الإهداء
1 - من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد1
2 - مداعبة الدكتور زكي مبارك1
3 - بغداد: كما تصورتها وكما رأيتها
4 - المذاهب الأدبية في مصر
5 - القلب الغريب
6 - العروبة في مصر
7 - خطاب المؤلف في حفلة تكريمه في بغداد
8 - النبي الصبور1
9 - مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث
10 - الأسمار والأحاديث1 في ليالي رمضان
11 - من صديق إلى صديق
12 - صورة آمال ...
13 - دروس الأدب في المعاهد العالية
14 - الفن المصري في العراق
15 - زكي مبارك في لبنان
16 - الجامعة العراقية
17 - أخت بغداد والأستاذ محمود عزمي
18 - شاعرية زكي مبارك
19 - غريب الهوى في عيد القمر
20 - إلى ليلى المريضة في الزمالك
21 - طبيب ليلى يوصى بنظارة طبية
22 - حيران حيران
23 - محمد العشماوي في بغداد
24 - بين الآباء والأبناء
25 - الساعة صارت عشرة!
26 - ليلى المريضة في العراق
27 - إلى ليلى المريضة في الزمالك
28 - الأدب والأخلاق
29 - الشهرة مرض مزعج
30 - سهرات المسيو دي كومنين
31 - غرام «مي» بالرافعي
32 - غزال يترنح في شوارع بغداد
33 - أسئلة أدبية
34 - لكل سؤال يا بثين جواب
35 - حقائق وأباطيل
36 - خطاب تهديد
37 - إلى صديق ليلى الباريسية
38 - خطبة المؤلف في تحية من كرموه بالنجف
39 - أول الحرب كلام
40 - عبقرية الشريف الرضي1
41 - بين مصر ولبنان1
42 - بعض ما رأيت في العراق1
43 - الحياة الأدبية في العراق
44 - أبو العلاء في الميزان
45 - في ضيافة القرآن1
46 - كيف رأيت الرصافي
47 - إصلاح الخط العربي
48 - مذاهب التربية
49 - إلي الدكتور أمير بقطر
50 - كيف نصادق أطفالنا1
51 - حديث المؤلف مع جريدة الأخبار
52 - من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة فالسدارة
53 - أهذا زكي مبارك أم هو جمال الأفغاني؟
54 - أحيتني بغداد
55 - فاجعة بغداد
56 - مكانة مصر في العراق
57 - نهضة التعليم في العراق
58 - مصر والبلاد العربية
الإهداء
1 - من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد1
2 - مداعبة الدكتور زكي مبارك1
3 - بغداد: كما تصورتها وكما رأيتها
4 - المذاهب الأدبية في مصر
5 - القلب الغريب
6 - العروبة في مصر
7 - خطاب المؤلف في حفلة تكريمه في بغداد
8 - النبي الصبور1
9 - مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث
10 - الأسمار والأحاديث1 في ليالي رمضان
11 - من صديق إلى صديق
12 - صورة آمال ...
13 - دروس الأدب في المعاهد العالية
14 - الفن المصري في العراق
15 - زكي مبارك في لبنان
16 - الجامعة العراقية
17 - أخت بغداد والأستاذ محمود عزمي
18 - شاعرية زكي مبارك
19 - غريب الهوى في عيد القمر
20 - إلى ليلى المريضة في الزمالك
21 - طبيب ليلى يوصى بنظارة طبية
22 - حيران حيران
23 - محمد العشماوي في بغداد
24 - بين الآباء والأبناء
25 - الساعة صارت عشرة!
26 - ليلى المريضة في العراق
27 - إلى ليلى المريضة في الزمالك
28 - الأدب والأخلاق
29 - الشهرة مرض مزعج
30 - سهرات المسيو دي كومنين
31 - غرام «مي» بالرافعي
32 - غزال يترنح في شوارع بغداد
33 - أسئلة أدبية
34 - لكل سؤال يا بثين جواب
35 - حقائق وأباطيل
36 - خطاب تهديد
37 - إلى صديق ليلى الباريسية
38 - خطبة المؤلف في تحية من كرموه بالنجف
39 - أول الحرب كلام
40 - عبقرية الشريف الرضي1
41 - بين مصر ولبنان1
42 - بعض ما رأيت في العراق1
43 - الحياة الأدبية في العراق
44 - أبو العلاء في الميزان
45 - في ضيافة القرآن1
46 - كيف رأيت الرصافي
47 - إصلاح الخط العربي
48 - مذاهب التربية
49 - إلي الدكتور أمير بقطر
50 - كيف نصادق أطفالنا1
51 - حديث المؤلف مع جريدة الأخبار
52 - من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة فالسدارة
53 - أهذا زكي مبارك أم هو جمال الأفغاني؟
54 - أحيتني بغداد
55 - فاجعة بغداد
56 - مكانة مصر في العراق
57 - نهضة التعليم في العراق
58 - مصر والبلاد العربية
وحي بغداد
وحي بغداد
صور وجدانية وأدبية واجتماعية
تأليف
زكي مبارك
الإهداء
إلى الباحث الذي صور عصر النبوة أبدع تصوير، وجلاه أروع جلاء، وعطر الأدب الحديث بأريج الدين الحنيف إلى معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، أهدي وحي بغداد.
زكي مبارك
مصر الجديدة في 10 رجب سنة 1357/5 أيلول سنة 1938
الفصل الأول
من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد1
وفدت على بغداد والقلب موجع
فهل فرجت كربي وهل أبرأت دائى
تركت الخطوب السود في مصر فانبرت
سهام العيون السود تصدع أحشائي
تركت دخانا لو أردت دفعته
بعزمة مفتول الذراعين مضاء
وجئت إلى نار ستشوى جوانحي
وتصهر أضلاعي وتسحق أحنائي
فيا ويح قلبي عضه الدهر فاكتوى
بلفحة قتالين جور وإصباء •••
سمعت حمامات ينحن فعزني
حنيني إلي صحب بمصر أشحاء
هم أسلموني لا عفا الحب عنهم
إلى ليلة من غمرة الحزن ليلاء
أنادمهم بالوهم والقلب عارف
بأني لدي كأس من الدمع حمراء
شربت الأسى صرفا فثارت مدامعي
تذيع حديثي في الغرام وأنبائي
أنا الطائر المجروح يرميه بؤسه
لشقوته ما بين نار ورمضاء
فإن عشت آذتني جروحي وإن أمت
شوتني في الأرواح نيران بأسائي •••
أحباى في مصر تعالوا فإنني
أودع في بغداد أنسي وسرائي
تعالوا أعينوني على السهد والضنى
فلم يبق مني غير أطياف أشلاء
تعالوا أحدثكم ففي القلب لوعة
هي الجاحم المشبوب في جوف قصباء
تعالوا تروا بغداد أغرت بمهجتي
نيوب المنايا في صباحي وإمسائي
أحباى في مصر، وهل لي أحبة؟
أحباي في مصر تعالوا أحبائي
تعالوا إلى بغداد تلقوا أخاكم
صريع خطوب ينتحين وأرزاء
تعالوا تروني في صروف من الجوى
تهدم بنياني وتنقض حوبائي •••
عفا الحب عن بغداد، كم عشت لاهيا
أكاثر أيامي بليلي وظمياء
فكيف وقعت اليوم في أسر طفلة
مكحلة بالسحر ملثوغة الراء
أصاول عينيها بعيني والهوى
يشيع الحميا في فؤادي وأعضائي
وأشهد أطياف الفراديس إن بدت
تراود أحلامي مزاحا وأهوائي
وألمس نيران الجحيم إذا مضت
تروم بعين الجد بعدي وإقصائي
أكاتم أهليها هيامي ولو دروا
لهامت بجنب الشط أرواح أصدائي
إلى الحب أشكوها فقد ضاق مذهبي
وأخلفني بعد الفراق أعزائي
إلى الحب أشكوها فلولاه لم أبت
حليف هموم يصطرعن وأنواء
إلى الحب أشكو، بل إلى الله وحده
أفوض بأسائي لديها ونعمائي •••
أرباه أنقذني فأنت رميتني
بقلب على عهد الأحباء بكاء
أرباه لا تفعل فإني أرى الهوى
على وقده بالقلب أنفاس روحاء
أحب سعير الوجد فارم حشاشتي
على جمرات منه حمقاء هوجاء
أحب شقائي في الغرام وإنه
لأروح من مطلولة الزهر شجراء
فيا خالق النار العصوف وشائقى
إليها أدم فيها لواعج إصلائي
أحبك يا ربي فهل أنت شافعي
إلى سرحة في شط دجلة زهراء
شهدت فنائي فيك حين رأيتها
تحاول إضلالي وتنشد إفنائي
ومن أنت يا ربي؟ أجبني فإنني
رأيتك بين الحسن والزهر والماء
أنا الفاتن المفتون فارحم بليتي
وقدر بأرجاء الفراديس إثوائي
ولا تخلني في جنة الخلد من هوى
برعبوبة لا تعرف الرفق حمقاء
أحب الملاح الهوج في الخلد نفسه
عساني بدار الخلد أهجر إغفائي
تباركت ما الجنات من دون لوعة
سوى بقعة في غابة الموت جرداء
يحب ضعيف الروح في الخلد أنسه
إلى غادة مأمونة الغيب بلهاء
وأنشد في الجنات إن ذقت راحها
ملاعب من طيش وفتك وإغراء •••
أضاليل يزجيها خيالي وأنثني
إلى ساحة مطموسة الأنس قفراء
لقد كنت في مصر شقيا فما الذي
ستجنين يا بغداد من وصل إشقائي
أهذا جزائي في العراق وحبه
أهذا جزائي في رواحي وإسرائي
أخلاي ما بغداد راحى وإن درت
قلوب صباياها مدارج إصبائي
أخلاي ردوني إلى مصر إنني
أرى الظلم دون الوجد تسعير لأواء •••
سقى الغيث أيامي بحلوان وارتوت
ملاعب أحلامي هناك وأهوائي
فما غدرت بي في حماها نسائم
سقاها ربيع الحب أكواب أنداء
ولله عهد بالزمالك لم يكن
سوى لمحات يزدهين وأضواء
هصرت به غصنا نضيرا تفتحت
أزاهيره في ظل خضراء لفاء
وأين على مصر الجديدة موردي
وأين سهادي في حماها وإغفائي
أطايب ذقناها ولم ندر أنها
لندرتها في الدهر أزهار صحراء •••
أحباى في مصر الجديدة سارعوا
فقد صرعتني حول دجلة أدوائي
أجدكم هل تعلمون بأني
وإن كنت جار الشط أشرب أظمائي
خذوني إليكم يا رفاقي فإنني
أحاذر في بغداد حتفي وإصمائي
أخاف العيون السود فليرحم الهوى
فجيعة أهلي يوم أقضي وأبنائي
أنادم أحبائي وفي الحق أنني
لهول الذي ألقى أصاول أعدائي •••
أدجلة ما بيني وبينك؟ أنصحي
فقد طال في مغناك تبريح إضنائي
وردتك استشفى فثارت بليتي
وأرمضني حزني وأضرعني دائي
وردتك أشكو النيل يطغى جحوده
فأين سلامي في حماك وإشكائي
سقى وردك المعسول غيري ولم أجد
لهول بلائي غير أو شاب أقذاء
أطال أناس فيك نجوى نعيمهم
وفي شطك المورود ناجيت بأسائي
أدجلة أين الحب؟ قولي فإنني
تقلبت في نارين حقد وبغضاء
أدجلة أين النور؟ قولي فإنني
على الشط أستهدي دياجير ظلمائي
أدجلة أبلاني اغترابي وشفني
هيامي بظلمي في بلادي وإشقائي
أدجلة أنت النيل بغيا وكدرة
فكيف من النارن تسلم أحشائي
أدجلة ساقتني إليك مقادر
تأنقن في كيدي وأبدعن إيذائي
أدجلة واسيني فللضيف حقه
إذا شئت من زاد وحب وصهباء
طغى موجك الصخاب فاهتاج لوعتي
وأيقظ أشجاني وبلبل أهوائي •••
وقفت أبث الجسر ما بي فلم أكن
سوى نافث في أذن رقطاء صماء
وقفت أرجيه ولم أدر أنني
أسطر أحلامي على ثبج الماء
إلى أين هذا التبر يجري وحوله
حرائق من أرض على الري جدباء
أرقت دموعي في ثراها فما ارتوت
وهل كان دمعي غير أطياف أنداء
شوتني الخطوب السود شيا فلم تدع
لمعتسف حلما إذا رام إبكائي
أجبنى يا صوب الغوادي فإنني
على علتي في الدهر أساء أدواء
تحدرت مختالا فلم تغن أمة
تشهى لطول الجدب أو شال أنهاء
بكى حولك الماضون دهرا فهل رأوا
لدى موجك الصخاب لحظة إصغاء
تشكي العراق الجدب وارتعث أبتغى
نصيبي فلم أظفر لديك بإرواء
أعندك يا صوب الغوادي تحية
لناس على شطيك ذاوين أنضاء
تروح إلى البحر الأجاج سفاهة
على شوق أهل في العراق أوداء
أبوك السحاب الجود يرتاح جوده
إلى كل أرض في العراقين ميثاء
فعمن أخذت البخل يا جار فتية
هم الجعفر المنساب في جوف بطحاء
شكا الزهر في شطيك فاخجل ونجه
من الظمأ الباغي ومن حية الماء
جريت بلا وعي إلى غير غاية
محجلة بين المصاير غراء
فدعني أطل فيك الملام فلم أكن
سوى شاعر للحمد واللوم وشاء
أأنت الذي يجفو الظماء لينضوي
إلى لجة في باحة البحر هوجاء
أأنت الذي يسقى البحار وحوله
أزاهير في سهل يفديه مظماء
وقفنا على شطيك نشكو أوامنا
على نبرات الدف والعود والناء
فأين العطاء الجزل يا فيض مزنة
محملة بالخير والشر كلفاء
عشقت شقائي فيك للحب إنني
أحب شقائي في رحاب أحبائي •••
أبغداد هل تدرين أني مودع
وأن سموم البين تلفح أحشائي
وردتك ملتاعا أصارع في الهوى
دموع رفاق وامقين أخلاء
تنادوا إلى باب الحديد فودعوا
بقايا فؤاد وافر العطف وضاء
وفيهم ختول لو أراد لردني
إلى روضة من يانع الأنس غناء
تقدم يستهدي العناق فلم يجد
سوى صخرة مكتومة السر خرساء
وعاد يروض العتب أحلام قلبه
على خطة من شائك الهجر عوجاء
وردتك مطعونا تثور جروحه
فكان بنوك الأكرمون أطباء
لحبك يا بغداد والحب أهوج
رأيت فنائي فيك مشرق إحياء
تناسيت في مصر الجديدة صبية
هم الزهر الظمآن في جوف بيداء
يناجون في الأحلام أطياف والد
لعهد بنيه والبنيات نساء •••
أبغداد هذا آخر العهد فاذكري
مدامع مفطور على الحب بكاء
أبغداد يضنيني فراقك فاذكري
لدى ذمة التاريخ بيني وإضنائي
خلعت على الدنيا جمالك فانثنت
تخايل في طيب وحسن ولألاء
سيذكرني قوم لديك عهدتهم
يحبون ظلامين ضرى وإيذائي
سيمسى خصومي بعد حين أحبة
يذيعون مشكورين أطيب أنبائي
ستذكر أرجاء الفراتين شاعرا
تفجر عن مكنونة الدر عظماء
سيسأل قوم من زكي مبارك
وجسمي مدفون بصحراء صماء
فإن سألوا عني ففي مصر مرقدي
وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
ستذكرني غيد ملاح أوانس
أطلن بلائي في الغرام وإشقائي
ستذكرني مصر وما كان قلبها
سوى صخرة في جانب النيل ملساء
إلى الله أشكو لؤم دهري وصرفه
وعند الإله البر أودع حوبائي
الفصل الثاني
مداعبة الدكتور زكي مبارك1
بقلم باقر الشبيبي
وفاء بعهدي أو نزولا على وعدي
وقفت أحيي معشري وبني ودي
وقفت أحي عصبة عربية
بها نستبين الرشد حقا ونستهدي
فأهلا بكم في روضة الحب والصفا
وأهلا بكم عند المسرة أو عندي
وهيجني في «الرستمية» شاعر
به مثل ما بي من أنين ومن سهد
به من هوى ليلي رسيس من الهوى
وبي لهب لا ينطفي من هوى هند
أمانا لها من داء وجدي فإنني
أخاف عليها أن داء الهوى يعدى
وذكرني عهد الصبا في نشيده
سلام على عهد الصبا في ربا نجد
هواه على أجراف دجلة وافد
وأما هوى قلبي فللنيل والوفد
فلا تحسبوه شارد الذهن وحده
ولا تحسبوني سادرا في الهوى وحدي
شهيدان: هذا للترائب عينه
وآخر مطلول الوريد على الزند
قتيلان إما من لقاء مفاجئ
أتيح وإما من لقاء على وعد
فإما قتيل من جني الشهود يشتكي
وإما صريع يشتكي من جني الورد
صريع الغواني لا تلمني فإنني
صريع أغاني أم كلثوم لا دعد
سلام على تلك الأغاريد إنها
أغاريد من وحي الصبابة والوجد
الفصل الثالث
بغداد : كما تصورتها وكما رأيتها
قبل الرحيل إلى بغداد بأيام أوصاني صديق عزيز لعله الدكتور طه حسين فقال: ستقدم بغداد وأنت كاتب معروف؛ فيقبل عليك الصحفيون، فيسألونك كيف رأيت بغداد؟ فإن فعلوا فاحذر يا دكتور زكي أن تصرح بشيء، لأنك موظف في حكومتين، ومركزك دقيق.
وقد صح ما توقع ذلك الصديق، وكنت عند نصحه الثمين، فلم يظفر مني الصحفيون العراقيون بشيء غير التلطف المقبول، ولكن محرر الهلال سيظفر بما لم يظفر به الصحفيون العراقيون؛ لأن بعد الدار لم يصرفه عني، فكتب يسألني كيف تصورت بغداد؟ وكيف رأيت بغداد؟ وللهلال على قلمي حقوق، فلأتوكل على الله، ولأخرج مرة واحدة على ذلك المركز الدقيق.
على أنني لا أتوقع أن يغضب العراقيون من بعض ما سيقع في هذا الحديث، لأن الصدق لا يغضب عقلاء الرجال، وإنما يغضبون من التحامل البغيض الذي تمليه الضغائن أو الأهواء.
وليس من الإسراف أن أصرح بأنني لست من الغرباء في بغداد، فأنا أغار عليها كما أغار على القاهرة أو الإسكندرية أو سنتريس، لأنها في قلبي وفي نفسي من الحواضر العربية التي يغار عليها العرب والمسلمون في جميع الممالك والشعوب، وفي نيتي - وأنا صادق - أن أجاهد في سبيل بغداد حتى تبلغ ما هي أهل له من الحضارة والعمران، وتحمل مصابيح الثقافة كما كانت في عهود الخلفاء، ولن أترك هذه المدينة حتى أضع في صدور تلاميذي وأصدقائي بذور الشوق إلى الحياة العالية - حياة المدنية الصحيحة التي تعشق الأنوار وتبغض الظلمات - فلا يبقى في بغداد شارع ولا بيت إلا وحوله ملائكة أطهار يسمون به إلى مناط الجوزاء، والله بالتوفيق كفيل. •••
أما بعد، فقد كنت أفهم جيدا أن بغداد أدت واجبها بعنف يوم شاء لها الطالع السعيد أن تسيطر على المشرقين والمغربين، وكنت أفهم جيدا أنها في غفوة الراحة بعد ذلك النضال العنيف، فلم يكن يخطر ببالي أن أراها كالقاهرة أو باريس، ولكني مع ذلك كنت أنتظر أن أجد آثار المدينة التي أقامها العباسيون، وهنا أصرح والأسى ملء الفؤاد أن آثار الغطاريف من بني العباس لم يبق منها إلا رسوم ضئيلة هي في مغازيها ظنون في ظنون، وكذلك قضت المقادير بأن لا يبقى شيء من قصور الخلفاء والوزراء والأمراء الذين سيطروا على العالم نحو ثلاثة قرون، وكانت أيامهم مواسم الدنيا وأعياد الزمان.
وقد سألت عن السبب في ضياع تلك الآثار فحدثوني أن نهر دجلة الغادر الصوال كان يطغى من حين إلى حين فيطمس ما يشاء من القصور والبساتين، وقد شاء له عدوانه أن ينقل بغداد من مكان إلى مكان، فهي اليوم في بقعة غير البقعة التي اختارها المنصور على أيامه السلام، فإن شئتم وصف بغداد القديمة فارجعوا إليها في الكتب، فقد كان المؤلفون القدماء يدركون بغير وعي صريح أن مدينتهم سيأتي عليها يوم لا يعرفها فيه غير قراء الأخبار والأساطير.
وكنت أتصور أن بغداد لا تزال فيها بقايا من تقاليد الزخرف البراق الذي عرفه الخلفاء، فوجدتها مدينة لا تعرف غير خشونة الحقائق، ورأيت الوزراء مجتمعين في قصر ساذج لا يعرف معنى للتصاوير والتهاويل التي تعرفها بعض القصور في بعض الحكومات، وقد دهشت حين زرت وزير المعارف، وكان أول من رأيت من الرجال يوم وصلت إلى بغداد، فقد رأيتني أمام وزير المعارف فقط أمام المنطق والعقل، ولم أر في غرفته شيئا يدل على ذوق الترف في فهم المعاش، وكذلك كان الحال حين زرت رئيس الوزراء، فقد رأيتني أواجه رجلا يمثل أدب النفس، وذلك كل حلاه وهو رئيس الوزراء.
وكذلك يمكن الحكم بأن دور الحكومة في بغداد هي مواطن أعمال لا مواطن استقبال.
كنت أتصور بغداد قد تأثرت بالمدنية الحديثة فأصبحت كالقاهرة فيها حي قديم وحي جديد، فلما وقعت عيني عليها رأيتها مدينة شرقية من جميع النواحي، ورأيتها لم تأخذ من المدنية الحديثة غير الإضاءة، وتوزيع الماء على البيوت، وفيما عدا ذلك تعيش بغداد عيشة القاهرة قبل جيلين، فتجد فيها الأسواق والخانات على نحو ما كانت القاهرة في عهد المماليك، والشبه كبير جدا بين سوق الفحامين في القاهرة وسوق الشورجة في بغداد، ولا أكتم القارئ أن بغداد تفتنني من هذه الناحية أشد الفتون، ففي أسواقها ملهاة للنظر والذوق، وفي خاناتها تذكير بأحاديث «ألف ليلة وليلة» وفي مساجدها العتيقة ما يذكر بدعابات أبي الفتح في مقامات بديع الزمان.
وقد ثارت نفسي ثورة عنيفة يوم رأيت بغداد، وهممت بأن أقترح على رئيس الحكومة العراقية هدم هذه المدينة وبناءها من جديد، ولكن لم تمض أيام حتى رأيت التطور يأخذ مجراه، فقد شرع الناس في الهجرة إلى الضواحي وأخذوا يشيدون منازل جديدة على الطراز الحديث، فإن زرتم بغداد بعد عشرين عاما فسترونها كالقاهرة تنقسم إلى قسمين عظيمين: قسم جديد، وقسم حديث.
على أنني أصبحت أتمنى أن لا تبيد بغداد القديمة، فلأسواقها جاذبية، ولدروبها الضيقة ملامح من الحسن الأصيل، وهي فوق ذلك صورة من المدينة الشرقية التي يحرص عليها أستاذنا الدكتور منصور فهمي أشد الحرص، ويتمنى لو يعود إليها الشرقيون أجمعون!
وكنت أتصور دجلة نهرا صغيرا لم يأخذ عظمته إلا بفضل أخيلة الشعراء، فلما رأيته أخذت مني الروعة كل ما أخذ، وتمنيت لو جاء شعراء مصر فرأوه وعرفوا أن في الدنيا نهرا يشابه نهر النيل، إن دجلة هائل جدا، وهو حين يساير بغداد يقرب من النيل في الاتساع، ولا يمتاز عليه النيل إلا بمزية واحدة هي قوة تدفق الماء، أما دجلة فله مزايا كثيرة أظهرها قيام النخيل على جانبيه، وحرص أهل بغداد على إقامة المنازل والشرفات بحيث تواجه منظره الجميل.
وقد بحثت عن الجسر الذي قال فيه ابن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرا إلى جمر
بحثت عن هذا الجسر، ولم أجده، فوا أسفاه، وإنما وجدت جسرا سموه جسر مود “Maude”
وهو اسم قائد من قواد الإنجليز الذين دخلوا بغداد فاتحين.
فيا رئيس حكومة العراق تفضل وسم الجسر الجديد (جسر بن الجهم) مراعاة لخواطر الشعراء.
وهدوء الماء في نهر دجلة يجعله من أصلح الأنهار للملاحة النهرية، ولكني بعد الدرس رأيت الملاحة في دجلة تنعدم أو تكاد، فقد تمر ساعات وساعات ولا تقع العين على سفينة واحدة في ذلك النهر الميمون الغدوات والروحات.
أما الفلك الصغيرة التي يمتطيها اللاهون والعابثون فلا تزال على العهد الذي عرفه الشاعر المفضال أبو نواس، ولكن قلما يغني فيها الملاحون كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي، وقد ساهرت النجم ليلتين على شاطئ دجلة لأسمع غناء الملاحين، ثم انصرفت وقد كادت أذني تصم من سكون الليل.
وحملني حب الدنيا على التفكير في بناء بيت على شاطئ دجلة فعرفت أن المتر المربع يباع بنحو دينارين، وكذلك عرفت أن أهل بغداد يعرفون قيمة الأرض على شاطئ ذلك النهر الجميل. •••
وكنت أنتظر أن تكون بغداد مدينة يغلب عليها اللهو واللعب والمجون، فرأيتها أعجوبة الأعاجيب في الجد والنشاط، ولقد زرت نحو عشرين مدينة من المدن العالية فلم أر من صور الجد والاهتمام والمصابرة معشار ما رأيت في بغداد، فحيثما نظرت رأيت ناسا يعدون إلى أعمالهم عدو الظليم، وشهدت الناس يغدون ويروحون وعلى وجوههم أمارات الجد الرزين، والمدارس في بغداد هي اليوم مصانع لسبك الرجال، ويندر أن تجد شابا يضيع وقته على نحو ما ترى في بعض مدارس القاهرة أو مدارس باريس.
والبغداديون يمتلكون مدينتهم تمام الامتلاك، فهم السادة الأعلون، ولا يسود في مدينتهم من الأجانب إلا عدد قليل، وسيكون من حظهم في المستقبل أن يقولوا نحن حضرنا مدينتنا ولم يساعدنا على تحضيرها واغل من العالم القديم أو العالم الجديد.
ولقد شهدت آثار هذا الجد حين رأيت تلاميذي في دار المعلمين العالية، فهم شبان أذكياء تكفيهم اللمحة، ولا أحتاج في تفهيمهم أدق المشكلات إلى أدنى عناء.
وكذلك يحدثني الأساتذة المصريون الذين يدرسون في كلية الحقوق فهم يشهدون بأن تلاميذهم فوق ما كانوا ينتظرون، وأنهم يفهمون أدق المشكلات بقليل من البيان.
وكنت أنتظر أن تكون بغداد ميدانا للجدل والصيال على نحو ما كانت في عهود المتكلمين، فكانت كما انتظرت، فهي اليوم تزخر بالأدباء والمفكرين الذين يملأون الأسمار بأجود ما تجود به العقول، ويكفي أن يكون فيها رضا الشبيبي وزير المعارف، وطه الراوي مدير التعليم، فهذان الرجلان يصوران ما امتازت به العقلية العراقية في قديم الزمان.
وأشهد صادقا أني ما صادفت رجلا من المفكرين في بغداد إلا انتفعت منه أجزل انتفاع، ولا رأيت كاتبا ولا عالما إلا تذكرت الجاحظ وابن العميد.
وليت أدباء القاهرة يعرفون أن مؤلفاتهم تقرأ في بغداد، وليت أصحاب المجلات في القاهرة يعرفون أن لهم قراء في العراق، فلو عرف زملاؤنا في مصر شيئا من ذلك لحاسبوا أنفسهم بعض الحساب، ففي العراق موازين يعرف بها النقصان والرجحان، وفي العراق رجال يميزون بين الطيب والخبيث والغث والسمين، وأدباء مصر لهم في العراق خصوم وأنصار لا يخفى عنهم الحق ولا تجوز عليهم الأباطيل. •••
وكنت أتصور بغداد مدينة أثر فيها الاحتلال، احتلال الترك أو احتلال الانجليز، فوجدتها مدينة عربية في كل شيء، ولا تغلب فيها لغة الترك ولا لغة الانجليز، فالعراق من هذه الناحية يشبه مصر، فهو يبتلع كل شيء، ولا يؤثر فيه شيء، ولعل لماضيه أثرا في ذلك، فهو لا يزال يعتقد أنه دان الأمم العربية جمعاء، وهو من أجل ذلك يرفض السيطرة الأجنبية، فإن رأيتموه يستعين العلماء المصريين في بعض شؤونه فاعلموا أنه يرى المصريين إخوة أشقاء ولا يراهم أجانب، وهذا معنى لمسته بنفسي وقابلته بأصدق آيات الثناء.
وكنت أتصور بغداد مدينة شغلتها الصروف عن تقاليد الإسلام، فراقني أن أراها مدينة إسلامية في كل شيء، وما ظنكم بمدينة تعيش في القرن العشرين وهي مع ذلك لا تسمح لإنسان بأن يدخن سيجارة في رمضان، ولا يفتح فيها مطعم ولا مشرب ولا حانة في أيام الصيام؟
هل تصدقون أن الخروج على آداب الصوم يجر الرجل إلى دار الشرطة حيث يلقى سوء الحساب؟ هل تصدقون أن رجال الشرطة في بغداد يراقبون الناس في الطرقات عساهم يظفرون بمسلم جاهل يتظاهر بالإفطار ليزجوا به في غيابات السجون؟ هل تصدقون أن النصارى واليهود في بغداد يحترمون رمضان مراعاة لخواطر المسلمين؟
أقول هذا وقد سمعت أن الصوم الحق لا يقوم به إلا الأتقياء ، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن العراق من الأقطار الإسلامية التي تعرف الواجب نحو الدين الحنيف.
وكنت أتصور بغداد تموج بالفتنة بين السنة والشيعة، فلما خبرت الناس بعض الخبرة رأيتهم على جانب عظيم من التسامح، رأيتهم يعيشون جنبا إلى جنب في هدوء واطمئنان، ورأيت الثقة بينهم على أتم ما يكون من الصفاء، وتبينت أن المذاهب الدينية لا تصرفهم عن الواجبات الوطنية، وأن الأخوة العراقية ستكون أساس الوحدة القومية بعد قليل من الزمان.
وجملة القول أن بغداد في عهد البناء، والتجارب القاسية التي مرت بها ستجعلها في حرز من تقلبات الأهواء، فمن كان في ريب مما أقول فلينتظر قليلا، فستأتي هذه البلاد بالأعاجيب، وسيرى الساعون بالنميمة أنهم كانوا واهمين.
إن العراق ينفض عن عينيه آثار السبات القديم، ويتلفت إلى المستقبل تلفت الليث جاعت أشباله، ويقبل على الحياة إقبال الأفعوان المهتاج، ويضطرب في الدنيا كما تضطرب الوحوش الضواري في غسق الليل، فمن كانت له عند العراق حاجة فليؤجلها قليلا، فإن العراق لا يفكر اليوم إلا في شيء واحد: هو أن يكون أمة تحكم وتستطيل. •••
قد تسألون: وكيف يحيا المجتمع في بغداد؟ وأجيب بأني رأيت في بغداد لونين من الحياة:
أما اللون الأول:
لون الجد، فهو ما حدثتكم عنه، وأهل بغداد من هذه الناحية جبابرة عتاة، وفيهم من يصل النهار بالليل في سبيل الرزق، وفيهم من لا يأوي إلى فراشه إلا وفي صدره غرض مبيت مدفون.
أما اللون الثاني:
لون الهزل، فهو يتمثل في المراقص والقهوات، وما أزعم أنني قادر على وصف المراقص، لأني زرت مرقصا واحدا مرة واحدة، وذلك المرقص يعطي صورة صحيحة، لأنه فيما سمعت كثير الأشباه في بغداد، ومادة اللهو في هذه المراقص لا تعتمد على الجمال العراقي، وإنما تعتمد على الجمال الأوروبي، فالراقصات في تلك المواطن من المتاع الذي تجلبه السفن والسيارات لإيناس اللاهين من الشرقيين، واللحظة التي قضيتها في ذلك المرقص نبهتني إلى كثير من المعاني، فقد رأيت من السامرين من يقول: إن ذلك الفتى الذي يراقص تلك الشقراء هو ابن الشيخ فلان الرجل الصالح الذي لا يعرف غير المسجد والبيت، ففهمت من ذلك أن بغداد تنقسم إلى جيلين يختلفان أشد الاختلاف: جيل الشباب، وجيل الكهول، ومعنى ذلك بعبارة أوضح أن الفتيان الذين يرقصون الرقص الإفرنجي في بغداد ليس لهم في ذلك المعترك أعمام ولا أخوال.
وأحببت أن أرى الملاهي البغدادية الأصيلة، ولكن الصديق الذي أثق به في بغداد نهاني عن ذلك، أفيكون معنى هذا النهي أن البغداديين يرون ملاهيهم القديمة مما تعافه الأذواق؟
أما القهوات فكلها من طراز قهوات حي الحسين، ويندر جدا أن يشرب فيها غير القهوة والشاي، وربما كان من الحق أن نقرر أن البغدادين لا يشربون الخمر أبدا على قارعة الطريق، كما يتفق ذلك لأهل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، فهم من هذه الناحية عقلاء، ومع أن الحانات تظل في الأغلب مرخاة الستائر مغلقة الأبواب لا يهتدي إليها غير العابثين، فقد قرأت في الصحف العراقية كلمات يقترح كاتبوها أن توصد أبواب الحانات إيصادا مطلقا في ليالي رمضان.
ومع أن البغداديين يتحفظون في شرب الخمر فهم يسرفون في شرب الشاي إلى حد الإدمان، ويتفق في أحوال كثيرة أن ينقطع الرجل عن الحديث، فإذا سألت عرفت أنه لم يشرب الشاي منذ ساعتين، وأنه من أجل ذلك «خرمان» فهم من هذه الناحية يشبهون الفلاحين في الجيزة الفيحاء، فمن أهل الجيزة من لا يدرك ولا يعقل إلا إذا أسعفته بكأس من الشاي الأسود البغيض. •••
وهناك مسألة على جانب من الأهمية وهي الوحدة الجنسية في العراق، فمن المعروف أن في العراق أجناسا مختلفة، ولكن اللون يكاد يتوحد في تلك البلاد، فإذا مشيت في شوارع بغداد شاهدت وحدة جنسية يمثلها اللون، وسبب ذلك فيما أعتقد يرجع إلى جو العراق، فلذلك الجو سلطان قاهر في لفح الوجوه وورسم البشرة، بسمات تقرب ما بين السكان على اختلاف الأجناس.
والمرأة هنا محجبة تمام التحجب ، وهي لا تلبس البرقع كما كانت تفعل المرأة المصرية، وإنما تغطي وجهها كله تغطية محكمة فلا ترى الدنيا إلا من وراء السواد، فإن رأيت امرأة سافرة بعض السفور فثق بأنها في الأغلب من بنات إسرائيل، وقد شاع اختلاط الجنسين في المدارس العالية، ولكنه اختلاط محوط بالتحفظ الشديد، وهو على كل حال من طلائع العصر الحديث.
والوجوه في هذه البلاد وجوه مكدودة أرهقها طول النضال فلا تعرف لين الترف إلا في قليل من الأحيان.
وهذا الحكم نسوقه بتحفظ لأننا نرجو أن يكون خلف الستائر كثير من اللؤلؤ المكنون. •••
بغداد! بغداد! أين الحسن الذي أطال في وصفه الشعراء؟ أين عيون المها يا بغداد؟ أين مرابع اللهو، وأين مراتع الفتون؟
أفي الحق أن يفد عليك قلب خافق فلا يجد الأنيس؟
بغداد! كنت أرجو أن أراك أندى من القاهرة وأجمل من باريس، فارفعي الستر قليلا علني أصطبح أو أغتبق بجبينك الوضاح، فإن لم تفعلي فسيطول عليك العتب من شاعر سنتريس.
1
الفصل الرابع
المذاهب الأدبية في مصر
خطبة ألقاها المؤلف في نادي القلم العراقي
أيها السادة
اقترح معالي الرئيس الأستاذ محمد رضا الشبيبي أن ألقي محاضرة عن المذاهب الأدبية في مصر، وهو موضوعة شائك حملتني وعورته على أن أقف موقف الواصف، ابتغاء السلامة من الشطط والاعتساف.
وأبدأ بشرح الغرض من كلمة «الأدب المصري» فأصرح لكم أنها تؤدي المعنى الذي تؤديه كلمة «الأدب الأندلسي» مثلا، أعني: أنها تدل على الأدب العربي الذي ينشئه كتاب مصريون، والمعنى الذي تؤديه كلمة «الأدب البلجيكي» أي الأدب الذي ينشئه البلجيكيون، وهم يكتبون وينظمون باللغة الفرنسية، وكذلك يقال: «الأدب الأمريكي» وهو أدب ينشئه الأمريكيون باللغة الإنجليزية، فليس يصح لأحد أن يستوحش من كلمة «الأدب المصري» لأن المصريين يكتبون باللغة العربية في جميع الموضوعات، حتى الشؤون الخاصة بالبيئة المصرية.
فإن سمعتم أن كلية الآداب عندنا تفكر في إنشاء كرسي للأدب المصري فليس معنى ذلك أنها تريد أن تتناسى الأدب العربي، وإنما هو كرسي لدرس الأدب الذي جادت به القرائح المصرية باللغة العربية ، وأنتم تعلمون أن للشعراء والكتاب والمؤلفين الذين نبغوا في مصر مكانة في الأدب العربي، وهم خليقون بأن يظفروا باهتمام خاص من الجامعة المصرية.
وأعود إلى صميم الموضوع فأقول: إن هناك فرقا بين الأدب والمذاهب الأدبية.
وإنما احتجت إلى النص على هذا الفرق لأني غير مطمئن إلى وجود المذاهب الأدبية في مصر، ففي مصر أدب ضخم يتمثل فيما تصدر من المؤلفات، وقد حدثني السيد عبد العزيز الحلبي أحد كبار الناشرين أن المطابع المصرية تخرج في كل يوم نحو اثني عشر كتابا باللغة العربية، والأمة التي تخرج في كل سنة أكثر من أربعة آلاف كتاب لا يمكن اتهامها بالضعف في حياتها الأدبية واللغوية.
فالأدب في مصر قوي جدا، ولكن الذي أرتاب فيه هو وجود المذاهب الأدبية، وإليكم البيان.
قامت مناظرة في الجامعة المصرية بين معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، والأستاذ خليل مطران، وكان موضوع المناظرة:
هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟
وكان رأي الأستاذ مطران أنه يكفي، وكان رأي الدكتور هيكل أنه لا يكفي.
وقد وقف الدكتور طه حسين في صف الدكتور هيكل ووقفت أنا في صف الأستاذ مطران، فهل كنا جميعا جادين في هذا الجدال؟
هيهات، فقد كان الدكتور طه والدكتور هيكل أديبين قبل أن يعرفا شيئا من اللغات الأجنبية، وكنت أنا والأستاذ مطران من أحرص الناس على التزود من الآداب الأجنبية.
فما معنى هذه المناظرة؟ ما معناها وليس في المتناظرين من يكتفي بالآداب العربية أو يزهد في الآداب الأجنبية.
إن لهذه المناظرة معنى واحدا هو: حض الشبان على تقليب وجوه الرأي في المسائل الأدبية. •••
وكذلك يقال في الجدل العنيف الذي ثار في مصر بين القديم والحديث، فقد كان الأستاذ مصطفى الرافعي يحمل راية القديم وكان الدكتور طه حسين يحمل راية الحديث.
فهل معنى ذلك أن أدب الأستاذ الرافعي كان صورة لأدب الجاحظ أو ابن العميد، أو أن الدكتور طه كان يتجاهل الأدب القديم؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما هي صور من الجدل يكثر صدورها في الصحف المصرية.
ومن هذا الباب كان الجدل بين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد حول الأدب اللاتيني والأدب السكسوني، فليس الدكتور طه ممن يتجاهلون خصائص الآداب السكسونية، ولا الأستاذ العقاد ممن يتجاهلون خصائص الآداب اللاتينية، وإنما هو جدل يكثر صدوره عن أقلام الأدباء المصريين.
وكذلك الحال في الجدل الذي يثور في مصر أحيانا بين أنصار الترجمة وأنصار التأليف، فليس في الداعين إلى التأليف من يجهل فضل الترجمة، وليس في الداعين إلى الترجمة من يجهل فضل التأليف، وإنما هي ضروب من الجدل المثمر يحسنها المصريون.
ومثل هذا يقال في الجدل الذي ثار حول الأدب المكشوف، فليس في مصر اختلاف حول استقباح ذكر العورات والمخازي، وإنما هو خلاف في طريقة نشر المؤلفات القديمة، ففي مصر أدباء يشيرون بنشرها مهذبة، وأدباء يشيرون بنشرها كاملة مراعاة للأمانة في فهم التاريخ.
وقد ثار الجدل في مصر حول مهمة المجمع اللغوي، فجماعة يقولون بدرس اللهجات، وآخرون بإحياء المؤلفات القديمة، ولكنهم جميعا متفقون على ضرورة الجمع بين الفائدتين.
