هل تذكر ما حدثتني به منذ سنين؟ هل تذكر أنك تشهيت مرة أن توجه إلي خطابا على صفحات البلاغ عنوانه «من غريب إلى غريب» وكنت الغريب في بغداد وكنت الغريب في باريس؟
ولم تحدثني عما أوحى إليك أن تفكر في إنشاء ذلك الخطاب، فهل أستطيع أن أرجح أن ذلك كان بعد أن نشرت أنا رسالة «من غربة إلى غربة بين القاهرة وباريس» تلك الرسالة التي فضحت بها مكتوم صدري ومكنون هواي؟
على أنني لن أكتب مثل تلك الرسالة مرة ثانية، فقد انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وقضى الحب أن أشهد كيف تنهمر دموع الملاح يوم رحيلي إلى العراق.
انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وحل عهد الاغتراب عن القاهرة، فمن يردني إليها ليلة أو ليلتين لأقضي حق التحية تحية المغاني الآهلة التي كانت تتشوف إلى العيد، لتراني مع العيد!
ليتك يا صديقي تعرف نعمة الله عليك في بلد لك فيه أهل وأحباب، ولا أراك الله حسرتي وعذابي وأنا أتجرع كأس الغربة في ليلة عيد.
ولكن هل من السياسة أن أعلن غربتي في بغداد، وقد لقيت فيها أهلا بأهل وجيرانا بجيران؟
إن قيل ذلك فأنا أعلن أني لا أعاني غربة العقل، وإنما أعاني غربة القلب.
وكيف أعاني غربة العقل ومحاضراتي يشهدها المئات من عشاق العلم والبيان، ولا أخطو خطوة إلا وأنا محوط بالعطف والإعجاب، ولا أدخل ناديا إلا تلقاني أهله وسامروه بالترحيب والتبجيل؟
ولكن هل يكتفي مثلي بحياة العقل؟ يا ضيعة العمر إن كتب علينا ألا نظفر بغير الثناء من عقلاء الرجال، وما أضيق العيش إن كانت لا تلمع بروقه إلا من صرير القلم وسواد المداد.
إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب، وهل يخفى عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيدا إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر أنه كان منذ لحظان يعاقر الفكر والرأي وهلو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟
Page inconnue