم أن الليل عندما ينتصف يخلع الجميع أقنعتهم؟ ... لقد رأيت رجالا في الحياة الواقعية لطالما خدعوا الآخرين، حتى إن طبيعتهم الحقيقية في النهاية لا تستطيع أن تكشف نفسها ... أو هل يمكنك أن تفكر في أي شيء أكثر ترويعا من أن تصبح طبيعتك متعددة، أنك قد تصبح حقا أكثر من واحد، تصبح - مثل أولئك الممسوسين التعساء - حشدا فتفقد بذلك أعمق وأقدس شيء على الإطلاق في الإنسان، ألا وهو القوة الموحدة للشخصية؟ ... قد يكون [مثل هذا الشخص] منغمسا بشكل غير مفهوم في علاقات الحياة التي تتجاوز نفسه بكثير، حتى إنه يكاد لا يستطيع أن يكشف عن نفسه. لكن من لا يستطيع أن يكشف عن نفسه لا يستطيع أن يحب، ومن لا يستطيع أن يحب فهو أتعس إنسان على الإطلاق.
يوضح القاضي الفكرة الوجودية العامة بأن الاختيار مكون للذات ومحرر لها. تذكر أنه على الرغم من أن الفلسفة الهيجلية، من وجهة نظر كيركجارد، تشدد على «التوسط» بين البدائل، الذي ترقيه إلى مرحلة أو وجهة نظر أسمى وأشمل، فإن الفكر الوجودي يشدد على الاختيار؛ على «إما/أو» التي تنطوي على المخاطرة والالتزام والفردية. يقترح القاضي تشبيها ملائما:
فكر في القبطان على متن سفينته في اللحظة التي يجب فيها تغيير اتجاهها. قد يقول: «أستطيع أن أفعل إما هذا أو ذاك»، لكن في حالة ما لم يكن ملاحا متمكنا، فسيكون واعيا في الوقت نفسه بأن السفينة تبحر في مسارها المعتاد، ولهذا فالسفينة لا تأبه للحظة واحدة بما إن كان سيفعل هذا أو ذاك. الاختيار إذن في يد إنسان. إذا نسي أن يضع تحركها إلى الأمام في الاعتبار، فستأتي في نهاية المطاف لحظة لن يكون فيها بعد ذلك أي مجال لإما/أو، ليس لأنه قد اختار، لكن لأنه أهمل الاختيار، وهو مرادف لقولنا: إن آخرين اختاروا بالنيابة عنه، أو إنه خسر نفسه.
يعلمنا هذا الدرس الوجودي القائل: إن حياتنا كلها عملية اختيار متواصل، وإن الفشل في الاختيار هو في حد ذاته اختيار نحن مسئولون عنه بالقدر نفسه. يصوغ سارتر هذا بوضوح حين يجزم بأنه في نظر الواقع البشري [الكائن البشري]، الوجود يعني الاختيار، وعدم الاختيار يعني عدم الوجود. كما يردد سارتر ما قاله كيركجارد عن علاقة الاختيار بتكوين الذات عندما يضيف أنه - في نظر الواقع البشري - كي توجد لا بد أن تختار نفسك. «الاختيار» الأساسي الذي يطرحه القاضي أمام محب الجمال الشاب هو ما سميناه بالاختيار المؤسس للمعايير. كما يفسر قائلا: «لا يشير استخدامي لإما/أو في الحالة الأولى إلى الاختيار بين الخير والشر، لكنه يشير إلى الاختيار الذي وفقا له يختار الإنسان الخير «و» الشر/أو يستثنيهما.» بعبارة أخرى: إنه يمثل قرارا ب «ممارسة اللعبة» التي تطبق فيها تصنيفات الخير والشر الأخلاقية. في حالة كيركجارد، فإن السمة المميزة للأخلاق هي الطبيعة العامة وغير الاستثنائية لقواعدها. يجعل الخلق الذي يطرحه كيركجارد - والمستوحى من كتابات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر - جوهر الفسوق في جعل المرء نفسه استثناء لقاعدة يريد الجميع أن يلاحظه. ويشير كانط أيضا إلى أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نكذب أو نخون أو نسرق هو أن الآخرين لا يفعلون ذلك. ليس هدفه ببساطة هو أن العواقب الاجتماعية لهذا الاختيار ستكون وخيمة، مثلما يجادل النفعيون (الذين يؤمنون بأن الأفعال تكون صوابا لو كانت مفيدة للأغلبية)، وإنما هدفه هو أن تعميم الممارسة - أي ترغيب الجميع بأن يفعل المثل - أمر مستحيل من الناحية العملية؛ لأنه لو كذب الجميع، فلن يصدق أحد؛ وبالتالي سيصبح الكذب مستحيلا. يدل هذا أيضا على أن هذا السلوك سيحول الآخرين الذين يطيعون القواعد الأخلاقية إلى مجرد أدوات تخدم غايات من لا يطيع القواعد، وفي هذا انتهاك صريح للقيمة الجوهرية لكل فرد، وهو ادعاء وجودي تقليدي. إننا نتعامل مع مجموعة من القواعد مثل الوصايا العشر أو القاعدة الذهبية، لكنها مصاغة بلغة غير دينية. يمكن أن يكون الشخص عادلا أو مستقيما، مثلما كان سقراط والقنصل الروماني بروتس (الذي لم يستثن ابنه من عقوبة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، مع أنه كان بوسعه ذلك)، دون أن يكون مطلعا على التوجيهات الإنجيلية. في واقع الأمر، يعتبر سقراط - بسبب إطاعته لقوانين أثينا حتى عندما أدانته ظلما - نموذجا معبرا عن الدائرة الأخلاقية؛ فهو لم يضع نفسه فوق القاعدة العامة، مع أن ما فعله سبب له ضررا واضحا. يسمي كيركجارد هؤلاء الأفراد ب «الأبطال التراجيديين» لكنه يضيف أنه - على عكس إبراهيم - «يبقى البطل التراجيدي داخل نطاق الدائرة الأخلاقية». (1-3) المرحلة الدينية