والقصة، ما شأنها؟ ناس يقولون بوجوب الاهتمام بالقصة، وفريق يقول إنها فن مفتعل في اللغة العربية، ولكن أولئك وهؤلاء يجمعون بين المذهبين في التأليف.
وخلاصة القول أن النزاع بين الأدباء المصريين لا يصدر عن مذاهب أدبية، وإنما هي طلائع لمذاهب أدبية ستستفحل بعد حين. •••
ولكن متى بدت تباشير تلك الطلائع؟
كان المصريون قبل مائة سنة لا يعرفون من موارد الثقافة غير الأزهر الشريف، فكان الأدباء يتشابهون في الأغراض والأساليب.
ثم أنشئت وزارة المعارف فدخلت على الأذهان والعقول أطياف جديدة من الثقافة الغربية، وشرع الأدباء ينقسمون إلى طائفتين: طائفة أزهرية، وطائفة عصرية، وأخذت هاتان الطائفتان تقتتلان في مختلف الميادين.
وأقرب الشواهب لذلك ما كان يثور من الخصومات الأدبية بين كتاب «الجريدة» من جانب، وكتاب «المؤيد واللواء» من جانب، وكان ذلك منذ ثلاثين عاما، حين كان أحمد لطفي السيد يقارع عبد العزيز جاويش وعلي يوسف، وأساس الثقافة عند الأول مدني، وعند الآخرين أزهري، فكان يظهر التفاوت في الأغراض وفي الأساليب، بحيث كان يظهر أن الجو الأدبي لم يعد يتنفس في هواء واحد، وكاد الناس يدركون أن عقلية من يحمل العمامة تخالف عقلية من يحمل الطربوش؟
والاختلاف في الأغراض ظهر بقوة جارفة يوم ثار الجدل في مصر حول السفور والحجاب، فقد كان دعاة السفور من أنصار الثقافة الحديثة، وكان المتمسكون بالحجاب من شيوخ الأدب القديم.
وكان إنشاء الجامعة المصرية في سنة 1908 بداية الفصل بين القديم والحديث، فقد كان أكثر الأدباء لذلك العهد لا يعرفون اللغات الأجنبية، فلما أنشئت الجامعة كان في نظامها أن لا يظفر بألقابها إلا من يؤدون امتحانا في آداب اللغة الفرنسية أو اللغة الانجليزية، ومعنى ذلك أن الأديب لا يظفر بإجازة جامعية في الأدب إلا إن تمكن من الاتصال بالآداب اللاتينية أو السكسونية، ونحن نعرف أن ذلك لا يمر بسلام، وإنما يدخل في عقل الأديب وذهنه وقلبه ألوانا من الثورة على الأدب الموروث، ونتائج ذلك محسوسة، فالأدباء المتخرجون في الأزهر ودار العلوم غير المتخرجين في الجامعة المصرية، ويكفي أن تنظروا في كتابين ألفا في موضوع واحد هو الأدب الجاهلي، أولهما للأستاذ محمد هاشم عطية، وثانيهما للدكتور طه حسين، وهما كتابان جيدان، ولكن المؤلفين يختلفان في فهم الأدب الجاهلي أشد الاختلاف. •••
وقصة الأدب المكشوف ليس لها في مصر وجود ملموس، ولكن يظهر أثرها في مطبوعات دار الكتب المصرية، فإن القسم الأدبي هناك يطبع من كل كتاب نسختين: نسخة كاملة، أو نسخة مدنسة، تنشر بما اشتملت عليه من العورات والمجون، ولاتباع لغير الخواص، ونسخة مطهرة أو مهذبة تحذف منها أسماء العورات والمجون، وتباع لسائر الناس.
ولم يسلم من هذه الرقابة غير كتابين: الأول: «عيون الأخبار»، وقد دافعت عنه بنفسي يوم كنت موظفا بدار الكتب المصرية سنة 1925، وأقنعت المرحوم الدكتور أبو هيف بإبقاء الكتاب على أصله، رعاية لوصية المؤلف رحمه الله. والثاني: كتاب «الأغاني»، وقد اشترط السيد راتب أن لا يحذف منه شيء، وكان قدم لوزارة المعارف مبلغا من المال تستعين به على إحياء ذلك الكتاب.
أيها السادة
كان النقد الأدبي قبل الحرب يحاكم الكتاب والشعراء إلى المعروف من أساليب القدماء، ولكن الحياة الأدبية مع ذلك لم تخل من وثبات فكرية بفضل النور الذي بثته الجامعة المصرية ، فلما جاءت الحرب غلا الورق غلاء شديدا، وتخاذلت الصحف والمجلات، وضاقت الميادين أمام الناقدين وخلا الجو للمرحوم المنفلوطي فكان وحده المؤلف وكان وحده المنقود.
وفي أعقاب الحرب ظهر كتاب اسمه «الديوان» وهو أشبه بمجلة دورية يحررها الأستاذ عباس العقاد والأستاذ إبراهيم المازني، وكان الغرض منه هدم الأسماء التي سيطرت على الحياة الأدبية، ولا سيما شوقي والمنفلوطي، وبجانب ذلك نشطت مجلة أسبوعية اسمها عكاظ كان من همها أن تدحر هذين الكاتبين، واستطاع هذا العراك أن يشغل الناس من جديد بالحياة الأدبية.
ثم كانت الثورة المصرية التي خلقت مئات من الكتاب والخطباء.
ثم كان الجدل السياسي بين عدلي يكن وسعد زغلول، وهذا الجدل هو وحده صاحب الفضل على الأدب في الديار المصرية.
وبيان ذلك أن عدلي يكن وأصحابه كانوا يفهمون جيدا أن سعد زغلول يستأثر بالجماهير، فانشأوا جريدة السياسية وزودوها بالدراسات الأدبية لتستطيع الوصول إلى جماهير القراء، وقد صح ما توقعوه فأصبح لجريدتهم قراء، ثم رأى الوفد المصري أن يفل الأدب بالأدب، فأمد جريدة البلاغ بطائفة من حملة الأقلام.
وكذلك أصبح من التقاليد أن يكون في كل جريدة يومية صفحة أدبية.
ولكي تعرفوا كيف كان يسيطر الأدب في ذلك العهد أروي لكم القصة الآتية: «كان شوقي رحمه الله ينشر قصائده في جريدة الأهرام، ورأت جريدة السياسة أن تنفرد بنشر تلك القصائد، ولكن ماذا تصنع؟ أعلنت أنها تدفع خمسين دينارا للجمعية الخيرية الإسلامية في كل مرة تنشر فيها قصيدة من قصائد شوقي. وبذلك غنمت القراء الذين كانوا ينتظرون شوقي على صفحات الأهرام».
أيها السادة
في مصر اليوم رجة اجتماعية ستعود على الأدب بأجزل النفع، وأنتم تعلمون أن الأدب يستفيد من الخير والشر على السواء، ومن شواهد ذلك الأدب النسوي: فقد ابتدأ برسائل «باحثة البادية» ملك حنفي ناصف، وكانت أبحاثها مقصورة على الجوانب الاجتماعية، ثم جاءت الآنسة مي فأمدت الأدب النسوي بأرواح معطرة، ولكن نشأ في الأعوام الأخيرة حادث أدبي يستحق التنويه، ذلك هو أدب الآنسة جميلة العلايلي، فقد أخرجت ديوانا شعريا يتوقد بأنفاس الحنين، وهي أول مرة نسمع فيها أن فتاة عربية تنظم ديوانا تغلب عليه الوجدانيات، ولهذه الآنسة قصص طريفة تمثل بها عواطف النساء العاشقات أصدق تمثيل، وذلك لون من الأدب الجديد.
أقول هذا وأنا أعرف أن فيكم من ينكر أن تفصح الفتاة عن عواطفها الوجدانية، ولكني أقف موقف المؤرخ، ولا حرج على من يحاول الأمانة في سرد التاريخ.
وعندنا اليوم فتاة اسمها سهير القلماوي، وهي أقل جرأة من جميلة العلايلي ولكن يغلب على ظني أنها ستكسر قيود الرزانة بعد قليل، إلا أن تحرص على وظيفتها بكلية الآداب فتتكلف الوقار، وفي كلية الآداب اليوم حركة لانتخاب «أميرة الشواعر» وأخشى أن نستغني بها عن «أمير الشعراء»!!
وبهذه المناسبة أذكر أن المصريين كانوا فكروا في انتخاب أمير للشعر بعد شوقي، ورأي جماعة أن يكون ذلك اللقب من حظ الأستاذ عباس العقاد وثار جماعة آخرون منهم الأستاذ محمد الهراوي والأستاذ محمد الأسمر فقد أهدوا اللقب إلى «البرنس» وهو نساخ في دار الكتب المصرية له منظومات في التهاني بالأفراح والليالي الملاح!! وقد قتل ذلك الجد بهذا المزاح.
أيها السادة
لا تعجبوا من حرصي على تدوين الجانب النسائي في الحياة الأدبية، فأنا واثق بأن الرجة الاجتماعية التي يمثلها اختلاط الجنسين في الجامعة المصرية سيؤدي إلى نتائج منها المقبول والمرذول، ولا مفر من الاعتراف بأن وجود نحو ثلثمائة فتاة بين شبان الجامعة المصرية سيحدث أزمات نفسية وخلقية، ومن تلك الأزمات المخوفة يأخذ الأدب وقوده الذي ظل ينتظره منذ أجيال.
ولكي تعرفوا كيف أسرع التطور في بلادنا أذكر لكم أني كنت طالبا في الجامعة المصرية منذ عشرين عاما، ولم يكن يزاملني من الجنس اللطيف في ذلك العهد غير فتاة واحدة هي الآنسة مي، وحين يلتحق ابني بالجامعة في العام المقبل سيجد بجانبه ثلثمائة فتاة، فإن صح أن مزاملة فتاة واحدة أثرت في أدبي، فكيف يكون حال ابني؟ وقاه الله ونجاه!!
أيها السادة
قد يكون من الخير أن نقرر أن الأدباء المصريين بدأوا ينقسمون إلى طوائف ففي الشعراء من يريد قصر شعره على مسامرة الأطفال كالأستاذ محمد الهراوي، وفيهم من يقف أشعاره على الأغاني كالأستاذ أحمد رامي الذي ملأ المشرقين بالحنين على لسان أم كلثوم، وفي الكتاب من لا يعبر عن أغراضه بغير القصص وفيهم من يكاد يقصر أدبه على السخرية من المجتمع كالأستاذ إبراهيم المازني، وفيهم من وقف أدبه على الفكاهة كالأستاذ حسن شفيق المصري، وعندنا أدباء لا يعرفون إلا إذا علوا منابر البرلمان.
وقد بدأت الأساليب تتنافر وتختلف، فأسلوب فكري أباظة ومحمد التابعي غير أسلوب عبد العزيز البشري وأحمد الزيات.
وكتاب الأهرام لهم مسالك في التعبير تخالف مسالك زملائهم في جريدة البلاغ.
والموضوعات التي تدرسها مجلة الرسالة غير الموضوعات التي تدرسها مجلة الصباح.
والسامرون في الأحياء الأزهرية لهم مذاهب في القول والتعبير تباين المذاهب المألوفة عند السامرين في شارع مظلوم وشارع فؤاد، وأدباء القاهرة غير أدباء الإسكندرية وغير أدباء أسيوط.
ولكن ما نراه تباينا لا يجيز القول بأن في مصر مذاهب أدبية تشبه الكلاسيك والرومانتيك عند الفرنسيين، ذلك بأن الأدباء المصريين تتطور أذواقهم كل يوم بفضل إقبالهم على مختلف الثقافات الشرقية والغربية، فالخلاف بين الأساليب هو كالخلاف بين الوجوه لا يجعل الرجلين من أمتين مختلفتين وإن كان يشهد لكل فرد بالقوة الذاتية.
وهذا التصادم بين المشارب والميول يحير المبتدئين في بلادنا فلا يعرفون كيف يتوجهون، ولكنه يساعد على قوة الشخصية، إذ يستطيع الشاب الناضج أن يتفرد في النهاية بأسلوب خاص.
وقد يكون من الخير أيضا أن نقرر أن في مصر كثيرا من الجرائد والمجلات التي تصدر باللغات الأجنبية، وهذا يؤثر في تلوين الثقافة أشد تأثير، لأنه يغري الأدباء المصريين بمتابعة الكتاب الأجانب في بعض المذاهب، ولعل لهذا دخلا في شيوع الصور الرمزية بالمجلات المصرية، والأفكار تعدي بالصحة وتعدي بالمرض في أكثر الأحيان.
أيها السادة
لا يسعني في هذا المقام أن أغفل ظاهرة أدبية عرفتها مصر في الأعوام الأخيرة ، فقد كانت أنشئت مجلة شعرية اسمها «أبوللو» ولم تعمر غير عامين، ولو طال عمرها لأمدت الشعر بكثير من الحيوية، ولكن الدكتور أبو شادي عجز عن الإنفاق عليها بعد أن أنفق في سبيلها ما أنفق، فغربت بعد أن أظهرت طاثفة من الشعراء الشبان منهم حسن الصيرفي وصالح جودت وعلي محمود طه، وبعد أن عرفت الجمهور بعبقرية الدكتور إبراهيم ناجي أصدق شاعر يبكي حظوظ القلوب ويذكر الناس بنبرات ابن الأحنف وابن زيدون.
أتريدون كلمة الحق؟
لم يبق في مصر أدب ولا مذهب أدبية.
إن الأقلام كلها تحولت إلى الجدل السياسي، وكاد المسرح المصري يموت بالرغم من وجود قصاصين بارعين أمثال محمود تيمور وتوفيق الحكيم.
فإن شئتم أن تعرفوا ما هو المذهب الجديد الذي عرفته مصر من بين المذاهب الأدبية فإني أحدثكم أن ذلك المذهب هو الأدب السياسي، والأدب السياسي هو كل ما تعرف مصر من غذاء العقول في هذه السنين العواصف.
والأدب السياسي فن جديد في اللغة العربية، ولا يعرف قيمته إلا من يقرأ البلاغ والكوكب والجهاد والأهرام والمقطم وآخر ساعة والكشكول، ففي هذه الجرائد والمجلات صنوف من الصبوح والغبوق يدركها أرباب الأذواق.
ولو رأيتم كيف تتصاول المذاهب والآراء في تلك الجرائد والمجلات لرأيتم العجب العجاب، وأشد ما آسف له أن الأدب السياسي في مصر لا يطلع عليه إخواننا في سائر الأقطار العربية، لأنهم يحسبونه نوعا من الحديث المعاد، ولو بحثوا لعرفوا أنه صقال للأذهان والعقول.
أيها السادة
قد رأيتم أنني وقفت موقف الواصف لبعض الظواهر الأدبية في الديار المصرية، وما أدعي أني وفيت الموضوع حقه من البحث، ولكن يكفي أن أكون طفت بكم طوفة لا تخلو من طرافة، وهي طوفة كنت فيها مثالا للدليل الأمين، والسلام.
الفصل الخامس
القلب الغريب
في ليلة عيد
أخي الأستاذ الزيات
هل تذكر ما حدثتني به منذ سنين؟ هل تذكر أنك تشهيت مرة أن توجه إلي خطابا على صفحات البلاغ عنوانه «من غريب إلى غريب» وكنت الغريب في بغداد وكنت الغريب في باريس؟
ولم تحدثني عما أوحى إليك أن تفكر في إنشاء ذلك الخطاب، فهل أستطيع أن أرجح أن ذلك كان بعد أن نشرت أنا رسالة «من غربة إلى غربة بين القاهرة وباريس» تلك الرسالة التي فضحت بها مكتوم صدري ومكنون هواي؟
على أنني لن أكتب مثل تلك الرسالة مرة ثانية، فقد انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وقضى الحب أن أشهد كيف تنهمر دموع الملاح يوم رحيلي إلى العراق.
انتهى عهد الغربة بالقاهرة، وحل عهد الاغتراب عن القاهرة، فمن يردني إليها ليلة أو ليلتين لأقضي حق التحية تحية المغاني الآهلة التي كانت تتشوف إلى العيد، لتراني مع العيد!
ليتك يا صديقي تعرف نعمة الله عليك في بلد لك فيه أهل وأحباب، ولا أراك الله حسرتي وعذابي وأنا أتجرع كأس الغربة في ليلة عيد.
ولكن هل من السياسة أن أعلن غربتي في بغداد، وقد لقيت فيها أهلا بأهل وجيرانا بجيران؟
إن قيل ذلك فأنا أعلن أني لا أعاني غربة العقل، وإنما أعاني غربة القلب.
وكيف أعاني غربة العقل ومحاضراتي يشهدها المئات من عشاق العلم والبيان، ولا أخطو خطوة إلا وأنا محوط بالعطف والإعجاب، ولا أدخل ناديا إلا تلقاني أهله وسامروه بالترحيب والتبجيل؟
ولكن هل يكتفي مثلي بحياة العقل؟ يا ضيعة العمر إن كتب علينا ألا نظفر بغير الثناء من عقلاء الرجال، وما أضيق العيش إن كانت لا تلمع بروقه إلا من صرير القلم وسواد المداد.
إن الحياة العلمية ليست إلا خدعة يتلهى بها أرباب القلوب، وهل يخفى عليك ما يعانيه رجل مثلي حين يعود وحيدا إلى منزله بلا أنيس ولا رفيق؟ هل يعزيه حينذاك أن يتذكر أنه كان منذ لحظان يعاقر الفكر والرأي وهلو يلقي محاضرته على جمهور من العلماء والأدباء؟
ليتك تراني وأنا أدخل إلى غرفتي شارد اللب فأزيح الستائر عن النوافذ، ثم أطفئ المصباح لأقف وجها إلى وجه مع ظلام بغداد، ويا رحمة الله من ظلام بغداد في لياليها الطوال.
ولكن ما الذي يدعوني إلى معانقة الظلام في بغداد؟
لا أعرف، ولكن يخيل إلي أن الظلام يؤنسني بعض الإيناس، لأنه يوهمني أني في فترة من الزمن تأنس فيها القلوب بالقلوب، وتسكن الأرواح إلى الأرواح، وربما كان الظلام في غرفتي فرصة طيبة أتبين فيها بصيص النور في منزل قريب أو بعيد فأتمثل أخيلة النجوى والعتاب، وأتوهم ضجيج المرح في ليالي الوصال. •••
أما بعد، فهذا غروب اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان، وهذا مكاني على المائدة في المطعم الذي تخيرته بشارع الرشيد، وهذه أطياف ترد على القلب، من أحباب القلب، أطياف من مصر الجديدة والزمالك، تلك البقاع التي لم تر فيها النجوم قلبا مثل قلبي، ولم تسدل ستائرها على هوى أعنف من هواي ... وليقل من شاء ما شاء.
وأسأل جاري على المائدة: هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: سنعرف ذلك بعد ساعة أو ساعتين.
وأخرج فأتصفح الوجوه في شارع الرشيد بلا نفع ولا غناء.
ثم أميل على الشرطي أسأله: هل ثبتت الرؤيا؟
فيجيب: لم تثبت، ولكن المحكمة تنتظر برقية من النجف.
فأدمدم: برقية من النجف؟ وهل يسر من في النجف أن يفطر من في بغداد؟ إن كان الأمر لعلماء النجف فسيضيفون إلى الصوم يومين، ولولا أن يفضحهم الهلال لزادوا الصوم أسبوعين.
وأذهب إلى نادي المعارف لأسمر لحظات مع الزملاء من المدرسين فيفرحون بلقائي ويسألون: كيف غبت أمس؟ فأجيب: غبت أمس لأحضر اليوم، ولكن حدثوني هل عندكم أخبار عن الهلال؟ فيجيبون: سنعرف ذلك بعد الساعة العاشرة، فأقول والشمس تغرب في الخامسة، فهل يمكن أن يكون بين الخامسة والعاشرة مجال لرؤية الهلال؟
وبعد لحظة تحول إبرة المذياع إلى مصر فأسمع فتاة تباغم المستمعين فتقول: سادتي وسيداتي، هذا آخر العهد برمضان.
فأقول: يا إخواني، يا حضرات الأساتذة، يا مسلمين يا أولاد الحلال هذه في مصر ليلة العيد.
فيجيب أحدهم وهو يبتسم: علمت شيئا وغابت عنك أشياء، ألم تعلم أننا صمنا يوم الجمعة، وصام المصريون يوم الخميس، فهم حتما يسبقوننا إلى العيد؟
فأقول: من هنا تعلمون أن مصر تقدمت في كل شيء، فلها السبق في الصوم ولها السبق في العيد، وأنصرف محزون الفؤاد. •••
هذه غرفتي موحشة لا يؤنسني فيها غير أرواح الموتى من المؤلفين، وسيكون الغد يوم عمل؛ لأن يوم الوقفة لا عطلة فيه في بغداد، وإذن فسأعطي غدا درسا في التفسير، وهو درس متعب لأنه في الكشاف، وفي آية يختلف فيها أهل السنة مع أئمة الاعتزال.
وكيف أعد هذا الدرس - يا رباه - وأنا أعرف أنها ليلة عيد في مصر الجديدة وفي الزمالك، ويا ويلتاه من لوعة القلب حين أتمثل مصر الجديدة والزمالك، وغضبة الله على من تمر بباله خاطرة ملام، وأنا أردد أسماء تلك المغاني، حرسها الله، وأدام لأهلها نضرة النعيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون
سورة الحجرات: 2
قال جار الله الزمخشري ...
هذه طلقة مدفع!
وقال ابن حجر في الرد عليه ...
وهذه طلقة ثانية!
وكيف نوفق بين القولين؟
وهذه طلقة ثالثة!
ولكن ما الساعة الآن؟
الساعة العاشرة، إذن ليست هذه مدافع السحور ولا مدافع الرفع، وإنما هي مدافع العيد. •••
وأطفات المصباح، وتلفت إلى النافذة لأرى ظلام بغداد، وقلت: هذه ليلة عيد بالإجماع، فلأرح نفسي من الكشاف، ولجاجة صاحب الكشاف، ولأقبل على قلبي أتبين ما فيه من فطور وندوب.
وتذكرت أنني كنت أكتب رسالة وجدانية في كل ليلة عيد، ثم انقطعت رسائلي بعد إذ مات أبي يرحمه الله، لأنني أنفت أن أبكي بعده على غرض مضيع أو هوى مفقود.
ثم بدا لي في هذه الليلة أن أبي لا يسره في قبره أن تعيش مهجتي بلا لوعة، ومقلتي بلا دمعة، وكان يرحمه الله جذوة من الوجدان.
وعدت إلى الظلام أستلهمه وأستوحيه فلم أجد من أحاوره غير الرجل الحزين الذي اسمه أحمد أحمد حسن الزيات.
صديقي!
هل تذكر فكاهتك الطريفة إذ تحدث إخوانك أنك عرفتني أول مرة عن طريق البوليس؟ هل تذكر أن البوليس دعاك مرة إلى زيارة المحافظ فتوجست خيفة، ثم رأيت أن الخطب هين لأنك دعيت لتتسلم رسالة من الشيخ زكي مبارك الذي اعتقلته السلطة العسكرية أيام الثورة المصرية؟
ألا فلتعلم أن الحظ قضى عليك ألا تتلقى مني رسالة إلا في ظروف تحيط بها شبهات، فإن كانت الرسالة الأولى في عهد ثورة فهذه أيضا في عهد ثورة، وربما كانت هذه أعنف، وأفظع لأنها تحدثك عن صديق حزين يناضل الأرق والسهاد في ليلة عيد.
صديقي!
لا تعجب من رجل يضنيه الحزن والابتئاس مع أنه ينهض بأثقل الأعباء، فدنيا القلب غير دنيا العقل، والشواغل الجسام لا تلهي الرجل عما يساوره من لواذع الإحساس، وأنا رجل يؤمن بأن القلب أدق ميزانا من العقل، وكيف لا يكون كذلك وهو يأخذ هدايته من الفطرة، على حين لا يهتدي العقل إلا بالبراهين، وهي في الأغلب تقوم على مقدمات لا تخلو من تضليل.
صديقي!
هذه الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وستقرأ هذه الرسالة فتذكر أنك أرقت في ليلة العيد بلا سبب معروف، فلتفهم حين تقرأ هذه الرسالة أن ذلك الأرق إنما كان هدية أرسلها إليك الغريب في بغداد، الغريب الذي يوحي الحزن إلى أشقياء الغرباء.
والآن أطفئ المصباح لأعانق الظلام في المدينة السحرية التي شقى بلياليها ملايين الرجال فلا أرى غير بصيص ضئيل لمصباح أقامته الحكومة على شاطئ دجلة، فأفهم أنني أخاطب الأموات؛ لأن مصابيح الحكومة لا تدل على شيء، ولا يهتدي بها غير لصوص الجيوب.
الآن تهدأ بغداد بعد أن تسدل أستارها على الغافلين من السعداء والبائسين، ويبقى المسهد الغريب الذي لا يعرف ربيع القلب، ولا نعيم الجفون.
في هذه الليلة تهدأ جنوب، وتقلق جنوب، وجنبى هو الجنب الحائر تحت سماء بغداد.
في هذه الليلة تتلفت عيون فلا تراني، عيون كنت لها أمتع من إغفاءة الفجر، وأنضر من بياض الصباح، في هذه الليلة تشتاقنى أكباد رقاق علمتها كيف تطيب ليالي الأعياد.
ولكن لا بأس، فسنعيش حتى نرد ديون الهوى، وسيعلم من أبكاهم الفراق أن الدمع لا ينفع وسنرجو أن لا يسمحوا لنا بعد هذه المرة بالتعرف إلى محطة باب الحديد.
أخي الأستاذ الزيات
لا أنتظر منك دمعة عند قراءة هذا الخطاب، ولكن لي إليك رجاء، فأحفظ عهد أخيك ولا تمش في شوارع القاهرة إلا مشية الخاشعين، فليس في تلك المدينة بقعة إلا ولي فيها صبوات، وليس فيها شارع ولا مشرب ولا ناد إلا ولي فيه أحباب وخلان.
ولو شئت لكلفتك تبليغ التحية إلى أصفياء القلب في مصر الجديدة، وفي الزمالك، ولكن مثلك واأسفاه لا يؤتمن على نقل التحية إلى أسراب الملاح، فلتكن «الرسالة» رسولي إلى من أذالوا غاليات الدموع يوم رحيلي إلى العراق، والسلام عليهم وعليك من الغريب الحزين.
الفصل السادس
العروبة في مصر
محاضرة ألقاها المؤلف في نادي المثنى
أيها السادة
منذ أيام ألقيت محاضرة في نادي القلم العراقي عن المذاهب الأدبية في مصر، ارتجلتها ارتجالا؛ لأن الوقت لم يتسع لتدوينها، وأنا كما تعلمون مشغول، وكان في النية أيضا أن أرتجل هذه المحاضرة، وقد عرف ذلك صديقي صاحب جريدة البلاد فأرسل أحد زملائه لتلخيصها، ولكني رأيت بعد عصر اليوم أن الموضوع الذي أتكلم فيه موضوع دقيق، وأن من الواجب أن أدون محاضرتي وأن أقف عند الذي دونت، حتى لا توجد فرصة للتفسير والتأويل.
وأسارع أيها السادة فأنص على أن محاضرتي لا صلة لها بالمعاني السياسية، فليس في بغداد مصري يحق له أن يتكلم في السياسية غير سعادة الأستاذ عبد الرحمن بك عزام وزير مصر المفوض في العراق، وإنما أتكلم باسم الأدباء المصريين كلام الزميل الصادق الذي لا يعرف غير الحق.
وبعد هذا التحفظ أقول: إن صلات مصر بالأمم العربية ترجع في حقيقتها إلى عنصرين: عنصر السياسة وعنصر الأخوة.
والسياسة لها وجهان: الوجه الدولي والوجه الأدبي، وأعترف صراحة بأن الوجه الدولي من السياسة لا يربط مصر بالأمم العربية، فمصر لا تملك من الوجهة الدولية أن تجهز الجيوش لمناصرة الأمم العربية، وهي كذلك لا تنتظر هذه المعونة من الأمم العربية، وكلكم يذكر أن البوارج الإنجليزية احتلت الجمارك مرة في عهد وزارة المغفور له سعد زغلول، ومع ذلك لم يقل أحد في مصر إن الأمم العربية كان عليها أن تقف في صف مصر بما عندها من جيوش البر والبحر والهواء، فذلك أيها السادة أمل نرجو أن يحققه المستقبل، أما الآن فنحن وأنتم نعرف ما يحيط بنا من المعضلات، ونرجو أن ينصرنا الله على الأعداء.
أما الوجه الأدبي من السياسة فمصر تعرفه حق العرفان، وهل يصح في ذهن أحد أننا في مصر ننظر إلى المفوضية العراقية أو الوكالة العربية كما ننظر مثلا إلى السفارة البريطانية أو السفارة الإيطالية؟ هيهات، إن هذا كلام لا يقوله إلا حاقد أو جهول.
اسألوا سفيركم في مصر يحدثكم عما يلقاه من كرم المصريين، واسألوا سفير الحجاز والأفغان وإيران يحدثوكم أنهم يعيشون في مصر عيش السعداء؛ لأنهم بين إخوان يعرفون واجبات الإخاء ويفهمون قيمة العواطف العربية والإسلامية.
بل اسألوا أبناءكم الذين يتعلمون في مصر، اسألوهم يحدثوكم أن الأساتذة في الجامعة المصرية والأزهر ودار العلوم يشددون عليهم في الامتحان ليثقوا بأنهم يصلحون لخدمة بلادهم في قوة وأمانة؛ بل اسألوا كل من يتصل بمصر في سبيل المنافع الاقتصادية من أهل سورية ولبنان وفلسطين وحلب واليمن والحجاز وتونس وطرابلس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، اسألوا كل إنسان يتكلم اللغة العربية من الوافدين على مصر: كيف حاله في مصر؟ وإني لواثق بأن المنصفين منهم سيجيبونكم بأن مصر هي البلد الوحيد الذي يعرف قيمة الأخوة العربية والإسلامية.
أيها السادة
إن مصر هي أعظم موئل للعروبة، ومن واجب العربي الصادق أن يدعو الله لسلامة تلك البلاد من كل عادية حتى تظل ينبوعا تتفجر منه المعارف العربية.
ومع أن مصر أعظم موئل للعروبة باعتراف الجميع فهناك شبهات يجب تبديدها في هذا المقام، هناك إشاعة تقول إن مصر فرعونية، وتقول إن الذي أذاع هذه الفكرة هو كاتب مصري اسمه سلامة موسى، وأرجوكم أن تصدقوني أيها السادة إذا أكدت لكم أن هذا الكلام اخترعه ناس في غير مصر وسمع به الأستاذ سلامة موسى كما سمعه غيره من المصريين، ومن هذا ترون أن الدسيسة جاءتنا من الخارج، جاءتنا من المستعمرين وأتباع المستعمرين، وأنتم تعرفون جيدا أن المستعمرين قد ملأوا بدنانيرهم جيوب فريق ممن يكتبون باللغة العربية، والمستعمرون يفهمون جيدا أن الأمم العربية تمنح مصر حق الزعامة الأدبية فهم يسلكون جميع المسالك ليسوءوا سمعة مصر بين الأمم العربية.
وأجهل الناس يعرف أن العروبة إن انعدمت في مصر فلن تقوم لها قائمة إلا بعد أعوام طوال يوم يصبح العراق وفيه عشرون مليونا من السكان وله ميزانية تبلغ مائة مليون.
والمصريون لا ينكرون أنهم ورثوا بلاد الفراعين وأنهم من أجل ذلك يسمون مصريين، وهل يضير العروبة أن يتشبث المصريون ببلادهم وأن يبذلوا في سبيلها كل شيء لتبقى تلك البلاد ملكا خاصا للغة العربية والدين الإسلامي؟
ما الذي يضير العرب أيها السادة إذا رأونا نهتم بالآثار الفرعونية وكلكم يعرف أن مصر تفردت من بين الأمم بأثمن مجموعة من الآثار والفنون عرفتها الإنسانية؟ نحن في مصر نزور آثار الجيزة وسقارة والأقصر وأسوان لنؤمن بأن مصر في طبيعتها صالحة لقيام أعظم إمبراطورية، فهل يسوءكم أن نسمر أقدامنا في تلك الأرض وأن نجعلها إلى الأبد - بإذن الله - من أملاك العروبة؟
حدثوني أيها السادة ماذا يسوءكم من تمجيدنا لنهر النيل؟ نحن نحبه لنحرص عليه ونموت في سبيله إن عدا عليه العادون، فهل يسوءكم أن يبقى النيل لأمة عربية توحد بارئ الأرض والسموات؟
نحن عرب ولكننا مع ذلك مصريون، وأنتم عرب ولكنكم مع ذلك عراقيون، وسكان الجزيرة عرب ولكنهم مع ذلك حجازيون أو يمنيون، فأرجوكم أيها السادة أن تزنوا الأمور بموازينها ولا تظلمونا من غير موجب، فإن الحب أساسه الإنصاف. •••
وهناك شبهة أخرى هي كلمة «الأدب المصري» وقد بددت هذه الشبهة حين تكلمت في نادي القلم العراقي، فكلمة الأدب المصري في اللغة العربية ترادف كلمة الأدب الأمريكي في اللغة الانجليزية وكلمة الأدب البلجيكي في اللغة الفرنسية، فالأدب الأمريكي هو أدب إنجليزي ولكن كتابه وشعراءه أمريكيون، والأدب البلجيكي هو أدب فرنسي ولكن كتابه وشعراءه بلجيكيون، وكذلك الأدب المصري فهو أدب عربي ولكن كتابه وشعراءه مصريون.
وقد سمعتم أن الأستاذ الدكتور طه حسين اقترح إنشاء كرسي للأدب المصري في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فهل معنى هذا أن الكرسي المنشود سيجلس عليه أستاذ لا يدرس غير «المواويل» التي يتغنى بها المغنون في قهوات الحلمية القديمة؟ هيهات، إنما هو كرسي يهتم من يجلس عليه بدرس الكتاب والشعراء والمؤلفين الذين أنجبتهم الديار المصرية وهم يعدون بالمئات، ولهم فضل عظيم على الثقافة العربية، وما أظنكم تبخلون علينا بإنفاق ألف دينار في كل سنة لدرس الأدباء الذين نبغوا في مصر ونحن ننفق الوف الدنانير في كل أسبوع لدرس الأدباء الذين نبغوا في سائر الأقطار العربية.
أيها السادة
اسمعوا هذا الحديث:
منذ أيام جاء إلى دار المعلمين العالية فراش من كلية الحقوق وترك لي نسخة من جريدة الرأي العام التي تصدر في بغداد، فعرفت أن أحد الموظفين هناك أرسلها إلي لغرض خاص فقلبت الجريدة فرأيت فيها تصريحا للأستاذ مصطفى عبد الرازق عن الوحدة العربية ورأيت تحت ذلك التصريح عبارة مكتوبة بالحبر الأحمر هذا نصها: «ليتأمل الدكتور زكي مبارك».
وقد تأملت وتأملت ثم تأملت، فماذا في تلك العبارة؟ فيها أن الأستاذ مصطفى عبد الرازق يقول إن مصر تقف من الوحدة العربية موقف المشاهدة لا موقف الفاعلة.
وهو كذلك، ولكني عرفت من سياق العبارة أن الأستاذ مصطفى عبد الرازق ألقاها باللغة الفرنسية لأنها نشرت في جريدة انجليزية أعني أنه قرر أن مصر ليس لها مع الأمم العربية موقف يسمى
Action
وهذه كلمة حق، فالظروف لا تساعد مصر على تجييش الجيوش في سبيل الوحدة العربية، وهذا إثم لا تحتمله مصر وحدها وإنما هي مصيبة دولية تشترك فيها جميع الأمم العربية.
ومع ذلك هل سكت المصريون على كلمة الأستاذ مصطفى عبد الرازق؟ لا، فقد هجموا عليه وخطأوه بعبارات قوية نشرتها جريدة العقاب منذ أيام.
مع أن عبارة الأستاذ مصطفى عبد الرازق ليس فيها عند التأمل ما يريب، وأقول بصراحة إن مصطفى عبد الرازق من مفاخر العرب والمسلمين، ولو كان في الأمم العربية عشرة من العلماء على نمط مصطفى عبد الرازق لكان العرب من أغنى الناس في عالم العقل والبيان.
أيها السادة
هل تحبون أن أحدثكم عن مصر العربية؟ قولوا إنكم تحبون ذلك!
إن مصر اليوم هي الشاهد على حيوية العرب : فالصحافة المصرية أقوى من الصحافة الفرنسية والصحافة الإيطالية والصحافة الألمانية، وليس هذا بالقليل يا أدباء بغداد، في مصر اليوم مطابع لا تقل قوة عن مطابع باريس ولندن وروما وبرلين، وهي مطابع عربية، لا إفرنجية ولا إنجليزية ولا جرمانية، في القاهرة معهد اسمه الجامعة المصرية، وهو بعون الله ورعايته لا يقل قوة عن جامعة لندن أو جامعة باريس أو جامعة برلين.
إن متوسط ما تخرج مطابع القاهرة باللغة العربية اثنا عشر كتابا في كل يوم بغض النظر عن مطابع بورسعيد والمنصورة وطنطا والإسكندرية وبلقاس وشبين وأسيوط، وبغض النظر عن المطابع الخصوصية مطابع العلماء والأدباء.
إن مصر هي البلد الوحيد بين البلاد العربية، البلد الوحيد الذي يعيش فيه حملة الأقلام عيش المياسير، وقد جربت ذلك بنفسي فكنت أغنم عشرات من الدنانير في الأسبوع الواحد من قلمي، ولي بيت في مصر الجديدة أنفقت عليه ألفي دينار كسبتها من سن القلم في عامين اثنين، ولو تيسر هذا في العراق والحجاز وسورية لأصبح العرب سادة العلم والبيان.
أيها السادة
أنا عربي أولا ومصري ثانيا، ولو شئت لقلت إن أبي من أصل عربي صريح، وأهل سنتريس يعرفون ذلك، ولكني أرفض التودد المتكلف وأقول إني مصري، وما تسوءني هذه النسبة، فالمصريون عرب في أقوالهم وأفعالهم وشمائلهم ودينهم ومذاهبهم، وأدعو الله عز شأنه أن يجعل مصر أبد الدهر من أملاك اللغة العربية لغة القرآن.
أيها السادة
هل تؤذيكم هذه الصراحة؟
اعذروني فأنا أتكلم في بغداد، التي أعزت العقل والمنطق يوم كان الناس يعيشون في دياجير الجهل والغفلة والحمق والغباء.
وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ القاهرة أو باريس، فإن رابتكم صراحتي فلا تلوموني فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق.
أيها السادة
إن مصر عربية في كل شيء، عربية في لغتها ودينها وأخلاقها.
إن مصر عربية ولكنها لا تقول في كل لحظة إنها عربية ؛ لأن الكريم لا يقول في كل لحظة إنه كريم، ولو فعل ذلك لأضافه الناس إلى أهل المن الممقوت.
إن أهل مصر كأهل الحجاز لا يقولون إنهم عرب، لأن توضيح الواضح من المشكلات.
أيها السادة
اسمحوا لي أن أقول بصراحة إن التشكيك في عروبة مصر لا يقوم به إلا ناس يخدمون المستعمرين ويخدمون المبشرين، والعراق لحسن الحظ منزه عن هذه الأهواء، إن مصر هي التي استطاعت أن تفرض على فرنسا أن تؤمن بأن اللغة العربية لغة حية فتكتفي بها في امتحانات البكالوريا الفرنسية، وهي التي استطاعت أن تفرض على عصبة الأمم أن تجعل اللغة العربية لغة رسمية دولية، وهي التي استطاعت أن تجعل الأزهر مرجعا لجميع المذاهب الإسلامية بلا استثناء، وذلك لون من الحرية الفكرية كانت مصر أول من شرعه بين جميع الأمم الإسلامية.
أيها السادة
إن مصر هي بلادكم وبلاد كل ناطق بالضاد من جميع الديانات، إن مصر بلاد كل من ينطق باللغة العربية ولو تمذهب بالوثنية، فمن العقوق أن تسمعوا فيها كلام الخونة من عبيد المستعمرين الذين يريدون أن يوهموكم أن مصر انسلخت من العروبة، وأنها لا تعرف غير أصولها من الفراعين.
أيها العراقيون
أنتم الشعب الذي يعتمد عليه في حكومة العقل والمنطق، وقد سمعتم أن مصر لا تعطف على الأحزان العربية وحدثكم المغرضون أن مصر لم تحزن على نكبة فلسطين مثلا، فليقم من أعضاء نادي المثنى جماعة للموازنة بين ما نشرته الجرائد المصرية في الانتصار لقضية فلسطين وبين ما نشرته الجرائد العربية، وحينذاك تعرفون أن المصريين كانوا أكثر الناس غيرة على تلك القضية، قضية العروبة وقضية الإسلام.
أيها السادة
في مصر كثير من مظاهر العروبة، بل كل ما في مصر ينطق بعروبتها كما قال الدكتور محجوب ثابت، ولكن عيب مصر أنها لا تقول في كل لحظة إنها عربية، وأؤكد لكم وأنا صادق أن القاهرة ليست أعز علي من بغداد، ولكني مع ذلك أرجوكم أن تزوروا القاهرة لتقفوا على ما فيها من الحيوية العربية التي تتمثل في الأزهر والجامعة المصرية والمجمع اللغوي والفرقة القومية، والتي تتجسم في وزارة المعارف المصرية.
أيها السادة
إن المستعمرين وصنائعهم يريدون أن يوهموكم أن مصر تخلت عن العروبة، ويريدون أن يزهدوا العرب في الثقافة المصرية، لأنهم يفهمون أن أدباء مصر في هذه الأيام لا يقلون قوة وفحولة عن أدباء انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أدباء مصر هم اليوم رجال الفكر والبيان ولو كره المستعمرون.
أيها السادة
إن العروبة في مصر بخير وعافية، ولا يعوزها إلا شيء واحد هو أن يثق بها أبناء الأمم العربية ولا سيما أهل العراق، رعى الله مصر ورعى العروبة وحفظ العراق.
آمين آمين لا أرضى بواحدة
حتى أضيف إليها ألف آمينا
الفصل السابع
خطاب المؤلف في حفلة تكريمه في بغداد
أيها السادة
أقدم إليكم أصدق آيات الثناء، ثناء القلب لا ثناء اللسان، فقد حاولت أن أعد خطبة تناسب مقامكم المحمود، ولكني لم أصل إلى بعض ما أريد، وكان ذلك حالي في جميع المرات التي شرفني فيها أحرار الرجال بحفلات التكريم، فلم يبق إلا أن أرجوكم قبول هذه الكلمات، وقد دونتها وأنا بين الحيرة والاستحياء.
لم يكن في مذاهبي الأدبية ما يبعث على خلق الأنصار والأصدقاء فقد قضيت نحو عشرين سنة وأنا أحمل راية النضال، فلم يبق رجل معروف إلا وبيني وبينه أوتار وحقود، مع استثناء بعض المتفضلين بإقامة هذا الاحتفال.
فكيف اتفق أيها السادة أن تقام لي حفلات التكريم في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد، وأن ألقي الكرامة في كل مكان، بالرغم مما اشتهرت به من رعونة القلم وشراسة اللسان؟
لهذه الظاهرة النفسية تأويل، فالناس يعرفون أني في جميع الأحوال جندي من جنود الأدب، وخادم من خدام العروبة، وحارس من حراس لغة القرآن.
فهم حين يسمعون اسم زكي مبارك لا يتصورون ذلك الشخص الجافي الذي لا يفرق بين العدو والصديق، ولا يعرف كيف يلبس السدارة أو كيف يلبس الطربوش، ويحمل القبعة على نحو ما كان يحمل العمامة، ولا يدرك الفرق بين الملابس العادية والملابس الرسمية، وإنما يذكرون حين يثار اسم زكي مبارك أن لهم كنوزا من الأدب الرفيع هو من حراسها الأمناء، وأن لهم طلائع من الآمال الكبار هو من دعاتها الأوفياء ، وأن لهم تاريخا مجيدا هو أسيره ومجنون ليلاه.
أيها السادة
لقد لقيني أحد الأدباء في جريدة البلاد منذ أيام وقال: إن كثيرا من أهل بغداد يقولون إن في شخصية زكي مبارك شيئا يوجب الحب، فهل لك أن تدلنا على ذلك الشيء؟
فأجبت: اسألوا شاعركم العباس بن الأحنف الذي يقول:
لو أن القلوب تجازي القلوب
لما كان يجفو حبيب حبيبا
فأنا أحبكم يا أهل بغداد، وليس من المستغرب أن تحبوني من حيث لا تعلمون سبب الحب.
وما أزعم أني أحببت بغداد والعراق حب المدلهين، وإنما أذكر أن قلبي خفق خفقة كاد يطفر لها الدمع حين وقع بصري على دجلة أول مرة، وأذكر أني شربت ماء الفرات صرفا، شربته ممزوجا بالطين، فبدا لي أشهى وأعذب من الرضاب المعسول، وأذكر أني ألقيت محاضرة بالإذاعة اللاسلكية فثارت من حولها العواصف وتنكر لها فريق من الأدباء والعلماء فطربت وقلت: الحمد لله الذي أحياني حتى جرى اسمي بالملام على ألسنة أهل العراق. •••
ومن العدل أن أعترف بأن أهل بغداد جروا على فطرتهم النبيلة فجزوني حبا بحب وإخلاصا بإخلاص، فلم يصح ما توقعت من أن انتقالي من القاهرة إلى بغداد سيكون انتقالا من نضال إلى نضال.
فهل تسمحون بالإشارة إلى بعض ما جزتني بغداد؟
لقد راعني أن أجد في دار المعلمين العالية شبانا نجباء يستمعون دروسي، وكأنهم صورة من صور العطف والذكاء، وأعظم نعمة في الدنيا أن يقف الرجل موقف المعلم لشبان مهذبين أذكياء، وأنا واثق أن لن يعاديني أحد من هؤلاء التلاميذ، ومطمئن إلى أني لا أعيش بينهم عيش الغريب بعد أن طالت شكواي من الغربة في القاهرة وسنتريس.
وراعني أيها السادة أن يكون لي زميل كالدكتور عقراوي، زميل يحضر محاضراتي مع أهله، ثم يختصمان في سبيلي وهما على المائدة، فتنتصر هي عند الغداء وينتصر هو عند العشاء.
وراعني أن أجد في دياركم رجالا من أهل العلم، أمثال الأستاذ طه الراوي، والدكتور فاضل الجمالي، رجالا يعرفون الأخوة الأدبية فيزيلون عني كل وحشة، ويذهبون عن قلبي متاعب الاغتراب.
وقد تفضلت الطبيعة العراقية فأتحفتني بأنفس ما تملكون وهو ليل بغداد، ولن أترك لكم هذا الليل، وأصارحكم بأني سأنهبه ثم أطويه في جيبي وأنقله إلى ضفاف النيل.
ولكن أي ليل؟ إنه في هذه الأيام لا يعرف إنسانا سواي، فإن شعر أحدكم بأن لياليه مضيعة فليحقد علي كيف شاء فأنا الذي أنتهب من عينيه سحر الليل، ليل بغداد.
ولهذا الليل أيها السادة أحاديث، فقد عرفت به كيف استطاع علماء العراق أن يملأوا الدنيا علما وأدبا، وكيف كان الرجل يستطيع أن يؤلف مائة كتاب ويعلم ألوف التلاميذ، ويساجل النجوم بأشعار باقية على الزمان.
ليل بغداد هو الذي سيخلق زكي مبارك من جديد، ليل بغداد الطويل الذي يصل في بعض الأحايين إلى سبع وسبعين ساعة وسبع دقائق، ليل بغداد الذي حمل المكتبة العامة على رفع شكواها إلى وزارة المعارف لتنقذها من الجاحظ الجديد الذي اسمه زكي مبارك.
وما أنكر أيها السادة أني عرفت فيما سلف ليلا أطول من ليل بغداد، وهو ليل باريس، ولكن ليل باريس على طوله كان طيع الصباح بفضل ما هنالك من ملاه وفتون، أما ليل بغداد فلا يعرف شيئا من ذلك، هو ليل العلم، وسيصيرني واأسفاه من كبار العلماء!
وخلاصة القول أني سعيد في بغداد، ولا يضايقني إلا شيء واحد: هو وجود جماعة من الأساتذة المصريين في هذه البلاد، أساتذة ينافسونني أخطر منافسة بفضل ما رزقوا من غزارة العلم وحصافة العقل، ولكن يعزيني أنكم لن تطالبوني بمثل ما يقدمون من صالحات الأعمال وطيبات الجهود، ففيهم رجل سبقني إلى الدنيا بأكثر من خمسين سنة وهو الأستاذ محمود عزمي، أطال الله حياته وبارك في عمره، وبلغه ما يسمو إليه من كرائم الآمال.
أيها السادة
هل لكم أن تسمحوا لي بالترويح عن نفسي قليلا؟ لا بد للمصدور أن ينفث ولي أمل عزيز أخشى أن يخيب.
لقد رحلت عن مصر وأنا مصمم على الاستبسال في الدعوة إلى إنشاء جامعة عراقية، فلما وردت العراق لم أجد من يشجعني على تحقيق ذلك الأمل النبيل ، وصارحني بعض الرجال بما يعترض إنشاء الجامعة العراقية من عراقيل.
فأنا أنتهز هذه الفرصة لتسجيل هذه الرغبة بطريقة علنية وأصافح بيمناي أنصارها الأوفياء، وأدعوكم إلى الكتابة عن هذه الأمنية في كل يوم، والكلام عنها في كل مجتمع والالحاح بها على جميع الوزراء، واعلموا أن من العار أن تخلو بغداد من جامعة، وباسمها الخالد تتعطر الافواه في جامعات الشرق والغرب.
إن الحجة في أيدينا أيها الزملاء، فعندنا نواة الجامعة العراقية، عندنا النواة السليمة لأربع كليات، فلنبادر بتأسيس الجامعة العراقية بصفة رسمية، ولنبادر بخلق الصلات العلمية والأدبية مع الجامعة المصرية وجامعة باريس، ولنقرر منذ هذه الساعة أن نفتتح الجامعة بمهرجان مشهود في آذار المقبل، شهر الأزهار والرياحين.
أيها الصحفيون الشرفاء
لقد كنتم عند ظن الوطن الغالي في ظروف كثيرة، فشدوا من عزائمكم لنصرته هذه المرة، وحققوا أشرف غاية لحملة الأقلام وهي إعزاز العلوم والآداب والفنون.
أيها الزملاء
لقد كرمتموني بهذا الاحتفال الرائع، فهل تعرفون متى أرد لكم هذا الدين النبيل؟ سأرده يوم يتقرر بفضل مسعاكم إنشاء الجامعة العراقية، ويومئذ لا أكتفي في تكريمكم بألوان الحلوى وأكواب الشاي، وإنما أعقر لكم الذبائح من عرائس الشعر الجميل.
الفصل الثامن
النبي الصبور1
كان أستاذنا سيد علي بن المرصفي رحمه الله مشهورا برقة الدين، والشهرة برقة الدين بلية يرزأ بها النوابغ في الشرق، وقد صحبت ذلك الأستاذ سبع سنين، وكنت في تلك السنين شابا مستقيم الأخلاق، كنت أخاف أن يعديني برقة الدين، فكنت أحترس وأحترس..
ولكن الذي وقع كان أعجب وأغرب، فقد صحبت هذا الشيخ وأنا مسلم ولم أفارقه إلا وأنا مؤمن، فكيف أخذت الإيمان عن ذلك الزنديق؟
كان الشيخ لا يذكر النبي إلا بعبارة: «سيدنا رسول الله».
وكنت أظنه يتهكم أو يتظرف، لكثرة ما سمعت من اتهامه برقة الدين.
ولكن هذه العبارة لم تكن مقصورة على الدرس: فقد كان يقولها كلما ذكر اسم الرسول، وكنت أسمعها منه في البيت وفي الطريق وفي كل مكان ألقاه فيه.
وفي إحدى المرات التي كان يسخر فيها من شيوخ الأزهر - وكان يسخر منهم في كل وقت - في إحدى تلك المرات هجمت عليه، فقلت: ولكن أنت يا أستاذ سرقت من شيوخ الأزهر عبارة: «سيدنا رسول الله».
فقال: أنا لا أقول «سيدنا رسول الله» تقليدا للمشايخ، وإنما أقول ذلك عن ذوق وإحساس، فالنبي محمد هو في قلبي وعقلي «سيدنا رسول الله».
ومنذ تلك اللحظة بدأت أفهم كيف تلصق التهم بالنوابغ زورا وبهتانا. •••
أنا أبغض الإعلان عن إيماني بغضا شديدا، لأني أخشى أن يحسب فريق من بني آدم أني أتزلف إليهم، أخشي أن يحسب المتجرون بالدين أني أحب أن أقاسمهم ما يربحون من خسران!
ولكن ماذا أصنع وصاحب هذه المجلة يخدعه حسن الظن فيثق بإيماني ويدعوني لكتابة كلمة عن سيدنا رسول الله بمناسبة المولد الشريف؟
أعترف كارها بأني مؤمن، وفي سبيلك يا رسول الله أسجل هذا الاعتراف.
ولكن ما هي الشمائل التي تصلني بسيدنا رسول الله؟
إن هذا الرجل عظيم في كل نواحيه، ولكن في شمائله ناحية منسية هي الصبر الجميل.
وخلة الصبر في سيدنا رسول الله أنقذتني من الموت نحو عشرين مرة فقد كانت تمر بي أزمات أعاني فيها من لؤم الناس ما يشوقني إلى الموت، كنت أتسامى إلى الخير ويصدني عنه ما عند الناس من عقوق، كنت أطمح إلى البر ويصرفني عنه ما عند الناس من وجحود، كنت شيخا كسائر المشايخ لا يقدم كلمة النصح إلا لمن يقبل يمناه كنت مخلوقا صغيرا لا يتعب في سبيل الخير إلا إن ضمن الجزاء.
ثم هداني سيدنا رسول الله.
نعم هداني سيدنا رسول الله.
فبفضله عرفت أن الشر عنصر أصيل في حياة الإنسانية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما جاز لهذا الروح الطاهر النبيل أن يقضي حياته كلها في هموم وكروب وأحزان؟
ومن أنا في جانب سيدنا رسول الله؟
لقد كان يزرع البر ويحصد العقوق، فما الذي يمنع من أن أتشبه به فأزرع البر لأحصد العقوق؟
لقد جعل العرب أمة عزيزة بعد أن استذلهم الفرس والرومان ومع ذلك اتهمه فريق منهم بالكذب والافتراء.
وأنا أحاول أن أغني اللغة العربية بحيث ينسى أبناؤها ما يفتنهم من أدب الإنجليز والفرنسيس والألمان والطليان، ومع ذلك أجد من يمضغ لحمي بلا تورع ولا استحياء.
لقد صبر النبي على قومه، فهل أصبر على قومي؟
هنا أتشوف إلى التأسي بسيدنا رسول الله. •••
قلت في صدر هذه الكلمة إن صحبتي للشيخ المرصفي قوت إيماني، ولكن صوت الشيخ المرصفي الذي قرع أذني أول مرة سنة 1913 لا يزال يعاودني، فما أدري كيف اتفق له وهو مؤمن أن يتوجع وهو ينشد قول يحيى بن طالب:
يزهدني في كل خير صنعته
إلى الناس ما جربت من قلة الشكر
وأنا أحب أن أترك هذا الأدب لأتأدب بأخلاق سيدنا رسول الله، أحب أن أتخلق بأخلاق هذا الرجل، فأخدم أعدائي، أحب أن أتطبع بطباع هذا الرجل فأواسي خصومي، أحب أن أكون كالشجرة يخبطها الناس بعنف لتلقي إليهم ثمارها، ثم تعود فتورق وتزهر وتثمر ليعود الأشقياء إلى خبطها من جديد. •••
ولكن كيف السبيل إلى الاقتداء بسيدنا رسول الله؟
في مكتبتي بمصر الجديدة خمس نسخ من المصحف الشريف.
وكان معي في باريس نسخة من المصحف الشريف.
وقد أخطأت نحو نفسي أبشع خطأ حين قدمت بغداد وليس معي نسخة من المصحف الشريف.
ولكن لا بأس فقد استعرت نسخة من المصحف حين قهرتني الهموم في بغداد، وفي هذا المصحف أقرأ هذه الآية:
إنا كفيناك المستهزئين ، فأعرف أن حمايتي في ضمان ربي.
وأقرأ هذه الآية:
ولا تك في ضيق مما يمكرون ، فأعرف أن من واجبي نحو نفسي أن أبتسم، وربما كان هذا من واجبي نحو ربي.
وأقرأ هذه الآية:
فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون
فأفهم أن الحق سينتصر ولو بعد حين، وأحفظ رزانتي وألزم وقاري.
وما أقصد بغداد ولا أهل بغداد، فليس للعراق من وجهة العروبة وجود خاص، وإنما هو عضو من ذلك الجسم الهائل الذي تجتمع به الأمة العربية، وما ألقاه من الشر في العراق قد لا يصدر عن العراق، فالأقطار العربية تتجاذب الخير والشر، والعرف والنكر والرشد والغي، والسهم الذي يصيبني وأنا على ضفاف دجلة قد يكون راميه صديقا يقيم على ضفاف النيل.
سهم أصاب وراميه بذي سلم
من بالعراق لقد أبعدت مرماك
وذو سلم قريب بعض القرب من العراق فكيف يتفق للمقيم على ضفاف النيل أن يصيب من في العراق؟
لقد ترقت وسائط الحرب، فاحترس يا صاح، ثم احترس يا صاح.
أيها القارئ
هل عندك فكرة تخدم بها وطنك؟
هل عندك رأي ترفع به أمتك؟
هل أنت رجل فيه خصائص الرجال؟
أيها القارئ
حدثني من أنت؟ فإن كنت إنسانا تافها فلا خوف عليك، فأسعد المخلوقات هي الأنعام، والجو لا يتسع حق الاتساع لغير الذباب.
وإن كنت من أهل الرأي والأدب والبيان فاسمع نصيحتي.
أسمع نصيحتي بلا ثمن، فأنا كالشمس التي توزع النور بالمجان.
أسمع يا غافل، ثم أسمع يا غافل، أسمع يا جهول، ثم أسمع يا جهول، لن تصل إلى شيء إلا حين تصبر على لؤم من تفكر في هدايتهم كما صبر سيدنا رسول الله.
لن يصل العزاء إلى قلبك إلا حين تذكر تعزية الإله العظيم لنبيه الكريم.
هل تعرف تلك التعزية؟ هي هذه الآية الكريمة:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .
الفصل التاسع
مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث
حضرة الصديق العزيز الأستاذ سامي الكيالي
سألتموني عما أرى في إحياء الأدب القديم، وما أرى في نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية، وهاتان مشكلتان حار في حلهما كثير من المفكرين، وإنما وقعت تلك الحيرة لإنه لا بد للباحث من الرجوع إلى مصادر الأدب القديم ومراجع العلم الحديث.
ويؤلمني أن أصرح بأن العزائم تراخت في هذه الأيام عن إحياء الأدب القديم، ويكفي أن تذكروا ما صنعت مطبعة بولاق بالقاهرة لتعرفوا أنه لم يتفق لأية هيئة علمية أو أدبية أن تصنع ما صنعت تلك المطبعة في بضع سنين، ومن المحزن أن المؤلفين في تاريخ الأدب للمدارس الثانوية يسكتون عن تاريخ تلك المطبعة وتراجم مصححيها سكوتا تاما، ولو وفقهم الله إلى الحديث عنها لرجونا أن يخلق الشوق إلى إحياء الأدب القديم في بعض النفوس.
وما رأيك إذا حدثتك إن الجيل الذي سلف قام بأعباء ستعجز عنها سائر الأجيال، إن لم يرفع الغبار عن بعض ما نعرف من القلوب؟ لقد قام ذلك الجيل بطبع «تاج العروس» فهل تنتظر أن يطبع ذلك المعجم المعجز مرة ثانية؟ لقد قام الجيل السالف بطبع «شرح الإحياء» فهل يخطر ببالك أن ذلك الشرح سيطبع مرة ثانية؟ هيهات هيهات.
إن معجم «لسان العرب» وهو أعظم معجم عرفته اللغة العربية طبعه فيما سلف رجل ثم كان جزاؤه أن يموت تحت أثقال الديون، فهل في أدباء هذا العصر من فكر في كتابة فصل ممتع، أو قصة شائقة، عن حياة ذلك الشهيد؟
وشرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة الذي نشرته مكتبة الحلبي فيما سلف، وكتاب «الأم» الذي ألفه البويطي ونسب خطأ إلى الشافعي ونشره الحسيني، وكتاب «المخصص» لابن سيده، أترى تلك المؤلفات تنشر مرة ثانية على أيدي هذا الجيل الكسلان؟!
هناك فكرة ترمي إلى أن يقوم المجمع اللغوي في مصر بإحياء الأدب القديم، وهذه الفكرة لها خصوم ولها أنصار، فإن انتصرت يوما فسيحيا الأمل في بعث الأدب، أما الجهود الحاضرة، جهود الأدباء الذين ينشرون ما يقدرون على نشره من قديم المؤلفات، فهي جهود مشكورة ولكنها لن تصل بنا إلى ما نريد، وحسبك أن تذكر أن أدباء هذه الأيام لا ينشرون من المؤلفات القديمة إلا ما يعرفون أنه قريب من أذهان المتأدبين لتعرف أن هذا النوع من النشر سيقف عند الكتب التي تكثر فيها الأشعار والأسمار والأحاديث، ثم يعجز عن طبع الكتب العلمية التي لا تجد جمهورا كبيرا من القراء.
وقد جربت هذا بنفسي فأحييت كتاب «زهر الآداب» وأحييت «الرسالة العذراء» أما «زهر الآداب» فقد راج وطبع مرتين، وأما «الرسالة العذراء» فلا تزال نسخها مكدسة في بيتي، ولا أعرف أين أصرفها، لأنها تبحث مسألة أدبية دقيقة لا يهتم بها غير الخواص، والخواص في الأمم العربية لا يحيا بهم كتاب، لأنهم يدعون الإحاطة بكل شيء، وأكثرهم يضن على نفسه بكتاب ثمنه خمسة قروش.
وما جربته بنفسي جربه أكثر المعاصرين، فهم يقفون فيما ينشرون عند الكتب التي يفهمها الجمهور، ويحجمون عن نشر الكتب التي تنفع الخواص.
وهل هناك أعجب من قصة السيد رشيد رضا مع كتاب «دلائل الإعجاز»؟ لقد حدثنا في مقدمة الطبعة الثانية أنه لولا عناية وزارة المعارف لظلت الطبعة الأولى مهجورة لا تعرف غير الصناديق، وكذلك كان حال كتاب «أسرار البلاغة» الذي لم تنفد طبعته الأولى، مع أنه نشر منذ ثلاثين عاما أو تزيد ... فيا صاحب مجلة الحديث تذكر أن الأدب القديم لن يظفر بالحياة إلا أن وجدت له هيئة حكومية تسترخص في سبيله الألوف المؤلفة من الدنانير، وتفرضه على الطلبة، والأساتذة أيضا، إلى أن يخلق الذوق الأدبي الذي يحبب إلى الأفراد قيمة التضحية في هذه السبيل. •••
وأما نقل المؤلفات الأوربية إلى اللغة العربية فلي في شأنه اقتراح قديم أخذت به وزارة المعارف المصرية في عهد الوزير الأسبق محمد حلمي عيسى باشا وألفت لجنة لتنفيذه، ثم سكتت عنه بعد أن فارقها ذلك الوزير. وخلاصة ما اقترحته على الوزارة أن تفرض على كل طالب من أعضاء البعثات أن يترجم إلى اللغة العربية كتابين من أمهات الكتب في العلم الذي يخصص فيه، ثم لا تعد بعثته قد تمت إلا بعد أن يؤدي هذا الواجب، أي لا يمنح ترقية أو علاوة بعد عودته إلا يوم يتضح أنه نقل إلى أمته شيئا من العلم بترجمة كتابين عظيمين.
وكان من فروع هذا الاقتراح أن تقوم الوزارة بطبع تلك المترجمات ثم توزعها على المدرسين والموظفين والمتأدبين بثمن مقبول، وكان من رأيي أن تخصم الحكومة من كل موظف عشرة قروش في كل شهر، ثم تعطيه في مقابل ذلك نحو عشرة كتب في كل عام، وبذلك تفرض الثقافة العلمية على جمهور الموظفين، ثم تنتقل العدوى العلمية إلى أبنائهم وإخوتهم ومن يتصلون بهم من الشباب والكهول .
ولا أزل أعتقد أن هذا الاقتراح سهل التنفيذ، فهل يمكن بعثه مرة ثانية بفضل نشره على صفحات الحديث؟
أرجو إن راقكم هذا الرأي أن تكتبوا في تأييده مرة أو مرتين، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، والسلام.
الفصل العاشر
الأسمار والأحاديث1 في ليالي رمضان
أيها السادة
إن الشوق إلى السمر في رمضان هو شوق قضت به طبيعة الحياة؛ لأن الناس يكادون يمسكون عن الكلام في أيام الصيام من فرط التعب والإعياء، فإذا جاء المغرب وأفطروا رجعت إليهم الحيوية، وتشوفوا إلى مطول الأحاديث، والإنسان حيوان ناطق كما تعرفون، ناطق بالفكر وناطق باللسان، والكلام عند الإنسان هو مادته الأولى من اللهو واللعب وهو مسلاته وملهاته في أكثر الأحايين.
أضيفوا إلى هذا أن الناس يحتاجون في ليالي رمضان إلى انتظار السحور، وهم لا ينتظرونه ساكتين، وإنما يتعاونون على السهر بأطايب الأسمار والأحاديث.
ومن الحق أن نذكر أن الكلام يستعمل أيضا في تزجية أيام الصوم، والتاريخ يحدثنا أن علماء المسلمين كانوا يقطعون أخريات النهار بالجدل والمناظرة في الشؤون الدينية واللغوية، ومن شواهد ذلك ما حدثنا الصاحب بن عباد من أنه كان يرى العلماء يتجادلون في قصر ابن العميد بعد العصر في رمضان، فإذا اقترب المغرب انقلبوا إلى بيوتهم، وكانت هذه الحال مما ضايق ابن عباد، فنذر إن أقبلت عليه الدنيا ليحجزن العلماء إلى ما بعد الفطور، ثم قضى الحظ أن يكون وزيرا فكان العلماء يحضرون عنده بعد العصر في رمضان للجدل والمناظرة، فإذا أذن المؤذن مدت لهم الموائد فأكلوا وشربوا، ثم قضوا السهرة إن شاءوا في السمر والحديث.
ومن قبل ابن العميد وابن عباد كانت المساجد تمتلئ بالناس بعد العصر في رمضان، وكان الواعظون والقصاص يلهون الناس عن متاعب الصوم بفضل ما ينثرون عليهم من العظات والأقاصيص، ولو راجعنا التاريخ لحدثنا عن شواهد ذلك من أخبار المساجد في البصرة والكوفة وبغداد.
ولا تزال هذه السنة متبعة في الديار المصرية، ورحمة الله على الشيخ محمد غريب الذي كان يلهينا ويشجينا بشرح الأحاديث في مسجد سنتريس، ورحمة الله على الشيخ الرفاعي الذي كان يأتي بالعجب وهو يلقي العظات بعد العصر في مسجد سيدنا الحسين.
وكان لعلماء القاهرة سنة مرضية، فقد كان منهم من يذهب إلى المسجد بعد السحور ثم يحدث الناس إلى صلاة الصبح، ولهم في ذلك نوادر يضيق عن سردها هذا الحديث.
ولا أستطيع أن أزعم أني قادر على وصف ما يقع في بغداد من الأسمار والأحاديث في ليالي رمضان، فإني لم أشهد فيها شيئا من هذا النوع، ولا أزال بفضل انقطاعي للدرس وانعزالي عن الناس كالشاعر الذي يقول:
يا أيها السائل عن منزلي
نزلت في الخان على نفسي
آكل من خبزي ومن كسرتي
حتى لقد أوجعني ضرسي
فاسمحوا لي أن أحدثكم عما يقع من ذلك في البلاد التي يرويها النيل، وأكاد أجزم بأن جميع الناس في القرى المصرية يقطعون أمسياتهم في تبادل الزيارات، ولهم في ذلك طرائق لطيفة تتمثل في الوفود التي تنتقل من بيت إلى بيت ومن دوار إلى دوار، والدوار في بلادنا هو المضافة الكبيرة التي يسمر فيها الأهل والأقربون ويتلقون فيها الضيفان.
أما القاهرة فلها أحوال، فقد كانت إلى نهاية الجيل الماضي تعرف التزاور في البيوت، ثم قلت هذه العادة الحسنة رويدا رويدا حتى كادت تتقلص، ولم يبق فيمن أعرف من ينتظر الناس بمنزله في ليالي رمضان إلا العدد القليل.
فمنذ خمسة عشر عاما كان في القاهرة منزل الصوفاني بالحلمية الجديدة، وكانت لذلك المنزل تقاليد، وإنما خصصت ذلك المنزل بالذات لأن رمضانياته كان لها أثر في الحياة السياسية والاجتماعية.
وفي هذه السنين لا أعرف في القاهرة منزلا يحافظ على تلك التقاليد غير منزل عبد الرازق وهو المنزل الذي يعمر اليوم بالأخوين النبيلين علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق، ففي ذلك المنزل تلتقي الوفود في كل مساء، وفيه تجرى أطيب الأسمار وأظرف الأحاديث، وفي ذلك المنزل تلقى من تشاء من الرجال فتحادث الشيخ الزنكلوني ولطفي باشا السيد والدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين.
وهناك منزل في حي السكرية هو منزل القاياتي، وقد خلا من الغطاريف البهاليل، ولم يبق فيه من الخير إلا وجه الشاعر المطبوع السيد حسن القاياتي، ومن طرازه منزل السيد عبد الحميد البكري الذي كان مرجع الصوفية إلى عهد قريب والذي شب فيه صاحب صهاريج اللؤلؤ، نضر الله مثواه. •••
فإن سألتم وأين يلتقي أدباء القاهرة في ليالي رمضان، فإني أخبركم بأن ذلك لا يقع إلا في المقاهي والأندية، ولكل أديب مشهور مقهى خاص، فالشاعر محمد الهراوي ينتظر إخوانه في مقهى لونابارك، واللغوي محمد وحيد الأيوبي ينتظرهم في مشرب السلام، والصحفيون يسمرون في بار اللواء، وكذلك تهجر البيوت وتوصل المقاهي في ليالي رمضان.
ولكن من العدل أن ننص على أن تلك المقاهي سيكون لها تأثير عميق في الأدب الحديث، وهل يمكن تناسي صولات الجدل في قهوات شارع عماد الدين؟ هل يمكن أن نتناسى قهوة ريجينا حيث يسمر الممثلون والفانون والصحفيون؟ هل يمكن أن نتناسى بار اللواء وفي أجوائه رنت أصوات محمد هلال ومنصور فهمي ومحجوب ثابت وحفني محمود ومحمد خالد وأنطوان الجميل وداود بركات؟
إن تلك المقاهي خليقة بأن تعد في طليعة الأسواق الأدبية التي تذكر بالمربد وعكاظ، وهي بفضل من تعرف من الكتاب والخطباء والشعراء والفنانين والمفكرين خليقة بالبقاء، ففيها تجري الطرائف من أطايب الأسمار والأحاديث، وفيها تحيا فنون الأدب الرفيع.
وما يصح أن توصف به مقاهي القاهرة ينطبق تمام الانطباق على مقاهي الإسكندرية، فهناك القهوة التجارية التي يسمر فيها أدباء الثغر على ذلك الشاطئ الجميل.
ولأسمار الإسكندرية لون خاص، فشعراء الإسكندرية هم اليوم يتفردون بإحياء فن الدعابة الأدبية، وهي دعابة طريفة يتفق لها في أحيان قليلة أن تقارب الهجاء، وليالي الإسكندرية لها في أنفس القاهريين مكان، ومنهم من يرحل إلى هناك ليقضي ليلة أو ليلتين في الاستماع إلى محاورات الأساتذة عبد اللطيف النشار وعتمان حلمي وعلي البحراوي وخليل شيبوب ولا سيما بعد أن انتقل الدكتور أبو شادي إلى شاطئهم الساحر فأهدى إليه مادة نفيسة من الجدل العنيف.
هنالك أيها السادة يقع الشعراء بعضهم في بعض، ويتقارضون الهجو في المحضر والمغيب بألسنة عذاب فصاح، ومن شمائل أولئك الشعراء صدق العطف على أدباء القاهرة فهم يلقونهم بالترحيب ويمتعونهم بأطايب السمك وأطايب الحديث.
ولا بد من الإشارة إلى أن لسمار القهوة التجارية في الإسكندرية أشباها في القاهرة، هم السمار الذين يعرفون لجنة الترجمة والنشر والتأليف، حيث تطيب النكتة على ألسنة أحمد أمين وعبد الحميد العبادي ومحمد عوض، وحيث ترهف الآذان من أمثال الأساتذة أحمد زكي وأحمد حسن الزيات.
ولسمار الإسكندرية أشباه غير هؤلاء، وهم سكان البعكوكة الأرضية بدار الكتب المصرية، حيث يلتقي الأساتذة محمد الهراوي وأحمد رامي وأحمد الزين وعبد الله حبيب.
ولكن هذه البعكوكة نهارية، فياليت شعري كيف يصنعون في رمضان. •••
أما الأندية الأدبية فهي منثورة في مختلف الحواضر المصرية، وأشهرها جمعيات الشبان المسلمين، وأندية الموظفين، وهي مختلفة الألوان فمنها ما يخوض في شؤون المجتمع، ومنها ما يخوض في شؤون الأدب ومنها ما يشرح أصول الدين، وفيها تيارات اجتماعية وسياسية يصعب الكلام عليها في هذا الحديث، ويكفي أن نذكر أن حياتها الليلية تعتمد على السمر الطريف، وتهتم في الأغلب بسماع المحاضرات أو الإقبال على ما ينشر المذياع من أغان وأحاديث. •••
بقى أن نشير إلى الجرائد الهزلية في مصر، فلها لون طريف في أيام رمضان.
لقد كان من عادة الناس في مصر أن يختصوا هذا الشهر بنوع من الحلوى اسمه قمر الدين، وهو دائما مادة الفكاهة في الجرائد الهزلية، وقد اتفق مرة أن أرسل أحد الموظفين هدية إلى حضرة صاحب العزة عوض بك إبراهيم وكيل وزارة المعارف، فعدها رشوة وأبلغ الأمر إلى النيابة، فكتب الأستاذ حسين شفيق المصري يقول: إن هذه من أقوى دلائل النزاهة في عوض بك إبراهيم، ولا سيما إذا تذكرنا أن الهدية كانت في رمضان وأنها من قمر الدين.
ونشرت إحدى الجرائد عن رجل مشهور أنه تناول الغذاء في القناطر الخيرية، وكان ذلك في رمضان، فكتب أحد الأدباء في تأنيبه يقول: ألم تسمع أننا في رمضان؟ ألم تسمع وحوي وحوي أيوحه؟ ألم يطبخوا في بيتكم قمر الدين؟
ولكن قمر الدين - مع طلعته البهية - تقلصت دولته، وحلت محله الكنافة، على وجهها أزكى التحيات، فمن شاء منكم أن يزور مصر فليكن ذلك في رمضان، ليمتع عينيه بمنظر الكنافة، فلها وجه خمري جميل.
وقد يكون من الفكاهة أن أحدثكم أن الكنافة تقوم في مصر بعمل قومي جليل، فإخواننا المسيحيون يدعون كثيرا لتناول الكنافة مع إخوانهم المسلمين في رمضان، وأكثرهم يتوهم أن جنة المسلمين ستكون مملوءة بالكنافة، وأنا لذلك أرجو أن يهديهم الله جميعا للإسلام فيجتمعوا على الكنافة هنا وهناك.
سيداتي وسادتي
تلكم كلمة موجزة عن أسمار رمضان، فإن راقتكم فبها ونعمت وإن لم ترقكم فاعذروني، فقد فارقت في مصر أصدقاء أعزاء منهم السيدة كنافة والسيد قمر الدين، والمرء حين يبعد عن أعزائه تفارقه بلاغة القلم وفصاحة اللسان.
الفصل الحادي عشر
من صديق إلى صديق
أخي الأستاذ مدحت عاصم
أتذكر المثل القديم: واحدة بواحدة جزاء.
أنت تذكر هذا المثل ولا ريب، فلتعرف أني سأجزيك مفاجأة بمفاجأة، وكلمة مفاجأة كلمة جافية، ولكنهم اصطلحوا عليها لتؤدي معنى الكلمة الفرنسية “Surprise”
تلك الكلمة اللطيفة التي كنت أجد فيها أطيب الجزاء على ما أقدم من الهدايا لمعشوقاتي في باريس.
والمفاجأة هي أن تكون أول قارئ لهذا الخطاب في جريدة الصباح، لأن محطة الإذاعة هي أول من يقرأ جريدة الصباح، وهل نسيت يا شيطان يوم كنتم ترسلون من يترقبها في ميدان الأزهار لتطلعوا قبل سائر الناس على ما يقال فيكم؟ وهل نسيت أنكم مع ذلك لم تنتفعوا أبدا بما يوجه الناقدون إليكم؟ وهل نسيت أنكم هجرتموني هجرا غير جميل لأني أغرمت بتعقبكم في جريدة البلاغ؟
المفاجأة هي أن تقرأ خطابا لم تكن تنتظره على صفحات الصباح، وذلك هو الجزاء على المفاجأة التي روعتني بها في بغداد.
وأشهد أني كنت أترقب كل خيال، وأتشوف إلى كل وهم، وأنتظر كل مستحيل، إلا أن أتلقى في بغداد خطابا من الفنان مدحت عاصم، أخي وصديقي ومولاي.
وإنما كان الأمر كذلك لأني نفضت منك يدي منذ أعوام طوال، واليوم من هجرك كألف سنة مما تعدون.
نفضت يدي منك لأنك طغيت وتمردت، ونسيت ما قضينا من الأسمار في الليالي السود والبيض، حين كان أهلك الأكرمون لا يعرفون السبيل إلى قلبك المتمرد إلا بشفاعة الدكتور زكي مبارك أشرف صديق عرفه أهلك فأحبوه، واطمأنت إلى مروءته تلك السيدة النبيلة وذلك السيد النبيل، وأنت تعرف من أعني.
وفي خطابك عبارات لا يقولها إلا رجل في مثل كرمك ونبلك، فاسمح لي أن أسجل بطريقة علنية أن روحي كان له تأثير قوي في الفن القهار الذي تذيعه أنامل الفنان مدحت عاصم، فليس من القليل أن يكون لروحي فضل على فنان مثلك، وإني لأعرف أنني أدخلت البهجة والأريحية على العصر الذي ظهرت فيه، ولكنني لن أجد من يذكر فضلي غير آحاد، وأنت أولئك الآحاد.
فهل أستطيع أن أطمئن إلى أنك لا تبدأ ألحانك بمحطة الإذاعة قبيل منتصف الليل إلا لأن سهراتنا الوجدانية كانت لا تبتدئ إلا قبيل منتصف الليل؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أني أخطر ببالك حين تمزج دموعك بألحانك؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أني كنت مصدر الوحي لأكثر ما تذيع من الألحان؟
هل أستطيع أن أطمئن إلى أننا سنسمر مرة واحدة بعد الألف في ذلك المنزل الجميل؟
مدحت، أفي الحق أنك رجعت إلى منزل الأهل؟ أفي الحق أنك شبعت من الشطط والجموح ورجعت إلى ذلك المنزل الجميل الذي كانت تظلنا ظلماؤه في غفوات الليل؟
إنك تذكر في خطابك أنك رجعت إلى تلك الحديقة، فهل هذا صحيح؟
وهل تذكر - يا جاحد - تلك الحديقة؟
هل تذكر كيف كنت أرجوك أن تطفئ الأنوار لنتمتع بظلام الليل؟
لقد آن الأوان لأحدثك عن السبب، فقد كان يسرني أن تلعب أناملك على العود في الظلمات لأخفي عنك دموعي، دموع الوجد الذي يثيره فنك المطلول.
ثم جدت أحداث وخطوب نسيتك فيها ونسيتني، إن كان النسيان يجوز على قلب مثل قلبي، ولعل الأستاذ حسن السندوبي - الأديب الساخر - لا يزال يذكر أنني أتعبت قدميه في ليلة شاتية لنصل إلى منزلك، وما وجدناك، وقد ظل يسخر مني زمنا غير قليل ، ولعله لا يزال يسخر من سذاجتي إلى اليوم.
مدحت، لقد بدا لك أن تقارن بين فني وبين فنك، فني في البيان وفنك في الألحان، وأنت ترى أنني اجترفت ما وقف في طريقي من حواجز وأسداد، فاسمح لي أن أسجل أنني لم أنتصر وحدي، وإنما انتصرت معك، فأنت أيضا من المنتصرين على ما تدعيه لنفسك من الخمول، وهل من القليل أن يبقى مكانك في محطة الإذاعة بضع سنين وهي أخطر وكر من أوكار الدسائس؟ إن إخوانك - وأنا منهم - أحجموا عن مناصرتك فمضيت تشق طريقك بيديك، وسيذكر عالم الفن، إن كانت له ذاكرة، أنك كنت في طليعة النوابغ.
مدحت، لك في عنقي ديون، فقد أوحيت إلى قلبي كثيرا من المعاني، ولكني سأجزيك خير الجزاء حين أقدم إليك المذكرات الطريقة التي خطتها يمناك في التشوق إلى أخيك.
وبعد، فهل أستطيع أن أسألك عن حال الصديق السخيف الذي يسمونه الموسيقار محمد عبد الوهاب؟ هل أستطيع أن أسألك ما حاله في دنيا غرامه الأثيم؟
لقد نسى هذا الصديق السخيف فضلي عليه، ونسى موقفنا فوق بحيرة أنجان، ونسى أيامنا في باريس وهو يخرج الوردة البيضاء، ونسى القصيدة التي نظمتها فيه وأنا في القطار من باريس إلى ليون، ويظن هذا الصديق السخيف أن كسب المال أفضل من كسب القلوب، تبت يداه، ما أشقاه!
هل أستطيع أن أسأل عن صحة المغنية «حياة محمد» التي وعدتها فأخلفتها وما وعدتني فأخلفتني؟ هل أستطيع أن أسأل عن رباعي العقاد؟ هل أستطيع أن أسأل عن الفتاة التي تلقى محاضراتها عندكم بصوت أرق من بغام الظباء؟
مدحت، حدثني عن لحيتك - لعنها الله - ألا تزال في صحبتك؟ والأستاذ سعيد بك لطفي كيف حاله؟ وعزيز رفعت، وعلي خليل، والصديق الغادر عبد الحميد الحديدي، كيف حال هؤلاء الأعزاء؟ وشارع علوي أين يقع؟ وبار اللواء أين يكون؟ وخلدون أين يجلس؟ وحفني محمود أين يلعب؟ والشناوي أين يغرد؟ وجبريل أين يمزح؟ وهيكل أين يؤمن؟ وطه حسين أين يشك ويرتاب؟
أراني اشتقت إليكم، وأقسم ما قادني الشوق إلا إلى ناس هم مثال الغدر والجحود والعقوق.