في رأي كيركجارد، تشكل «القفزة» الإيمانية مدخلا إلى الدائرة الدينية وأعلى صورة من صور التفردية. هنا، ليست التصنيفات المؤثرة هي اللذة والألم - كما في الدائرة الجمالية - ولا الخير والشر - كما في الدائرة الأخلاقية - بل الخطيئة والنعمة الإلهية. نموذجنا هنا هو إبراهيم، الذي كان في القصة الواردة في سفر التكوين مستعدا للتضحية بابنه الوحيد طاعة لأمر الله، على الرغم من الوعد الإلهي بأن الرجل العجوز سيكون أبا «للعديد من الأمم». يتمثل البعد المؤقت لهذا الحدث الاستثنائي في «اللحظة» التي تتم فيها هذه النقلة «اللانهائية». تتوقف التصنيفات الأخلاقية استجابة لأمر إلهي موجه إلى إبراهيم وحده وباسمه. في هذا السياق، لا يمكن تعميم دوافع الأفعال في المرحلة الدينية مثلما تتطلب المرحلة الأخلاقية. بعبارة أخرى: الفرد المتدين «لا يخضع لمعايير الخير والشر»، بحسب نيتشه؛ وبالتالي يمكن اعتبار تصرفاته فاسدة. من الناحية الأخلاقية، لا يملك إبراهيم كلمات يبرر بها تصرفه الغريب لزوجته. وهو لا يستطيع الاعتماد على يقين المبادئ العامة ولا على دعم المنطق العام. إنه وحده بين يدي الله؛ الواحد الكامل. يخرج إبراهيم من هذا الملجأ المجهول (الذي «يوجد» فيه) بأكثر الصور تطرفا. وهو يقوم بهذه النقلة متجاوزا الدائرة الأخلاقية، فإنه يشعر بالقلق الناجم عن حريته، حتى مع إدراكه لمجازفة أن هذا الأمر، المناقض للمبادئ الأخلاقية العامة، قد لا يكون إلهيا من الأساس. يرقى الفرد المتدين فوق ما هو عام، ومن وجهة النظر الدينية، فإن «الإغراء» الآن يتمثل في عكس هذه العلاقة، أي جعل الأخلاقي/العام مطلقا، بمعنى عمل ما هو «أخلاقي» وعدم طاعة الأمر الإلهي. هذه بحق «قفزة» إيمانية.
يقال إن تفسير كيركجارد لهذه القصة الإنجيلية أدى على نحو عفوي إلى ظهور ما يسمى ب «أخلاقيات الموقف» المرتبطة بوجودية سارتر ونيتشه. إنها مقاربة لفهم عملية اتخاذ القرار الأخلاقية التي تراعي كل حالة أخلاقية باعتبارها حالة فريدة ولا شبيه لها، إلا لو كانت قاعدة عامة لا خلاف عليها. هكذا يتحدث سارتر عن رجل شاب يواجه خيار البقاء في فرنسا التي احتلها النازيون مع أمه التي يشتبه في تعاون زوجها مع العدو والتي قتل ابنها البكر في الهجوم الألماني عام 1940، أو مغادرة البلاد ليحارب مع القوات الفرنسية الحرة. لو طلب النصح من طرف يميل إلى أحد الخيارين أو الآخر، لكان بالفعل اتخذ قراره. بدلا من ذلك، يتحدى سارتر قائلا: «أنت حر، لهذا اختر؛ ابتكر.» وكما أوضح: «لا توجد قاعدة أخلاقية عامة يمكن أن تريك ما عليك عمله؛ لا توجد إشارات تريك ما عليك عمله في هذا العالم. سيجيب الكاثوليك: «لكن هناك قواعد فعلا!» حسنا، مع هذا، فأنا نفسي - في كل حالة - من يجب أن يفسر هذه الإشارات.» تعد مخاطر وثمار «الإبداع الأخلاقي» فكرة أساسية في الكتابات الوجودية، لا سيما التي يتناولها نيتشه وسارتر ودي بوفوار.
Page inconnue
بالتأكيد لم يقترح كيركجارد أن ينبذ المرء الأخلاق. في واقع الأمر، لقد أشار إلى تصرف إبراهيم على أنه «تعطيل غائي للأخلاق»، وليس تخليا عنها. فالدائرة الأخلاقية توقفت من أجل هدف أو «غاية» أسمى؛ ألا وهي طاعة أمر إلهي. وعندما يهبط إبراهيم من الجبل الذي كان سيشهد التضحية (ثبت ملاك يده، في إشارة إلى أن إبراهيم قد اجتاز اختبار الإيمان غير المشروط بالله)، يعود إلى الدائرة الأخلاقية، لكن على نحو مختلف. فهو يعرف الآن أنها قابلة للاستثناءات وأن ملاحظته لمبادئها وقواعدها قائمة على ولاء أسمى. في التحليل الأخير - كما يلخص كيركجارد - يفوق الفرد العالم. لم تعد القواعد الأخلاقية المعيارية مطلقة من حيث مطالبتها الجميع باتباعها دائما.
يثير هذا موضوع العلاقة بين هذه الدوائر ووحدة الحياة. فعند حديث القاضي عن «إهدار» الحياة في الدائرة الجمالية - بمعنى تجزئتها وتشتتها - فإنه يحذر محب الجمال الشاب قائلا: «[في وضعك الحالي] أنت عاجز عن الحب؛ لأن الحب يتطلب التضحية بالذات، وأنت لا تملك ذاتا لتضحي بها.» وهو يشير إلى تكامل الدوائر الثلاث: «إذا لم تستطع أن تصل إلى مرحلة رؤية الجمالي والأخلاقي والديني كحلفاء ثلاثة كبار، وإذا لم تعرف كيف تحافظ على وحدة المظاهر المتنوعة التي يتلبسها كل شيء في هذه الدوائر المتنوعة، فالحياة إذن خاوية من المعنى؛ وعلى المرء إذن أن يسلم بأنك محق في استمرارك في الاقتناع بنظريتك المفضلة القائلة إن المرء يستطيع أن يقول عن أي شيء ، «سواء فعلتها أم لم تفعلها، فستندم في كلتا الحالتين».» يبدو أن البديل لهذا الاستنتاج - في حالة محب الجمال هذا على الأقل - سيكون الشك و/أو العدمية.
شكل 2-2: إبراهيم على وشك التضحية بابنه.