الفصل الثاني عشر
صورة آمال ...
صديقي رئيس تحرير البلاد
تفضلتم فطلبتم مني صورة العشماوي بك وصورة كريمته آمال وأستطيع أن أمن عليكم فأقول إن وقتي لم يكن يتسع لطلب هاتين الصورتين، فإني مشغول جدا، ويكفي أن تعرفوا أني أشغل مطبعتين من كبريات المطابع في بغداد، ولكني صحفي قديم، صحفي يعرف حقوق الزملاء، ويرى من واجبه أن يعينهم على حقوق صاحبة الجلالة كلما دعاه الواجب، وأنا أقدم إليكم صورة العشماوي بك، أما كريمته آمال فقد رفضت إعطاء صورتها بقوة وعنف، ودعاها أبوها إلى مطاوعتي فلم تجب، وتلطف فقال لها إن الدكتور زكي مبارك مصري كبير تجب طاعته فلم تطع، وأصرت على أنها فتاة لا ترضى عن نشر صورتها في الجرائد، ولو دعاها إلى ذلك ألف رجل من أمثال الدكتور زكي مبارك، فما رأيك يا صديقي إذا قدمت إليك من تلك الفتاة صورة قلمية هي أدق وأصدق من الصورة الشمسية، لتعرف أن الأدباء لا يسلم من «خيرهم» مخلوق؟
أنا أعرف أنها ستغتاظ، ولكن ماذا يضيرني من ذلك؟ هل تستطيع إفساد ما بيني وبين أبيها؟ هيهات! هل يضيع الحظ السعيد في امتلاك منطقة من قلبها الخفاق، وكيف وهي لا تزال طفلة وأنا أؤمن بأن المرأة لا تستطيع أن تنقل القلب من مكان إلى مكان إلا بعد الثلاثين؟
هاك، يا صديقي، صورة الآنسة آمال
فتاة غريرة بكلية الحقوق، لها وجه أسمر يشهد بأن السمرة قد تكون أكثر جاذبية من البياض، ولها لسان عذب يرشحها لأن تكون أفصح الفتيات، ولها فم يضمن كنزا ثمينا، ففيه ثنايا لؤلؤية قليلة الأمثال، وبالرغم مني أن أصرح بأني لا أملك التغزل بتلك الثنايا اللؤلؤية؛ لأن والد تلك الفتاة من أساتذتي، وللأساتذة على تلاميذهم حقوق، وإن كنت لا أدري كيف يكون التغزل من المحرمات.
والآنسة آمال على جانب عظيم من الذكاء، وما يسرني أن أشهد لها بذلك، ولكني مصور أمين.
وهي تجلس على المائدة في المكان الذي يقابل مكان أبيها فلا تدري لمن الصدر : أهو للأستاذ العشماوي أم للآنسة آمال!
ولو كان أبوها من أهل الغطرسة لقلت: إن المقادير تنتقم منه فتحكم فيه طفلة لا تملك غير صباحة الوجه وسلامة الذوق وقوة الذكاء، ولكنه رجل يمثل الأدب وطيبة القلب، فكيف جاز أن تتحكم فيه تلك الطفلة السمراء؟
ومن خصائص تلك الفتاة أنها تحب أباها حبا شديدا، ولكن محبتها إياه تتمثل في التمرد والعصيان، فهل تدرك بفطرتها أنه كان من عبيد الجمال في صباه؟
ولهذه الطفلة التي أبغضها غرام عجيب بتعقب آثار الكتاب والشعراء والمؤلفين، وقد أرغمتني سامحها الله على أن أقدم إليها جميع الجرائد العراقية، فتكلفت في ذلك ما تكلفت، وكنت أحسب أني سأشغلها يوما أو يومين ثم هالني أن تستوعب ذلك المحصول كله في نصف ساعة، وأن ترهقني في بقية السهرة بنقد صحافة العراق.
والآنسة آمال نحيفة جدا، وربما كان السبب في ذلك أنها قضت أربعا وعشرين ساعة في طريقها من الشام إلى العراق فسرقت نحافة الجسم من غزلان الصحراء.
والعجيب من أمر هذه الآنسة أن تكون من أعضاء المؤتمر الطبي، فهل رأيتم أغرب من ذلك؟
فماذا تريد أن تصنع؟ هل تشترك في الطب للأكباد والقلوب؟
أحب أن أعرف ماذا تصنع هذه الفتاة في المؤتمر الطبي وقد كوت كبدي، كوته بالغيظ لا بالحب، فلست من المجانين حتى تفتنني فتاة لا تملك غير قوة الذكاء وحلاوة الحديث، وإن شهدت ملامحها بأنها ستكون من غرائب الجمال.
أما بعد، فقد آذتني تلك الآنسة أعنف إيذاء، حين رفضت أن تعطيني صورتها، فلتعرف الآن أني أكرم منها وأسمح لأني أقدم إليها صورتها بلا ثمن، وكل ما أرجوه أن تغتابني في حضرة أبيها، لأني أحب أن أذكر عنده ولو بملام.
آمال، آمال
لا تغضبي ولا تعتبي، فلن تفرغي من دروسك العالية في كلية الحقوق ولن تبلغي مبالغ النساء حتى يكون اسمي «بابا زكي» وأنا منذ اليوم «بابا» له زوجة وخمسة أبناء.
فيا أيتها الفتاة الغالية، ويا قرة العين لرجل هو أكرم أساتذتي وأعز أصدقائي، تذكريني حين تعودين إلى الجامعة المصرية، تذكري أني أحب أن أقبل تلك الجدران، وأني أتشهي أن أكحل عيني بتراب الجيزة والزمالك، تذكري يا آمال أن الدمع يفيض من عيني كلما تذكرت أن لي طفلة لها وجه مثل وجهك الجذاب، ولها جبين مثل جبينك المشرق، وفي شمائلها عناد مثل عنادك المحبوب، تذكري أيتها الفتاة أنني رأيت وجه مصر الغالية حين رأيت وجهك الغالي، تذكري أنني عذرت أباك حين رأيته يعطيك طاعة المحب لمن يحب، فلي أبناء كنت عند هواهم في جميع الأحوال.
اعذريني أيتها الآنسة النبيلة إذا قدمت صورتك لجريدة عراقية فمن الخير للمرء أو المرأة أن يذكر ولو بالشر في أرض العراق حفظك الله لوالديك، ورعى إخوتك الأعزاء، والسلام.
الفصل الثالث عشر
دروس الأدب في المعاهد العالية
المعروف أن المعاهد العالية للتخصص: فهذا معهد يخرج الأطباء، وذاك معهد يخرج الرياضيين والمهندسين، وذلك معهد يخرج رجال الأدب أو رجال التشريع.
والتخصص من مزايا هذا الزمان، ومن آفات هذا الزمان. هو من المزايا لأنه يقصر طوائف من الناس على طوائف من العلوم، فنعرف إلى من نتوجه ومع من نتحدث فيذهب من يشكو الرمد إلى طبيب العيون، ويمضي مهيض الساق إلى الجراح، ويتوجه الممعود إلى الطبيب المختص بالأمراض الباطنية، وكذلك يفعل من تحرجه معضلة هندسية، أو مشكلة قانونية.
وهو من الآفات لأنه يورث الناس ضيق الذهن، وفقر العقل وخمود الإحساس، فالمهندس لا يرى من واجبه أبدا أن يفكر في تهذيب ذوقه بالنظر في بعض المؤلفات الأدبية أو الفنية، والمشرع لا يرى من واجبه أبدا أن يحرص على تثقيف عقله بالنظر في بعض المصنفات الرياضية أو الطبية، والأديب يرى أنه لم يخلق إلا لدرس آثار الشعراء والكتاب والوقوف على ألوان الأساليب.
وقد انتهز المتخصصون فرصة الغفلة الفاشية في هذا العهد فأعفوا أنفسهم من كل ما يعود بالنفع على الذهن والعقل والذوق، فصار الأديب يجالس الطبيب فلا يحس أنه يخاطب رجلا من أهل هذه الأرض، وإنما يخاطب مخلوقا من سكان المريخ، وصار أستاذ الأدب ينكر على طلابه أن يوجهوا إليه سؤالا في مشكلة نحوية أو صرفية، لأنه فيما يزعم غير مسئول عن علوم المبرد والكسائي وسيبويه، وإنما هو رجل تخصص في درس آثار الكتاب والشعراء والخطباء، وصار المحامي أو القاضي لا يسوءه أن يجهل الأوليات من المسائل الأدبية أو العلمية. •••
ذلك تصوير لمزايا التخصص ومساويه، وتصوير لأحوال المتخصصين في هذا الزمان.
وأقول بصراحة إني ثائر على التخصص الذي يصل بأصحابه إلى ذلك الحد من ضيق العقل، وقد حملت على هذا الضرب من التخصص أعنف الحرب، وكلفت نفسي ما تطيق وفوق ما تطيق في الطواف بعلوم كثيرة كان لها أثر ظاهر فيما أخرجت من المؤلفات الأدبية والفلسفية، وأحب أن يكون طلاب العلم والأدب في هذا الزمن من الثائرين على الإسراف في فهم التخصص ومن المقبلين على المشاركة في جميع الفنون، وإليهم يساق البيان:
كان أقطاب العلماء في الزمن القديم يجهلون التخصص، أعني أنهم لهم يكونوا يقصدون إليه قصدا، وإنما كانوا ينتهون إليه وفقا لوحي الفطرة والطبع، فالعلماء الخالدون من أمثال أرسطاطاليس وأفلاطون وابن سينا والفارابي وابن رشد والجاحظ وابن خلدون والقلقشندي ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش، هؤلاء العلماء في التاريخ القديم والمتوسط والحديث لم يكونوا يعرفون التخصص، وإنما كانوا يفهمون أن من واجبهم أن يطلعوا على ما يمكن الإطلاع عليه من المعارف الإنسانية.
ولا يجهل أحد أن أمثال أولئك العلماء كانوا على جانب عظيم من التفوق والبصر بحقائق الحياة.
وقد أشرت إلى أنهم انتهوا إلى التخصص بوحي الفطرة والطبع ولم يسمحوا لأذهانهم وعقولهم بأن تنصرف عمدا عما تتطلع إليه الأذهان والعقول، فكان لثقافتهم الواسعة أثر فيما تخصصوا فيه، وكان اطلاعهم الشامل يفتح لهم فيما تخصصوا فيه أبوابا للبراعة والسبق والتفوق.
وهل يستطيع المتحذلقون من شبان اليوم أن يفقهوا كيف كانت ثقافة ديكارت وباسكال؟
وهل فيهم من يدرك كيف كانت ثقافة سبنسر أو كيف كانت معارف أناطول فرانس؟
وما أدعو إليه اليوم كنا حاولناه مرة في الجامعة المصرية، ثم أخفقنا بفضل الحذلقة التي تغلب على شبان هذه الأيام، فقد كان تقرر أن لا يدخل الطالب كلية الحقوق إلا بعد أن يمضي سنتين في كلية الآداب، وأن لا يدخل الطالب كلية الطب إلا بعد أن يمضي سنة في كلية العلوم، وسارت الجامعة المصرية على هذا النظام أعواما قليلة، ظهر أثرها في طوائف من المحامين والأطباء، ثم أسرف الطلبة في الصرخ فأعفتهم الجامعة، من ذلك النظام المفيد، ومن الواضح أن ذلك النظام كان في جوهره حربا على الإسراف في فهم التخصص، فقد كانت الجامعة تفهم أن طالب الحقوق لا يمكن أن يبرع في فهم أسرار القوانين إلا إن أمضى سنتين في كلية الآداب يدرس فيهما علوم اللغة العربية وعلم النفس وعلم الأخلاق ويتعمق بعض التعمق في اللغات الحية وفي الجغرافيا والتاريخ.
وكانت الجامعة تفهم أن طالب الطب لا يعتمد عليه إلا إن أمضى سنة في كلية العلوم يدرس فيها الطبيعة والكيمياء والرياضة درس الفهم والتثبت ليكون في المستقبل من الأطباء العلماء. •••
ونحن اليوم نحاول أن نضع للحياة العلمية في العراق أصولا من التقاليد الصالحات، فهل ترون من الخير أن نحقق ما عجزت عن تحقيقه الجامعة المصرية؟
ما الذي يمنع من ذلك؟ أفي الحق أن وزارة المعارف العراقية قد تلاين الطلبة كما صنعت وزارة المعارف المصرية؟
ولكن إلى أن يتحقق ذلك الغرض المنشود أرى أن يفرض درس الأدب العربي على جميع الطلاب في المعاهد العالية، وإليكم موجبات هذا الاقتراح:
أولا:
نحن في العراق نحاول جهد الطاقة أن نعيد مجد الأسلاف في حيواتهم العلمية والأدبية والفلسفية، وكان أسلافنا جميعا معروفين بالتفوق في اللغة العربية، فما كان فيهم طبيب ولا مهندس ولا مشرع إلا وله آثار نظمية ونثرية تشهد ببراعته في الأدب والبيان.
ثانيا:
نحن نحاول نقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية، وهذا يوجب أن يكون الرياضيون والمهندسون والمشرعون والأطباء قادرين أتم القدرة على التعبير باللغة العربية تعبيرا يذكر بابن سينا وابن رشد وابن البيطار والغزالي والكمال بن الهمام وإمام الحرمين.
ثالثا:
سيكون أكثر أبنائنا من شبان العراق مدرسين في المدارس الثانوية والمعاهد العالية، وهؤلاء لا مفر لهم من أن يشعروا تلاميذهم بأنهم يتكلمون لغتهم العلمية، كما يتكلم المدرسون الأوروبيون لغتهم العلمية.
رابعا:
سيكون أكثر أبنائنا من شبان العراق مسئولين عن تثقيف الجمهور، وهذا الجمهور لغته العربية، وهو في بعض أحواله يفهم لغته بأدق مما يفهمها المتحذلقون من شبان هذا الزمان. •••
أما بعد، فإنه من العيب أن يقع ما عبته مرة على أستاذ مصري ألف كتابا في علم النفس فكانت مراجعه كلها إنجليزية، ولم يشر مرة واحدة إلى رسائل إخوان الصفاء، مع أن في تلك الرسائل كثيرا من أمهات المسائل في علم النفس وعلم الأخلاق.
ومن العيب أن يقع ما سمعت من أن مكتبة كلية الحقوق في بغداد ليس فيها نسخة من شرح فتح القدير على الهداية، ومن العيب أن يستغرب بعض الطلبة في دار المعلمين العالية أن أكلفه درس مسألة فقهية، مع أن الفقه جانب من الأدب يصور مشكلات المجتمع في الحواضر الإسلامية.
ومن هذا يرى القراء أن أفق الأدب أوسع مما يظنون، وأنه واجب كل الوجوب في تثقيف جميع الطلاب.
الفصل الرابع عشر
الفن المصري في العراق
صديقي
أقدم إليك أصدق التحيات، وأذكر بالحمد الجزيل تلك التحية النبيلة يوم حضرت ومعك جميع الأساتذة المحررين بالصباح لتوديعي بمحطة القاهرة يوم الرحيل إلى العراق.
وبعد، فقد كان في النية أن أحدثكم عن معركة أدبية أثارتها مجلة الصباح في بيروت، ولكني اليوم أسارع فأحدثكم عن الفن المصري في العراق، وأؤجل الحديث عن تلك المعركة إلى حين.
وأرجو ألا تدهش حين تراني أتحدث عن الفن المصري بروح العطف، فقد علمتني الغربة أشياء كثيرة، أهمها: التلطف في الحديث عن المواطنين الأعزاء، وهل تصدق أن اسم الدكتور طه حسين لا يجري على لساني في بغداد إلا معطرا بأطيب آيات الثناء؟ هل تصدق أني أقول في بغداد إن الدكتور طه حسين أديب عظيم وإنه دان الأدب العربي أثقل الدين؟
ذلك أدب تعلمته في الاغتراب، فقد رأيت أن الرجل الكريم لا يليق به أن يذكر مواطنيه وهو غريب إلا بالخير، ولا ينبغي له أن يتحدث عن قومه بغير الثناء.
وأعود فأقول: إن أغاني أم كلثوم هي اليوم أجمل زاد يتزود به أهل الوجدان في العراق ، فحيثما حللت، وحيثما تلفت، سمعت صوت أم كلثوم، فهذه المطربة المصرية هي في هذه الأيام الريحانة الندية التي تشتاقها الأرواح والقلوب في جميع أرجاء العراق.
وقد جلسنا نسمر منذ ليال مع الأستاذ فؤاد جميل سكرتير الإذاعة بوزارة المعارف فقال:
سنفاجئكم بعد ليلتين بأعجوبة ترتاح لها النفوس والأذواق!
فقلت: وما عسى أن تكون تلك المفاجأة يا صاح؟
فقال: ستكون السهرة كلها في إذاعة أغاني نشيد الأمل للآنسة أم كلثوم.
وكان خبرا سارا فرح به السامرون. •••
فإن سألتم: وما هي الأغاني الكلثومية التي يطرب لها العراقيون في هذه الأيام؟
فإنا نجيب بأن لأم كلثوم صوتين يذاعان مرات كثيرة في كل يوم، أما الصوت الأول فهو الدور المحبوب: «على بلد المحبوب وديني».
وهذا الدور صار من الأدوار الشعبية في العراق، فهو على ألسنة الفتيان والفتيات وعلى ألسنة الصناع والتلاميذ، وهو ملهاة الشباب والكهول في بغداد، فإذا رأيت ناسا متجمهرين أمام قهوة أو سينما أو مرقص فاعلم أنهم لم يتجمعوا هناك إلا لأن أم كلثوم تقول في صوت ناعم حزين:
يا مسافر على بحر النيل
أنا ليه في مصر خليل
من حبه ما بنام الليل
أما الصوت الثاني فهو دور «إفرح يا قلبي».
وأهل العراق يعجبون بهذه المعاني:
أقطف معاه زهر الحياة
ما دام هواك وافق هواه
وأنا أيضا معجب بهذه المعاني، ولكن أين الأحباب؟ وأين أصفياء الروح الحزين؟ •••
أنتقل بعد هذا إلى لون آخر من الفن المصري وهو الفن السينمائي، ففي هذه الأيام تعرض في سينما الحمراء رواية المجد الخالد وهو الفيلم الناطق الذي أخرجه الممثل يوسف وهبي، فهل تصدقون أن هذا الشريط أسر مشاعر البغداديين؟ وهل تصدقون أن فيهم من يقترح على الحكومة المصرية أن تخرج منه نسخة أوروبية على نفقاتها ثم تذيعه في العالمين ليرى أهل المشارق والمغارب كيف يؤمن الناس بالوطنية في أرض الفراعين؟
وقد نشرت جريدة البلاد مقالا لكاتب اسمه إبراهيم المعروف قال فيه:
عرضت أمس هذه الرواية الطريفة، السامية المعنى، وبالرغم من سعة الصالة فقد غصت بالمتفرجين من كافة الطبقات، فبلغ الازدحام أشده، وكنت ترى الجماهير الغفيرة تزدحم على أبواب الحمراء من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، أما موضوع الرواية فلا أريد أن أتحدث عنه، إذ يكفي أن تكون هذه الرواية من تأليف نابغة التمثيل العظيم الأستاذ يوسف وهبي، ولا إخال أحدا يجهل هذه الشخصية الفذة التي تجتمع فيها كافة عناصر الفن والعبقرية الخالدة ... فنشكر إدارة الحمراء كل الشكر لجلبها أمثال هذا الفيلم الرائع الذي يمكن الاستفادة منه لما فيه من العظات والعبرة والدروس الوطنية العالية.
تلك كلمة قصيرة عن الفن المصري في العراق، سنتبعها بأمثالها كلما لاحت فرصة، والسلام.
الفصل الخامس عشر
زكي مبارك في لبنان
صديقي
تحيتي إليك وإلي شارع الهرم ومصر الجديدة والزمالك وشارع فؤاد.
وبعد، فقد كانت جريدة المكشوف نشرت كلمة طيبة تحت عنوان «الدكتور زكي مبارك في طريقه إلى العراق» ثم لخصها الكاتب المفضال الذي يحرر الصفحة الأدبية والاجتماعية في الصباح، ولكن ظهر أن تلخيص تلك الكلمة لم يرض كاتبها الأول فاندفع يهجم على الصباح وعلى الدكتور زكي مبارك في جريدة المكشوف بأسلوب غير مقبول.
فاسمحوا لي وأنا محور هذا الجدل أن أزن المسألة بميزانها الصحيح فأقول:
لم تكن ظروفي في مصر تشجعني على السفر إلى العراق فقد كنت شرعت في طبع كتاب «التصوف الإسلامي»، ولكن أصدقائي في مصر خوفوني عواقب الرفض، وقالوا: إن خصومك سيزعمون أنك غير صادق في الدعوة إلى الأخوة العربية، فهاج في نفسي غرام العروبة وأجبت الرغبة النبيلة التي أعلنتها الحكومة العراقية، ونظرت فرأيت زملائي من الأساتذة المصريين ينوون الوصول إلى العراق من أقرب طريق؛ فأبيت مرافقتهم وصممت على المرور بالبقاع الكريمة: فلسطين، وسورية، ولبنان.
ولما نزلت بيروت قضى الحظ السعيد أن أرى أديبين فاضلين هما روحي فيصل وأحمد شلبي، فلقيت منهما كرما لا يستغرب من أهل لبنان، ثم مضيت فسلمت على من استطعت التسليم عليه من رجال القلم والبيان.
وما كدت أقضي أسبوعا واحدا في بغداد حتى تلقيت نسخة من جريدة المكشوف وفيها كلمة طيبة عن الدكتور زكي مبارك ، وفي ذيلها عنوان الكاتب الأديب، ومضت أسابيع وجاء عيد الفطر فجاءتني تحية كريمة من ذلك الكاتب، فأخذت أستعد لكتابة خطاب أشكر له فيه ذلك الفضل الذي لا يستغرب من أهل لبنان، وقبل أن أضع الخطاب في صندوق البريد، تلقيت نسخة جديدة من جريدة الكشوف فرأيت ذلك الكاتب نفسه يهجوني ويهجو مجلة الصباح، مع أنه تلقاني في بيروت على غير معرفة سابقة بأحسن آيات الترحيب.
والآن أسأل نفسي: أفي الحق أن الذين يهجونني في لبنان هم أنفسهم الذين أكرموني في لبنان؟ وهل فسدت الدنيا إلى هذا الحد فينتقل المرء من الصداقة إلى العداوة في أسبوعين؟
أفي الحق أن المودة في لبنان مودة عابرة كسحابة الصيف؟ أفي الحق أن الأديب الذي تلقاني مرحبا في جريدة المكشوف هو نفسه الذي نشر الهجوم على زكي مبارك ومجلة الرسالة ومجلة الصباح؟
اسمع يا صديقي
إن هذه التقلبات تغزو قلوبنا بالحسرة على ما صارت إليه آداب الناس في البلاد العربية، ولكن لا تحزن ولا تجزع، فأولئك الناس لا يمثلون البلاد العربية، وإنما يمثلون أشخاصهم الفانية، وقد لقيت في بغداد رجالا كادوا ينسونني وطني وأهلي، وذلك الكاتب نفسه يعترف بأن الصباح له في بيروت قراء مدمنون، والإدمان على قراءة المجلات المصرية هو في ذاته تمجيد للبلاد المصرية.
اسمع يا صديقي
إن مصر تنفق ألوف الدنانير في كل أسبوع لنشر اللغة العربية فهي تتحمل تضحيات في سبيل العروبة يعرفها كرام الرجال، فلم يبق إلا المغرم الهين وهو أن نحتمل الأذى في هذه السبيل.
وأنا بالرغم من كل ما حدث أذكر الذين لقيتهم في لبنان بكل جميل، رعاية لعواطف صادقة عانيت في سبيلها ما عانيت، ورعاية لإخوان أعزاء يسوءهم ألا أكون من المحبين لذلك البلد الجميل، والسلام عليهم وعليك من ضيف العراق.
الفصل السادس عشر
الجامعة العراقية
لقد آن للمفكرين في العراق أن يسألوا أنفسهم عما صنعوا في سبيل الجامعة العراقية، فإني أخشى أن يطول أمد التريث والتسويف فتمر أعوام وأعوام قبل أن يتحقق هذا المشروع الجليل.
ولقد يكون عجيبا أن يوجد ناس يحتاجون إلى من يقنعهم بوجوب إنشاء جامعة في بغداد، فهذا أمر كان يثير الجدل في مصر منذ خمس وثلاثين سنة، ومعاذ الأدب أن يثور الجدل حوله في العراق بعد أن تمتع بالاستقلال.
ولكن الأعجب أن لا تجد هذه الحقيقة على وضوحها من يتحمس لها تحمسا قويا فينقلها من عالم الفكر إلى عالم الوجود.
الأعجب هو أن يصبر ناس على حرمان بغداد من حظ أدبي تتمتع به جميع العواصم في العصر الحديث.
قد تقولون إن الجامعة العراقية موجودة بالفعل، بدليل ما في بغداد من المعاهد العالية، وأنا لا أنكر ذلك، ولكني أؤكد أن الصورة التي أنشدها تختلف عن الصورة الموجودة أشد الاختلاف وإليكم البيان:
عندنا مثلا دار المعلمين العالية، وهي معهد عال بالتأكيد، ولكن شخصيتها ستقوى وتستفحل حين تصبح كلية من كليات الجامعة العراقية، وستصبح أيضا في أمان من التقلبات، فلا تكون مرهونة بإعداد من نحتاج إلى إعدادهم من المدرسين فتفتح مرة وتغلق مرة وفقا للظروف، وإنما تظل كلية ثابتة تجاهد في سبيل الآداب والعلوم والفنون.
وستتغير أيضا نفسيات الطلاب، فلن يكونوا كالطلبة الذين نعرف وتعرفون، لن يكون همهم أن يصاحبونا ثلاث سنين محدودة المواقيت ليظفروا بمناصب التدريس في المدارس الثانوية، ثم يذهب نشاطهم العقلي فلا يكون فيهم باحثون ومؤلفون.
نريد إنشاء الجامعة العراقية لتغيير هذه النفسيات، فقد أصبح من الواجب أن يفهم أبناؤنا أن التعليم العالي ترخص في سبيله السنون الطوال، أصبح من الواجب أن نفهم جميعا أنه لا مفر من أن يكون عندنا مئات من الشبان المثقفين ثقافة عميقة بحيث نستطيع أن ننتفع وننفع بتبادل الأساتذة مع كبار الجامعات.
في العراق اليوم عدد من الرجال الذين كونوا أنفسهم، ولكن هؤلاء في الأغلب يشغلون مناصب إدارية تحول بينهم وبين الانقطاع للتدريس والتأليف، وهم قد نشأوا في جيل غير هذا الجيل، نشأوا في زمان يعرف قيمة اللذة العقلية، ولن يسمح الدهر بوجود نظائرهم مرة ثانية؛ لأن المغانم المادية صارت أكبر ما يتطلع إليه شبان هذا الزمان.
فلا بد من التفكير الجدي في تهيئة جو جديد تتنفس فيه المطامع العلمية والأدبية، لا بد من فتح آفاق جديدة تتنسم هواءها عزائم الشبان الذين يسرهم أن يكونوا من أقطاب العلم والبيان.
إن العراق لا ينبغي له أن يصبر طويلا على القناعة العقلية التي يعيش في ظلالها شبان هذه الأيام، إن العراق سيتذكر دائما أنه كان في طليعة الأمم التي أحيت العلوم والآداب والفنون، وسيطالب أبناءه بأن يرفعوا رايته بين رايات الأمم التي تواجه العصر الحديث بما هو أهله من القوة والطرافة في المذاهب والآراء.
ولكن كيف ننشئ الجامعة العراقية لنحسن إنشاء الجيل الجديد؟ يخيل إلي أننا لن نواجه المصاعب التي واجهتها مصر حين أنشأت الجامعة المصرية، فقد كان الجمهور في مصر سنة 1906 ينقسم إلى فريقين يقال لأحدهما أمة ولثانيهما حكومة، وكانت حكومات تلك العهود تراعي ذوق الاحتلال، والاحتلال لم يكن يسره أن يكون في مصر جامعة، وكان يخشى أن تنشأ طوائف من المزودين بالثقافة العالية، وهذا الصنف من الشبان يكون شوكة تخز الاحتلال.
وقد فطن الفريق الذي يمثل الأمة إلى هذه الحقيقة فأعلن يأسه من الحكومة، ودعا الجمهور إلى الاكتتاب العام لإنشاء جامعة مصرية، فلم تمض غير أشهر معدودات حتى صارت فكرة الجامعة المصرية حقيقة واقعية تلمسها الأيدي وتراها العيون.
وقد أتعب المحتلون أنفسهم في حرب الجامعة المصرية، وتقولوا عليها الأقاويل، ولكن الجامعة ظلت تكافح حتى انتصرت وعاد خصومها بغنيمة القنوط.
فهل حالنا اليوم في العراق كحال إخواننا المصريين في سنة 1906؟ ليس في العراق اليوم فريق يقال له أمة وفريق يقال له حكومة، وإنما هو كتلة واحدة بحيث يستوي الحاكم والمحكوم في التسابق إلى خدمة البلاد.
معنى هذا الكلام أيها القراء: أننا ننتظر أن تكون الحكومة هي القوة التي تنتظر منها المبادرة إلى إنشاء الجامعة العراقية، وستكون الحكومة بمعونة الله عند ظنكم الجميل.
ولكني أرجو أن تسارع الأمة إلى معاونة الحكومة، أرجو أن يكون للنواب والأعيان وكبار الملاك والتجار والموسرين يد مشكورة في تأسيس الجامعة العراقية، أرجو أن يمد الجمهور يده الكريمة لينفخ في هذا المشروع روح الحياة فإنه يحتاج إلى كثير من الأموال.
وإني لموقن بأن في أرجاء العراق نفوسا تتطلع إلى المجد، وهذه فرصة نفيسة يجب اغتنامها، فليس من القليل أن تسجل أسماء المتبرعين في كتاب ذهبي يصبح على الزمن من أشرف وثائق التاريخ.
والجمهور الذي أدعوه إلى الاكتتاب لإنشاء الجامعة العراقية يدخل فيه الوزراء والموظفون، لأنهم لا يمثلون الحكومة إلا في دوائرهم ومكاتبهم، وهم بعد ذلك من صميم الشعب الذي وثق فيهم وأسند إليهم القيام بجلائل الأعمال.
فما رأيكم فيما أقترح أيها الصحفيون؟
ما رأيكم فيمن يدعوكم لنصرة الوطن الغالي، الوطن الذي تعود منكم البر والوفاء، الوطن الذي يعرف أن الصحافة هي قلبه النابض ولسانه المبين؟
هل أرجو أن يكون للصحافة الفضل الأول في إنشاء الجامعة العراقية؟
هل أرجو أن تدعوا الجمهور إلى الاكتتاب العام بحيث تستطيع الحكومة أن تبني للجامعة دارا عالية الشرفات تذكر بدار الجامعة المصرية؟
أيها الصحفيون الشرفاء
أنا لا أطالبكم بعمل مرهق، وإنما أرجوكم أن تشغلوا أقلامكم بهذه القضية شهرين اثنين، فإن فعلتم - وستفعلون - فستضعون الأساس للمنافسات العلمية والأدبية والتشريعية بين جامعة القاهرة وجامعة بغداد، وقد آن أن يعرف الجمهور أن المنافسة العلمية هي السناد الوحيد الذي تنهض به المعارف العربية.
أيها الزملاء
تذكروا أن الجامعات ليست من أعمال الحكومات وإنما هي من أعمال الشعوب، فادعوا قراءكم وجماهيركم إلى تقديم الهبات والأوقاف لمشروع الجامعة العرقية، حتى يقال إن الأمة سبقت الحكومة، فإن الحكومات لا تسبق الأمم إلا في عصور الضعف، ومعاذ الله أن يكون أهل العراق من الضعفاء.
أيها الزملاء
أدعوكم إلى المبادرة لمناصرة هذا المشروع الجليل، وأتشرف بتقديم خمسة دنانير تكون فاتحة مباركة إن شاء الله لقوائم الاكتتاب.
أيها الزملاء
هناك تردد في إنشاء الجامعة؛ لأن ناسا يقولون بوجوب التفكير في تعميم التعليم الابتدائي قبل إنشاء الجامعة، وأقول بصراحة إن الأمم لا ترقى بفضل انعدام الأمية وشيوع القراءة والكتابة، وإنما ترقى الأمم حين توجد فيها صفوة ممتازة تتفوق في العلوم والآداب والفنون ، وكيف يمكن أن يكون انعدام الأمية هو الشاهد على تقدم الشعوب ونحن نعرف أن هناك ملايين يقرؤون ويكتبون ثم تمر الأعوام وهم غافلون لا يطلعون على شيء؟
إنما تنهض الشعوب حين يكون فيها مئات لا ملايين يسايرون روح التقدم في الشرق والغرب ويقودون بلادهم إلى التفوق والسبق في الميادين العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الغرض من هذا الاكتتاب هو بناء دار الجامعة العراقية، ليشعر الشعب بأنه استطاع أن يقيم شاهدا على صلاحيته لحياة الفكر والعبقرية ويومئذ لا ترى الحكومة بدا من استصدار مرسوم ملكي بإنشاء الجامعة وتكوين ما يحتاج إليه العراق من مختلف الكليات.
أيها الزملاء
إن العراق يفيض بالشعر، ولكن هناك قصيدة نحب أن نسمعها في العراق، قصيدة كالتي سمعها أهل مصر منذ أكثر من ثلاثين عاما، حين تقدمت الأميرة فاطمة هانم إسماعيل فخلعت جمع حليها وقدمتها هدية لبناء الجامعة المصرية، ومن المؤكد أنكم ستجدون في العراق قصائد من هذا النوع، ستجدون نبيلات يقدمن حليهن لبناء الجامعة العراقية، وستجدون من أعيان الألوية رجالا كرماء يزينون صدر بغداد بدار عظيمة تكون ملاذ العقول في عاصمة الرشيد.
الفصل السابع عشر
أخت بغداد والأستاذ محمود عزمي
صديقي
نشرت مجلة الدنيا كلمة طريفة عن إصابة الأستاذ محمود عزمي بأخت بغداد، وأخت بغداد الظريفة اللطيفة هي قرحة تترك بالجسم وسما ظريفا لطيفا يتميز به أهل العراق.
وقد شاء صديقنا الأستاذ طاهر الطناحي أن يداعبني في كلمته الطريفة، فقال: «وبقى دور صديقنا الدكتور زكي مبارك، ولا بد أن يكون له نصيب إن شاء الله من «أخت بغداد» وأغلب ظني أن لدغته لن تكون إلا من أنثى، لأنه شاعر وله شهرة في الغزل بالجنس اللطيف تحبب هذا الجنس فيه ولو كان من البعوض».
ولكن إصابة الأستاذ محمود عزمي بأخت بغداد لها تاريخ يستحق التسجيل، وإليكم البيان:
كان طلبة كلية الحقوق في بغداد أقاموا حفلة تكريم للكشافة السورية، وفي تلك الحفلة ألقيت خطبة، فلما وقف الأستاذ عزمي ليلقى كلمة الختام نوه بخصائص الحفلة فقال: «وتمتاز هذه الحفلة بأنها أول حفلة للشباب اندس فيها خطيب كهل هو الدكتور زكي مبارك».
فحقدت عليه، وانتظرت الفرصة للانتقام، وأنا فيما يظهر رجل حقود!
وبعد أسابيع أقام لي أفاضل الأدباء في بغداد حفلة تكريم، وشاء كرم الأستاذ عزمي أن يشرفني بخطبة يلقيها في ذلك الاحتفال، ورأيت الفرصة قد سنحت للانتقام منه بلباقة سحرية، فقلت ما معناه: «أرجو أن يعذرني أهل العراق إذا عجزت عن الوصول إلى قلوبهم على نحو ما صنع الأساتذة المصريون، فهم أوفر مني علما وأدبا، وفيهم رجل سبقني إلى الدنيا بأكثر من خمسين عاما، وهو الأستاذ محمود عزمي».
وفي اليوم التالي نشرت خطبتي بجريدة البلاد، وصدق أهل العراق أن الدكتور عزمي يكبرني بخمسين عاما، ولم يروا في هذا ما يوجب الاستغراب؛ لأن الدكتور عزمي أشهر مني، وأقدم مني، وأنا أستاذ وهو عميد.
وبعد أيام من ذلك التاريخ كنا مدعوين لتناول الشاي عند سعادة الأستاذ ساطع الحصري وكان في المجلس معالي الأستاذ رستم حيدر، وجرت بيني وبين الأستاذ عزمي مناقشة قلت فيها بترفق: من واجبي يا سعادة الأستاذ أن أتلطف معك رعاية لسنك! وكانت دعابة ثقيلة توجع منها معالي الأستاذ رستم حيدر، لأنه من سن الأستاذ عزمي. •••
ثم شاءت المقادير أن تلوح الفرصة التي ينتقم بها الأستاذ عزمي فقد أصيبت رقبته بأخت بغداد، وأخت بغداد مرض لا يصاب به غالبا إلا الشبان، فمضى يقول في الأندية والمجالس: إن إصابتي بأخت بغداد هي الدليل على شبابي، وما أظن الدكتور زكي مبارك يصاب بها لأنه كهل.
واليوم أضع الأمر في نصابه فأقول: إن الأستاذ عزمي يغالط، ويغالط، ثم يغالط.
هو يعرف أني أصبت بأخت بغداد منذ أول يوم تنسمت فيه هواء بغداد، فإن كان يجهل ذلك فليتذكر أنني ابتليت بهوى ليلي المريضة في العراق.
الفصل الثامن عشر
شاعرية زكي مبارك
يا سيد فؤاد
ما هذا الذي تصنع؟
إني لا أزال أبحث عن لحظة فراغ لأنقض تعليقاتك على مقالتي الماضية، وسترى كيف أرجع إليك رجعة السيل، فإن عندي كلمة قاسية لا يجرؤ على كتابتها رجل غيري ولا يجرؤ على نشرها رجل غيرك.
وأبادر الآن بهدم ما نشرتموه لأحد الأدباء من الاستخفاف بشاعرية زكي مبارك، وما كان يهمني أن أهدم ما بنى ذلك الأديب فمثلي يحب أن تكون للناشئين أوهام وأحلام، ولكني خشيت أن يصدق القراء كل ما ينشر في مجلة «المكشوف» وقد وقع ما خشيت فنقلت ما نشرتم جريدة «الرأي العام» في بغداد.
والطريف في هذه القضية أن تنشروا أكثر من خمس مقالات في الرد على الآنسة نجلا عبد المسيح لأنها وقعت في أكبر خطيئة حين قررت أن رأيها في الدكتور زكي مبارك لا ينقض بسهولة!
وكان الظن بأدبكم أن لا تشجعوا القراء على مناوشة تلك الفتاة فالدكتور زكي مبارك هو صاحب كتاب «النثر الفني» الذي لم تعرف مثله اللغة العربية، لا في القديم ولا في الحديث، ولا تؤاخذني يا سيد فؤاد، فلست بالرجل المغرور، وسيأتي يوم تنظر فيه كتاب «النثر الفني» وتعرف أن الدكتور زكي مبارك دان اللغة العربية بذلك الكتاب، وعند الله جزائي.
لا تؤاخذني - يا سيد فؤاد - فإني أشعر بالألم اللاذع حين يجيء كاتب من كتابكم فيسميني «أمير الشعر والبيان» على طريق السخرية ولو كنت سلكت المسالك التي تعرفون لكنت اليوم من أقطاب الوزراء واسترحت من إمارة الشعر والبيان.
وأنا والله غير نادم على ما اخترت لنفسي من مذاهب الحياة، ولكنني أعاني مضاضة اللوعة كلما تذكرت أن جهودي في خدمة الأدب العربي لم تجد من يحفظ الجميل.
أترك هذه الشجون وأدخل في لباب الموضوع فأقول: إن الناقد اعترض على التسمية الفرنسية للديوان لأني سميته (Poèmes Erotiques) .
ولو كان درس علم البيان في حداثته أو في صباه لعرف كيف يندرج الجزء في الكل، واكتفي بهذه الإشارة راجيا أن يعود «فيذاكر» علم البيان.
ثم وقف حضرته عند قول زكي مبارك:
أطوف بالحسن تصبيني بدائعه
كما يطوف معنى القلب بالدمن
فلا تثير مغانيه ونضرته
في ظل ذكراك غير الهم والحزن
فقال: إن الدمن هي المزابل.
وأنا يا سيد فؤاد لم أكن أعرف أن الدمنة هي المزبلة ، وهل كانت كذلك في قول صاحب المعلقة المشهورة:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
هل كانت الدمن هي المزابل في قول الشريف الرضي:
دع من دموعك بعد البين للدمن
غدا لدارهم واليوم للظعن
وهل كانت الدمن هي المزابل في قول أبي نواس:
لمن دمن تزداد طيب نسيم
على طول ما أقوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهم حتى كأنما
لبسن على الإقواء ثوب نعيم
وهل كانت الدمنة هي المزبلة في قول ابن سنان الخفاجي:
خليلي قد عم الأسى وتقاسمت
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
ولا نفس إلا لوعة وزفيرها
أنا يا سيدي شاعر، رضيتم أم كرهتم، والدمنة في كلام الشعراء الحضريين والبدويين هي الدار العافية، فاسألوا عن صنعة ذلك الناقد لتعرفوا كيف جاز له أن يسمي الدمن مزابل، وما أحب أن أزيد.
ثم ماذا؟ ثم اعترض حضرته على قول زكي مبارك:
لولا مثالك في باريس ألمحه
في طلعة البدر أو في نضرة الفنن
ما صافح النوم أجفاني ولا احتملت
جوانحي ما أثار البين من شجن
واستغرب أن يكون للعاشق عزاء في الأقمار والأفنان.
ويظهر أن هذا الأديب الناشئ لم يطلع على كتاب «مدامع العشاق» ولو كان اطلع عليه لعرف أن الشعراء يتعللون بالأوهام وأن جحدرا يقول:
أليس الليل يجمع أم عمرو
وإيانا فذاك لنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه
ويعلوها النهار كما علاني
وعجب حضرته من أن أقول:
نسيتم العهد واسترحتم
من لوعة الحافظ الأمين
وقال: «لله ما أبشع هذه الميم في مخاطبة الحبيب».
ولو كان حضرته اطلع على كتاب «مدامع العشاق» لرأى أن هذه الميم تقبلها أبو صخر الهذلي وهو يخاطب محبوبته فيقول:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
ولو شئت لقدمت إليه ألف شاهد من هذا النوع.
ثم ماذا؟ ثم رماني بالسرقة لأني قلت :
أحبك يا ظلوم ولا أبالي
أأكرم في غرامك أم أهان
فإن بخل الزمان بكم علينا
فصبرا للذي صنع الزمان
ورأى أني أخذت هذا المعنى من قول عنترة:
أحبك يا ظلوم فأنت مني
مكان الروح من جسد الجبان
مع أن المعنى مختلف تمام الاختلاف، وهل تكون السرقة لأني اشتركت مع عنترة في عبارة «أحبك يا ظلوم»؟
إن كان هذا صحيحا فما رأي هذا الناقد المبتدئ فيما قيل من أن عند العرب أربعمائة قصيدة تبتدئ بعبارة «بانت سعاد»؟
ثم عجب حضرته من أن أقول:
لقد أسرفت في حبي
كذلك يفعل الصب
نعم عجب من أن يحاسب الشاعر نفسه على الإسراف في الحب كأن الشاعر يحرم عليه أن يرجع على نفسه بعتاب أو ملام.
وتأذى حضرته من كلمة «كذلك» فهل تسمحون بأن أقترح عليكم أن تبيعوا ما يملك هذا الناقد من حاسة الذوق؟ إنه يملك موهبة لو بعتموها لأغنتكم عن مصايف لبنان.
ثم ماذا؟ ثم أتعب نفسه في فهم هذه القطعة:
يا طفلة الحسناء
والدرة العصماء
ما طرفك النعسان
وخدك الفتان
إلا بقايا الأم
ذات اللثات الحم •••
أشبهتها في الدل
وجفنها المعتل
وردفها الثقيل
وخصرها النحيل
فاستوصفيها الحبا
واستودعيها الربا
فقد تناهى العمر
ونال منها الدهر •••
يا زهرة في العين
ونغمة في الأذن
وطفلة في المنظر
وغادة في المخبر
لا مسك الغرام
فإنه ظلام
أتعب الناقد نفسه في فهم هذه القطعة ولم يفهمها، وما أحسبه سيفهمها إلا بعد سنين، ولو كانت المصادر تحت يدي لأريته كيف فهمها كبار النقاد من أمثال الأستاذ عبد الكريم الكرمي أديب فلسطين.
وقد أراد حضرته أن يقارن بين هذه القطعة وبين قطعة قالها شاعر لبناني في المهجر، والموضوع مختلف ولكن الناقد لا يعرف، فطفلة المهاجر اللبناني كانت بنت ثلاث سنين، أما الطفلة التي قلت فيها قصيدتي فكانت في سن حضرة الناقد حرسه الله، فإن تفكيره يشهد بأنه ابن عشر سنين!
وبعد فماذا تريد، يا سيد فؤاد؟
أنت بين أمرين:
الأول:
أن تكون سيء النية، وهذا ما أستبعده كل الاستبعاد.
والثاني:
أن تريد أن أكون محررا في مجلة «المكشوف» بالمجان.
وأنا والله مستعد لمعاونتك فقد شقيت بالقلم كما شقيت، وأنا شديد العطف على أصحاب الصحف والمجلات وأسميهم «شهداء الأقلام» على وزن «شهداء الغرام» كتب الله لك السلامة والعافية ونجاني من مغالطاتك.
وقد نسيت أن أنص على اسم الأديب الذي نقد ديواني في «المكشوف» فلأذكر أن اسمه حليم كنعان ولو كان جنى على نفسه كما جنيت على نفسي حين قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية حتى ظفرت بإجازة الدكتوراه ثلاث مرات لسميته الدكتور حليم كنعان، ولكنه سخر من أن أكون «دكتورا» فليكن من واجبي أن أدعو الله أن يرحمه ما عاش من خطر الألقاب فقد كانت سبب بلائي.
والسلام عليكم، وعلى بيروت أيضا. •••
قرأت ملاحظتكم على الكتاب الذي شرعت في تأليفه عن (المجتمع العراقي) وابتسمت حين رأيتكم تعجبون ممن يحكم على الحياة العراقية بعد خمسة أشهر في بغداد.
ابتسمت لأنكم صدقتم من حكم على أدب زكي مبارك، مع أنه لم يصاحبه في بيروت غير لحظات قصيرة ضاعت بين التسليمات والتحيات.
وقديما قيل: واحدة بواحدة جزاء.
إذا كان الشاعر إلياس أبو شبكه عندكم فسلموا عليه.
وحدثني أحد أعضاء المؤتمر الطبي أن بعض المجلات في لبنان تغتابني، فإن كان ذلك صحيحا فإني أعتمد على مروءتكم في إرسال ما يكتب عني لأصحح ما فيه من أخطاء، فقد أكون في ذات نفسي برئيا مما يفترى الظالمون.
أراني الله وجوه أنصاري وخصومي بخير وعافية، والسلام.
الفصل التاسع عشر
غريب الهوى في عيد القمر
أتذكر يا قلبي؟
أتذكر أن من الناس من يقول: (عيد الأضحى)، وأن منهم من يقول: (العيد الكبير)، وأن أهل سنتريس يقولون: (عيد القمر) كأنما عز عليهم أن يبقى القمر بلا عيد؟
ليت شعري أظل أهلي وأهلك يسمونه عيد القمر، أم تغيرت من بعدنا الأسماء؟
كان لي أهل، وكان لك أهل، يا قلبي.
أما أهلي فبخير، وإن كنت أتوجع كلما ذكرت أن أولئك الأهل خلا ناديهم من وجه أبي، وكان لك أهل يا قلبي، ولكن أخبارهم غابت عني منذ أزمان، فإن كانت عندك أخبار فحدثني عنهم، فما أحب لك أن تعيش في دنياك عيش الغريب .
لا تكتم عني شيئا يا قلبي، فما لك في الدنيا آس سواى، أما رأيت كيف كانت أحاديث الناس في هذا المساء؟ فما لقيني أحد من أعضاء المؤتمر الطبي إلا سألني عن صحة ليلى، وما أذكر أبدا أن أحدا سألني عنك! وكذلك جاز أن يسأل الناس عن صحة القاتل ويسكتوا عن فجيعة المقتول، والويل كل الويل للمغلوب. •••
إن ليالي الأعياد ترجعني إليك يا قلبي.
فهل تذكر يوم كنا طفلين، حين كان من المألوف أن يزور الناس المقابر وفي أيديهم المصابيح؟ وهل تذكر أننا سألنا مرة عن الحكمة في حمل المصابيح في الليلة المقمرة، ليلة عيد القمر؟ فكان الجواب أن الأموات يأنسون بالأضواء!
فهل تسمح بأن أحمل مصباحا في هذه الليلة، وأخرج معك لزيارة المدفون من أوطارك وأحلامك؟ ولكن أين المقابر التي دفنت فيها أوطارك وأحلامك حتى أونسها بضوء المصباح؟ أين؟! لا أين، فإني أخشى أن تكون المقادير صنعت بأحلامك ما يصنع البحر بما يدفن فيه من سرائر القلوب.
حدثني أين دفنت أحلامك، فإني أعرف أنك قليل البخت في دنياك، ولو كان لك بخت لما جاز أن تبيت مشرد الأماني في ليلة عيد.
قلبي، قلبي!
يرحم الله غربتك بين القلوب.
قلبي!
أتذكر ما صنعت في سبيلك؟
لقد فررت بك من سعير الحب في القاهرة، ونقلتك إلى بغداد - دار السلام - فهل كانت بغداد يا قلبي دار السلام؟ أم كان اسمها من أسماء الأضداد؟
لقد تجهمت أبشع التجهم حين وقع البصر عليها أول مرة، واستقبلتني بوجه يتطاير منه شرر القسوة والوعورة، فقلت: لا بأس، فهي هدنة يستجم فيها قلبي، ليقوى على مناضلة العيون حين يرجع إلى القاهرة، ولكنك استوحشت وأخذت تفتش عن «عيون المها بين الرصافة والجسر» وقد انخدعت لك فتركتك ترود مراتع الغزلان وأنا آمن، فقد كنت سمعت أن بغداد لم يبق فيها للحب سامر ولا أنيس، ثم وقعت الواقعة، وأسرتك عيون المها بعد أسبوعين اثنين من قدومنا بغداد.
قلبي!
لقد كان يعز علي أن تخرج من بغداد بلا هوى، فمن الفضيحة لبغداد أن لا تكون فيها عيون ترمي فتصيب، ولكني ما كنت أحب أن أحملك جريحا محطما إلى الأنامل الرقاق التي تعبت في تضميد جروحك بين مصر الجديدة والزمالك، وما كان يخطر بالبال أن تكون دار السلام دار حرب، وأن تتألب ظباؤها على قلب أعزل كان يرجو أن لا يعرف البلاء وهو ضيف العراق.
من كان يظن أن هذه المدينة الجافية التي لا تعرف غير وصل النهار بالليل في سبيل الرزق أو المجد، من كان يظن أن مثل هذه المدينة تعيش فيها مباسم وعيون لا تتقي الله في الناس؟ من كان يظن أن ينعدم كرم الضيافة في بغداد حتى يستبيح ظباؤها انتياش قلب غير لا يملك من وسائل الدفاع غير الأنين؟
أهذا جزاء الصنع الجميل في بغداد؟
أهذا جزاء من يملأ الصحف العربية بالثناء على العراق؟
سيعود ناس إلى أوطانهم صحاح القلوب، وأعود إلى وطني بقلب ممزق لم تبق منه غير أطياف من الأشلاء.
بغداد!
لقد كاد يسفر الصبح ولم تغف عيناي، أكذلك تكون ليالي الأعياد، يا بغداد؟ ليتني أعرف أين يقيم اللصوص الذين سرقوا النوم من جفوني، ليتني أعرف أين يقيم أولئك اللصوص فأنتقم منهم أشنع انتقام بتقبيل جفونهم في غفوات الليل.
بغداد!
خذي من نومي ما تشائين، بل خذي من دمي ما تشائين، فلن أنسى ما حييت تلك المؤامرة الوجدانية، مؤامرة العيون، عيون المها، على قتلي، فإن من الشرف أن يكون المرء قتيل المها في بغداد.
إي والله! هذا الصبح يتنفس وما غفت عيناي، فهل تعرف الظباء التي كانت تعترض طريقي لتصرعني أنني لا أزال بين الأحياء؟
أنا أدعوها إلى مناضلتي مرة ثانية، وموعدنا بهو أمانة العاصمة يوم الأربعاء.
أحبابي في مصر الجديدة والزمالك
ناموا هانئين وادعين، وانهبوا ما شئتم من أحلام الأماني؛ فسأغفر لكم جريمة النسيان والعقوق.
أحبابي في بغداد!
تذكروا أن الشاعر لم يعن أحدا غيري حين قال:
وكل محب قد سلا، غير أنني
غريب الهوى، ياويح كل غريب
الفصل العشرون
إلى ليلى المريضة في الزمالك
سيدتي
أقدم إلى قلبك النبيل أطيب التحيات وأشرف العواطف، وأشكر لك تلك الكلمة الرقيقة التي خطتها أناملك اللطاف على صفحات الصباح، فقد شرحت بها صدري وأقنعتني بأن مصر لا تزال بحمد الله معدن الذوق.
وهذه الغمزة موجهة إلى الشخص الذي تعرفين، الشخص الذي اسمه محمد ... والذي اطمأن إلى غيبتي عن مصر فأخذ يشطح وينطح على هواه، والذي اطمأن إلى أني رجل تقتله الشواغل العلمية في بغداد بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه لو أراد، فهو يصول وحده ويجول.
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
ومن الغرائب أن يستعين بالدكتور سعيد عبده وأن يحتال في تأليب الأدباء على طبيب ليلى المريضة في العراق.
ولو كان خصما واحدا لاتقيته
ولكنه خصم وثان وثالث
ولكن لا بأس ففي يدي قلم أحد من السيف أؤدب به هؤلاء «الخناشير» وسوف تعلمين.
وأعود إليك يا سيدتي فأقول:
إن همك كله انصرف إلى إقناعي بأنك موجودة، وأنني زرتك بالفعل مع محمد وسعيد، ولكنك لم تذكري العنوان لأعرف بالضبط من تكونين، فقد اشتغلت بطب القلوب سنين عددا، وتشرفت بعيادة نحو سبعين مليحة من ملاح الزمالك، ويسرني أن أسجل أني كنت دائما بلسما شافيا، وأن البهجة كانت تحل حيث حللت، وأن الأفراح كانت تقام في الأفئدة والقلوب حيث توجهت فيا سيدتي، من أنت في أولئك الملاح؟ فقد تكونين أجمل من عرفت، وأشرف من عرفت، وأكون نسيت.
وهل يستحيل النسيان على رجل مثلي؟ لقد عشت دهري أتقرب إلى الله بتدليل الملاح، ولا أدري ماذا أنفقت من مالي ومن شبابي، وكل ما أذكر من تفاصيل الحساب أنني كنت فتى كريما فلم أعرف الخيانة ولا الغدر ولا النميمة، ولو شئت لقلت إنني لم أعص الله قط، ولكن من يصدقني؟ وهل من معصية الله أن نتغنى بالوسامة والصباحة والجمال؟
ومعاذ الأدب أن أقول إنني رجل صالح، فالرجل الصالح هو الذي لا يؤذي أحدا أبدا، وأنا قد آذيت الأدباء، لعنة الله عليهم، ولكن يعزيني أنني راعيت الأدب مع الله فلم أقدم أية إساءة إلى وجه جميل، أما الأدباء فهم شياطين ودمهم مباح.
سيدتي
من أنت؟ ذكريني فقد نسيت.
أتكونين تلك الإنسانة التي جلست معي على الشاطئ في ليلة مقمرة وأعلنت أنها لا تثق بأمانتي ثم بكت وانصرفت؟ أتكونين تلك الإنسانة التي عبرت معي النيل في زورق ولامتني على عدم العناية بهندامي؟
أتكونين تلك الإنسانة التي كانت تداعبني مداعبة ثقيلة فتثنى على الدكتور طه حسين؟
أتكونين تلك الإنسانة التي كان وجهها يتدفق بالنور حين تراني، ثم ترفض أن أقبل يديها لنجرب كيف يكون أنس الروح بالروح؟
أتكونين تلك الإنسانة التي لطمتني بكتاب مدامع العشاق ثم داسته بقدميها لأعرف أني عاشق خائن لا يفهم آداب المحبين؟
أتكونين تلك الإنسانة التي عملت أني مدين فقدمت لي حليها لأسدد بها ديوني؟
أتكونين تلك الإنسانة الغادرة التي انتظرتها ساعة عند محطة الحمامات بمصر الجديدة لأتزود منها بنظرة قبل رحيلي إلى العراق ولم تحضر، واكتفت السفيهة ببرقية تهنئني بها على الوصول سالما إلى بغداد؟
من أنت يا سيدتي؟ من أنت؟
ذكريني فقد نسيت، ولو شئت لقلت إنني رجل أراد أن يحرس الجمال فأضاعه الجمال.
وهنا أنتقل من الرفق إلى العتاب.
أفي الحق أنه يجوز لك أن تقولي إن ليلى المريضة في العراق امرأة أجنبية، وأن غرامي بها إيثار للأجنبيات على المصريات؟
لا، يا سيدتي، فهذه نزعة خبيثة تنافي أدب العروبة، فالمرأة العراقية شقيقة المرأة المصرية، وستمر أجيال قبل أن تسدد مصر ديونها للعراق.
تعالي إلى بغداد أسبوعا أو أسبوعين لتسمعي صوت مصر في العراق، تعالي وانظري كيف يكرمنا أهل هذه البلاد، تعالي وانظري كيف أحبس نفسي في بيتي فرارا من الكرم والجود، فما دخلت مقهى ولا ملهى ولا مطعما إلا وجدت حسابي مدفوعا بدون أن أعرف من الذي دفع، حتى أصبحت لا أدري أين أتوجه، والماء العذب يهجر للإفراط في الخصر، كما يقول أبو العلاء.
لقد آن يا سيدتي أن تعرفي أن المرأة العراقية كلها روح، كلها قلب، كلها فؤاد.
المرأة العراقية هي كما تقول في مصر «ربة بيت » وحنانها مصدر الثروة لزوجها وأبنائها، والتبرج الممقوت لا يعرفه نساء العراق، وليس في بغداد شارع واحد تتبذل فيه المرأة، كما يقع واأسفاه في بعض شوارع القاهرة، وإنما يعيش أهل بغداد متجملين، فلا ينقلهم الحب القاهر إلى الخروج على شريف الآداب.
لا تذكري المرأة العراقية إلا بالخير يا سيدتي، وتذكري أن للمرأة العراقية أحسابا وأنسابا، وأنها تكرم نفسها عن التبذل في المشارب والملاعب والمراقص، وتؤثر أن تظل دائما مصباح البيت.
سيدتي
قلت لك إنني انتقلت من الترفق إلى العتاب, فعلى أي قاعدة من قواعد الذوق جاز لك أن تقولي إنني فارقت شبابي؟
اسألي عن أهلي يا سيدتي لتعرفي أني من قوم تشيب نواصيهم ولا تشيب أبدانهم ولا قلوبهم.
ومعاذ الأدب والذوق أن أنبهك إلى خطأ ستندمين عليه يوم أعود.
ولكن متى أعود؟
اشتقت إلى الضلال في الزمالك.
اشتقت إلى المنزل الذي لم تسدل ستائره على قلب أشرف من قلبي. اشتقت إلى المنزل الذي كانت تحييني أحجاره حين أشرفه بقدمي. اشتقت إلى الإنسانة الغالية التي كانت تراني أعظم نعمة عرفها الوجود. اشتقت إلى الجدائل المعطرة التي أخذت منها «خصلتين» أدفع بهما قسوة الوحشة في أيام الاغتراب.
ولكن من صاحبة هذه الجدائل؟
من هي؟ من هي؟
لن تعرفي ولن يعرف اللئام الذين يلاحونني على صفحات الصباح.
ولو سألني فاطر الأرض والسموات لأنكرت وكتمت، فليس في الدنيا كلها غير عاشق واحد يكتم أسرار الملاح هو صاحب «النثر الفني» الرجل الذي تعرفين ويعرفون.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم تقولين إنني عجزت عن مداواتك، وعجز معي الدكتور سعيد عبده والأستاذ محمد، وإن شفاءك وقع على يدي الشاب الظريف، وأنا لا أستبعد ذلك فالله عز شأنه قد يضع سره في أضعف خلقه، وما يسوؤني أن ينجح الشاب الظريف فهو تلميذي، ولو لم يكن تلميذي لما أمكن أبدا أن يكون شابا ظريفا.
ولكن كيف جاز لهذا الشاب الظريف أن يخرج على الأدب فيداوي مليحة عليلة بدون أن يستأذنني؟
وكيف جاز لك أيتها السيدة أن ترضي عن ثورة التلامذة على أساتذتهم؟ ألم يبلغك منشور وزارة المعارف؟
سيدتي
من أنت؟ من أنت؟ أحب أن أعرف من أنت لأنفض منك يدي إلى الأبد، فقد كان الظن أن يكون الموت أحب إليك من الخروج على الذوق، والذوق هو أثمن ما تملك المرأة، وهو عندنا قبل المال وقبل الجمال.
سيدتي
لقد سألتني أن أحمل عنك التحية إلى ليلاي بالعراق، وأنا أعتذر عن نقل هذه التحية، لأن ليلاي بالعراق ضحت بعافيتها في سبيلي وأبت أن تظهر لأعضاء المؤتمر الطبي، وقررت أن الغرق في دجلة أحب إليها من الخروج على الأدب مع طبيبها الخاص.
مولاتي
إن كان في هذه الرسالة شيء يسوء فاعذريني، فقد ألفت الشطط في مخاطبة الملاح، لأني عشت مدللا بين الملاح، وأنا مع هذا أفهم قيمة التضحية التي تقدمها سيدة حين تخاطب رجلا، أنا أفهم جيدا أنك صاحبة الفضل، وأعرف أن المعصم الجميل لا يتحرك لكتابة كلمة مثل كلمتك إلا وهو منفصل، ومثلي يحفظ الجميل ولا ينساه، وكل ما أرجوه أن تصوني قلبك فلا يعرف أسراره شاب ظريف ولا شاب سخيف، وأرجو ألا تكويك التجارب فتذكري نصيحتي بعد الأوان، والسلام.
الفصل الحادي والعشرون
طبيب ليلى يوصى بنظارة طبية
للدكتور محمد صبحي بك
قالت جريدة العقاب البغدادية: «من طريف ما يذكر في حفلة افتتاح المؤتمر الطبي العربي أن الدكتور زكي مبارك الأديب العربي الكبير وأستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية حضر الافتتاح بصفته دكتور «أبدان» لا دكتور «آداب» وقد قال عن نفسه إنه حضر لمداوة ليلى المريضة في العراق».»
والنكتة في الموضوع ليست بما ذكر أعلاه، وإنما هي في مركز الدكتور في الحفلة: فقد شوهد وهو يرتدي السدارة العراقية ويتقدم إلى الأطباء المصريين والسوريين مصافحا إياهم ومضيفا إلى ذلك هذه العبارة: «باسم العراق أحييكم».
وقد تقدم إلى أحد أصدقائه المعروفين من كبار أطباء مصر وتلقاه بهذه العبارة الرقيقة، فقال الطبيب : أنا الدكتور محمد صبحي
فقال له الدكتور زكي مبارك: من أي بلد قدمت؟ وفي أي فرع تخصصت؟
فأجاب: أنا مصري أشتغل بطب العيون.
فقال له الدكتور زكي مبارك: هل تسمح لطبيب ليلى أن يشير عليك بحمل نظارة طبية؟
فتنبه الدكتور صبحي وتلقى صديقه الدكتور مبارك المختفي تحت السدارة بالعناق والتقبيل، وسرت هذه النكتة بين أعضاء المؤتمر فكانت حديثهم في الصباح والمساء.
الفصل الثاني والعشرون
حيران حيران
حضرة الأستاذ محرر مجلة الهداية الإسلامية
أقدم إليك أطيب التحيات، وأذكر أنك تفضلت فطلبت مني كلمة للعدد الخاص، وكنت أنتظر أن تعفيني من هذا الواجب، لأنك تعرف ما يثقل كاهلي من الشواغل الثقال، وكنت أنتظر أيضا أن أعفي نفسي، ولكني رأيت لكم أصدقاء في الموصل يذكرونكم بالخير، ويحبون أن يكون لي في مجلتكم مكان، ومن هؤلاء الأصدقاء أخوكم الأستاذ بشير الصقال.
موضوع هذا المقال مأخوذ من أغنية عراقية تقول: «حيران حيران» وحيرتي مزعجة مضنية لأني أحب أن أكون من المصلحين، ولكني لا أعرف أين أتوجه، ولا أتبين ما يجب أن أصنع.
ولم تكن حيرتي حيرة فردية، وإنما هي حيرة إسلامية، فالإسلام اليوم في غربة موحشة، ولكنه مع ذلك في يقظة يحسب لها خصومه ألف حساب.
وإنما كان الأمر كذلك لأن المسلمين يملكون أخصب بقاء الأرض، وهم يشرفون على أعظم البحار، ويملكون نواصي المشرق والمغرب، ولو نفضوا عجاج الكسل عن رؤوسهم لسيطروا على العالم من جديد.
ولكن هناك أوهام فردية واجتماعية تشل أعضاء الأمم الإسلامية، ومن رأيي أنه يجب الاهتمام بتبديد تلك الأوهام، وأنا أعتقد أن هناك دسيسة خطرة جدا يراد بها تمزيق الأمم الإسلامية، وهذه الدسيسة لا يحبطها الإسراف في التغني بالماضي، وإنما يحبطها أن تحارب بقوة وعنف، وتقوم هذه الدسيسة على أساس القوميات العربية أو الإسلامية، فمن أوهام اليوم أو دسائس اليوم أن العروبة شيء والإسلام شيء، فأين المصلح الجريء الذي يجهر بأن الإسلام هو الذي أعز العرب وأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطلا عربيا، وإنما كان بطلا إسلاميا؟
وقد جهرت بهذه الحقيقة مرات في بغداد، واحتملها مني العراقيون لأنهم يعرفون أني مخلص، والعراقيون يحتملون كل شيء من أهل الإخلاص.
من رأيي أيها الأخ أن الإسلام لا ينهض إلا بنهضة اللغة العربية وأن من واجبنا أن ننشئ المدارس في الهند والصين والأفغان وإيران وفي سائر البلاد التي يعيش فيها المسلمون لنقيم قواعد الأخوة الإسلامية على أساس متين.
من رأيي أن يكون لنا «عصبة أمم» تفكر في وصل الحاضر بالماضي وتقنع الشرق بأنه ليس أقل حيوية من الغرب.
من رأيي أن تكون لنا «عصبة صوفية» تؤمن بالله وحده، وتستعد للجهاد في سبيل الله لا في سبيل المنافع الدنيوية.
من رأيي أن تكون لنا «عصبة أدبية» تغني اللغة العربية بالأدب والبيان وتشعر شبابنا بأنهم يعيشون في حماية لغة هي أغنى من الإنجليزية والفرنسية.
من رأيي أن يقوم فريق من الأدباء المصلحين بتعليم أهل الشرق أن الإسلام لم يكن دعوة قامت بالسيف كما يشيع المرجفون، وإنما هو هداية صريحة قامت لإنقاذ أمم العالم من الظلم والطغيان.
أيها الصديق: تذكر ثم تذكر
تذكر أن أمم الشرق لن تصبر طويلا على ما يريد لها الغرب، إن الغرب يريد أن يظل الشرق حقولا يزرعها كيف يشاء، وقطعانا يصرفها حيث يريد.
وللإسلام غاية واحدة: هي أن يكون المسلمون سادة أنفسهم، وقد خدعنا الغرب بما عنده من مدنية، فلنخدعه نحن بما عندنا من مدنية، عنده نور الكهرباء، وعندنا نور العدل، عنده الزخرف، وعندنا الحقائق، عنده الاستعمار، وعندنا الاستبسال، نحن نريد أن نسيطر على ما نملك، وما نحب أن نسيطر على الغرب بغير الحق.
أيها الصديق: تذكر ثم تذكر
تذكر أن الإسلام قوة، وتذكر أن نابليون حاول أن يكون إمبراطور المسلمين لينتفع بقوة المسلمين، وتذكر أن غليوم الثاني حاول أن يكون إمبراطور المسلمين لينتفع بقوة المسلمين، وتذكر أن موسيليني يحاول اليوم أن يكون إمبراطور المسلمين لينتفع بقوة المسلمين.
وما كان المسلمون من السوائم المهملات حتى يفكر في رعايتهم عاهل الفرنسيس أو الألمان أو الطليان، المسلمون قوة عاتية، وسيعرفون كيف يؤدبون الطاغين والمستبدين؟
أيها الصديق
لقد تأملت في هندامك فرأيتك تلبس لباسا شرقيا تحته لباس غربي، فاعرف أن هذا اللباس الغربي هو الذي حرمنا من نعمة الصلاة، وسيأتي يوم نعرف فيه أن الملابس الشرقية القديمة هي أصلح الملابس لأهل الشرق.
أيها الصديق
لا تضق ذرعا بهذا الخطاب فقد كتبته في ظلال الحيرة، والحيرة هي أول خطوة في سبيل اليقين.
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
الفصل الثالث والعشرون
محمد العشماوي في بغداد
صديقي رئيس تحرير البلاد
طلبتم مني كلمة عن سعادة الأستاذ محمد العشماوي بك - وكيل وزارة المعارف المصرية - وأجيب بأن احتياجكم إلى من يحدثكم عنه، مع معرفتكم بأكثر رجال مصر، هو الصفة الأصلية في صفات ذلك الرجل النبيل، فهو رجل لا يحب أن يعرفه أحد من الناس، هو رجل لا يعرف غير العمل، والمطمح الأعظم في نفسه أن يكون من النافعين لا من المشهورين.
فإن لم يكن بد من ذكر شيء من تاريخه فإني أذكر أنه من قدماء الأساتذة بكلية الحقوق، وهو يشغل منصبه في وزارة المعارف المصرية منذ سنين.
وإن لم يكن بد من ذكر بعض مذاهبه في الحياة فإني أذكر أنه رجل خلص خلوصا تاما من التعصب السياسي، فهو صديق لجميع الأحزاب، فلا يتولى وزارة المعارف وزير من أي حزب إلا عرف أن العشماوي رجل لا غنى عنه لأنه يخدم مصر ولا يخدم الأحزاب.
ومن الوجهة الأدبية والذوقية أذكر أن العشماوي أكبر نصير للآداب والفنون.
ومن الوجهة القومية أذكر أن العشماوي من أصدق أصدقاء العروبة، وهو يدعو إلى توحيد المناهج الدراسية في الأقطار العربية.
ومن الوجهة الاجتماعية هو خير الآباء، ويكفي أن تنظروا كيف يصحب ابنه وابنته في جميع الرحلات لينعموا بعطفه الأبوي الشريف.
فإن سمعتم أن في مصر قلقا على مصير اللغة العربية فتذكروا أن محمد العشماوي هو باعث ذلك القلق، لأنه يبغض أشد البغض أن تقع كلمة من العامية في دفاتر التلاميذ.
صديقي
لقد كنت أرجو أن تكون أيام هذا الرجل في العراق فرصة أؤدي له فيها خدمة يذكرني بها حين أرجع إلى القاهرة، ولكن الحكومة العراقية انتهبته مني انتهابا، وأقبل عليه فضلاء بغداد فغمروه بالمأثور عنهم من الكرم واللطف، بحيث لم يبق لمثلي في خدمته مجال، وكنت أود أن أكتب له ترجمة مفصلة، ولكني أخشى أن لا يرضيه ذلك، فاكتفوا مني مشكورين بهذا القليل، والسلام.
الفصل الرابع والعشرون
بين الآباء والأبناء
1
قد يعتقد الكثيرون أنني عندما أكتب عن أبي أو أتحدث عنه، إنما أكتب ما أكتب وأقول ما أقول متأثرا بما بين البنوة والأبوة من صلات، ولكنني في الواقع إذا كتبت اليوم عن أبي فإنما اكتب عن صدق، فأنا الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يتحدث عن الدكتور زكي مبارك كرجل من رجال التربية والتعليم.
نشأ أبي نشأة ريفية في وسط عائلة قوية الجانب، لا تعرف غير القوة والجبروت، فاكتسب صلابة الرأي، وقوة الإرادة، وبعد النظر، وسلامة الذوق ... ثم تحول إلى المدنية الحديثة في إبان شبابه، فلم يتأثر إلا بأصولها الحقيقية، فجمع مع سلامة العقل، سلامة الجسم، وقوة الروح، وصفاء الضمير، فكان لذلك أثر كبير في تربيته وتعليمه، وقد راضنا أبي على القوة، فنشأنا بفضل الله أقوياء، وقد كتب عن ذلك يقول:
1 «أترونني أبكي على أطفالي؟ هيهات! لقد ورثتهم خير ميراث حين ربيتهم على العنف والقسوة، وحين أفهمتهم أن العالم لا يسعد فيه غير الأقوياء، فإن تسلحوا بالقوة فقد انتفعوا بما ورثتهم، وإن استسلموا للضعف فعليهم ألف لعنة، وأنا منهم بريء.
وقد عودت أطفالي أكل اللحم في كل يوم لينشئوا على قسوة الحيوان المفترس، فإن لانت نفوسهم بعد ذلك فعلى أنفسهم جنوا، وللضعيف الضيم والهوان.
وقد نشأت في قوم أقوياء، وكان أبي أشجع رجل رأته عيني، وكان أجدادي وأعمامي من نماذج القوة والبطش، ولم يكن فيهم رجل مظلوم، وإنما كانوا دائما ظالمين، فإن شاء أبنائي أن يكونوا لأبيهم وأجدادهم وأعمامهم، فالدنيا أمامهم واسعة الأرجاء، وإن ضعفوا فليذهبوا غير مأسوف عليهم ... وفيهم بحمد الله فتيان يقرءون هذا الكلام، فليعرفوا أن أباهم عاش عزيز الجانب لأنه كان قوي النفس، وليتذكروا أنا أباهم لن يموت يوم يموت إلا وهو أشجع الرجال».
وقد يدهش الكثيرون إذا عرفوا أن أبي مع قوته وجبروته رجل كله كتلة من الإخلاص والوفاء والكرم، فطالما ظللنا بسحائب العطف وسقانا أكواب الشهد وغمرنا بكرمه وحنانه، وأقسم صادقا أن أبي لم يجرح إحساسي مرة واحدة في حياتي وإن كنت مخطئا؛ بل كان يعاملنا معاملة تدل على حسن التصرف وبعد النظر، فهو يدفعنا إلى بحر الحياة لنجرب حلوها ومرها، ثم يراقب أعمالنا عن بعد، فإن أخطأ أحدنا أعاده إلى الصواب بكل شفقة ورأفة قائلا: «أنا لا أرضى لكم بغير التفوق المطلق؛ لأن الرجل والمتسط لا يستطيع العيش في العصر الحديث»، وكان لهذه التربية أثرها في أنفسنا، فأنا لا أذكر يوما عبث فيه أخي الصغير في حضرة أبي مع أن أبي يعامله معاملة كلها عطف وحب وإخلاص، ويخيل إلي أن هذه الطريقة من طرق التربية تبعث في نفس الطفل أصدق آيات الإخلاص والولاء لأبيه، وأروع صور الوفاء لوالديه، وتعوده الاعتماد على النفس والشعور بالشخصية.
وقد راضنا أبي كذلك على العمل وهو رجل عمل بمعنى الكلمة فقد يقضي في أيام فراغه وفي إجازات الصيف ثلاثة أيام متواصلة لا يغادر خلالها مكتبه؛ بل يظل ساهرا ليصل الليل بالنهار في العمل والتحصيل، ولعل القارئ يوافقني على ذلك إذا اطلع على كتاب النثر الفني، ورجل هذه أخلاقه يبعث في روح أولاده حب المثابرة والكفاح بكل تأكيد. وكان من جراء ذلك أن ورثت عنه هذه العادة، فلا أكون مبالغا إذا قلت إنني كنت في التعليم الثانوي أقوم بجانب دراستي المدرسية بالكتابة في الصحف، ودراسة الهندسة اللاسلكية والكهربائية والميكانيكية بجانب الشعر والقصص والموسيقى.
وقد عودنا أبي الصبر ومواجهة الحقائق، فهو رجل قلما ييأس، وإنما يواجه الحقائق بالحقائق فلا أنسى مطلقا مساء يوم وفاة جدي رحمه الله فقد عاد أبي من سنتريس في مساء ذلك اليوم يحمل إلينا الخبر المشئوم ويبدي أسفه بقوة جبارة تغلب بها على حزن نفسه، وكبت بها عواطفه.
وقد سافر أبي إلى العراق ولا أنسى ساعة وداعه، فقد وقفت أبكي كالطفل بينما راح هو يبتسم.
وبعد فهذه صورة سريعة صادقة عن أبي رجل التربية، فإليه وحده أبعث بأصدق تحية، وإليه أرفع آيات الحب والإخلاص.
ابنه الوفي
سليمان زكي مبارك
2
صديقي
لقد شاء لك وفاؤك أن تمتعني بخطاب خاص تبدد به ما في صدري من ظلمات، وكأنك لم تكتف بالأفراح التي يذيعها الصباح يوم وصوله إلى بغداد.
وقلت في خطابك:
أهنئك بأن لك خليفة في الأدب والعلم والذوق والأسلوب الإدراك هو سليمان زكي مبارك.
فهل تدري أيها الصديق أن هذا الخطاب أزعجني؟
هل تعلم أنه ساءني أن أعرف أنك ستنشر له كلمة عني؟
أنا أشهد غير مخدوع ولا مفتون أن هذا الشاب عنده بوارق من الفكر والذكاء، ولكني أنظر إلى مصيره نظر الخوف والجزع، لأنه يسارع إلى الشهرة كما يصنع أكثر الشبان في هذا الجيل، والشهرة المبكرة تفتن الشباب أشنع الفتون، وتصرفهم عن التخلق بأخلاق الأبطال.
فإن كنت في ريب من ذلك فتذكر أن في مصر شبانا تعجلوا الوصول إلى الشهرة فوصلوا إليها قبل الأوان، ولكنهم سيعيشون أطفالا ويموتون أطفالا، وسيكون مصيرهم مصير الصحفي الذي اشتغل بالتحرير في الجرائد المصرية أربعين سنة ثم مات قبل أن يشهد القراء بأنه صار من الكتاب.
وكان عندك في جريدة «الصباح» محرر أنقذته أنا من هذا المرض، فقد كان أخرج ديوانا شعريا منذ سنين، وطنطنت به الجرائد والمجلات، ولكني أبيت أن أشير إليه في مقالاتي بجريدة البلاغ، فلما عاتبني قلت له: لن أعرفك إلا يوم تظفر بالدبلوم من كلية التجارة، ومن حقي أن أعتز بأنني أنقذت هذا الشاب من جنون الشهرة، فكانت النتيجة أن يظفر بدرجة عالية من درجات الجامعة المصرية، ولعل من واجبي أن أتجاهل مكانته الأدبية إلى أن يصبح من رجال الاقتصاد.
لقد ذهب ابني سليمان منذ أعوام إلى جريدة البلاغ لينشر بعض اختباراته في اللاسلكي فرحبت به الجريدة، ولكني تدخلت لوقف مقالاته، فكيف جاز أن تشجعه في غيبتي؟ أنا يا صديقي أبغض هذا النوع من التشجيع.
إن هذا الشاب يريد أن يتشبه بأبيه، ولكن في أي باب؟ إنه يريد أن ينشر مقالات وأقاصيص في الصحف والمجلات كما يصنع أبوه، فهل يعرف هذا الشاب المفتون أن أباه أحرز خمس شهادات عالية أصغرها شهادة الليسانس في العلوم الفلسفية والأدبية؟
وهل نسى هذا الشاب المفتون أنه رسب في البكالوريا وهو يعيدها وقد يكون الجري وراء الشهرة الكاذبة سببا في أن يرسب مرة ثانية؟
قد يراجعني هذا الشاب فيقول: وأنت أيضا يا أبت رسبت في امتحانات الليسانس مرتين!!
وهذا حق، ولكن اللجنة التي أسقطتني مرتين في امتحانات الليسانس كانت مؤلفة من إسماعيل رأفت ومنصور فهمي وطه حسين.
فمتى يكون من حظك أيها الشاب المفتون أن تسقط في امتحانات الليسانس أمام لجنة مؤلفة من أمثال هؤلاء الرجال؟
ومتى يكون حظك أن تظفر بإجازة الليسانس كما ظفر أبوك وهي مذيلة بأسماء كهذه الأسماء؟
إن هذا الشاب عمل بالمثل الذي يقول: «غاب القط فالعب يا فار» فهو قد انتهز غيبتي بالعراق وأهمل دروسه ومضى يركض بين المطابع لينشر كتابا في اللاسلكي، ولو كان من أصحاب القلوب لعرف أني أقوم مفزوعا من نومي في كل ليلة، لأني لا آوى إلى فراشي إلا وأنا مشغول البال عليه، فمن أي الصخور صيغ قلب هذا الشاب المفتون؟
صديقي
ما كنت أحب أن ينشر مثل هذا في جريدتك لولا يقيني بأنه يحارب نزعة خبيثة يعانيها الشبان في هذه الأيام، وقد يكون في قرائك من يعاني من الألم بعض ما أعاني، فالذين في مثل حالي يتمنون أن يكون لهم أبناء نجباء، وأنا أخشى أن يخونني الحظ فيكون أبنائي غير نجباء.
كنت أتمنى أن يصنع أبنائي بعض ما صنعت مع أبي، فما أذكر أن أبى بات ليلة وهو مؤرق الجفن بسببي، وقد هتف باسمي مئات المرات وهو على فراش الموت.
أما بعد، فقد هذبت ألوفا من التلاميذ، وأدخلت النور على ملايين العقول في المشرقين والمغربين، وأنا مع ذلك أتشهى أن يكون لي من صلبي ولد نجيب.
فإن صح رجائي في بعض أبنائي أو في جميع أبنائي فتلك نعمة من الله، وإن خاب رجائي في بعض أبنائي أو في جميع أبنائي فتلك أيضا نعمة من الله.