2
لم يكن تفسير كيركجارد لهذه المراحل أو الدوائر متسقا كلية؛ فمن ناحية، كان يشدد على «إما/أو» التي تنقل المرء من حالة إلى أخرى. من الواضح أن القرار المتفرد يشكل أساس كل نقلة. ويبدو أنه لا توجد عودة سهلة إلى الدائرة السابقة بعد أن تحدث القفزة. فبمجرد اختيار ممارسة اللعبة الأخلاقية - كما هي - لا يستطيع المرء إعادة التفكير والعودة إلى الجمالي المحض دون شروط. لقد خسرت براءتك، بالمعنى الحرفي للكلمة، وتستطيع الآن مواصلة سلوكك الساعي وراء اللذة كشخص فاسد فقط. من منطلق مماثل، سيبدو أن الفرد المنعزل الذي قام بالقفزة الإيمانية لا يستطيع الارتداد إلى الجمالي المحض أو حتى إلى الأخلاقي الصرف (كما لو أن التجربة لم تقع) دون تحمل عقوبة «الخطيئة»، وهو تصنيف ديني تماما، مع أن كيركجارد خلط أحيانا بينها وبين الرذيلة الأخلاقية. ومع هذا، فكما لاحظنا للتو، يوحي الهدف من رؤية هذه الدوائر باعتبارها «ثلاثة حلفاء كبار» إما بأنها «استنتاج» هيجلي (عودة المكبوت) أو «تداخل» يتناغم مع صورة الدائرة أكثر من تناغمه مع صورة المرحلة. في كلتا الحالتين، تعتبر الفكرة الموجهة «للاختيار» المتفرد مهددة تهديدا جادا. ما لا يمكن إنكاره أن إحدى مزايا هذا التواصل غير المباشر، مثل استخدام كيركجارد للأسماء المستعارة (أو استخدام نيتشه للحكايات الرمزية، أو حتى استخدام أفلاطون للحوارات) هي أن المرء ليس مضطرا إلى تحقيق الاتساق بين هذه الأصوات. وكما سنرى، يقدر الوجوديون الغموض. لكننا نكرر بأنهم ليسوا غير عقلانيين، وإنما يهدفون بقدر الإمكان إلى فهم العالم الذي تصادف وجودنا فيه. (2) الحرية لكن ليس للجميع: نيتشه
الوجودية فلسفة عن الحرية، حتى لو لم يوافق هؤلاء المفكرون على المعنى الدقيق لهذا المصطلح الأساسي. اشتهر نيتشه - مثلا - بإنكاره لفكرة الإرادة الحرة والاختيار الأخلاقي الذي يستتبعها. وقد حوله مشروعه عن إعادة الإنسان إلى الأرض وبعيدا عن أوهامه حول المتسامي والخالد، نحو البعد البيولوجي للوجود الإنساني، وغرائزه ودوافعه اللاعقلانية: ما سماه ب «إرادة القوة»، التي على الرغم من اقترانها الشائع بالاختيار والسيطرة، فإنها في الواقع إجابة للسؤال الميتافيزيقي «ما الموجود، في جوهره؟» وهذا على الرغم من كرهه للميتافيزيقا. في سياقها الواسع، فإن إرادة القوة هي القوة التي تحرك العالم؛ من الناحية البيولوجية، هي زخم الحياة الذي لا يمكن مقاومته ويحرك المحيط الحيوي. ومن الناحية النفسية، هي الدافع للهيمنة والسيطرة. و«أسمى» تعبير لها هو التحكم في النفس الذي تمارسه الأرواح الحرة التي يخصص لها نيتشه فضيلة «أسمى» من الأخلاقيات الدينية للقطيع. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل هار «الطبيعة ككل هي إرادة القوة»، وهي تعبر عن نفسها في كل بعد وجودي. لهذا السبب صنف الفيلسوف بول ريكور نيتشه من بين «زعماء الشك»، إلى جانب ماركس وفرويد؛ حيث يلقي كل مفكر منهم بظلال من الشك على تقديراتنا الظاهرية حول سبب قيامنا بما نقوم به. يكمن السبب الحقيقي لسلوكنا - حسبما يدعون - في شيء آخر. في حالة نيتشه، هذا المصدر المطلق هو إرادة القوة. وكما سيقول فوكو لاحقا على نسق نيتشه، فإن الجهود السامية للإصلاح العقابي في مطلع القرن التاسع عشر - مثلا - كانت في أساسها تعبيرا عن الرغبة في مزيد من السيطرة الفعالة على الآخرين.
شكل 2-3: نظرة نيتشه العميقة.
3
أي مكان - إذن - في هذا العالم تتاح فيه الحرية الإبداعية بالمعنى الوجودي؟ ما أساس المسئولية التي نشعر بها في داخلنا وننسبها إلى الآخرين؟ هذه هي المشكلة السرمدية للحرية في مقابل الجبرية، لكن بعد إضفاء الصبغة الدرامية المتناسبة مع التفسير الوجودي. في عالم لكل حدث فيه سبب وكل سبب ملزم (كلا الادعائين مفتوح للتفنيد)، لا يبدو أن هناك مكانا باقيا «للبدايات المطلقة» التي ينادي بها الفهم الشائع للحرية الوجودية. فلكل حدث سابقة (سواء طبيعية أو ثقافية حسب نوع الجبرية الذي يقترحه المرء) وكل سبب ملزم. في الحقيقة، تحت هذا التوصيف، لم يكن لأحد أن يتصرف على نحو غير الذي تصرف به .
يصر نيتشه على أن «خطأ» الإرادة الحرة هو الاعتقاد بأن الاختيار - وليس القوى الفسيولوجية والثقافية - هو أساس أحكامنا بالاستحسان أو الرفض الأخلاقي. وهو يعلق، مظهرا ولعه بالتفسيرات النفسية أكثر من الوجودية، قائلا: «تقوم الأفعال الشريرة التي نمتعض منها كثيرا على خطأ الافتراض بأن من يرتكبها في حقنا يمتلك الإرادة الحرة، أي إنه كان بوسعه «اختيار» ألا يسبب لنا الأذى.» لو كان نيتشه محقا، فسيستتبع ذلك ألا تكون هناك حدود لتسامحنا؛ لأنك «عندما تفهم كل شيء تسامح على كل شيء»، وذلك على حد قول روائية الحقبة الرومانسية الفرنسية مدام دي ستايل. على الرغم من أن هذه قد تكون حكمة إسبينوزا ونصيره الألماني، فإنها نادرا ما تكون المنطق السليم للقطيع.