ألم يجرب الله إيماني فابتلاني بأخطر الأرزاء والخطوب؟
لقد طوفت بالشرق والغرب في الدفاع عن لغة القرآن.
لقد ابتدعت مئات الأقاصيص لأحبب الناس في لغة القرآن.
لقد تفردت بالزهد في الوصولية لأقيم الشاهد على أن الواثق بربه لا يضيع.
لقد وفيت لكل من عرفت لأخلق لوطني أصدقاء، فقد كنت أسمع أن حب الوطن من الإيمان.
لقد أدخلت البهجة على جميع ما عرفت من القلوب، فكيف يصل الحزن إلى قلبي عن طريق بعض الإخوان أو بعض الأبناء؟
رباه!
أنت تعلم كيف خلقتني، وكيف سويتني، فاكتبني عندك من الشهداء.
الفصل الخامس والعشرون
الساعة صارت عشرة!
صديقي
إن الساعة صارت عشرة.
ألا تصدق أن الساعة صارت عشرة؟
إن كنت في ريب من ذلك فاسمع هذا الحديث:
كان سعادة وزير إيران المفوض في العراق تفضل فدعاني لحضور الاحتفال بعيد ميلاد صاحب الجلالة ملك إيران، فقهرت نفسي على الخروج من عزلتي لأجيب هذه الدعوة الكريمة، وقضيت هناك نحو ساعة أنست فيها بمحادثة فريق من كرام الرجال، وعند عودتي إلى المنزل رأيت رجلين ينتظرانني بالباب: أحدهما صديق عزيز، وثانيهما زائر كريم.
فالتفت إلى الصديق، وقلت: من أتى بك؟ ألم أقل لك أكثر من عشرين مرة إني لا أحب أن يزورني أحد؟ ألم أنشر في الجرائد مرات ومرات أن وقتي لا يتسع للزيارات؟
فتبسم الصديق، وقال: لطفا، لطفا، فما جئت إلا بالرغم مني، وصاحبي هذا قدم من الموصل، ورجاني أن أدله على بيتك ليراك، ودخلنا فجلسنا لحظة، وأنا على جانب من سوء الخلق لأني كنت أحب أن أخلو إلى القلم والقرطاس، ولكن الزائر الكريم ظنني أمزح فاحتمل سوء خلقي، ثم اقترح الصديق أن نخرج فنقضى لحظة في أحد الأندية فاعتذرت. فقال: راع حق الموصل.
فقلت: حبا وكرامة! وخرجنا فجلسنا في أحد الفنادق نحو نصف ساعة ، ثم استأذنت.
وسأل الرفيقان: متى نلتقي؟
فقلت: بعد شهر!
فقال الزائر الكريم: إني لن أقضي غير أسبوع واحد في بغداد.
فقلت: سأزورك في الموصل!
فقال: أراك تهرب مني!
فقلت: لا أهرب، ولكني مشغول.
وبعد ثلاث ليال سمعت طارقا يناديني، فنظرت فإذا هو أديب الموصل، فاستقبلته وأنا متضجر متأنف، ولكنه ظنني أمزح، كأنه استكثر أن ألقى الضيف بالتضجر والتأنف، فتتشجعت وقلت: إنني أحرم نفسي من إخواني في العراق، وأعتكف في المنزل لأتمم كتاب «عبقرية الشريف الرضي».
فقال: ولكن نحن على موعد مع الصديق (ع).
فقلت: ما أظننا على موعد.
فقال: هو ينتظرك.
فقلت: هذا بعيد!
فقال: ولكن لا بد على أي حال من الخروج للسهر في هذه الليلة.
فقلت: هذا مستحيل؛ لأن كتابي أعز علي منك.
فاتبسم وقال: ولكن الليلة عيد ميلاد صاحب الجلالة ملك العراق.
فقلت: أحسنت إذ نبهتني إلى ذلك، فمن الذوق أن أشارككم في الأفراح، ولكن اسمع يا صديقي: نحن في الساعة السابعة، وقد شرعت في كتابة بحث مهم جدا، ويؤذيني أن أخرج الآن، فارجع إلي في الساعة العاشرة، وسأكون في صحبتك إلى نصف الليل.
فقال: وأنا أقترح أن نخرج الآن، ثم تعود في الساعة العاشرة لتخلو إلى عملك ما طاب لك.
فقلت: هذا حل موفق، وقدمت إليه جملة من المجلات المصرية ليتلهى بها حتى أستعد للخروج. •••
خرجت في صحبة الزائر الكريم وأنا متضجر متأنف، ولم يهن الأمر على نفسي إلا حين خطر بالبال أن بكائي سيطول على الصحة التي أنفق منها بلا حساب في سبيل الأدب، فأنا أشتغل في كل يوم أكثر من سبع عشرة ساعة، وجبال الكحل تفنيها المراود، وهيهات أن تبقى صحتي مع هذا الكدح المخيف، وأخشى ألا أظفر بكلمة رثاء يوم يشيعني الناس إلى قبري، فذاكرة بني آدم ضعيفة جدا، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفي كلامه نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف، عفا الله عنكم يا بني آدم وعفا عني!
خرجنا فمضينا إلى منزل الصديق فرأيناه يسمر مع زوجته، ولم يكن ينتظرنا كما زعم صاحبي، ولكنه مع ذلك جرى على الفطرة العراقية فاسقبلنا أكرم استقبال، وتلطفت الزوجة الكريمة فأحضرت فناجين القهوة والشاي، وبعض الطيبات من الفاكهة والحلوء.
أما الصاحب الموصلي فأخذ يتلهى بالخطاب الموجه إلى ليلى المريضة في الزمالك على صفحات الصباح، وأما الصديق البغدادي فشاركني في متابعة الأغاني التي يجلجل بها المذياع، ودار صوت من أصوات أم كلثوم فكدت أبكي، ثم ابتسمت فجأة حين تذكرت أنه لا بد من انتهاب قبلة أو قبلتين من أم كلثوم يوم أعود، وهل تستطيع أم كلثوم أن تفر من يدي؟ هيهات هيهات!
وانقطعت الأغاني وشرع طبيب يتكلم عن العناية بصحة الطفل، فقام صاحب البيت وأغلق المذياع بعنف. - فقلت: ما هذا الحمق؟ - فقال في ألم موجع: إن هذا الطبيب هو الذي قتل طفلي، ومد يده إلى الحائط فأنزل لوحة فيها صورة طفل يشبه أدونيس ابن أفروديت، وجريت على عادتي في درس الوجوه والعقول والقلوب، فرأيت الزوجة تتطلع إلى صورة الطفل وهي في مثل حال الظبية المروعة التي اختطف الأسد رشأها منذ لحظة أو لحظتين.
ثم تغير حالي أشد التغير، وغلبني الحزن، وتذكرت الدواء الناجع الذي ينقذني من أحزاني، وهو دواء مركب من ثلاثة عناصر هي: الكتاب والقلم والقرطاس، فجريت إلى معطفي ألبسه لأخرج، فنظرت الزوجة نظرة تلطف، وقالت: هذا منزلك يا دكتور، فما الذي أزعجك؟
ثم وقف في وجهي صاحب البيت، وهو يقول: لن تخرج، لن تخرج، ورأيت موقفي صار سخيفا جدا. - فقلت: اسمع يا صديقي، أنا أخشى أن تكون دسيسة من دسائس الدكتور طه حسين!
فضحك، وقال: وهل للدكتور طه حسين دسائس؟
فقلت: هو يحاول منذ سنين أن يخلق لي صداقات كريمة تصدني عن متابعة الإنتاج الأدبي، وأخشى أن يكون كرمك من عقابيل تلك الدسائس، وكانت فكاهة غمرت المجلس بالضحك، وساعدتني على الخلاص. •••
وفي السيارة تحدث الرفيق الموصلي. قال: يظهر أنك مصمم على العودة إلى منزلك. - نعم، وهل في هذا شك؟ - ولكن الساعة العاشرة لم تحن، وأنت وعدت بأن نظل معا إلى الساعة العاشرة. - أعفني يا صديقي، فأنا أشغل مطبعتين في بغداد، وسيطرقون بابي مع الشروق، ليقدموا التجارب ويطلبوا الأصول. - تذكر أني راحل إلى الموصل. - ألم أقل إني سأزورك في الموصل؟ - أنا لا أضمن ذلك، وتكفيني ساعة واحدة في صحبتك، من التاسعة إلى العاشرة. - ألم تسمع حكاية العالم مع الأمير؟ - وكيف كان ذلك؟ - زعموا أن عالما دخل على أحد الأمراء فدعاه الأمير إلى المنادمة، فقال العالم: إنما وصلت إلى مولاي بالعقل، فأنا أكره ما يذهب العقل، وأنا يا صديقي لم أصل إلى مسامع أهل العراق إلا بالمحافظة على الوقت، فأنا أكره ما يضيع الوقت، ولولا هذه المزية لما أمكن أن أكون من كبار المؤلفين. - هي ساعة واحدة تكرم بها أدبيا يعشق أدبك، ثم تعود فتخلو إلى قلمك كيف شئت. •••
وكانت لحظة دار فيها رأسي فتذكرت ما كتبت عن أدب الأخوة في كتاب التصوف الإسلامي، وتذكرت الحكيم الذي قال: «إذا قلت لصاحبك: هلم بنا، فقال: إلى أين؟ فليس بصاحب». فقلت: لك يا صديقي ما تشاء، على شرط واحد. - ما هو؟ - أن نفترق في الساعة العاشرة. - وهو كذلك، ولك الفضل.
دخلنا في فندق، فلم نر فيه مكانا خاليا فذهبنا إلى فندق، فرأيناه أشبه بسفينة نوح، فمضينا إلى فندق، فرأيته لا يليق برجل يشتغل بالتدريس، والمدرس مسئول عن كرامته ولا يليق به أبدا أن يدخل مكانا تحيط به شبهات. - واعترض رفيقي فقال: هذه ليلة أنس يباح فيها مالا يباح. - فقلت: هي ليلة عيد في قصر جلالة الملك، ولكن يغلب على ظني أن الملوك لا يعرفون الأعياد، ومن يدريك فلعل جلالة الملك في هذه اللحظة مشغول بتدبير بعض الشؤون.
فتضجر رفيقي وقال: ولكن الملك يسره أن يفرح الشعب في ليلة عيد. - فقلت: ولكن يسره أيضا أن يعرف أن شعبه لا ينسى كرامته في ليالي الأعياد. - سمعت أن الملك فؤاد كان يترك ضيوفه أحرارا في سهرات قصر عابدين، ويكتفي هو بشراب الليمون. - ولو أنهم تأدبوا بأدبه فاكتفوا بشراب الليمون لكانوا إلى قلبه أحب وأقرب. - أنت رجل مزعج يا دكتور! - لست بمزعج، وإنما أحب أن أرجع إلى قلمي وكتابي. •••
وانتهى بنا المطاف إلى فندق يغلب عليه التجمل، إن كان للتجمل مكان بين أكواب الصهباء، جلس رفيقي وجلست بالقرب من جماعة يسكرون ويعربدون، جلست وأنا متهيب، وجلس رفيقي وهو متهيب، أما أنا فتهيبت لأن هذه الجماعة تعرفني، وربما كان أحدهم أبا أو عما أو خالا لأحد تلاميذي، وأنا مسئول عن كرامتي أمام هؤلاء الناس، وأما رفيقي فتهيب لأن هذه الجماعة بها ثلاثة هو لهم رئيس، وأخذت أدرس الوجوه والشمائل والخصال لأصحح أغلاطي في فهم الأدب العربي، وهنا أصرح بأن الدراسات الفلسفية لا تطيب لي إلا في مدينتين اثنتين: باريس وبغداد.
أما باريس فأمرها معروف، لأن جميع الوجوه هناك كانت مألوفة لدي، لأني رأيت صورها في مؤلفات المبدعين من أقطاب الأدب الفرنسي. وأما بغداد فإني أرى فيها صور الرجال الذين أولعت بدراسة آثارهم العلمية والأدبية والفلسفية منذ أعوال طوال.
أما القاهرة فليس فيها وجه رأيت صورته في كتاب، لأن أدباء القاهرة فلاسفة عظام لا تراهم إلا في مكانين: بغداد في العصر العباسي، وباريس في العصر المنصرم، أو طلائع العصر الحديث، وربما تظرف فريق منهم فحدثونا عن أدب اليونان والرومان.
ثم يقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشرة يا دكتور!
فأخرج ساعتي من جيبي فإذا هي 11.
فأقول: بقى وقت ... ثم أعود إلى درس الوجوه من جديد، هذا هو الشعب العراقي، الشعب الطروب الذي لا يشغله الجد عن اللعب، ولا يصرفه اللعب عن الجد.
هذا هو الشعب الذي طال عهده بكفاح الأيام والخطوب ثم بقيت عنده ذخيرة من الابتسام. ثم أخذ السامرون يغنون، والعراقي إذا طرب غني فأجاد الغناء، ولم تقع في أغانيهم كلمة بذيئة، ولم تنفرج شفاههم عن كلمة فيها رائحة الفحش، ولم يتوهم أحد أن المجلس قد يقع فيه ما ينافي الذوق، هذا هو الشعب العراقي، وتلك شمائله وسجاياه.
فإن وقع منه ما يؤذيك فتذكر أن مياه الأنهار قد تقع فيها أحيانا أقذاء، وتذكر أن البدر لا يخلو من كلف، وتذكر أن الأزهار قد تحيط بها أشواك، ثم تذكر أن الحياة فيها الشهد والصاب. •••
يقع هذا ورفيقي متجمل متهيب، ولكنه يخرج فجأة عن وقاره ويغني:
فيك ناس يا ليل بيشكو لك مواجعهم
بالله يا ليل ما تبقاش تواجعهم
أجريت يا ليل على الخدين مدامعهم
باتوا حيارى بطول الليل سهرانين
ياخوفي يا ليل من طول المدى معهم
فأخرج علبة السجائر وأكتب فوقها هذا الموال، ثم أتذكر أني كنت سمعته من رجل جالس متربع فوق جسر أبو العلا منذ سنين، وكأني سمعته بالأمس فقد كان المغني «ابن بلد» وكانت سيماه تشهد بأنه ذاق طعم الصبايا في بولاق، وأنه اكتوى بنيران العشق، وقاسى لواعج الأشواق، ثم يثب الخيال إلى آفاق بعيدة جدا، فينتقل من بغداد إلى بولاق ومن بولاق إلى باريس، فأتذكر أني كنت أعطف أشد العطف على الدكتور الديواني مدير البعثة المصرية في باريس لسبب واحد هو أنه من مواليد بولاق، بولاق العظيمة التي صنعت المدافع لتحارب بونابارت، والتي سمعت على جسرها في ليلة صيف:
لك ناس يا ليل بيشكولك مواجعهم
وقد تفضلت على الدكتور الديواني فقصصت عليه هذا الحديث في سهرة من سهرات باريس في سنة 1928.
ثم يقع ما هو أعجب: ذلك بأن أحد المعربدين يحسب الرفيق الموصلي فتى مصريا، لأنه يغني موالا مصريا، فيقبل عليه، ويقول: نحن في العراق أربعة ملايين وعندنا قوة جوية، وأنتم في مصر ثمانية عشر مليونا ولا تملكون قوة جوية تناسب عظمة مصر.
فأعرف أن أهل العراق لا يفكرون في غير الحرب والقتال، ويضحك رفيقي ويقول: ألا ترى كيف رآني العراقيون مصريا؟ فأجيب: والأغرب أن يروا سكان مصر ثمانية عشر مليونا، ويتدخل ذلك المعربد فيقول: إن سكان مصر في الواقع يبلغون خمسة وعشرين مليونا.
فأقول: أفصح يا أخا العراق.
فيقول: إنما أعني سكان مصر والسودان.
آه آه آه
إن جنود العراق يذكروننا بالسودان، ولكن أين من يسمع؟ •••
ثم يقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشر يا دكتور.
فأخرج ساعتي مني جيبي فإذا هي 12.
فأقول: بقى وقت.
فيقول: مطابع بغداد تنتظرك.
فأقول: أنا لها، أنا لها، لأني أستثقل النوم في الليل ، وهل جئت إلى بغداد لأعرف فيها طعم النوم في الليل؟
ثم نخرج لنعود إلى منازلنا، فيقترح الرفيق الموصلي أن نطوف ببعض الملاهي، فأقول: لا بأس، فهذه ليلة عيد، وما أقل الأعياد في حياتي! وفي ملهى لا أسميه أرى صديقا عذب الروح وفي يده كأس ويدعوني إلى منادمته، فأرفض لأني سكرت من كأس أحزاني، ثم تقبل فتاة ندية الجسم كأنها من دمياط، فتدعوني إلى الرقص، فأرفض أن أرقص، لأني راقصت أشجاني. •••
ويقول الرفيق الموصلي: الساعة صارت عشرة يا دكتور، فأخرج ساعتي من جيبي؛ فإذا هي الثالثة بعد نصف الليل، فأصرخ: نعم، الساعة صارت عشرة! صحيح، الساعة صارت عشرة! مؤكد، مؤكد، الساعة صارت عشرة! ثم نخرج؛ ويجري هذا الحوار في الطريق: - هل أستطيع أن أخبر أهل الموصل أني قد قضيت نحو تسع ساعات في صحبة الدكتور زكي مبارك؟ - حدث أهل الموصل عني بما شئت فهم إخوان أعزاء. - ولكن أدباء الموصل سيسألون عن أسباب النجاح الذي ظفر به الدكتور زكي مبارك في حياته الأدبية. - قل لهم إن زكي مبارك نجح في حياته الأدبية لأنه رجل يؤمن بأن رزقه بيد الله لا بيد الناس. - ثم؟ - ونجح في حياته الأدبية لأنه يعشق الصدق، ويبغض الرياء. - ثم؟ - لأنه يبذل دمه في سبيل الوفاء. - ثم؟ - لأنه لم يقدم أية إساءة إلى أي مخلوق، وكان أصدقاؤه يكتبون له بأيديهم صحيفة الاتهام. - ثم؟ - لأنه أحب كل بلد عاش فيه، فعشق سنتريس والقاهرة وباريس وبغداد. - ثم؟ - قل لأهل الموصل إن زكي مبارك نجح في حياته الأدبية لأن اسمه زكي مبارك.
الفصل السادس والعشرون
ليلى المريضة في العراق
ليست مصرية وإنما هي عراقية
صديقي
لعلك تعرف أن من حقي أن أعتب عليك فللصداقة حقوق، ومثلك من يراعي شروط الوفاء.
من هذا الكاتب الذي اسمه (محمد) والذي وجد من كرمكم ما يسمح له بأن ينشر في الصباح أني أجترئ على الحقيقة، وأن ليلى المريضة في العراق ليست عراقية وإنما هي مصرية؟
إنك يا صديقي تعرف أني لست من كتاب الأقاصيص حتى يتهمني هذا الكاتب بأني أكتب قصة غرامية، وتعرف أني ما فكرت يوما في أن أزاحم محمود تيمور أو توفيق الحكيم، وإنما أنا طبيب أضاعه الأدب فلم يبق أمامه إلا أن يقضي بقية عمره في خدمة الحقائق.
وأسارع فأقرر أن نتائج أبحاثي عن ليلى المريضة في العراق كانت من أصلح ما ينشر في الصباح، ولكني خشيت أن تظنوها قصة؛ فقدمتها إلى الرسالة؛ لأن صديقنا الزيات عاش مدة في بغداد وعرف أشياء من أخبار ليلى المريضة في العراق.
وقد حققت الأيام ما توقعته وسمحتم لأحد محرري الصباح أن يثير الظنون حول ليلاي، شفاها الله.
على أنني أرى من الإنصاف أن أنص على أن صديقكم (محمد) كان أكرم من صديقكم (خلدون) الذي يكتب في جريدة الأهرام ويسمر مع (الشناوي) في بار اللواء.
فصديقكم (محمد) يرتاب في غراميات زكي مبارك لأن الذي يؤلف كتاب النثر الفني لا يتسع وقته للغراميات، وأنا والله أخشى أن يجيء ناس فيزعموا أن كتاب النثر الفني من تأليف الدكتور طه حسين، ولن يكون هذا غريبا، فقد نشرت عدة مجلات أن كتاب (الأخلاق عند الغزالي) من تأليف الدكتور منصور فهمي، وقد يقول ناس فيما بعد إن كتاب (التصوف الإسلامي) من تأليف الأستاذ مصطفى عبد الرازق، فالذي صنعه صديقكم (محمد) كان من الكرم والنبل، أكرمه الله ورعاه.
ولكن تعالوا فانظروا ماذا صنع الأستاذ خلدون:
قدمت إليه نسخة من كتاب (ذكريات باريس) وهو كتاب تعرفون قيمته الأدبية والاجتماعية، وتعرفون أنه كان الطليعة للمؤلفات التي نشرت بعد ذلك عن باريس ولندن وبرلين.
فهل تذكرون ما صنع ذلك الصديق؟ هل تظنون أنه أدى واجب النقد الأدبي نحو كتاب كان ولا يزال أجمل ما خط كاتب في وصف باريس؟
لم يصنع شيئا من ذلك، وإنما قال إن ذلك الكتاب يشهد بأن زكي مبارك كانت له غراميات في باريس، وزكي مبارك دميم الوجه فلا يعقل أن تكون له غراميات.
وأنا يا صديقي أعترف بأني لست مخلوقا جميلا، وإن كانت ليلى تراني أجمل إنسان، ولكني أنكر أن يكون وجهي دميما جدا، إنما الوجه الدميم جدا هو وجه الأستاذ خلدون الذي يعد بحق جاحظ هذا الزمان.
وقد فكرت مرات في أن أقترح على نقابة الصحافة - وكانت موجودة يومئذ - أن تشتري وجها للأستاذ خلدون، ثم عدلت عن هذه الفكرة، لأن صديقي وصديقكم خلدون يتلألأ وجهه بالجاذبية، وإن زعم ناس أن دمامة وجهه لا تطاق، والعياذ بالله.
ليس لي غراميات، لأني ألفت كتاب النثر الفني، كذلك يقول الأستاذ محمد، ليس لي غراميات، لأني دميم الوجه، كذلك يقول الأستاذ خلدون.
وأنا والله راض بحكم هذين الصديقين.
ولكن ماذا صنعتم في إنصافي؟
أنا بشهادتكم جميعا من كبار المؤلفين، وبشهادتكم جميعا لا أصلح للغراميات.
فما الذي يمنع وهذه حالي من أن أكون مدير الجامعة المصرية أو شيخ الأزهر الشريف.
إن مقامي في التأليف أعظم من مقام لطفي باشا والشيخ المراغي، فليس لأحدهما كتاب يشبه كتاب «النثر الفني»، ولطفي باشا أجمل مني، على أرجح الأقوال، أما الشيخ المراغي فله ابتسامة عذبة تحدثت عنها مرات في مقالاتي بجريدة البلاغ.
حدثوني ماذا صنعتم في إنصافي، أيها الجاحدون؟!
أتحسبون أني أقبل العيش في الدنيا بلا غرام وبلا مجد؟ هيهات، هيهات!
أنا أعرف السبب فيما يغيظ بعض الناس من غرامياتي، هم يرونني أبتدع فنا جديدا في اللغة العربية، ويرون أنني انتهبت منهم جماهير القراء، ويعرفون أنني الكاتب الوحيد الذي يتلقى من قرائه نحو سبعين رسالة في كل أسبوع، فهم يقولون بلسان الواعظ الكذاب: احترس يا دكتور زكي فأنت تسوئ سمعتك بهذه الغراميات، وأنت تضيع المستقبل الذي ينتظرك في وزارة المعارف.
وكنت والله مستعدا لقبول هذه النصائح الغالية، ولكن هل أنصفني هؤلاء الناصحون وقد كنت بلا جدال أعظم المؤلفين في علم الأخلاق؟
أحب أن أعرف من هم الناس الذين يستحقون أن أصطنع في معاملتهم مذاهب الرياء؟
لقد أقنعتني عقيدتي بأن رزقي عند ربي، وما أذكر أبدا أن الله عز شأنه عاقبني بالجوع، فلتكن حياتي هي الشاهد على أن الأرزاق بيد الله لا بيد الناس.
وما أزعم أنني أتقى الأتقياء، فعلم ذلك عند ربي، وإنما أستطيع أن أؤكد أنني أقوى دينا وأصح عقيدة من بعض الذين تسنموا أعلى المناصب بفضل الرياء.
وأعود إلى صميم الموضوع فأقول: إن الكاتب الذي أراد أن يشكك القراء في حقيقة ليلى زعم أن (الاسطوانة) التي تصدح:
يقولون ليلى في العراق مريضة
فياليتني كنت الطبيب المداويا
زعم هذا الكاتب أن هذه أنشودة تغنيها مطربة، لا أكثر ولا أقل، كذلك والله قال، وما أفتري عليه، فمن كان في ريب من ذلك فليراجع العدد (592) من جريدة الصباح.
فما رأيه إذا أحلته على ما سينشر في مجلة الرسالة من أخبار ليلى؟ إنه إن أطاعني وقرأ تلك السلسلة فسيعرف أن السيدة نادرة لم تغن تلك الأنشودة بلا سبب، ولولا الخوف من تبديد أسلوب القصة في مجلة الرسالة لعجلت بنشر الحقيقة على صفحات الصباح، وذلك ما لا يرضيك يا سيد مصطفى، وأنت من أعرف الناس بحقوق الزملاء.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم يصرح صاحبكم بأن ليلاي مصرية لا عراقية، وأنها تقيم بالزمالك أهلا وسهلا، وهل أنكر أن هناك ليلى تقيم بالزمالك، وأن بيني وبينها أشياء؟
هذا حق، ولكن صاحبكم يفتري ولا مؤاخذة حين يزعم أنه زارها معي بصحبة الدكتور سعيد عبده، فمتى كانت هذه الزيارة؟ إنني لا أذكر أبدا أنه صحبني إلى ليلى المريضة في الزمالك، وإنما أذكر أنه كان في معيتي هو وسعيد عبده حين ذهبت لزيارة ليلى المريضة في مصر الجديدة، وكان الذي دعانا لزيارتها أمير الشعراء شوقي طيب الله ثراه.
صديقي
معذرة إليك إذا أطلت القول فقد ثارت شجوني.
كان شوقي رحمه الله أراد أن يعرف بعض المستور من خلائق النساء فدعا ثلاثة لزيارة ليلى، وأنا أولهم وثانيهم محمد وثالثهم سعيد، وكنت يومئذ شيخا معمما، شيخا ضئيلا دميما لا يقام له ميزان، وكان محمد وسعيد من أجمل الشبان في القاهرة، على ماضيهما السلام، فلما دخلنا على ليلى لم تأنس بوجه غير وجهي، فهل كانت تنافق؟ ذلك ما زعمه صديقنا محمد وأخونا سعيد.
أما شوقي رحمه الله فصرح بأن عندي مزايا تفتن النساء، وتفضل رحمه الله فأعطاني ثلاثين جنيها أستعين بها على طبع كتاب (حب ابن أبي ربيعة) ولولا تلك المنحة لعجزت عن إخراج ذلك الكتاب الطريف الذي طبع ثلاث مرات.
يا لوعة القلب!
ويا غضبة الله على الأديب الذي أثار هذه الذكريات!
فقد كانت تلك السيدة تحب وتعشق.
كانت تحب أبناءها وتعشق زوجها.
وكان زوجها من الغادرين، وأبناؤها من أهل العقوق.
وكنت أستطيع أن أمزج هواها بهواي، وأنا رجل قاتل النظرات، ولا أذكر أبدا أني رميت سهما فطاش، ولكن في صدري بقايا من المروءة ورثتها عن أبي وجدي.
وكذلك رأيت أن أترك تلك السيدة لزوجها وأبناءئها، ولكنها - واحر قلباه - ماتت بعد ذلك بعامين اثنين.
فإن سمعتم أن في مصر الجديدة شارعا لا أمر به في الليالي المقمرة فاعلموا أنه الشارع الذي كانت تقيم فيه تلك السيدة الحسناء، على روحها أطيب الرحمات.
لا تذكروني أيها الأصدقاء بما عانيت في حياتي من لواذع الوجدان، وانسوني قليلا لأنسى أحزاني، فقد طال ما قاسيت من شقاء الروح وعذاب الفؤاد.
الفصل السابع والعشرون
إلى ليلى المريضة في الزمالك
سيدتي
أشكر لك مرة ثانية ما تفضلت به من الكلمات الطيبات التي عطرت بها صفحات الصباح، وليتك تعرفين كيف تقع كلماتك على قلبي، إنها يا مولاتي تفعل به ما يفعل الندى بالزهر الظمآن، وهو قلب مفطور مجروح، عافاك الله مما يعاني!
ليتك تعرفين كيف أتنسم العافية كلما قرأت كلمة لسيدة لها قلب مثل قلبك، فما تمثلت القلم في أناملك اللطاف وأنت تصوبينه إلى صدري إلا طار صوابي وانتشيت.
وليتك تعرفين مرة ثالثة أنني لا أملك في مجازاتك على ما تبدين من رفق ولطف غير الاعتراف بأني المذنب، وأن إليك غفران الذنوب.
سيدتي
أتأذنين للعبد المذنب أن يحاسب سيدته الكريمة بعض الحساب؟ إن أذنت فأنا أسأل: كيف جاز لك أن تدافعي عن الأستاذ محمد؟ ألم تقرئي ما كتب في الصباح؟ ألم تنظري كيف أهان الحب فجعله ضربا من اللهو والمجون؟
أنا يا سيدتي لا أجهل فضل هذا الصديق، ولن أنسى مروؤته ما حييت، ولكني أراه في حاجة إلى تقويم وتثقيف، وسأدخل في دمه شيئا من الحديد، وسيذكرني بالخير يوم يعرف أني أنشأته خلقا جديدا.
ما هذا؟ أراني أخطو إلى مكاشفته بما في نفسي، لا، اسمحي لي أن أحبس قلمي، فعندي صواعق سأصبها فوق رأسه إن حدثته النفس بمصاولتي، وأرجوك أن تأذني بطرده نهائيا من جنة الحب، فلا يعود إليها إلا إن تاب وأناب، ولست باليائس من أن يتوب وينيب، فعطفك عليه خليق بأن يغمر قلبه في كوثر الصفاء.
لا تؤاخذيني يا سيدتي، فقد امتلأ قلبي بالحقد على هذا الصديق، لا تؤاخذيني فقد كنت أظن أنني رفعت قدر الحب بعد أن شغلت قلبي وقلمي بالحديث عنه عشرين عاما أو تزيد، ثم عرفت واأسفاه أن في مصر كاتبا اسمه الأستاذ محمد يستبيح لنفسه أن يقول إنه زار معشوقة الدكتور زكي مبارك وإنها أطلعته على الخطابات المعطرة التي يرسلها من بغداد.
ألم تقرئي هذا الكلام يا سيدتي؟ ألم تعجبي من الجرأة التي زينت له أن يكتب خطابا على لساني ليزعم أنه خطاب كتبته في بغداد إلى ليلاي في الزمالك؟
أرجو أن تعرفي أن هذا المزاح لا يضايقني لأنه لا يفضحني أمام أحد، فكل كاتب يمكن أن تزور باسمه رسائل الحب، إلا زكي مبارك؛ لأن لي أنفاسا حرارا يعرف الناس بها أدبي، ولا يستطيع الأستاذ محمد ولا ألف من أمثاله أن يلفقوا على حسابي ما يشتهون.
ولكن لا بأس، فهذا صديق يثق بالسلامة من شر غضبي، ولو كنت في القاهرة لأدبته بيدي، فإن سمعت في الصيف المقبل أنني قتلت رجلا فسيكون ذلك الأفاك الأثيم.
أما الدكتور سعيد عبده فلا يهمني من أمره غير الاطمئنان على صحته الغالية، فقد رأيته يتوكأ على عصا، والدنيا سخيفة كل السخف حين تسمح بأن يتوكأ الدكتور سعيد عبده على عصا، ذلك الفتى البسام الذي جاد قلمه بأجود الرسائل وأطيب الأقاصيص.
ثم ماذا يا سيدتي؟
ثم تدلينني على منزلك في الزمالك فتقولين: «فإذا سرت يمينا ثم شمالا تجد بيتي في مواجهتك ينهض على أعمدة من البلور وتصعد إليه على درجات من المرمر، فإذا سرت في أبهائه فأنت مسحور مأخوذ مبهور الأنفاس».
الله، الله!
هذا صحيح، وإني لأتذكر أني زرتك يا سيدتي في ذلك البيت، ولكني أنكر أني أسير يمينا ثم شمالا، فقد كنت أسير إليه شمالا ثم يمينا، ولكن قولك أصدق، فقد أكون نسيت لطول العهد، ولكثرة ما يحمل القلب من هموم وأحزان، عافاك الله مما أعاني.
ثم تقولين: «طالما تركت لك يدي لتقبلها، وهذا لم يمنع من أن تأنس روحي إلى روحك».
فأنت تشهدين بأنني قبلت يدك الكريمة وأن روحك أنست بروحي.
فهل تعرفين معنى ذلك؟
معناه يا مولاتي أنني ظفرت منك بطيف من الحنان، وهذا يزيد في وقدة الشوق، فما وردت موردا من موارد الحب إلا طال وجدي به وشوقي إليه، ولا رشفت ثغرا إلا بقى عطره في فمي، ولا استروحت ظلا من ظلال الحسن إلا بقى روحه في فؤادي، ولا رفعت بصري إلى وجه مشرق إلا بقى ضياؤه زادا شهيا تقتاته عيناي، ولا لعبت أناملي في الجدائل المعطرة إلا بقيت صورة هذا العبث الظريف مدار أوهامي وأحلامي.
سيدتي
إن خطابك لا يخلو من مزاح.
ولكن هل يؤذيني هذا المزاح؟ وكيف وهو يشهد بأنك كتبت ما كتبت وأنت تبسمين، ولو كانت البسمات مما تدفع فيه كرائم الأموال لبعت عقلي لأشتري لك بسمة أو بسمتين، أنا المحب الصادق الذي يبذل الدمع والدم في سبيل الملاح، وهل أبقى لي الهوى عقلا يشترى أو يباع؟
سيدتي
كيف أنت الآن؟ ألا يزال وجهك الجميل يشع بذلك النور الوهاج؟ كيف أنت بين وسائد الدمقس والحرير؟ كيف أنت فوق تلك الأريكة التي تختال حين تحوى جسمك الفينان؟
ثم تقولين يا سيدتي إنك ما أعطيت ميعادا لأحد، وإنك إنما تخرجين وحدك لتنسم الهواء العليل، ولتشرفي على الدنيا الصاخبة من وراء حجاب.
وهو كذلك، ولكن ما رأيك إذا حملني الطيش فقلت إنني قادر على الظفر منك بألف ميعاد وميعاد؟ لا تعجبي يا سيدتي ، فسيأتي يوم يشتاق فيه قلبك النبيل إلى صحبة قلب نبيل، سيأتي يوم تعرفين فيه أن شمائلك العالية في ظمأ إلى شمائل عالية، سيأتي يوم تعرفين فيه أن الكبرياء على رجل مثلي لا ترضاه حرائر القلوب.
لقد صرحت بأنك تشتاقين أحيانا إلى رؤية الدنيا الصاخبة، إن صح ذلك فسيحملك الشوق إلى رؤية قلبي، ففيه يا مولاتي مواكب للأفراح والأحزان، في قلبي يا مولاتي نعيم وجحيم، وفيه وديان وأنهار وبحار وجبال، وفيه الشهد والصاب، والهدى والضلال.
في قلبي يا مولاتي ما يشوق الأعين وما يفزع القلوب، والفرجة على قلبي يدخل إليها الملاح بالمجان، وهو قلب خطر هرب من شره الكرام الكاتبون، فتعالي أنت للتفرج عليه فالمرأة أجرأ من الملائكة وأجرأ من الشياطين!
أما الشاب الظريف الذي تزعمين أنه شفاك فأنا أسمح له بأن يقطف من روضك ما يشاء، لأني أعرف أنه لا يزحزحني عن مكاني، وأفهم أنه في حاجة إلى رعايتي، ويسرني يا مولاتي أن يكتوي بنار الحب كما اكتويت، ليصير فيما بعد من كبار الرجال.
أما غيرتك من المرأة العراقية فسأعود إليها في غير هذا الخطاب، والسلام.
الفصل الثامن والعشرون
الأدب والأخلاق
حضرة الأستاذ محرر المكشوف
تحيتي إليك وإلى زملائي الأعزاء، وبعد ...
فإني أصارحك بأني لم أرض عما نشرتموه عني في مجلتكم، ولكن لكم في بغداد أصدقاء يؤكدون أنكم لا تريدون غير إيقاظ الحياة الأدبية، فإن كان ذلك ما ترمون إليه فعلى الرحب والسعة، واشتموني كيف شئتم، فأنا أومن بأن كل سطر يقرأ هو سهم موجه إلى صدر الجهل.
ولكم أيضا أصدقاء في بغداد يؤكدون أنكم تحترمون حرية الرأي، فإن صح هذا فأنا أشكوكم إليكم، ولعلكم تتفضلون بنشر هذا الخطاب، ثم تعلقون عليه بما توجب أخلاق الرجال.
أولا:
صدقتم من يزعم لكم أني قلت إن الأديب في حياته العامة يعامل الناس بالتلون والتقلب، ولو راعيتم أصول النقد لعرفتم أنه من المستحيل أن يصدر عني هذا الكلام.
ثانيا:
سمحتم لأحد الشبان أن يحرض علي أهل العراق فيقول: إن الدكتور زكي مبارك يزعم أنه الطبيب الوحيد الذي يقدر على مداواة ليلى المريضة في العراق، مع أن في العراق كثيرا من الأطباء النطاسيين، وسيغار أهل العراق على كرامتهم فيحاسبون الدكتور مبارك أشد الحساب!
ولم تكتفوا بهذا؛ بل نقلتم الدسيسة الخسيسة التي نشرها سعيد العريان في مجلة الرسالة، إذ يزعم في سخفه أني أنكر خصومتي للرافعي لأتقرب إلى أهل العراق، وأنا موقن بأن الأستاذ الزيات لم يراجع تلك الكلمة، فمرت مرور الباطل على مساعديه.
وأحب أن يعلم من في مصر ومن في لبنان أني لا أتودد إلى أهل العراق، وإنما أحمد الله عز شأنه على أن شرفني بخدمة الأدب العربي في العراق، وأحب أن تعرفوا جميعا أن زكي مبارك لا يخاف إلا ربه ولا يؤذيه أن تحاربه جميع الجرائد والمجلات في سائر الأقطار العربية.
ثالثا:
عجبتم من أن أرد عليكم في مجلة الصباح لأنها في رأيكم مجلة المطربين والمطربات، وأحب أن أقول لكم بعبارة صريحة مكشوفة إني أعرف صاحب مجلة الصباح منذ ثمانية عشر عاما، فلم أعرف فيه غير الأدب والصدق والوفاء، وأعرف المحررين في مجلة الصباح معرفة تكفي للثقة بأمانتهم ونزاهتهم، ومن أجل ذلك أكتب في مجلة الصباح من حين إلى حين، بل أرى من الواجب أن أساهم في تحريرها كلما ساعدت الظروف.
ومن التحكم أيها السيد أن تطلبوا مني أن أرى الدنيا بعيونكم، ومن التحكم أن تقولوا إن المجلات التي تمثل مصر هي الرسالة والمقتطف والهلال، فهذه حقا مجلات جيدة، ولكن في مصر عشرات من المجلات تصور جوانب كثيرة من المجتمع، ولا يمكن الغض من قيمتها الأدبية إلا إذا أنكرنا الحقائق على نحو ما تفعلون في بعض الأحيان.
رابعا:
زعمتم أني أكدت أن المودة في لبنان مودة عابرة كسحابة الصيف، وهذا منكم تحريف لكلامي، وهو تحريف لا يقع فيه رجل سليم الطوية.
ويهمني والله أن أسألكم: كيف جاز لرجل مثلي أن يقضي في مدينتكم ليلة واحدة ولا يسلم من الأقاويل والأراجيف بالرغم من حرصه الشديد على التعرف إلى من فيها من الأدباء، مع أني صحبت جماعة من أدباء تونس سنين عديدة ولم تمسني منهم كلمة سوء، ومع أني أقمت في بغداد أشهرا وأنا أصاول وأجادل كل يوم ولم أسمع من العراقيين كلمة ينفر منها الذوق.
خامسا:
زعمتم أني أقيس الأدب بمقياس الصداقة، ونسيتم جهودي في تحرير الأدب من النزعات الشخصية ونسيتم أني أول من رفع أعلام النقد الأدبي في العصر الحديث.
سادسا:
أكدتم لقرائكم أنكم تفرقون بين الأدب والصداقة وأني سأجد فيكم دائما أصدقاء أوفياء يعربون عن عواطفهم الخالصة بالأعمال لا بالأقوال، فأين مصداق ما تقولون وقد حملتموني على الندم إذ تعرفت إليكم، وسلمت عليكم؟ ألا ترون أنه كان الأنفع أن أمر بمدينة بيروت فلا أرى غير الجدران؟ ولكن ما قيمة الجدران بدون الرجال؟ وهل كانت بيروت أجمل مدينة حتى نضيع الوقت بالمرور عليها؟ إن يوما واحدا في الإسكندرية أجمل من قضاء الدهر كله في بيروت، فأعزوا مدينتكم بحسن الأدب، يا أدباء لبنان، والسلام.
الفصل التاسع والعشرون
الشهرة مرض مزعج
صديقي
رسالتي في هذه المرة قصيرة جدا، وهي في التألم من مرض الشهرة، ذلك الداء العضال الذي لا يرجى منه شفاء.