Page inconnue
فريدريك نيتشه (1844-1900)
ولد في روكين بألمانيا. كان شديد الذكاء حتى إنه لقب بأستاذ فقه اللغة في جامعة بازل قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه. بسبب تدهور صحته معظم سنوات حياته، تخلى عن أستاذيته بعد عشر سنوات وقضى العقد التالي متجولا في أوروبا، يكتب مقالات معروفة بفطنتها اللاذعة وإيمانها بالحياة. يعتبر نيتشه أبا الوجودية «الإلحادية»، وأشهر مقولاته هي «مات الإله»؛ بمعنى أن العلم الحديث جعل الإيمان بإله أمرا في غير محله. كانت المهمة التي حملها على عاتقه هي هزيمة العدمية التي استتبعها هذا الحدث. وقع فريسة للجنون خلال العقد الأخير من حياته.
إلا أن نيتشه، في حكايته الرمزية عن النبي التقي - زرادشت - يضع احتمال وجود خلق «أسمى» قائم على حرية/قدرة صياغة القيم. بشكل ما، مع «موت الإله»؛ أي مع استمرار انتهاء فكرة الرب اليهودي المسيحي، تواجه الأرواح الحرة (الأفراد الحقيقيون في نظر نيتشه) تحدي تحمل الامتيازات الإلهية، التي من أهمها صياغة قيم أخلاقية تؤمن بالحياة وقيم جمالية تحسن الحياة. يرى نيتشه أن «الإنسان حيوان مقيم»، وقيم النبل الأخلاقية وقيم الحسن الجمالية تندمج في مشروع تحويل حياة المرء إلى عمل فني. يمكن أن يحمينا هذا الاندماج بين النبيل والحسن من أنفسنا كما فعل مع الإغريق القدامى؛ أي يحمينا من اليأس الناجم عن إدراكنا بأن الكون لا يهتم. يحل الفن محل الدين، حسب رأي نيتشه، تماما مثلما سيعد لاحقا بنوع من الخلاص لأنطون روكوينتين - بطل رواية سارتر الفلسفية «الغثيان» - لذا يبدو أن أخلاقيات الحرية متاحة لهذه «الأرواح الحرة» التي تملك آذانا لتصغي وشجاعة لتؤيد صحة ما تسمعه. هل كان بإمكان هذه الأرواح الحرة أن تفعل غير ذلك؟ يبدو أن نيتشه يعتبر هذه مشكلة وهمية يثيرها الإيمان الخاطئ بالإرادة الحرة. في واقع الأمر، هم لن يفعلوا «غير ذلك»، لو كانوا حقا أرواحا حرة، بما أن نبل مولدهم وشخصيتهم يحتم عليهم أن يتصرفوا بهذا الأسلوب بالتحديد.
يرى نيتشه أن أخلاقياتنا اليهودية المسيحية الحالية هي نتيجة لممارسة إرادة القوة من جانب «العبيد» الذين عكسوا، أو «أعادوا تشكيل» فضيلة «الأسياد» الأصلية. حسب وصف نيتشه الرائع، أقر الزعماء «الوثنيون» الأصليون بفضيلة معززة للحياة لكل من النبيل والوضيع. كانت هذه القيم هي النقيض التام للفضيلة اليهودية المسيحية التي نعرفها. يفترض نيتشه أن طبقة العبيد الكهنوتية - مدفوعة بشعور «الامتعاض» ضد ممارسة السادة لإرادة القوة البسيطة والمعززة للحياة - أعادت تشكيل قيم السادة إلى تصنيفاتها الخاصة فيما نسميه اليوم «الخير والشر» الأخلاقيين عن طريق ممارسة خفية لإرادة القوة؛ ومن ثم، فإن الخير والشر لدى السادة (النبيل والوضيع) قلبا إلى الشر والخير لدى العبيد، على الترتيب. فما اعتبره السادة خيرا، حكم عليه العبيد بأنه شر، وما ازدروه لوضاعته أصبح «فضائل» في نظر العبيد، كالتواضع والرحمة وما شابههما. ينصح نيتشه «الأرواح الحرة» بفضيلة أسمى تتكون من عكس القيم المقلوبة للعبيد، مثل تحول الأنانية من نقيصة بالنسبة للعبيد إلى فضيلة بالنسبة للسادة، وهكذا؛ وبالتالي فإن هذه الفضيلة الجديدة (أو القديمة) «تتجاوز الخير والشر» حسب الأخلاقيات اليهودية المسيحية، لكنها تؤيد «الخير والشر» حسب فضائل السادة. في الوقت الذي كانت فيه ممارسة السادة لإرادة القوة صريحة وغير مقيدة نسبيا، اتسمت ممارسة العبيد ب «امتعاض» خفي ومنكر للحياة. وهذا العكس الذي يعلمه نيتشه للأرواح الحرة سيعزز الحياة مجددا. لكن ذلك موجه للقلة فقط.
يعرض نيتشه على أولئك القادرين اعتناق مذهب القدرية الذي يعد أكثر تحديا للروح الوجودية من الجبرية التي تحدثنا عنها للتو. طبقا لهذه النظرية، فإننا مقدرون لعمل ما نفعله بالضبط. يطلق نيتشه على هذا فرضية «التكرار الأزلي». وهو يرى أن ذلك نابع من حقيقة أن خياراتنا محدودة لكن الزمن غير محدود. وهكذا، كما يفسرها، فأيما ما يحدث سيتكرر لعدد لا يحصى من المرات. لو كانت الجبرية تسترجع الماضي، فالقدرية تستشرف المستقبل؛ فهي تدور حول ما يسجل في كتاب الحياة، الذي لم تقلب صفحاته بعد. بالنظر إلى هذا الموقف، ليست نصيحة نيتشه استسلاما سلبيا، لكنها «حب للقدر» يتسم بإيجابيته، كما كان يعظ الرواقيون القدامى. سوف نعود إلى تناول كامو لهذا المذهب لاحقا. لكن سواء تقبل المرء هذه النظرية حرفيا أو قرأها - وهو الأكثر معقولية - كأمر أخلاقي للتصرف بشجاعة وحذر، أي «التحرر من الماضي بفعل قوي الإرادة»، كما يحث زرادشت، فإنها تثير مجددا مسألة مدى «حريتنا» في اتباع نصيحة نيتشه أو رفضها. وهذا في حد ذاته مفارقة مناسبة لكيركجارد.
المثير للاستغراب أن شخصية القاضي ويليام التي وضعها كيركجارد تواجه محب الجمال الشاب قليل الحظ بتحد مماثل شيئا ما عن طريق الإشارة إلى نوع من التكيف النفسي الاجتماعي:
من وجهة نظري فإن لحظة الاختيار جادة للغاية ... بسبب ... خطورة أنه في اللحظة التالية قد لا تكون لدي نفس القدرة على الاختيار، وأن شيئا قد جرب لا بد من تجربته مجددا. التفكير في أنه للحظة يستطيع المرء أن يبقي شخصيته خاوية، أو بشكل أدق، يستطيع المرء أن ينفصل ويوقف مسار حياته الشخصية، هو وهم. فالشخصية تكون مهتمة فعلا بالاختيار قبل أن يختار المرء، وعندما يؤجل اتخاذ الاختيار تختار الشخصية بصورة لاواعية، أو تقوم قوى غامضة داخلية بالاختيار. وهكذا، عندما يتخذ الاختيار أخيرا، يكتشف المرء (ما لم تكن الشخصية قد تبدلت كلية، كما أشرت سابقا) أن شيئا يجب أن يتكرر، شيئا يجب أن يبطل، وهذا في العادة صعب للغاية.
في حالة كيركجارد، فالاختيار تبادلي مع «الذات» حتى إنه يؤسس ويعبر . و«الشخصية» هنا تشبه أكثر «غريزة» نيتشه الضمنية التي تحث على اتخاذ القرار وتعتبر الوضع التلقائي للإنسان. أو ربما الأفضل القول إنها عادة ناتجة عن تراكم الاختيارات السابقة، وفي هذه الحالة يمكن الحفاظ على استقلالية الخيار الوجودي.
كتب سارتر مقالا بعنوان «الحرية الديكارتية» طور فيه رؤية نيتشه بأننا - في غياب الإيمان بالله - يجب أن نتحمل مسئولية الحرية المطلقة التي نسبها ديكارت إلى الذات الإلهية. من الناحية الفينومينولوجية، يعني هذا أن كل «العالم» (أفق غاياتنا) هو خلقنا الذي نتحمل عنه كامل المسئولية. ويصر قائلا: «لا حجة لنا.» مثل نيتشه، ركز سارتر تركيزا أساسيا على خلق القيم الأخلاقية، كما رأينا. لكن على عكس سابقه، ادعى أن هذه القيم كانت نتيجة «اختياراتنا» الإبداعية. أما نيتشه، فعلى العكس بدا مؤمنا بأن «أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا» - أي الأرواح الحرة - قادرون بالفطرة على التأثر بقوة حججه التي تهدد القطيع أو تستعصي على فهمه. لو كان هذا حقيقيا، فإنه يؤيد نوعا من الجبرية النفسبيولوجية (يجب أن نتبنى ما نرى أنه الحجة الأقوى، والأرواح الحرة فقط هي القادرة على تقدير تلك الدوافع التي تعزز الحياة بشكل لائق). وهذا يفصله عن سارتر ودي بوفوار، لكن ليس عن كيركجارد، كما رأينا للتو. (3) «التفلسف في ضوء الاستثناء»
أول من قدم فلسفة «الوجودية» كان الطبيب النفسي والفيلسوف الألماني كارل ياسبرز. ومع أنه أفرد العديد من الصفحات لنيتشه وبضع صفحات فقط لكيركجارد، فربما كان الثاني هو أكثر من أثر فيه. كان ياسبرز أول مفكر بارز يتحدث عنهما كثنائي. وعلى الرغم من آرائهما المتناقضة حول وجود الله، اعتبر ياسبرز أن كيركجارد ونيتشه هما أهم مفكرين في القرن التاسع عشر بعد هيجل، والمفكران اللذان مهدت أعمالهما بشكل فعال للفكر الأوروبي في القرن العشرين. عندما بدأ النظام النازي يحكم قبضته على المجتمع الألماني وثقافته في عام 1935، تحدث ياسبرز - وهو شخصية شجاعة معادية للنازية - بالآتي في محاضرة عامة: «بخصوص الوضع المتعلق بالتفلسف والحياة الواقعية، يعلق كيركجارد ونيتشه على الكارثة الوشيكة التي لم يدركها أحد في ذلك الوقت (إلا كإحساس داخلي وقتي وسريع النسيان) لكنها كانت واضحة لهما.» هذه الكارثة تمثلت في التقليل من قيمة ما سماه ياسبرز ب «الوجودية» (الطريقة الإنسانية اللائقة للوجود) لمصلحة صورة ساذجة من المعرفة العلمية. دون الانزلاق إلى اللاعقلانية ومع كامل الاحترام لقوى المنطق وقيوده التي تقود حياتنا، انتقد كل من كيركجارد ونيتشه التفسيرات «المنهجية» مثل تلك التي قدمها هيجل عن وجودنا الغامض والمحير. لقد تحدث كلاهما إلى الفرد، إلى الذات التي تتمتع بالروح القادرة على فهم ما يقومان بتعليمه وقبوله. في هذا الشأن اقتبس كيركجارد ما قاله الكاتب الساخر والعالم الألماني من القرن الثامن عشر جورج كريستوف ليتشنبيرج في إحدى قصائده الساخرة: «هذه الأعمال مثل المرايا؛ لو نظر بها قرد، فلن تنعكس عليها صورة مصلح أخلاقي.»
Page inconnue
في رأي ياسبرز، سعى الرجلان إلى قيم الصدق والالتزام و«الحقيقة الأصلية»، متجاوزين حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال. كانا بالفعل استثناءين، نعجب بهما لكن لا نقلدهما. بدا بذلك وكأنه يقول: لا أحد مجبور على الشهادة. فمثل سقراط، عاشا وعانيا بسبب صدق تعاليمهما، وكانت حياتهما أشبه بما وصفه ياسبرز ب «حطام سفينة». وعلى هذه الحال، فهما يمثلان إنذارا ضد الشطط الذي يجب ألا نتبعه، وفي نفس الوقت يمثلان نموذجا للفضائل التي يجب أن نحاكيها. وهذا يلهم ياسبرز درسا من حياتهما: «التفلسف في ضوء الاستثناء دون التحول إلى استثناء».