الشهرة مرض مزعج، ولا يعزيني إلا شيء واحد هو أنني لم أسع أبدا إلى الشهرة، وأنت تعرف أخلاقي، أنت تعرف أنني لم أنفق في حياتي درهما واحدا في سبيل الشهرة كما يفعل من يشترون الشهرة بوسائل مختلفات.
ولكن هذه الشهرة الجذابة التي يبذل في سبيلها الناس ما يبذلون أصبحت تزعجني وتعطل أعمالي، بحيث أصبحت وأمسيت لا أفتح بيتي لطارق وإن طال وقوفه بالباب، وما أكثر من يطرقون بابي ثم ييأسون.
وفي مساء هذا اليوم وقع حادث طريف هو من جنايات الشهرة فقد دخلت المنزل الذي أقيم فيه فرأيت جماعة من السكان ينتظرونني، أتدري لماذا؟ ليقولوا في صوت واحد: يحيا شارع فؤاد، تحيا الزمالك، تحيا سنتريس! تحيا الرسالة! يحيا الصباح.
وقد ظننتهم سكارى فدخلت وأغلقت الباب بالمفتاح، وشرعت في أعمالي التي ستعرف بعض شواهدها يوم ألقاك، وظلوا هم يهتفون حتى يئسوا من خروجي إليهم، وكنت على الرغم من أشغالي أتسمع فلا أراهم ينطقون بغير الجميل، وهل ينطق العراقي بغير الجميل؟!
والآن وقد فرغت من أعمالي في الساعة الثالثة بعد نصف الليل أتسمع فلا أسمع شيئا، فأفهم أن جيراني ناموا وعلى شفاههم يحيا شارع فؤاد، تحيا الزمالك، تحيا سنتريس، تحيا الرسالة، يحيا الصباح.
ثم أتذكر أن في مصر ناسا ينامون ملء الجفون ولا يخطر ببالهم أن في العراق رجلا مصريا يشقى ويكدح ليجعل لمصر صوتا في العراق، متى تسكرون لتقولوا كلمة الحق، كما سكر جيراني فقالوا كلمة الحق؟
الفصل الثلاثون
سهرات المسيو دي كومنين
مضت أعوام وأعوام وأنا لا أعرف التسويد ولا التبييض، فكيف اتفق أن أكتب هذه الكلمة خمس مرات، وأتردد في نشرها أكثر من عشرين مرة؟
لقد مزقت ما كتبت، وعدت إلى فطرتي في الإنشاء، عدت إلى الفطرة السليمة النقية التي صقلتها باريس، على أيامها أزكى التحيات. وأنا أكتب هذه الكلمة طوعا للأواصر المتينة التي تجمع بيني وبين المسيو دي كومنين، فإن رضى عنها فذلك ما أرجوه، وإن غضب فليست أول مرة أهتاج فيها ذلك القلب النبيل.
ومن هو المسيو دي كومنين؟
كان التعارف في شهر ديسمبر سنة 1928 بعد عودتي من باريس للمرة الثانية، وكان الذي تفضل بالثناء علي عند مدير الليسيه رجلان من أساتذتي هما: المسيو باباني، والدكتور ضيف، وكان المسيو دي كومنين في ذلك العهد مراقبا عاما لمعهد الليسيه.
ولم يمض أسبوع واحد حتى أصبحنا صديقين، وهي صداقة لا أعرف كيف صرت لها أهلا، فقد غمرني هذا الرجل بأفانين من العطف ما أحسبه تفضل بها على أحد سواي، ومضت المودة تكبر وتعظم وتضخم حتى صار من حقي أن أدخل بيته حين أشاء ولو بعد نصف الليل.
ولم تقف الصداقة عند هذا الحد، بل مضى الرجل إلى أهلي في سنتريس فصادقهم وأحبهم، وتعلق بهم وتعلقوا به أشد التعلق، فكان يسأل عنهم ويسألون عنه في كل حين.
واشتدت الصداقة بينه وبين أبي فكانا يتعانقان عند اللقاء، ويأنس كلاهما بصاحبه أنسا شديدا، مع أن أبي كان يجهل الفرنسية، والمسيو دي كومنين يجهل العربية.
ولما مات أبي رحمه الله عزاني المسيو دي كومنين ببرقية مطولة جدا، ثم تجشم الانتقال إلى سنتريس ليعزي أهلي.
وأرجع إلى سهراتنا فأقول: كان التكليف ارتفع بيني وبين هذا الرجل العظيم، فكنت أمضي إليه قبيل العشاء، وكان لي دائما على مائدته مكان محفوظ، وكان للحديث شجون وشجون، فكنا نتكلم في كل فن، كنا نتكلم في الفلسفة وفي الأدب وفي التشريع، وما أذكر أبدا أن هذا الرجل ضاق علمه أو خياله عن شيء، ومن المؤكد أن هذا الرجل له تأثير شديد في حياتي الأدبية: فعن طريقه تعلمت ما فاتني أن أتعلمه في السوربون.
كانت سهراتنا أول الأمر في منزله بشارع خلف، ثم صارت في منزله بشارع قصر العيني، ثم صارت بمنزله في عمارة الليسيه، وكنت أنا قطب الدائرة في تلك السهرات، ولا أدري كيف اتفق ذلك، فما أعرف أبدا أن المسيو دي كومنين أحب إنسانا في مصر كما أحبني، ولا أعرف أبدا أن المسيو دي كومنين اشتاق إلى صديق حين يغيب كما كان يشتاق إلي حين أغيب.
وفي تلك السهرات كان يتوافد إلى المنزل عشرات من أقطاب الرجال فيسمرون كيف شاءوا ثم يخرجون، وأبقى أنا، أبقى إلى أن يفوتني المترو، فينزل معي المسيو دي كومنين ويصحبني بسيارته الأمينة إلى منزلي بمصر الجديدة.
وقد طالت صحبتنا وطالت، وعرف المسيو دي كومنين ما ظهر وما خفى من شؤوني فكان يصادق من أصادق ويعادي من أعادي، وقد مرت بي ظروف حرجة جدا لم أجد فيها من يواسيني غير ذلك الصديق العظيم. •••
وفي أحد الأمسية كنت في مجلس أنس مع جماعة من الأصدقاء في صيف سنة 1931، ولكن المجلس تكدر علي بلا سبب أعرفه فقضيت السهرة وأنا حزين، وفي الصباح عرفت السبب فقد ذهبت إلى المسيو دي كومنين فوجدته في صورة أخطر وأفتك من صورة الأسد الغضبان، ورأيته قد كتب إلي خطابا سوده وبيضه نحو عشر مرات، وعند العتاب عرفت أن جماعة من الزملاء زاروه في المساء وترجموا له كلمة نشرتها في جريدة البلاغ وفيها أن الفرنسي متحول متقلب لأن جو فرنسا متحول متقلب، وأنه كما يجب عليك في يوم الصحو أن تحمل مطريتك لئلا تمطر السماء على غير موعد فكذلك يجب أن تحترس من الفرنسي البسام لئلا يثور على غير موعد.
فقلت: وما الذي يزعجك من هذا التصوير الطريف يا مسيو دي كومنين؟
فقال: التصوير لم يزعجني وهو يدل على ذكاء، ولكن الذي أزعجني ألا تحب فرنسا من أجل صديقك المسيو دي كومنين كما أحب مصر من أجل صديقي زكي مبارك.
وكان أعظم درس تلقيته في حياتي فصرت لا أرى البلاد إلا في صورة من أعرف فيها من الأصدقاء. •••
وبعد سنين من هذه المودة الغالية دخلت منزلي فعلمت أن المسيو دي كومنين طلبني بالتليفون أكثر من عشرين مرة فمضيت إليه مسرعا فقابلني باسما، وهو يقول: تعال، تعال عندي خبر مهم جدا جدا، عندي خبر يشرح صدرك.
فقلت: هات ما عندك.
فقال: يجب أن تعرف أن لمصر ملكا عظيما.
وكان ذلك في اليوم الذي تشرف فيه المسيو دي كومنين بإعطاء أول درس في الأدب الفرنسي لحضرة صاحب الجلالة الملك فاروق. •••
وبعد أشهر افتتح معهد الليسيه بمصر، وعين المسيو دي كومنين مديرا لذلك المعهد، فابتسم وقال: أصبحت جارك يا دكتور مبارك، وبعد أيام طلبتني حكومة العراق فتذكرت نصيبي من سهرات المسيو دي كومنين، ذكرت نصيبي من تلك السهرات في حسرة ولوعة، فمضيت إليه وأنا أرجو أن يصدر أمره العالي بمعني من السفر إلى العراق، ولكن الرجل أخلف ظني، فقد قال: إن سفرك إلى العراق واجب يا دكتور مبارك، لأنك شغلت نفسك أعواما طويلة بأدباء العراق، ورؤية تلك البلاد تعود عليك بأعظم النفع، ولو أنك فكرت في السفر إلى فرنسا لمنعتك لأنك عرفت فرنسا وعرفتك. •••
ثم دعاني المسيو دي كومنين إلى وليمة عشاء قبل الفراق، ويا لها من سهرة وياله من عشاء! لم يكن عند المسيو دي كومنين غير جملة واحدة يرددها وهو محزون: «لقد فرحت بانتقالي إلى مصر الجديدة لأكون بجوار الدكتور مبارك، وما كنت أعلم أن الأقدار ستحكم بفراق الدكتور مبارك».
وفي اليوم التالي نشر الجورنال ديجبت أني مسافر إلى العراق فلم يبق فرنسي يعرفني بالقاهرة إلا وهو يسأل بالتليفون كيف أسافر وأترك المسيو دي كومنين؟ وكانت أبلغ تحية تحية المسيو كازاتي الذي لم يرني غير مرة واحدة، وأنا اليوم أعد الأيام والليالي لأعرف متى ألقى المسيو دي كومنين.
فما هذا الضعف النبيل الذي يربطني بأصدقائي إلى هذا الحد؟
ما هذه العواطف التي تقض مضجعي وتشرد نومي؟.
سنلتقي بإذن الله يا مسيو دي كومنين.
سأعود إلى المنزل الذي تشهد أحجاره وأشجاره بأنني أكرم صاحب وأشرف صديق.
سأعود إلى الصديق الذي لم يكن يثق بأحد سواي. سأعود إلى الصديق الذي عميت عينه عن عيوبي فكنت عنده أعظم الرجال.
سأعود بإذن الله إلى الرجل الذي يتحلى بأخلاق الملوك، وكان أجداده من الملوك.
ستعود أذناي إلى الأنغام الفرنسية التي يجود بها ذلك الفم المعسول. سيعود لساني إلى الانطلاق بلغة أناطول فرانس في حضرة المسيو دي كومنين.
سأسهر مع المسيو دي كومنين في سنتريس، ولكن كيف وقد مات أبي؟ إن موتك يا أبتاه حرمني لذة الشوق إلى الأعياد والأفراح، فاشهد عند ربك أنني من الأوفياء.
الفصل الحادي والثلاثون
غرام «مي» بالرافعي
قالت مجلة المكشوف:
كان الدكتور زكي مبارك قد صرح لأحد الأدباء في بغداد أن لا صحة البتة لما زعمه الأستاذ محمد سعيد العريان من غرام الرافعي بمي، وكان من المنتظر أن يؤيد الدكتور مبارك تصريحه هذا بوقائع صريحة تنفي هذا الغرام الذي شككنا فيه منذ اللحظة الأولى لأسباب لا مجال للتبسط فيها الآن.
ولكن الدكتور مبارك آثر البقاء على الحياد في هذه المعركة، مع أنه اعتاد خوض معارك أقل شأنا من هذه، وكم كان خروجه عن هذا الحياد مفيدا لو عرف.
إلا أننا قرأنا في عدد «الرسالة » الأخير كلمة الدكتور مبارك حول ما ينشره الأستاذ العريان عن خصومات الرافعي استطرد فيها الكاتب إلى ذكر «فلانة» - أي مي - فقال: «وقد آذاني ما كتبه (والضمير عائد إلى الأستاذ العريان) عن «فلانة» التي جلست معي جنبا إلى جنب أربع سنين في الجامعة المصرية، وعرفت من شؤونها ما لا يعرف».
ووقف الدكتور مبارك عند هذا الحد من كلامه عن «مي» وعلاقة الرافعي الغرامية بها، فهل يعني ذلك أن الأستاذ العريان تخيل هذه العلاقة، أم يعني أن هذه العلاقة قامت بين الرافعي ومي على غير الشكل الذي يصفها فيه الأستاذ العريان؟
أما الأوساط الأدبية التي تتبعت فصول الأستاذ العريان فتطالب الدكتور مبارك بإفصاح عن فكره، لأن ما كتبه حول هذه المسألة غامض، ولا يفيد شيئا، ولعله يغتنم هذه الفرصة لبسط ما يعرفه من شؤون «مي» فيلقي نورا جديدا على هذه الناحية الطريفة في شخصيتها الأدبية.
حضرة الأستاذ محرر المكشوف
أقدم إليك أصدق الشوق إلى لقائك، فإن اللحظات التي قضيتها عندك لم تكن كافية للتعرف إلى أدبك ولطفك، وأعتذر عن الجواب الذي يفصل ما أجملته في الكلمة التي نشرتها بمجلة «الرسالة» عن غرام مي بالرافعي، وهو الغرام الذي تخيله أو ادعاه حضرة الأستاذ سعيد العريان.
وأنت تعرف أني لا أبالي المعارك القلمية، ولكن موقفي في هذه المسألة دقيق، لأني قد أتهم الرافعي - رحمه الله - بالتزيد وسوء الأدب، إن صحت رواية العريان، وكان للرافعي أن يحب من يشاء، ولكن القول بأن مي أحبته وأغرمت به وتهافتت عليه، كلام لا يقول به إلا إنسان مخبول.
بقى الكلام عن سرائر مي وكانت لها سرائر من الحب الدفين، فهل ترى من الذوق، يا سيد فؤاد، أن نفصح عن هذه السرائر تلبية لما سميته أنت رغبة الأوساط الأدبية؟
لقد حدثتمونا أن مي لا تزال صحيحة، فلتعرف في صحتها المنشودة أن في الدنيا أصدقاء نبلاء يبغضون اللغو والفضول.
اعذرني أيها الصديق، إذا طويت ما أعرف من شؤون الآنسة مي، وقد صحبتها أربع سنين في الجامعة المصرية يوم كانت أطيب من العطر، وأرق من الأملود المطلول.
وغضبة الله على الأدب والأدباء إذا استطاعت الألسنة أن تمضغ ذلك العرض النبيل!
أيها الزميل
أرجو أن تذكر أن الذي كتب ذلك الكلام هو أديب عريان، وبعض أهل العري لا يستحون!
هذا، ولا يفوتني أن أشكر من أنطقوني بما لم أقل يوم مررت على بيروت، وكان اختراعهم فرصة لمناوشة الأقلام على صفحات «المكشوف» فقديما قيل:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
جعل الله بلادكم من حصون اللغة العربية أبد الآبدين، وتقبل تحية المشتاق إليك وإلى إخوانك المحررين في مجلة «المكشوف».
الفصل الثاني والثلاثون
غزال يترنح في شوارع بغداد
صديقي
هاك القصة الآتية:
استأنفت أعمالي بالأمس في الساعة الخامسة بعد الظهر، وما زلت أدرس وأراجع حتى رأيتني في الساعة الثانية بعد نصف الليل فهالني الأمر، لأني قضيت تسع ساعات في نفس واحد، وأسرعت فأويت إلى فراشي، ولكني استيقظت قبل الشروق، فعدت إلى العمل من جديد، وظللت كذلك حتى الظهر، فلم يكن بد من الطواف على شاطئ دجلة لأريح أعصابي، فكانت تمر السيارات فيسلم علي راكبوها بدون أن أعرفهم فأقول في نفسي: هؤلاء أهل ليلى المريضة في العراق.
وفي رجوعي إلى البيت رأيت رجلا يقود غزالا في شارع الرشيد غزالا وحشيا من سكان الصحراء، فاستوقفت الرجل.
وقلت: يا عمي، بكم تبيع هذا الغزال؟ فقال: تريد كلمة واحدة؟ فقلت: نعم! فقال: ثمنه ثلث دينار، فاستصغرت الثمن وتجاهلت كلمته. ثم قلت: ثمنه دينار؟ فقال: نعم، ثمنه دينار.
فمددت يدي إلى الغزال لأرى عينيه فقد طال عهدي بعيون الظباء، ولكن الغزال كان يرتعد من الخوف، وهي أول مرة تخافني فيها الظباء!
ولم تمض لحظة حتى اجتمع من حولنا الناس، وكان في نيتي أن أشتري ذلك الغزال، ثم تذكرت أن الظباء تأكل حب القلوب، وتذكرت أن قلبي لم تبق منه بقية يعيش منها الظباء.
ولاحظ الرجل ترددي، فقال: إن هذا الغزال لا يشرد أبدا، فهو يترك في حوش البيت بلا خوف.
وعندئذ وجدت الفرصة للتخلص فوضعت فمي على أذن الرجل، وقلت: (أنا أعرف يا عمي أنك مستعد لبيع هذا الغزال بثلث دينار، وهذا المبلغ لا يضايقني، ولكني أحب لك الخير وأرجو أن تبيعه لغيري بدينارين، أنت قلت إنه غزال لا يشرد، لتجذب إليه الراغبين، والأصلح لك يا عمي أن تقول إنه غزال شرود لترتفع قيمته في أعين الراغبين).
وما كدت أنفجه بهذه النصيحة حتى مضى وهو يصيح: غزال شرود لا يقيم على عهد، ثمنه عشرون دينارا فقط، فأين من يعرف قيمة الظبي الشرود!!
الفصل الثالث والثلاثون
أسئلة أدبية
موجهة إلى أستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية بالعراق
الأستاذ الدكتور زكي مبارك
نرجو من الأستاذ الدكتور زكي مبارك التفضل بالإجابة على الأسئلة التالية: (1) من هو الشاعر الذي تعتقدون بحق وإخلاص أنه أشعر شعراء العربية في الوقت الحاضر مع ذكر اسمه؟ (2) من هو الأديب الذي تعتقدون بحق وإخلاص أنه أحسن أدباء العربية في الوقت الحاضر مع ذكر اسمه؟ (3) ما هي الأسباب الرئيسية التي أخرت النهضة الأدبية في العراق، ثم ما هي الأسباب التي تساعد على النهضة الأدبية في العراق؟ (4) ما رأيكم الصريح في الصحافة العراقية اليومية والأسبوعية، وهل تقوم بتأدية رسالتها، وما هو السبيل إلى رقيها؟
جريدة الهدف
الفصل الرابع والثلاثون
لكل سؤال يا بثين جواب
حضرة الأستاذ محرر الهدف
قرأت أسئلتك، وهي حيلة صحفية لطيفة، ولكن يظهر أنك تريد أن تجرني إلى ضروب من الجدل تنفع جريدتك وتضيع وقتي، كما يصنع معي الصحفيون المصريون، أراني الله وجوههم بخير وعافية.
فما رأيك إذا أجبتك إجابة قاطعة تضيع فيها حيلتك هذه المرة؟
من هو الشاعر الذي تعتقدون بحق وإخلاص أنه أشعر شعراء العربية في الوقت الحاضر مع ذكر اسمه؟
وأجيب بأن هذا السؤال يشهد بأن فيكم رجعة إلى العقيدة التي كاد يتفرد بها الشرق وهي عقيدة التوحيد، فالشرقيون كانوا أول من آمن بالوحدانية - وحدانية الله - حتى قال القائلون إن مصر سبقت أمم الشرق إلى التوحيد بفضل الملك الشاعر أخناتون.
وأنا بحمد الله أؤمن بأن الله منزه عن الشريك ، ولكني أكره أن أكون «موحدا» في الآداب والفنون، فلا يسوغ في ذهني أن يقال: من هو أشعر شعراء العربية؟ ومن هو أعظم كتاب العربية؟ ومن هو أفصح خطباء العربية؟
وقد اتفق لي من قبل أن أحارب مجلة الحديث الحلبية حين زعمت وزعم بعض قرائها أن الدكتور طه حسين أكبر أديب، فقلت: إن الدكتور طه أشهر أديب وليس أكبر أديب.
وكنا في مصر نجعل شوقي أمير الشعراء، ولكنكم لو رجعتم إلى الجرائد والمجلات لرأيتم مئات المقالات في الثورة على ذلك اللقب مع ما تعرفون ويعرف العرب جميعا من عظمة شوقي.
والرأي عندي أن يقوم فريق من الناقدين بالبحث عن الشعراء المغمورين فقد تكون فيهم مواهب يقتلها الخمول، وقد اقترحت مائة مرة ومرة أن يؤلف كتاب يجمع الأطايب من الشعر الحديث في جميع الأقطار العربية على نحو ما صنع الثعالبي في القرن الرابع، ولكن يمنع من ذلك أن العصر الحاضر ليس فيه رجل واحد يملك من الإخلاص ما كان يملك الثعالبي، فأهل هذا العصر يغلب عليهم الحقد ولا يحب أحدهم خيرا لأخيه، ولا ينبغ النابغ في زماننا إلا إن كان فيه من الحيوية ما يرغم حاسديه على أن يخلوا له الطريق.
وقد اتفق مرة للدكتور عبد الوهاب عزام أن يثنى على الرافعي في مجلة الرسالة ثناء مستطابا ثم حدثني بعد ذلك أنه لقى مر العتب من بعض الأصدقاء.
ولما مات شوقي رثاه صاحب البلاغ بكلمة طيبة، ولكنه وجد من يعترض بأن شوقي لم يكن من الوفديين، ومعنى ذلك أن الخصومة السياسية قد تنقلت إلى خصومة أدبية.
هذا اقتراح أذعته في مصر ثم ضاع، فهل ترون من الخير أن أقدمه إلى أدباء العراق؟
ويسرني أن أعلن بلا موارية وبلا تكلف أن الله نجاني من هذا المرض البغيض: فما أذكر أبدا أني جحدت الحق، وربما كنت أشجع أهل هذا العصر لأني أنصف أعدائي، في زمن يضن فيه الأصدقاء بالإنصاف.
وخلاصة القول أني أنكر التوحيد في الآداب والفنون، وذهني يسيغ الحكم بأن أبا تمام في بابه أشعر من البحتري في بابه، والبحتري في بابه أشعر من أبي تمام في بابه، والمتنبي أشعر من الشريف الرضي، والشريف الرضي أشعر من المتنبي، وشوقي أعظم من حافظ، وحافظ أعظم من شوقي، والرصافي أعظم من الزهاوي، والزهاوي أعظم من الرصافي، وزكي مبارك في بابه أعظم من الجميع.
وهذا الكلام يحتاج إلى توضيح، وقد بينته في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء).
من هو الأديب الذي تعتقدون بحق وإخلاص أنه أحسن أدباء العربية في الوقت الحاضر مع ذكر اسمه؟
وأقول مرة ثانية إن فيكم رجعة إلى عقيدة التوحيد، مع أن الشرك أفضل في هذا المجال، ولكن لا بأس من الإشارة إلى أن الأدباء المصريين في الوقت الحاضر يتسامون جميعا إلى هذا اللقب الطريف، وسيموت منهم ناس قبل الأوان بفضل الكدح، وأخشى أني أقول مثلا إن خصومتي مع الدكتور طه حسين ستقصف عمري، لأني أحاول طرد مؤلفاته من الأسواق لتحل محلها مؤلفاتي، ولأغتصب ما ادعاه لنفسه من زعامة الأدب العربي، وستنقل جرائد مصر هذه الكلمة وسيبيت الدكتور طه مؤرقا لأنه سيتذكر أنه لم يؤلف كتابا في قوة كتاب «النثر الفني».
ومن شواهد هذا النضال تلك الحمى المخية التي ترونها في أدباء مصر، وإلا فما الذي يوجب أن نرى اسم العقاد واسم المازني في جميع الجرائد والمجلات؟
وما الذي يوجب أن يصبح هيكل أعشى لا يكاد يبصر بفضل سهر الليل؟
وما الذي يوجب أن تهجم الشيخوخة على الأستاذ أحمد أمين؟
ولأي سبب يذوى غصن الأستاذ محمد عبد الله عنان حتى كاد يضاف إلى الفانين؟
إن الأدباء المصريين مجانين، وهم سيقتلون أنفسهم، وسيقتلونني معهم، لا عفا الله عنهم، ولا حشرهم إلا في زمرة السفهاء.
على أن المصائب لا تخلو من منافع، فهذه المنافسة التي ستصرعنا جميعا هي التي جعلت هذا العصر أعظم عصور اللغة العربية، هي التي جعلت المطابع المصرية تخرج في كل عام نحو أربعة آلاف كتاب وهي التي جعلت الأديب العربي يستطيع أن يجد في كل يوم كتابا جديدا يقرؤه بلذة وشوق، والتي جعلته يعجز عن متابعة ما ينشر في الصحف والمجلات، وهذا أمل كنت دعوت إليه منذ سنين فتحقق بأقوى وأعنف مما كنت أريد. •••
أتراني أخلفت ظنك في الجواب الأول والجواب الثاني؟
لا بأس فقد تجد شيئا في الجواب الثالث أو الرابع.
تسأل عن الأسباب الرئيسية التي أخرت النهضة الأدبية في العراق؟
ومعنى هذا أنك تقول بتأخر النهضة الأدبية عندكم، فاسمح لي بتسجيل هذا القول، فإنه مهم جدا، وهو يشهد بأن النهضة الأدبية موجودة بالفعل، وعدم الرضا عما تملك يشهد بأنك أهل لأكثر مما تملك، وأنا أحتفظ بآرائي في نهضة العراق إلى الوقت الذي أتحلل فيه من التشرف بخدمة العراق، فقد يقال إنني ضيف يحدوه حسن الأدب على الرضا عن كل ما في البيت، مع أن الواقع أن في العراق نهضة أدبية تستحق الاهتمام والتشجيع، وليت الزمن يسمح بتسجيل آثارها بعد حين، على أنه لا مفر من الاعتراف بأن النهضة الأدبية الحاضرة أقل مما ينتظره الأدب من العراق والأسباب الرئيسية كثيرة، أهمها ما يأتي:
أولا:
كان التعليم في العراق باللغة التركية إلى عهد قريب، وكان من أثر ذلك أن أصبح أكثر الرجال المثقفين لا يملكون القدرة على الإنشاء والتأليف باللغة العربية كما يملكون ذلك باللغة التركية، فهم في أنفسهم أدباء ومفكرون، ولكنهم يعجزون عن تغذية النهضة الأدبية، وهذا العائق لن يدوم لأن الجيل الحديث يتعلم باللغة العربية.
ثانيا:
شغلكم النضال السياسي عن الأدب فضعف النشر والتأليف.
ثالثا:
وزارة المعارف عندكم مشغولة بإعداد المدرسين، ويمنعني الذوق من التصريح بأنها مصروفة عن إعداد الأدباء والمؤلفين، ولعلها تعدل منهاجها بما يجمع بين المزيتين.
أما الوسائل التي تعين على تقوية النهضة الأدبية في العراق فكثيرة وميسورة.
ويحسن النص بوضوح على وجوب الإكثار من البعثات إلى القاهرة فإن القاهرة تؤدي في العصر الحديث ما كانت تؤديه بغداد في العصر العباسي، وهذه البعثات المنشودة يجب أن تكون تحت رعاية رجل مسئول، فالقاهرة مدينة كبيرة، وفيها عيوب المدائن الكبيرة، والمحاسن الحقيقة في القاهرة تحتاج إلى دليل ، ولو استطاع الشاب العراقي أن يعيش في القاهرة عيش الموفقين لكان في مقدوره أن ينفع وطنه أجزل النفع حين يعود.
فما الذي يمنع من أن يكون لكم في القاهرة دائرة تسمى البعثة العراقية، ما الذي يمنع أن يكون لكم في القاهرة خمسون أو ستون يتخصصون في الدراسات الأدبية ليعودوا فينشئوا في بغداد مدرسة مثل دار العلوم أو معهدا مثل كلية الآداب؟
إن هذه البعثات التي أنشدها ستنفع العراق من ناحيتين.
ستنفع من الوجهة الأدبية، وستنفع من الوجهة العمرانية.
أما الوجهة الأدبية فظاهرة، وهي كفيلة بأن تخلق التنافس الأدبي بين القاهرة وبغداد، وأنا أتطلع إلى اليوم الذي يقع فيه هذا التنافس لتزداد القاهرة حياة إلى حياة.
أما الوجهة العمرانية فتحتاج إلى شرح:
وبيان ذلك أن القاهرة في هذا العصر أصبحت مدينة هائلة جدا ولا يعرف قيمتها إلا من يراها رأي العين، وفيها ضواح لا تعرف أمثالها باريس، والشاب العراقي حين يعيش في القاهرة ويرى الزمالك والجيزة والمعادي وحلون ومصر الجديدة وحدائق القبة سيذكر ولا ريب أن من واجبه أن يفني عمره في تجميل بغداد، ولا بد للعراق من شبان يؤذيهم أن تظل بغداد على ما هي عليه، ولا مؤاخذة يا سيدي، فأنا متألم لحال بغداد، ولو كان بيدي شيء من الأمر لأريتكم كيف يكون تخطيط عاصمة الرشيد.
هذه وسيلة.
أما الوسيلة الثانية فإيجاد الجوائز الأدبية، ومن الممكن تخصيص ألف دينار في كل سنة توزع منها الجوائز على المتفوقين في اللغة العربية، ولو صنعتم ذلك لضمنتم الظفر بطلائع الحياة الأدبية، وأظنني ضمنت لكم جائزة النحو في البصرة، فقد ألقيت فيها محاضرة ثم اقترحت على سعادة المتصرف وسعادة مدير المعارف هناك إنشاء جائزة نحوية، فإن من العيب أن لا يتفوق أهل البصرة في النحو، وكان أهلها أساتذة الناس في هذا الباب، ضمنت لكم هذه الجائزة؛ لأن من العسير أن يخذلني سعادة متصرف البصرة، أو سعادة مدير المعارف بالبصرة، وهما قد وعدا بتحقيق هذا الاقتراح أمام جمهور يعد بالمئات، وسأنتظر شرف الإنجاز في وعود الرجال.
قد تقولون: وهل في مصر جوائز أدبية؟
وأجيب بأن في مصر جوائز عظيمة جدا، وهي خذلان الأدباء، ولعنة الله على الزمن الذي يضطرني إلى اغتياب مصر في العراق.
أستغفر الله فقد تلقيت اليوم خطابا من كلية الآداب بالجامعة المصرية هذا نصه:
حضرة الدكتور زكي مبارك
لمناسبة مباشرة حضرة صاحب الجلالة مولانا فاروق الأول سلطته الدستورية وما قررته دار الكتب المصرية من منح هدايا لأوائل الناجحين في الدراسات النهائية للجامعة المصرية ترجو الكلية الطالب إفادتها عن اسم وعنوان من يوكله بمصر في استلام الكتب الموضحة بعاليه الخاصة به بأقرب فرصة لإرسالها إليه.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
ثم إمضاء حضرة سكرتير كلية الآداب.
والخطاب لطيف، لأنه وثيقة رسمية تشهد بأنني كنت من أوائل الناجحين في الدراسات النهائية للجامعة المصرية.
ولكن أتعرفون ما هي هذه الجائزة؟ هي نسخة من ديوان مهيار ونسخة من ديوان صر در، ولكم أن تتصوروا مبلغ فرحي بهذه الجائزة حين تعرفون أن لي أبحاثا عن أشعار هذين الشاعرين عرفها قراء مؤلفاتي منذ أكثر من عشرين سنة، فلم يبق إلا أن يمنحوني نسخة من كتاب «القراءة الرشيدة».
ولو كانت الجامعة المصرية تعرف السبيل إلى تشجيع أبنائها لسألتني عن كتاب «التصوف الإسلامي»، وهو كتاب مخطوط يقع في أكثر من ألف صفحة أنقله معي من أرض إلى أرض إلى أن يسمع بأخباره رجل منصف فيتطوع بطبعه لوجه الله والأدب قبل أن أموت، وليت حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول يسمع هذا الصوت، فمن الموجع أن يموت كتابي عن التصوف الإسلامي وفي مصر ملك يسره أن يشجع كبار المؤلفين، وقد أصبحت مؤلفا كبيرا من حيث لا أحتسب ولا أريد.
والاستنجاد بالملوك لا يغض من كرامة الرجال.
ليس في مصر جوائز أدبية، فليشرع العراق هذه الشريعة، وليكن أول قطر عربي يمنح الجوائز للمتفوقين في اللغة العربية.
فإن كان هذا الكلام يؤذي مصر فلتكذبني ولتذكر متى استطاعت ولو مرة واحدة أن تشجع التأليف بعد شهامة الخديوي إسماعيل.
إنما يعيش الأدباء المصريون في حماية أقلامهم ، ولم يستطع أديب مصري أن يشرب فنجانا من القهوة المرة باسم الأدب، إلا إن رعاه رجل عظيم كالذي وقع للمنفلوطي مع سعد زغلول.
أما الوسيلة الثالثة فهي إنشاء الجامعة العراقية.
الجامعة العراقية.
الجامعة العراقية.
الجامعة العراقية.
ولو شئت لرددت اسمها ألف مرة، وستعرفون ما أصنع بعد أن أرحل عن العراق، فسأكتب في جرائد مصر أن العراقيين لا يرعون حقوق بغداد، سأغتابكم بإذن الله أعنف اغتياب، وسأقول إن العراقيين يؤجلون إنشاء الجامعة إلى أن يقضوا على الأمية، مع أن القضاء على الأمية قضاء مطلقا سيملأ العراق بالعاطلين وسيحرم العراق من السواعد الشداد، سواعد الفلاحين الذي يتقربون إلى الله بالجهل، والذين يسمع الله أصواتهم قبل أن يسمع أصوات العلماء، سأكتب في جرائد مصر وسأقول في الأندية المصرية إن أهل العراق يجهلون الحقيقة الواضحة، الحقيقة التي تقرر أن النهضة العلمية والأدبية يقوم بها مئات ولا يقوم بها ملايين، وهل ارتفعت الأمية في عهد الرشيد أو عهد المأمون ومن إليهم من الخلفاء؟
اسمع هذه الكلمة أيها الأخ العزيز: إن مصر في هذا العصر تسيطر بالعلم والأدب على جميع الأقطار العربية.
فهل تظن أنها تملك هذه السيطرة لأن فيها ستة عشر مليونا يقرأون ويكتبون؟ هيهات!
ففي مصر خمسون رجلا فقط من بين هذه الملايين، وهؤلاء الخمسون هم الذين يرفعون اسم مصر في الميادين الأدبية والعلمية والتشريعية والاقتصادية.
ولو جاء رجل مجرم وشنق هؤلاء الخمسين لأصبح القطر المصري في صفوف الجهلاء، ولتوضيح ذلك أقول:
إن لواء المنوفية في مصر كادت تنعدم فيه الأمية، وهناك قرية فيها نحو عشرة آلاف ليس فيهم أمي واحد، ومع ذلك لم ينبغ فيها نبوغا ظاهرا غير رجلين اثنين.
ما أحب أن أسترسل في الشواهد، وإنما أحب أن أقرر بصراحة أن إنشاء الجامعة العراقية أصبح واجبا كل الوجوب، وكنت فكرت في الخروج إلى الميدان لهذه الفكرة الشريفة، ثم رأيت أنني لا أعرف من أخاطب، وإلى من أتوجه، لأني مع الأسف غريب، وإن كان قلبي يحدثني بأني لست في هذا البلد من الغرباء .
وهذه أول مرة ألقى فيها سهمي، وأطوي لوائي، فإلى شبان العراق وكهوله، وإلى أدبائه ونوابه وأعيانه، إليهم جميعا أكل هذه الأمانة الغالية وهي فكرة الجامعة العراقية، ويجب أن تحترسوا، فسيقول قوم إن أهل العراق ينسون حقوق بغداد.
وسأنظر وينظر العالم ما تصنعون. •••
أما الوسيلة الرابعة فهي اطلاعكم على الجديد في عالم النشر والترجمة والتأليف.
والظاهر أن سوق الوراقين، وهو ما تسمونه سوق السراي، لا يؤدي واجبه تأدية صحيحة، وأخشى أن أقول إنه لا يتصل بالقاهرة أتم اتصال، أو هو لا يتقبل من الكتب إلا ما يعرض عليه، فليس عنده سياسة مرسومة، لأنه يجهل أصول الاقتصاد، فالشاب العراقي قد يتشوق إلى كتاب جديد ثم لا يجده في سوق السراي، وحين يتنبه هذا السوق إلى الكتاب المطلوب تكون حماسة الشاب فترت وتضيع فرصة الاطلاع، وقد لاحظت أن بعض المؤلفات المهمة يجهلها شبان العراق بفضل تكاسل الوراقين.
وربما كان من الخير أن أقترح إنشاء جائزة تسمى جائزة الوراقين تمنح لأكبر وراق تحسن سمعته في معاملة المكاتب العربية ويصل شبان العراق بما ينشر في سائر الحواضر العربية، ولا ينبغي أن نطلب معونة الحكومة في جميع الشؤون فيكفي أن تكون هذه الجائزة شهادة تمنحها جماعة أدبية مكونة من المؤلفين والصحفيين.
هذه أيها الأخ أهم الوسائل لتقوية النهضة الأدبية في العراق. •••
بقى السؤال الرابع وهو الخاص بما أراه في الصحافة اليومية والأسبوعية التي تصدر عن العراق، فما رأيك إذا هربت من جواب هذا السؤال؟
أنا لا أخاف من الجهر بكلمة الحق، ولكني أعرف أن الصراحة في هذا الموطن لها عواقب، وقد أعرض الصحفيين العراقيين إلى موقف شائك، فقد تغضبهم صراحتي فيهجمون على رجل لا يملك وسائل الدفاع.
والحق الذي يعرفه الجميع أنني رجل مشاغب، ولكنني أعجز عن الشغب في العراق؛ لأن الحكومة المصرية بالمرصاد، وقد يسوءها أن أشتبك في معركة أدبية فتطلبني بالبرق لا بالبريد.
ومن المؤكد عندي أن الصحفيين العراقيين تأبى شهامتهم أن يهجموا على رجل أعزل، ولكن من المؤكد أيضا أنه لا يليق بي أن أستغل شهامتهم فأهجم عليهم ثم أحتمي بحقوق الضيافة، فليكن عندكم أنتم جواب هذا السؤال.
وأنتهز هذه الفرصة فأقرر أن مشاغباتي لم تخرج من حدود مصر، لأن أدباء مصر يحتمل بعضهم شر بعض، أما الأدباء غير المصريين فكنت أتلطف معهم في جميع الأحوال، وكانت حجتي في ذلك أن ما أفسدته السياسة يجب أن يصلحه الأدب، ونحن لا نحمل القلم لنمزق الأواصر بين الشعوب العربية، وإنما نحمل القلم لنصلح ما بين القلوب.
وأنتهز هذه الفرصة أيضا فأقدم أصدق آيات الثناء إلى من أكرموني في العراق، راجيا أن لا يمر أحد منهم بمصر بدون أن يراني، فسأكون بإذن الله من صور العراق في مصر، كما كنت من صور مصر في العراق.
وأنتهز هذه الفرصة مرة ثالثة فأقدم التحية إلى من داعبوني في الجرائد والمجلات، فهذه المداعبات هي شاهد المودة والإخلاص، وسأجزيهم على مودتهم الغالية فأذكرهم بالخير عند مصدر الوحي، في حضرة ليلى المريضة بالعراق شفاها الله وشفاني، وشفى من أجلها ومن أجلي جميع الملاح وجميع المفكرين.
أيها الصحفيون العراقيون
اشتموني مرة أو مرتين لأصدق أن أهل العراق ناس كسائر الناس يحسنون ويسيئون، فقد كاد كرمكم ينسيني أهلي وأبنائي وما يجوز في شريعتكم أن ينسى الرجل حقوق الأهل والأبناء.
الفصل الخامس والثلاثون
حقائق وأباطيل
1
وعدت ليلى ثم أخلفت.
فهل تعلمين يا ليلى عواقب ما تصنعين؟
تذكري يا ليلاي أن النظام هو سر هذا الوجود.
فلو أخلف النيل لهلك المصريون، ولو أخلفت دجلة أو الفرات لهلك العراقيون.
تذكري يا ليلى أن الإخلاف هو سبب الموت، فلو عرفت الأعضاء معنى النظام لكان الموت من المستحيلات.
لو عرف الإنسان متى يأكل، ومتى يشرب، ومتى يستريح؟ لعاش على الأقل مثل ما عاش نوح، وكان عمره أطول من صدودك، أيتها الحسناء الظلوم.
ليلاي
كان إخلافك جريمة، والمجرم الأعظم هو من يثق بعهود الملاح.
2
لي صديق عزيز جدا شاء له هواه أن يقول إنه وصل يوم كان في سن العشرين إلى ما لم أصل إليه بعد أن جاوزت الأربعين .
وهذا صحيح فما استطعت في سن العشرين ولا الثلاثين ولا الأربعين أن أقول لأحد أصدقائي «إني أفضل منك».
وما أنكر أني قد أبلغ أقصى حدود العنف حين أحارب أعدائي، ولا عيب في ذلك فالجروح قصاص، ولكني مع أصدقائي مثال الأدب والوفاء.
فإن كان لأصدقائي شيء من النفع حين يزعمون أنهم أفضل مني فهنيئا مريئا، وإن كنت أتهمهم بالبخل، إي والله أتهمهم بالبخل، فالحكم بأنهم أفضل مني مزية كنت أحب أن أسبقهم إليها، ولكن لا باس فأنا أحب أن يكون لهم فضل السبق في كل نضال.