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
أعتقد أن البطولة والقداسة لا تروقانني حقا. ما يهمني هو أن أكون إنسانا.
ألبير كامو، «الطاعون»
لو كانت هناك نزعة إنسانية اليوم، فإنها تجرد نفسها من الوهم الذي أجاد فاليري تصويره عند حديثه عن «هذا الإنسان الصغير داخل الإنسان الذي دائما ما نفترض وجوده».
موريس ميرلوبونتي
في 29 أكتوبر 1945، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» سرعان ما أصبحت بيانا رسميا بإطلاق الحركة الوجودية. من جميع النواحي، كانت حدثا فكريا غذى بالتأكيد نيران الحركة التي كانت تنتشر من مقاهي ليفت بانك ومسارح المنوعات في باريس إلى أوكار مشابهة عبر أنحاء أوروبا والعالم. لخصت هذه المحاضرة - التي ألقيت على جمع حاشد من الجماهير - بإيجاز ما صار يعرف بالسمة المميزة لوجودية سارتر: الادعاء بأن «الوجود يسبق الجوهر». بالنظر إلى النزعة الإلحادية المفترضة في رأي سارتر، بدا أن ذلك يترتب عليه أن الأفراد متروكون ليصوغوا قيمهم الخاصة؛ لأنه لا يوجد نظام أخلاقي في الكون يمكن أن يوجهوا أفعالهم وفقه، وأن هذه الحرية - في واقع الأمر - كانت في حد ذاتها القيمة المطلقة التي يمكن أن يلجأ إليها المرء (أو كما يقول هو: «عند اختيار أي شيء على الإطلاق، فإنني قبل أي شيء أختار الحرية.») كان من الممكن أن يكتشف كل هذا القدر أي شخص قرأ كتابه الأهم «الوجود والعدم»، الذي نشر قبل ذلك بعامين. لكن هذا الكتاب الطويل والصعب لم يكن حقا أعلى الكتب بيعا، بل يمكن أن نضيف أنه، مثل كتاب داروين «أصل الأنواع»، كان يقتبس منه أكثر مما يقرأ.
لم يكن ما جعل هذه المحاضرة ضرورية هو أنها بسطت العديد من الملامح الأساسية لعمله الأكبر وحسب، بل إنها حاولت الإجابة عن اعتراضات نقاد سارتر الكبار من كلا الجانبين الشيوعي والكاثوليكي بأن هذه الفلسفة الجديدة كانت تجسيدا للفردية البرجوازية، وأنها لم تراع مطلقا متطلبات العدالة الاجتماعية التي تثقل المجتمع الأوروبي المنهك بالحرب. بعبارة أخرى: كان الصوت القائد للفكر الوجودي يواجه تحدي الإجابة عن المزاعم القائلة: إن فلسفته لم تكن إلا مخدرا نرجسيا لإبعاد الشباب عن مهمة إعادة بناء مجتمع عادل من بين أطلال التراجيديا الفاشية؛ ما يعني أن الوجودية ستفقد مصداقيتها أمام العامة لو لم تستطع تقديم فلسفة اجتماعية قابلة للتطبيق وذات صلة بحياتهم.
Page inconnue
نادرا ما يمكن تحقيق مثل هذه المهمة في محاضرة مسائية. في واقع الأمر، تكمن مزايا وعيوب هذا الخطاب القصير في محاولته تحقيق ذلك. استعان سارتر بنظرية كانط عن المبادئ العامة (المبادئ التي أوقفها إبراهيم - أحد شخصيات كيركجارد - من أجل هدف أسمى) عندما قال إنه ما من إنسان يستطيع أن يكون حرا بالمعنى الملموس (وليس فقط بالمعنى المجرد المستخدم في «الوجود والعدم» الذي يصف الفرد بأنه حر) ما لم يكن الجميع أحرارا. وهو يصر على قوله: «عندما أختار، فإنني أختار لجميع الناس.» وفي كلمات تحمل نبرة كانطية مميزة، يدعو سارتر كل فرد أن يسأل نفسه: «هل أنا من له الحق في التصرف بالشكل الذي يجعل البشرية تنظم نفسها وفق تصرفاتي؟» بدا أن هذا يعكس حس المسئولية تجاه الآخر وحتى تجاه المجتمع ككل بشكل يختلف عن آرائه السابقة. مع هذا طرح سارتر مبدأ أخلاقيا آخر عندما أكد أنه مع كل اختيار أخلاقي فإننا نكون صورة عن الشخص الذي نريد أن نكونه، بل في الواقع نكون صورة عما يجب أن يكون عليه أي شخص أخلاقي، فقال: «في الحقيقة لا يوجد فعل واحد من أفعالنا، عند تكوين صورة الشخص الذي نريد أن نكونه، لا يكون في نفس الوقت «صورة» عن الإنسان الذي نحكم بأنه «يجب» أن يكون عليه.» مهما كان دور هذه المبادئ في تشكيل النظرية الاجتماعية، فلم يبد أن أيا منها يستكمل ما نشره سارتر حتى ذلك الحين. وفي ضوء عمله اللاحق عن الأنطولوجيا الاجتماعية (انظر
الفصل الخامس )، تعد هذه الملاحظات استبصارية، لكنها تظهر في هذه المحاضرة كجسم غريب لإنقاذ المؤمن بالفردية من نقاده الماركسيين والدينيين. إننا نشهد - في الواقع - سارتر وهو يفكر بصوت عال، ويتفلسف «هائما». لقد مثلت التناقضات البادية في هذه المحاضرة إحراجا واضحا له، على أهميتها في تسجيل تطور فكره. وفي الحقيقة، هذا هو العمل الوحيد على الإطلاق الذي أعلن صراحة ندمه على نشره. ومن قبيل المفارقة يبدو أن هذا هو عمله الفلسفي الوحيد الذي يقرؤه الجميع.
عندما قال سارتر إن الوجودية فلسفة إنسانية، كان يعني أنها تضع الإنسان في مركز اهتمامها وعلى قمة هرم قيمها. ومع أنه يذكر الوجوديين الملحدين في هذه المحاضرة، مستشهدا بياسبرز ومارسيل كمثالين، فإنه من الصعب إيجاد مكان لهم في نص خطابه. بدلا من ذلك، فإنه يصر على أن القيمة المطلقة، أو غاية محاولاتنا، يجب أن تكون رعاية حرية الفرد، التي قصد بها تحسين إمكانياته الملموسة في الاختيار. وهو يشير إلى أنه لا يجب التضحية بهذه الحرية الإبداعية من أجل أي قيمة «أسمى»، سواء أكانت «الطبقة» لدى الماركسيين أم «الإله» لدى المؤمنين المتدينين. يتطابق هذا مع الصورة التي سماها نيتشه ب «الأرواح الحرة» في كتابه «هو ذا الإنسان». عندما يصر سارتر أنه على المرء أن «يختار، أي أن يبتكر»، فإنه لا يعني ببساطة أن «يرتجل»، بل يشير إلى القرار المسئول بأن يكون مع أو ضد الحرية نفسها.
شكل 3-1: الأمل الوحيد هو أن ندرك أنه لا يوجد أمل (مطلق).
1
يتفق ألبير كامو مع سارتر ونيتشه في أنه مهما كانت الغاية التي يحويها عالمنا، فإن الأفراد هم من يخلقونها سواء وحدهم أو في علاقات اجتماعية، لكنه يرى هذا مصدرا لقلقنا؛ فنحن نشتاق إلى غاية يقدمها كون يهتم لكننا لا نجد إلا سماء خاوية. ماذا نفعل في مواجهة ما يسميه ب «عبثية» هذا الموقف؟ يقدم كامو عزاء وجوديا في تفسيره لأسطورة سيزيف الإغريقية؛ ذلك الإنسان الفاني الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة صاعدا بها الجبل، فإذا بلغ قمته رآها تسقط، وهكذا يتكرر الموقف بلا نهاية. ومع هذا يزعم كامو أنه يعتبر سيزيف سعيدا في اللحظة التي يعود فيها إلى استرداد الصخرة عند سفح التل. لماذا يعتبره سعيدا؟ لأن سيزيف سما فوق قدره، ليس بالاستسلام المتبلد بل «بالاختيار المتعمد». وبهذا يظهر أنه أفضل من هذه الصخرة الجامدة. وحسبما قاله نيتشه، فقد حول «ما كان» (ماضيه ومعطيات موقفه) إلى «هذا ما أردته».
بالنظر إلى هذه الحكاية الرمزية عن العبثية المطلقة التي تتسم بها الحياة، يشير كامو إلى أن أملنا الوحيد هو الاعتراف بأنه لا يوجد أمل مطلق. ومثل الرواقيين القدامى، يجب أن نحجم توقعاتنا في ضوء فنائنا. (1) الفلسفة الإنسانية واللاوعي
يتمثل شعار الفلسفة الإنسانية لدى سارتر، الذي يتردد صداه في أعمال كامو ودي بوفوار، في أنك تستطيع دائما أن تصنع شيئا مختلفا عما وجدت نفسك عليه. وهكذا تحوي «التشاؤمية» الوجودية مضرب الأمثال أملا عميقا، وإن كان محدودا. كانت هذه رسالة كامو في مقاله «أسطورة سيزيف»، مثلما كانت رسالة نيتشه في اعتناقه للقدر. إنها النتيجة الإنسانية الرئيسية لرفض سارتر اللاوعي الفرويدي؛ لأن هذه الدوافع والقوى تسلبنا حريتنا ومسئوليتنا.
لا يتسم جميع الوجوديين بكل هذا الشك في اللاوعي؛ فقد شاهدنا شخصية القاضي ويليام - التي رسمها كيركجارد - وهي تشير إلى الاختيارات اللاواعية والقوى الغامضة. وفي ضوء ادعاءات نيتشه حول الدوافع والغرائز اللاعقلانية، يمكن أن يقدر المرء اعتراف فرويد بأن نيتشه سبقه في جوانب عديدة. ولو كان قيل إن هايدجر لا يبالي بالتحليل النفسي، فقد ناقش على الرغم من ذلك كثيرا من ممارسي التحليل النفسي في مناسبات عدة بناء على طلب صديقه المقرب - المحلل النفسي السويسري مينارد بوس. في الحقيقة، صاغ لودفيج بينسوانجر مقاربة مؤثرة للتحليل النفسي اعتمدت على مفاهيم هايدجر. أما موقف ميرلوبونتي تجاه اللاوعي فبدا غامضا. في واقع الأمر، لقد رأى أن اللاوعي لم يكن بعد فكرة مكتملة لدى فرويد نفسه، وكان مؤمنا بأن مصطلح فرويد اقترب مما سماه مفكرون آخرون تسمية أدق ب «الإدراك الغامض» أو «الإدراك غير العاكس»، وهو رأي يتفق معه سارتر. على أي حال، احترم ميرلوبونتي التحليل النفسي الفرويدي طيلة حياته المهنية. وحتى معارضة سارتر الشهيرة للاوعي قابلة للشك. وقد ذكر تلميذه السابق والمحلل النفسي المرموق جين برتراند بونتاليس أنه يوما ما سيكتب تاريخ العلاقة التي امتدت ثلاثين عاما بين سارتر والتحليل النفسي، وهي مزيج غامض بين شعورين عميقين متساويين من الانجذاب والنفور، وربما يعاد تفسير أعماله في ضوئها. أما كارل ياسبرز - وهو طبيب نفسي ساعده سارتر في ترجمة بحثه الأهم «الأمراض النفسية العامة» إلى الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين - فتحدث عن «أرض الوعي الإنساني بعيدة المنال».
لكن اللاوعي الفرويدي يثير حنق الوجوديين؛ فياسبرز نفسه - الذي يتحدث مثل سارتر - ينتقد الرأي الفرويدي القائل: «الإنسان دمية في يد لاوعية، و[أنه] عندما يلقى ضوء واضح على اللاوعي، سيكون الإنسان سيد نفسه.» وعلى النقيض، يعترض ياسبرز قائلا:
Page inconnue
انتقاد المفكر الصادق لنفسه - الذي بلغ ذروته لدى كيركجارد ونيتشه بعد فترة طويلة فاصلة من الإيمان بالمسيحية - قد انحط في ضوء التحليل النفسي إلى اكتشاف الرغبات الجنسية والتجارب النمطية للطفولة؛ إنه تقنيع لانتقاد صادق وخطير في نفس الوقت للذات عن طريق إعادة اكتشاف الأنماط المألوفة في عالم من الرغبات الملحة المفترضة، حيث تعتبر المستويات الأدنى من حياة الإنسان ذات صلاحية مطلقة.
من بين هذه المجموعة - وقتذاك - أظهر ميرلوبونتي وحده اهتماما كبيرا باللاوعي الفرويدي، وكذلك نسخته الفرنسية البنيوية التي روجها المحلل النفسي جاك لاكان (1901-1981). وكي لا يستنتج المرء أن قبول اللاوعي الفرويدي يتعارض مع الإنسانية الوجودية في مجملها، يجب أن ينتبه إلى الاحتمالية النيتشية الخاصة ب «استقلال الذات» التي سعى التحليل النفسي إلى بلوغها والتي يشكك ياسبرز فيها. موضع الجدال هنا هو نوع الحرية التي يمكن أن يتوقعها المرء من عامل متجسد وقائم اجتماعيا. ويبدو أن الوجوديين منقسمون حول هذا.
شكل 3-2: هايدجر والحديقة، ووراءهما الغابة.
2 (2) بديل للفلسفة الإنسانية؟
لم أناقش بعد فكر مارتن هايدجر بالتفصيل. يزعم الكثيرون من أتباعه أن هذا الفيلسوف الأوروبي البارز لم يكن وجوديا على الإطلاق. لا بد بالتأكيد من التسليم بأن اهتمام هايدجر المعلن كان منصبا على معنى الوجود، وليس على المسائل الأخلاقية أو النفسية التي اهتم بها كيركجارد ونيتشه. وقد سأل في أهم أعماله «الوجود والزمن» (1927): «ما معنى أن توجد؟» وتعكس كتاباته اللاحقة تركيزا شاعريا - إن لم يكن صوفيا - على التخلص من العقبات في حياتنا الشخصية والثقافية لحين وقوع ما أطلق عليه اسم حادثة الوجود. بعبارة أخرى: على مدار حياته المهنية، انتقد هايدجر أولئك الذين صرفوا انتباهنا عن بلوغ الوجود عن طريق التركيز على مسائل ميتافيزيقية متعلقة بالجوهر والوجود، والسبب والنتيجة، والذات والموضوع، ونظريات حول الطبيعة البشرية.
في مقال هايدجر الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية» (1947)، الذي كتب ظاهريا كرد على محاضرة سارتر المذكورة آنفا، انتقد الفلسفة الإنسانية التقليدية بسبب تعريفها «للإنسان» باعتباره «حيوانا عاقلا» أو «حيوانا ناطقا». ينتقص مثل هذا المفهوم - في رأي هايدجر - من قيمة الإنسان، ويؤدي بسهولة إلى ظهور مجتمع صناعي يعرف الإنسان من حيث إنتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي أو الشخصي. يرى هايدجر أن سارتر عاجز عن الهروب من هذه الميتافيزيقا التقليدية والأنثروبولوجيا الفلسفية الناتجة عنها. تكمن عظمة «الإنسان» (أو ما يسميه هايدجر «الكائن هنا»، قاصدا الطريقة الإنسانية للوجود) في انفتاحه على الوجود، وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم ليمارس فيه ما سماه هايدجر بواقعة وجوده. وفي تعبير شهير مأخوذ من عمله اللاحق، يطلق هايدجر على الإنسان/الكائن هنا اسم «راعي الوجود». وعظمته في البقاء منفتحا ويقظا «للنداء» أو للبعد «المقدس» هي التي تتجاوز همومنا اليومية. ينصحنا هايدجر بضرورة تعلم أن «نفكر شاعريا» بدلا من التصرف بدافع ذرائعي وحسب. لو تقبل المرء هذه النصيحة، يمكن إذن النظر إلى هايدجر في كتابه الثاني على أنه مبشر بالنزعة الإنسانية «الحقيقية»: النزعة التي تركز على أقوى إمكانات الإنسان؛ وهذا هو ما ادعاه في رسالته.
مارتن هايدجر (1889-1976)
نظرا لترعرع هايدجر وسط جبال جنوب غرب ألمانيا، لم يفتر حبه للطبيعة أو احترامه للحياة البسيطة. تلقى تعليمه في جامعة فرايبورج إم برايجاو، حيث عمل مساعدا لإدموند هوسرل، واعتبر زملاؤه كتابه الأول «الوجود والزمن» (1927) عملا عبقريا؛ لأنه قدم فينومينولوجيا تفسيرية اختلفت عن تلك التي تبناها أنصار هوسرل التقليديين. ومع هذا، خلف هايدجر هوسرل - بناء على توصية من هوسرل نفسه - في رئاسة قسم الفلسفة في فرايبورج. يبقى ارتباطه لاحقا بالحزب الاشتراكي القومي (النازي) مثار الكثير من الجدل. إلا أن سمعته كفيلسوف بارز لا غبار عليها.
لكن يجب أن نضيف أن هذا الحديث يبدو بعيدا كل البعد عن الموضوعات الوجودية والفرضيات التي ناقشناها حتى الآن. في واقع الأمر، يتبنى هايدجر في كتابه الأول، «الوجود والزمن»، العديد من مفاهيم كيركجارد ونيتشه ليفسر كيف نبلغ كياننا الذي لدينا عنه بالفعل قدر من المعرفة. وهو يوظف أسلوبا «تفسيريا»، أو تأويليا، ليوضح هذه المعرفة الأساسية. ويبين ظهور هذا الفهم المسبق ارتباط فكره بالفكر الوجودي. ومع أننا سنتناول الأمر بمزيد من التفصيل في الفصل الأخير، فيجب أن ننتبه هنا إلى أن مفاهيم مثل «القلق » (القلق الوجودي) والوقتية الوجدانية - التي سبق مناقشتها - تتجلى بصورة رئيسية في فكره المبكر، وكذلك فكرة وقتنا الفاني (وجودنا المتجه نحو الموت)، أي الإدراك والقبول الإيجابي الذي يجسد ضعفنا ويجعلنا منفتحين على معنى الوجود من خلال مواجهتنا باحتمال نهاية وجودنا.
يجسد الروائي سول بيلو هذه الرؤية الهايدجرية من خلال تأملات شخصية موسى هيرتزوج في رواية تحمل نفس الاسم:
Page inconnue