عفا الله عنك يا صديقي وحفظك ورعاك.
3
ليتني أعرف من الشاعر الذي يقول:
سيذكرني الناسون يوم تشوكهم
شمائل من بعض الخلائق سود
سيذكرني الناسون حين تروعهم
صنائع من ذكرى هواى شهود
فوالله ما أسلمت عهدي لغدرة
ولا شاب نفسي في الغرام جحود
ولا شهد الناسون مني جناية
على الحب إلا أن يقال شهيد
4
أن أزن الذوق بميزان الذهب، ولكن مع من؟ مع صديق يكيل الذوق بمكيال.
5
لطمتني ليلى بالأمس فغفرت وصفحت، لأن كفها لين، ولأن وجهها جميل.
6
تنمرت ليلى وتمردت، فقلت: اصنعي ما شاء لك الدلال بالئيمة فأنا آخر من يغفر الذنوب لأهل الجمال.
7
عجبت ليلى من أن أخلق لها المحاسن وهي في غاية من الشراسة وسوء الأدب، وأنا أعجب مما تعجب منه ليلى، وإلا فكيف اتفق أن أخلق لها المحاسن وهي تختلق لمحبوبها العيوب؟
8
أحسنت وأساءت ليلى، وهي مع ذلك ترجو أن أستغفر لتمن بالغفران.
9
إن ليلى تجهل السبب فيما أسبغ عليها من رفق وعطف.
والظاهر أنها كالكريم الذي تجهل يسراه ما أعطت يمناه.
فاعرفي يا ليلى أني لا أتصدق عليك بالرفق والعطف، وإنما أقضي الديون الثقال، فقد قضيت في حماك لحظات كانت أطيب من الأمن بعد الخوف، وأنضر من النعيم بعد الشقاء.
10
سألني تلاميذي: من أشعر الناس؟ فأجبت هو الذي يقول:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالك
11
أطلعتني ليلى على مقال نشرته إحدى المجلات المصرية وفيه ألفاظ غلاظ فابتسمت متكرها، وقلت: «جرح الأحبة عندي غير ذي ألم»، وهم والله أحباب.
12
السيارات العمومية في بغداد ضيقة جدا، ورديئة جدا، والصعود إليها متعب ، والنزول منها متعب.
كنت في إحدى هذه السيارات في يوم غزير المطر كثير الأوحال فتقدمت سيدة لتركب، سيدة لها وجه رائع، وجسم فينان، وكان صعودها إلى السيارة لا يتم بسهولة إلا إذا مددت يدي فعاونتها على الصعود، وما كان في ذلك بأس، ولكني خشيت أن أمد إليها يدي فيتغامز الركاب، وفيهم كسائر الناس طيب وخبيث.
وقضى الوحل والمطر أن تزلق قدم تلك السيدة وأن تفوتها السيارة.
قلت في نفسي: إن الناس يمن بعضهم على بعض فيقول قائلهم: لقد ضحيت براحتي ومالي في سبيل كيت وكيت.
فما الذي كان يمنع من أن أبتدع فنا جديدا من التضحية، هو التضحية بالسمعة في سبيل الخير؟
ليتني فعلت وأنقذت تلك السيدة من الزلق في الوحل.
13
تقول ليلى إنها ستتعقبني وأنا في مصر كما تعقبني أصدقائي وأنا في العراق.
تأدبي يا ليلى فالله من ورائكم محيط.
14
ما كنت أحسب أن الليل يعقبه نهار، وأن النهار يعقبه ليل، وأن المرء ينتقل من الشباب إلى المشيب، وما كنت أظن أن المقادير ستحكم بأن أعاني ضجر السهاد في باريس وفي بغداد، وما كنت أتوهم أن الأقدار سترغمني على مداراة أحبابي، وما كنت أتوقع أن أسمع كلمة تؤذيني من صديق يلين له الدهر فيقضي الأصائل والعشيات في شارع فؤاد.
وما كان يخطر بالبال أني أسقي الناس الشهد ليسقوني الصاب، ذلك حظي من أهلي وأحبابي وأصدقائي ودنياي.
لا تحزن يا قلبي، فالعاقبة للصابرين، وسوف تعلم ويعلمون.
15
لي صديق مولع بإخلاف المواعيد، فلما عاتبته على ذلك قال: ما أذكر أبدا أني أخلفت معك موعدا، وإنما أذكر أني كنت أحضر قبل الموعد بنصف ساعة على الأقل.
فقلت: ذلك أبشع ضروب الإخلاف.
وفقهاء الإسلام نصوا على أن الصلاة لا تقبل إلا حين تجب بحلول الوقت.
وهذا من الآداب الدقيقة التي لا يدرك أسرارها إلا الأقلون، وكم في الإسلام من آداب.
16
لقيني صديق فقال: أنا أعجب لاهتمامك بمصالح فلان.
فقلت: وما وجه العجب؟
فقال: إنه يغتابك عند جميع الناس.
فقلت: وما الذي يمنع من أن نتخلق بأخلاق الله، وقد أمرنا الله بذلك وهو عز شأنه يسبغ نعمته على الكافرين والجاحدين؟
لقد أصبحت أؤمن إيمانا صادقا بأن الكرم الحق هو أن تحسن إلى من لا يحفظ الجميل.
ولنا في الله - تباركت صفاته - أسوة حسنة.
17
ذهبت إلى فرنسا وأنا مسلم ورجعت منها وأنا مؤمن.
ولكن كيف؟
ذلك هو السؤال!
18
لقيني أحد البغداديين، فقال: هل هذا صحيح؟
فقلت: ماذا؟
فقال: إن الأستاذ علي الجارم بك ألقى خطبة في محطة الإذاعة المصرية أكد فيها أن بغداد أدفأ من القاهرة في الشتاء.
فقلت: وأنا أجزم بأن بغداد في الشتاء أدفأ من مصر الجديدة ومن حلوان.
فقال: أنتم في سبيل المجاملة تقلبون الحقائق.
فقلت: هذا صحيح في بعض الأحيان ولكننا في هذه المرة نقلب الحقائق لنصل إلى حقيقة أعظم وأروع.
فقال: وما هيه؟
فقلت: إن الصداقة الصحيحة لا تقوم إلا على أساس واحد، هو أن تعتقد أن صديقك أفضل منك، فإن اعتقدت بأنك أفضل منه فلست بصديق.
وعلى هذا الأساس تكون بغداد أدفأ من القاهرة في الشتاء.
وقديما قيل: عين المحب عمياء.
19
أجمع كل من حادثوني على أن الفرق بعيد جدا بين زكي مبارك المؤلف وزكي مبارك المحدث، وأنا عند أكثرهم مؤلف عظيم ومحدث سخيف.
وقد بحثت عن السبب فعرفت أنه يرجع إلى أني حين أؤلف أكون مع نفسي وحين أتحدث أكون معهم ... هل فهمتم يا بني آدم؟
20
لي في بغداد أهل، وربما كنت أول مصري له في بغداد أهل وكان لي في باريس أهل، وربما كنت أول مصري كان له في باريس أهل، فما سر هذا البخت المدهش؟
يغلب على الظن أن السبب يرجع إلى الفطرة التي صيغت عليها عيوني، فما دخلت بيت صديق واستطاع بصري أن يرى فيه شيئا غير جميل.
21
لامني صديق فقال: ما قرأت لك كتابا ولا مقالا ولا قصيدة إلا رأيتك مشغولا بالحب ، فما هذا الإسراف؟
فقلت: لا تؤاخذني يا مولاي فأنا أريد أن أملأ أقطار قلبي بالحب حتى لا يوجد فيه مجال للبغض.
22
ظهر كتاب «عبقرية الشريف الرضي» في جزأين، ويقول أهل العراق إنني أحييت الشريف، وأشهد صادقا أن الشريف هو الذي أحياني.
23
كان لي في القاهرة صديق مظلوم تساق إليه التهم الكواذب بلا حساب، وقد رأيت أن أكون نصيره في بلواه، فكنت أتردد على منزله وكأني أجهل ما يفتري المفترون.
ألا يمكن أن يكون ما ظفرت به من التوفيق هو الجائزة الربانية على وقوفي صابرا محسبا في صفوف المظلومين؟
24
عين الرضا كليلة لا ترى العيوب، وعين السخط حادة ترى ما خفى من العيوب، كذلك كان الناس يفهمون.
ألا يمكن أن نرفع الإنسانية قليلا؟
ألا يمكن أن تضعف أبصارنا عن رؤية العيوب في أعدائنا؟
إنك يا ربي تعلم أنني أخلق المحاسن لأعدائي، وأنا أرجو منك حسن الجزاء.
25
لي مؤلفات كثيرة لم تنشر، وقد أصبحت أرى من الواجب أن أنفق عليها كما أنفق على أطفالي، لتستطيع التنفس في جو الحياة الأدبية.
فيا مؤلفاتي ويا أطفالي ...
رزقي وأرزاقكم على الله ...
وإن بقيت لكم فسترون بإذن الله كيف يكون كرم الآباء.
26
لي منزل في سنتريس تحيط به حديقة غناء.
وفي ذات يوم نظرت فرأيت أبي رحمه الله يشير بإقامة (مصطبة) بجانب سور الحديقة، فسكت ولم أعترض.
وبعد أشهر أو أعوام ضايقني أن تكون تلك المصطبة هي المكان المختار الذي يجلس فيه العاطلون من الفلاحين.
فمضيت إلى أبي، وقلت في ترفق: أنا أقترح هدم هذه المصطبة، فقال: ولماذا؟ فقلت: لأني أراها أصبحت ملاذ العاطلين.
فابتسم وقال: ولكن هذه المصطبة لها فضل على منزلك يا بني.
فدهشت وقلت: كيف؟ كيف؟ أوضح يا أبي.
فقال: هذه المصطبة هي الوحيدة في الحي كله، ومن أجلها يجلس الخفير على باب منزلك طول الليل.
يرحمك الله يا أبي، فقد كنت حكيما.
27
وعلى مصطبة ذلك المنزل رأيت طفلا يلعب وبيده صقر جريح، وما كان صقرا وإنما كان فرخ صقر، وبدا لي أن أداعب ذلك الفرخ فعض إصبعي عضة إليمة جدا، فتوهمته يقول: احترس من الشجاع يوم ينهزم، واحترس من البطل يوم يضام، فللمهزومين من الشجعان والأبطال غضبات.
28
ثار تلاميذي بالأمس لأني فرضت عليهم من الواجبات ما لا يطيقون.
معذرة يا تلاميذي فإن أستاذكم يفرض على نفسه ما لا يطيق.
الفصل السادس والثلاثون
خطاب تهديد
من صديق ليلى الباريسية إلى الدكتور زكي مبارك ... صاحب الصباح
أعرف أنك رجل تميل إلى إرضاء قرائك، فتحب ما يحبون وتكره ما يكرهون، وأنا من قرائك القدماء، لولا أن بيني وبينك قضية، خلاصتها أنك تحب ما لا أحب، ومن لا أحب، فكأنك تبخل علي وحدي بما تجود به على قرائك.
وقد تسألني مثلا لذلك، فأقول لك - بكل اختصار - إنك تفرط في حب رجل أنا من القلائل الذين لا يحبونه.
ثم قد تسألني: ومن يكون هذا الرجل؟ فأقول لك: هو الدكتور زكي مبارك!
فإذا سألتني عن سر ذلك، قلت لك: إنه يرجع إلى سنوات خلت حينما قذفت بي الأقدار إلى باريس، وكان الدكتور زكي مبارك هناك آنئذ، وكان حديث عهد بالملابس الإفرنجية، فكان لا ينفك يقلب قبعته على مواضيع مختلفة من رأسه كما كان - في عهد العمامة - بعمامته.
كنت طالب علم آنذاك - وإن كنت قد أخفقت فيما بعد - وكنت لا أحب الاختلاط بإخواني من المصريين لا كبرا وايم الله وإنما خشية، خشية على قلبي، وكان هذا القلب يومئذ مفتونا بساحرة من بنات السين، وأنت تعرف يا سيدي مهارة بعض الأبالسة في الإيقاع بالنساء.
خفت على ليلاي الباريسية من أن تمتد إليها أيديهم، فأخذتها بعيدا عنهم، وكنت لا أتردد عليهم إلا غرارا، ووحدي.
وكنت ذات مرة أسير معها على شاطئ السين، وكان الغروب يخامر السماء، وكنا على وشك قبلة تتبادل، وإذا برجل لا أعرفه ولا يعرفني، يقترب مني ويسألني عن الساعة، والسؤال عن الساعة هو أول درس يتعلمه المراهقون في عالم «البصبصة»، والحق أقول إنني ظننت الرجل لأول وهلة من سكان جزيرة تقع بين الهند وحضرموت والحبشة، فقلت لعله ساذج ، ولعله لا يقصد «البصبصة»، فأجبته إلى سؤاله، بيد أنه لم ينصرف، وسألني بنفس اللغة: أأنت شرقي أم، فقلت له: بل باريسي، وأردت أن أمعن في إبعاده، فقلت له: وهذه زوجتي.
ولكنه بعد كل هذا، وبعد غير هذا لم ينصرف، بل نظر إليها هي - لا أنا - في نهم عجيب وقال إن قسماتها تشبه قسمات فتاة يعرفها في مصر - الجديدة أو القديمة - لا أذكر.
وكنت كلما حاولت اختصار الحديث أطاله، حتى ضقت به ذرعا، ولم يبق في جعبة الصبر سهم فانطلقت على سجيتي أودعه ببعض المنتقى من قواميس بولاق وعشش الترجمان.
فقال وهو يبتسم ابتسامة أوكتافيوس إذ دخل مصر ظافرا: لقد كنت واثقا من مصريتك، فحملتك بسياستي على الإقرار، ألا تعرفني؟ أنا زكي مبارك، الذي لم تخف عليه خافية في الوجود.
ووجه ناظريه الأخضرين إلى ليلاي، وأخذ يتأمل عينيها تارة، وساقيها أخرى.
فلم أجد بدا من تركه والمضي بفتاتي إلى حيث لم أره حتى الساعة، ولما عدنا إلى البنسيون وكنا أنا وهي لا أنا وهو - نقيم في نزل واحد، سألتني: أكل المصريين زكيون مباركون؟.
فقلت: حاشا، وإنما ليس في مصر غير زكي مبارك واحد ... والحمد لله.
فقالت: سي دوماچ (أي يا خسارة)، وفسرت عبارتها بقولها إن مصر لو انطوت على كثير من أمثال الدكتور زكي، لما بقى فيها الانجليز يوما واحدا، فقلت لها: وهل تدرين أن جد الدكتور زكي هو الذي أخرج نابليون - بنفس الطريقة - من مصر؟
والعجب العاجب - يا سيدي صاحب الصباح - أنني لم أترك كتابا ولا مقالا لعدوي زكي مبارك إلا وقرأته!
فكأن المتنبي عناني حين قال:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من «قراءته» بد
وهكذا قرأت له في مقال أخير اتهامه لذوق ليلى المصرية لأنها فضلت عليه «الشاب الظريف».
يا سبحان الله!
وفي مقال آخر، يقول عن فناننا الساحر عبد الوهاب «الصديق السخيف».
والله يا دكتور، لأنشرن على صفحات «الصباح» ما قاله فيك محمود بيرم التونسي من مواويل، وما نشر عنك من تواشيح، وما أذاع فيك من نكات عند أصدقائنا بباريس، إلا أن تعتذر إلى عبد الوهاب والشاب الظريف، فأغفر لك.
ب. ف.
الفصل السابع والثلاثون
إلى صديق ليلى الباريسية
أخي وغريمي ...
كنت أحب أن أسأل من أنت، فقد كان لي في باريس كثير من الغرماء، ولكني عرفتك في لحن القول، كما يعبر القرآن المجيد.
وكيف أنسى الصديق الذي خشى أن أسرق معشوقته في باريس فانتقل إلى ضاحية بعيدة لينجو بها مني، وكان مع ذلك يدعوني للعشاء من وقت إلى وقت ليذوق حلاوة العيش، فقد كانت تلك المعشوقة تبالغ في التعطف عليه حين تراني، فتمسح جبينه وتسوي شعره برفق وحنان، والله يعلم ما كانت تصنع بعد أن أنصرف فلعلها كانت تتجنى عليه لحسنها في الصدود.
إن هذا الغريم يعرف أننا كنا قسمنا الحي اللاتيني إلى مناطق صيد، ويعرف أيضا أني لم أكن من أهل الفجور وإنما كنت أتخذ الحب مادة نفيسة أغذي بها الأدب والبيان.
وكتاب «ذكريات باريس» والطبعة الثانية من كتاب «البدائع» يشهدان بصدق ما أقول، ففي هذين الكتابين ثروة فلسفية وروحية تصور كيف عطرت الأدب بأنفاس الحياة، وأنت نفسك تشهد - والله يحفظك ويرعاك - بأني كنت في أدبي من الصادقين.
ولكن هل تسمح بأن أذكرك بقول الشاعر:
وما سمى الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب؟
فلو لم تكن ممن ينسون - لأنك إنسان - لتذكرت أنه ما كان يجب أن تداعبني في هذه الأيام، فهي عندي أيام حداد، حداد أسود مظلم فتاك: لأني فقدت غريما من غرمائي في باريس، فقدت غريما كان أرق من الزهر، وأكثر إشراقا من الصباح، وكان هذا الغريم صديقا عزيزا ثم حملني سوء الأدب وسوء الطالع على أن أسرق معشوقته في باريس؛ فبلغ به الحقد كل مبلغ وذهب به الغضب كل مذهب؛ فدبر مؤامرة لاغتيالي في باريس، ولعل وجه العجب عند ذلك الغريم أنه كان من النوادر في عالم الشباب والجمال وأنه كان يملك من الثروة ما يستطيع به اشتراء بلد جميل مثل سنتريس.
كان وجه العجب أن أسرق معشوقته وأنا فقير دميم، وهو غني وسيم.
أما المؤامرة التي دبرها لاغتيالي فهي الشاهد على ما كان عنده من ذكاء رائع.
كان هذا الغريم - أسكنه الله فراديس الجنان - ينوي قتلي في صبيحة اليوم الذي أؤدي فيه امتحان الدكتوراه بالسوربون.
ولكن (عمر الشقي بقي) كما يعبر المثل المصري، فقد وصلت أخبار المؤامرة إلى اثنين من أصدقائي هما الأستاذ محمد حلمي والأستاذ محمد عبد الحميد مندور فطافا بأعضاء بعثة الجامعة المصرية وتحدثا إليهم بما يجب من حراستي يوم الامتحان.
وفي صبيحة ذلك اليوم حضر عشرة من أصدقائي ومعهم عصيهم ومسدساتهم، حضروا إلى بيتي لأخرج في حمايتهم، وقد ساءني ذلك، وحاولت منعهم من صحبتي فلم أفلح، ثم علمت مع الأسف أن مدير البعثة المصرية في باريس وصلت إليه أخبار تلك المؤامرة فجشم نفسه حضور امتحاني، وكان امتحانا قاسيا دام ثلاث ساعات ولم يشأ ذلك المدير أن يخرج قبل أن يطمئن على نجاتي من شر الاغتيال.
وكان في باريس معرض دولي هائل ستفتح بعد أسبوع واحد فحرمت منه نفسي، ولم أقم في باريس بعد امتحان الدكتوراه غير ليلة واحدة قضيتها في حماية الأمناء من أصدقائي.
وبعد عامين من ذلك التاريخ عاد غريمي إلى مصر، عاد وهو يضمر ما يضمر من الحقد، وهاله أن يعجز وهو في مصر عما كان يقدر عليه وهو في باريس، والأمن في القاهرة أضمن من الأمن في باريس.
فهل يعرف ذلك الغريم وهو في قبره أنني سكبت عليه الدمع في بغداد؟
لقد كان - رحمه الله - صورة من النسيم المطلول، وكانت له أنغام عذبة يجود بها لسانه وهو يتحدث، وكان له قوام رشيق هو الشاهد على براعة مصر في صياغة الجمال، لقد مات غريمي قبل أن أموت؛ لأن الأعمار بيد الله لا بيد الناس.
مات غريمي وهو يظن أنني ألأم من عرف، ولعل روحه رأت بكائي عليه فشهدت بأنني أكرم من عرف.
رحمك الله يا إبراهيم وطيب مثواك.
رحمك الله يا إبراهيم فقد نبعت من أرومة هي مثال الذوق والإحساس.
رحمك الله يا إبراهيم وعزى أهلك، فإن الذين أصيبوا بثكلك خليقون أن يبكوا عليك طول الحياة.
رحمك الله يا إبراهيم ورحم نصيبي من ودادك، فلولا ما جنيت من سوء الأدب معك لكان لي في رعايتك أيام وليال أطيب من العافية وأنضر من الشباب.
يا إبراهيم
لا تجزع لفراق الدنيا، فأكثر من فيها لهم أخلاق مثل أخلاقي، أنا الصديق الذي أضعت حظي منك في سبيل فتاة لعلها عرفت بعدي وبعدك مئات الشبان.
إبراهيم
أنا محزون عليك، أنا حافظ للعهد، أنا آسف على ضياع الفرصة التي كانت تشفي صدرك باغتيالي يوم أداء امتحان الدكتوراه بالسوربون، ولك فضل علي لن أنساه، فقد حببتني في وطني لأن أولئك الأصدقاء العشرة الذين حموني من شرك بعصيهم ومسدساتهم أقنعوني بأن الشهامة المصرية لم تضع ولن تضيع.
إبراهيم
هل تغفر لي ذنبي وقد غفرت لك ذنبك؟
لقد دامت عداوتنا سبع سنين، فإن عشت بعد اليوم سبع سنين فسأقضيها في حفظ عهدك، إن لم أقضها في البكاء عليك.
إبراهيم
إن الموت الذي عصف بشبابك لظلوم، وإن الرجل الذي يبكي عليك وأنت عدوه لرجل كريم، فهل تعرف أن ما وقع بيني وبينك لم يكن إلا نزوة شباب يغفرها العقلاء؟
الفصل الثامن والثلاثون
خطبة المؤلف في تحية من كرموه بالنجف
أيها السادة
أبدأ كلمتي بالتحية الإسلامية التي يحرص عليها علماء النجف فأقول: السلام عليكم.
ثم أعتذر عن نفسي، فأنا أرتجل هذا الخطاب، والارتجال غير مأمون العواقب، وقد أطال خطباؤكم وشعراؤكم في الثناء علي، وهنا وجه الخطر، فلا بد من كلمة تشعر هذا الجمهور بأني خطيب، وأن من كرموني كانوا في حسن ظنهم صادقين، على أني سأعرف كيف أنقلكم إلى جو آخر يصرفكم عني، ويشغلكم بأنفسكم، وهذا الجو هو محادثة الشبان بواجب طالب العلم في النجف، فقد قرأت في مجلة الحضارة كلمات يراد بها التشكيك في قيمة الأنظمة القديمة، وهو تشكيك أوحاه الروح السائد في العصر الحديث.
ويهمني أن أحارب هذا التشكيك في مدينة النجف، فقد اتفق لي أن أحارب المناهج الأزهرية زمنا غير قليل، ولذلك شواهد ترونها في كتاب «البدائع» ثم علمتني الأيام أني كنت من المخطئين.
علمتني الأيام أن طلبة الأزهر سرقوا كلمة «المستقبل» من طلبة المدارس، وأخشى أن يقع هذا لطلبة العلم بالنجف.
علمتني الأيام أنه لا بد لنا من رجال يعيشون للعلم وحده فلا يكون لهم مستقبل ولا معاش، ولا يكون لهم مصير غير الفناء في خدمة الحق.
وبفضل هؤلاء الزاهدين كان للنجف تاريخ، وكان للأزهر تاريخ، ولو شئت لضربت المثل بنفسي، فأخوكم الدكتور زكي مبارك هو في الأصل شيخ أزهري كانت له عمامة أضخم من عمامة الشيخ اليعقوبي، ثم سما به الإخلاص حتى وجد من يقيم له حفلات التكريم في القاهرة والإسكندرية وباريس وبغداد والنجف، وحتى أنشئت في الثناء عليه عشرات الخطب والرسائل والقصائد، وحتى نشرت عنه رسالة باللغة الهولندية وتحدث عنه العلماء في المشرقين والمغربين.
وقد درست نفسي حق الدرس، فرأيت ذلك كله نعمة إلهية هي جزاء الإخلاص، فقد كنت أيها السادة طالب علم يتوكل على الله، وكان يضايقني أن أجد من يسألني عن مستقبلي، وأنا إلى اليوم لا أعرف مستقبلي، وإن كنت سمعت أني رجل له في مصر والعراق مكان مرموق.
وحفلات التكريم التي ظفرت بها مرات كثيرة من رجال في مثل كرمكم وإخلاصكم لا تنسيني أعظم كرامة رأيتها في حياتي، وهي كرامة وقعت في لحظة من لحظات البؤس يوم كنت طالبا في الأزهر الشريف، فقد كنت في ذلك العهد أحفظ زادي في المحفظة، محفظة الكتب، وكان زادي في كل يوم رغيفا جافا يابسا متجهم الملامح، واتفق مرة أن ضاق الوقت فدخلت عند أحد الفوالين لأغمس ذلك الرغيف في مرق الفول النابت، فهرست الرغيف بين راحتي مسرعا، ثم نظرت فرأيت يدي تفيضان بالدم القاني، دم الشاب المسكين الذي يريد أن ينتهب الوقت ليحضر درس التوحيد بعد المغرب.
ولكن الله عز شأنه رفع ذلك الشاب المسكين فنقله من الأزهر إلى الجامعة المصرية، ومن الجامعة المصرية إلى جامعة باريس، وجعله من كبار المؤلفين، وكتب له أن يكون في الطبقة الأولى بين كتاب اللغة العربية، لغة القرآن.
فأستحلفكم بالله ألا تذكروا طلبة العلم بالنجف بحاضرهم ومستقبلهم فتكدروا عليهم نعمة الفناء في خدمة اللغة والدين.
أرجو أن تذكروا دائما أن الفقراء أحباب الله، وأن الأنس بالكتاب الجيد أنضر وأشرف من الأنس بالقصر المنيف.
أرجو أن تأخذوا العبرة من موقع مدينة النجف، فهي في الواقع مدينة صحراوية، وكان لها مع ذلك شأن في حياة اللغة والدين.
أرجو أن تذكروا أن النعيم الحق هو نعيم النفس، وأن الربيع الحق هو ربيع القلب. أرجو أن تذكروا أن أسلافكم لم يكن لهم مستقبل إلا في الفردوس.
وما أوصيكم يا شبان النجف إلا بما أوصيت به نفسي، وسأعيش ما أعيش ثم أموت وليس لي ذخيرة في غير عالم المعاني. •••
وأنتقل إلى الكلام على كتاب (عبقرية الشريف الرضي) وقد عده خطباؤكم وشعراؤكم من حسناتي.
وأقول بصراحة إن هذه نعمة من نعم الإخلاص، وإلا فمن هو الدكتور زكي مبارك حتى يكون من حظه أن يقال إنه أعظم مؤرخ للشريف الرضي، وتلك كلمة قالها رجل نبيل لا تنفرج شفتاه عن لفظة إلا بعد أن يديرها في قلبه عدة أسابيع، هي كلمة معالي الأستاذ الجليل محمد رضا الشبيبي الذي أتذكر به حين أراه مقام الوزير العظيم أبي الفضل بن العميد.
من أنا وما شأني حتى أكون أعظم مؤرخ للشريف الرضي؟
هي نعمة أقدم شكرها لله بدمعي ودمي.
وقد تمت هذه النعمة على أجمل وجه، فكتاب (عبقرية الشريف الرضي) هو أسلوب من البحث لم يسبق له مثال، وسيكون باعثا على نهضة شعرية ستعرفون خطرها بعد حين.
ولكن لا بد من تذكيركم بقيمة الشريف الرضي، وهذا التذكير قد يؤذيني، لأنه سيدعو المئات والألوف والملايين إلى منافستي، وأنا أرحب بذلك، وأقول إن صحبتي للشريف الرضي كانت السبب في أن يقوي روحي فأكتب نحو خمسة آلاف صفحة في أشهر معدودات بحيث شغلت جرائد مصر ولبنان والعراق، وأرجو أن يدوم هذا النشاط فيما بقى من حياتي.
كنت أشرع في قراءة قصيدة من شعر الشريف فأحس نفسي تستفحل وتستأسد فأعود إلى موضوع آخر فأصوغه أجمل صوغ، وكذلك نظمت خمسة مجلدات في زمن قليل.
وبهذه المناسبة أذكر كتاب (نهج البلاغة) وهو كتاب حامت حوله شبهات، وناضلت في سبيله جماعة من المستشرقين يوم كنت في باريس، وتجدون شواهد ذلك في كتاب (النثر الفني) وكانت حجتي أن التشكيك في نهج البلاغة نشأ في بيئات أموية كان يسوؤها أن يشتم معاوية على لسان علي بن أبي طالب، ويسرها أن يكون ذلك الشتم مخترعا، فلما طالت صحبتي للشريف في هذا العام تأكدت أن الشريف الرضي أعظم نفسا وروحا وقلبا من أن يكذب، ولو جاز الكذب على الشريف الرضي لجاز الكذب على جميع الناس، وكان من واجبنا أن نعتقد أن التاريخ ضلال في ضلال.
والذين اطلعوا على (عبقرية الشريف الرضي) يرون أن ذلك الرجل عاش في دنياه بلا صديق، ولو أنه كان اخترع كتاب «نهج البلاغة» لزلزلت الأرض تحت قدميه، ولكان أخوه نفسه أول من يذيع عنه الأراجيف.
عاش الشريف في بلية من غدر الأهل والأصدقاء، ومن كان في مثل تلك الحال لا يجد من يستر عيبه حين يزور كتابا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
فأريحوا قلوبكم من التفكير في هذه المسألة فهي ليست من المعضلات.
إن كتاب «نهج البلاغة» أعظم ثروة في اللغة العربية فإن كان الشريف اخترعه اختراعا فأهلا وسهلا، وهو إذن شاهد جديد على تلك العبقرية.
ولكني مع الأسف غير مستعد لتصديق ذلك الاتهام الظريف، فقد صح عندي أن الشريف كان اتخذ الشعر أداة للتعبير عما في نفسه من الصور والمعاني.
وستدور الدنيا ثم تدور ويعرف الناس أن الشريف كان أعظم مما يظنون، وقد عجب ناس من أن أهتم بالشريف الرضي، فليعجبوا كيف شاءوا، فنحن لا نترك العناية بأسلافنا مراعاة للحوادث اليومية، وقد شاء الله أن يقرن اسمي بالشريف الرضي، وسأحتمل في سبيل هذه الصحبة الشريفة جميع المصاعب والأرزاء.
وإقتران اسمي باسم الشريف هو نعمة لا أستحقها، ولكن الله أراد ذلك، فإليه أوجه أصدق آيات الشكر والثناء.
أيها السادة
تحدث خطباؤكم وشعراؤكم عن غرامي بالعيون السود.
وأعترف بأني مفتون بالعيون السود والعيون الخضر والعيون الزرق، أنا أيها السادة تلميذ الشريف الرضي، وهو رحمه الله تغزل بالعيون السود وهو في مكة، فكيف يفوتني التغزل بالعيون السود وأنا في النجف؟
إن لي قصيدة همزية هي أعظم ما نظمت، وهي تقع في أكثر من مائة بيت وفيها هذان البيتان:
خذوني إليكم يا رفاقي فإنني
أحاذر في بغداد حتفي وإصمائي
أخاف العيون السود فليرحم الهوى
فجيعة أهلي يوم أقضي وأبنائي
وقد أنشدت هذه القصيدة في نادي القلم العراقي برياسة معالي وزير المعارف، فهل تظنون أني أتهيب إعلان هيامي بالعيون السود بعد أن صرحت بهذه اللوعة في حضرة ذلك الوزير الجليل؟
قولوا ما شئتم: فأنا من كبار المفتونين بالحق والخير والجمال.
الفصل التاسع والثلاثون
أول الحرب كلام
أخي
أنت سمعت وقرأت أني لا أحب الاشتباك في معارك قلمية بالجرائد العراقية، وما كان ذلك خوفا من وهج الحرب، وإنما كان ذلك لأن رؤسائي في مصر تمنوا أن تكون أيامي في العراق سلاما في سلام، وقد حفظت العهد حتى خشيت على نفسي مصير المتنبي حين تعقب طبيبه فقال:
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
ولعلي أسأت بعض الإساءة في حفظ ذلك العهد، ففي العراق صحفيون نبلاء شاء لهم الكرم واللطف أن يثنوا على أدبي، فحبست نفسي عن الرد عليهم مراعاة لذلك العهد.
واليوم أراني مضطرا إلى الرد عليك، لا دفاعا عن نفسي، ولكن دفاعا عن العراق.
أنا لا أدافع عن نفسي، أيها الصديق، لأن دعابتك لم يقع فيها ما يؤذيني من وجهة شخصية، وإنما وقع فيها ما يؤذيني من وجهة قومية.
وإليك البيان:
أنت أردت أن تفهم قراءك أن الفطنة تنقصني، والفطنة هي العنصر الأول من عناصر القوة في الأديب.
وكانت الفطنة تعوزني لأني اقترحت عدة مقترحات منها: (1)
إنشاء جائزة النحو بالبصرة. (2)
إنشاء جائزة الصحافة للوراقين. (3)
إنشاء الجامعة العراقية.
تلك مقترحاتي، وهي جنايتي عندك، أيها الصديق.
فهل لي أن أسألك ما الذي كنت تنتظر من الدكتور زكي مبارك حين يتشرف بخدمة العراق؟ أكنت تنتظر أن أكون مدرسا لا يعرف غير إلقاء الدروس وتصحيح الكراريس؟ إن كان ذلك ما كنت تنتظر فاسمح لي أن أنشدك قول ابن الفارض:
إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
فأنا يا صديقي رجل يحملني الفتون على الظن بأن لي من حياتي غاية غير الغرض الضيق الذي يحبسني بين التلاميذ والكراريس، وقد حملني هذا الفتون على الظن بأن الحكومة العراقية لم تدعني لأكل بفضلها العيش، وإنما دعتني لما تعرف من عواطفي النبيلة نحو العراق، والعراق لا يخدمه رجل في مثل كسلك ويأسك، وإنما يخدمه رجل في مثل نشاطي وإيماني، وسأخدم العراق بعد فراق العراق، سأخدمه وأنا بعيد، وأخشى أن تخذله وأنت قريب.
ولا تؤاخذني في هذه الحدة، فأنا أريد أن أكسبك للعراق، فعندك وعند أمثالك عواطف غافيات أحب أن أوقظها لخدمة العراق.
فإن كان يسيئك أن أتعصب للعراق هذا التعصب، فأنا أدعوك إلى أن تتعصب لمصر مثل هذا التعصب، فالأمة العربية - ولا أقول الأمم العربية لئلا يغضب سعادة الأستاذ ساطع الحصري - الأمة العربية في شوق إلى أن يعطف بعض أعضائها على بعض.
ما الذي يضرك أيها الصديق من إسرافي في المقترحات لخدمة العراق؟
أحب أن أعرف ما الذي يضرك وأنا لا أجرح بمقترحاتي أحدا من الناس؟
اسمع أيها اليائس!
أنا اقترحت جائزة النحو في البصرة.
فمن أي الأحجار صيغ قلبك لتنكر جائزة النحو في البصرة؟
هل يصعب على الحكومة العراقية أن ترصد ثلاثين دينارا في كل سنة للمتفوقين في النحو من شبان البصرة؟
من العجيب والله ألا يكون في البصرة نحويون متفوقون، وباسم البصرة أكل النحويون الخبز في مختلف الأقطار العربية!
من العجيب والله أن يكون أعظم شارح لكتاب «الكامل» للمبرد رجل مصري هو أستاذي وصاحب الفضل على عقلي وأدبي، الأستاذ سيد بن علي المرصفي!
من العجيب والله أن يطبع كتاب «الكامل» في أوروبا، ولا يطبع في البصرة!
من العجيب والله أن تطبع مؤلفات الجاحظ في مصر قبل أن تطبع في البصرة!
من العجيب والله أن يستغرب رجل مثلك أن تقام للنحو جائزة في البصرة!
اتق الله يا رجل واعترف بالحق.
اسمع أيها اليائس!
أنت تستكثر جائزة الصحافة للوراقين.
فهل لك أن تدلني ما هي مهمة الصحافة في العراق؟
أتكون مهمة الصحافة نشر الأخبار والقصائد والأقاصيص؟
إن الذي وجهني إلى هذا الاعتراض هو ما عانيته مع تلاميذي، فقد كنت أفرض عليهم واجبات يعجزون عن أدائها؛ لأن المصادر غير موجودة في مكتبات العراق.
هل تصدق أن تلاميذي لم يجدوا ديوان ابن خفاجة في أسواق بغداد؟
هل تصدق أن أكثر المؤلفات الحديثة لا تعرفها مكتبات بغداد؟
هل تصدق أن أعمالي مع تلاميذي تعطل في أحيان كثيرة بسبب قلة المراجع؟
كان في مقدوري أن أجعل «جائزة الوراقين» من عمل الحكومة، ثم رأيت أن أكلها إلى همتكم؛ لأن الحكومات لا تقوم بجميع الواجبات إلا في الأمم الضعيفة، والشعب العراقي ليس شعبا ضعيفا وإن ضعفت أنت.
وجائزة الوراقين لن تكلفكم شيئا، أعني أنها لا تكلفكم مالا، ويكفي أن يكون فيكم خمسة أو سبعة يراقبون النشر والتوزيع ثم يقيمون حفلة بسيطة يعلنون فيها اسم الفائز بجائزة الوراقين.
اسمع أيها اليائس!
هل يدهشك أن أقترح إنشاء جامعة عراقية؟
هذا فيما يظهر أعظم ما اقترحت، وفي كلامك ما يشير إلى أني أخطأت، والخطأ في هذه المرة أقبح، لأنه متصل بمشروع هائل تنوء به الجبال.
أعترف بأني أخطأت حين اقترحت إنشاء جامعة عراقية، ولكن يعزيني أن هذا الخطأ الفظيع وجد من يشاطرني حمل أوزاره الثقال.
فقد وجدت ناسا لا يقلون عني رعونة وطيشا، أقسم لك إنني وجدت ناسا يستصوبون هذا الخطأ الشنيع، فليذهبوا معي إلى جهنم إن كنت من المخطئين.
أنا أذكر أيها الرجل الفطن العاقل أن جميع الجرائد العراقية زكتني وأيدتني حين دعوت أول مرة إلى هذا المشروع الجليل.
وأنا أذكر أيها الرجل الفطن العاقل أن فريقا من الأدباء استحثني للمضي في الدعوة إلى هذه الفكرة، وكان ذلك فيما أذكر على صفحات البلاد والهدف والحاصد والزمان والاعتدال والعقاب.
والذين تحلو لهم مداعبتي في بعض الجرائد والمجلات لم يقولوا إني أخطأت حين دعوت إلى إنشاء جامعة عراقية.
فكيف كنت عندك وحدك رجلا غبيا؟
أيها الرجل الفطن العاقل اسمع ثم اسمع،
إن العراق يعتز بأن عنده قوة برية وقوة جوية.
وأنا أدعوه إلى أن يعتز إلى جانب هاتين القوتين بقوة علمية، وهذه القوة تحتاج إلى ثكنات، هي الكليات، كليات الجامعة العراقية التي أراها رأى العين، وإن أنكرها خيالك الوثاب.
أيها الرجل الفطن العاقل
أنا أحب أن أكسبك وأكسب مليونا من أمثالك لخدمة العراق.
فهل تراني أفلح؟
هل تراني أفلح في اجتذابك لإنشاء خمسين مقالة في الدعوة للجامعة العراقية؟
هل تراني أفلح في دعوة الشعب العراقي إلى الصوم يوما واحدا لتكون أثمان طعامه في يوم واحد كافية لإنشاء جامعة تنافس الجامعة المصرية؟
أنا أنتظر اليوم الذي يتحقق فيه التعاون العلمي بين مصر والعراق.
أنا أنتظر اليوم الذي تصنعون فيه بدجلة والفرات ما صنعنا بالنيل.
وهل أتاك حديث النيل؟
إن النيل لا يصل إلى البحر إلا وهو أوشال بفضل ما أقمنا عليه من القناطر والخزانات.
أما دجلة والفرات فيذهبان لمصافحة البحر بلا رقيب ولا حسيب.
اسمع أيها الفطن العاقل
لقد حضرت حفلة توزيع الجوائز بكلية الحقوق، وسمعت الخطبة الفصيحة التي ألقاها أحد المتخرجين، الخطبة التي قرر فيها أن مصر حين تخدم العراق من الوجهة التشريعية إنما تؤدي دينا قديما: هو الفقه الذي نقله الشافعي، وكان رحل إليها بعد التفقه بالعراق.
إن هذه الكلمة أثارت أشجاني، فقد تذكرت أننا فرطنا في ماضينا العلمي والأدبي، وتناسينا ربط الحديث بالقديم.
ولك أن تذكر أن فقه الشافعي الذي تعرق ثم تمصر لا يجد من رجال القانون عندنا أو عندكم من يعرف الفروق بين مذهبه القديم ومذهبه الجديد.
وأغلب الظن أن كتاب «الأم» الذي ألفه البويطي في فقه الشافعي لا يوجد بمكتبة الحقوق في بغداد، وإن كانت تلك المكتبة تعرف طوائف من المؤلفات في الفقه الروماني.
أيها الصديق
احذر أن تنخدع بالظواهر فتظن أن التعاون العلمي قائم حقيقة بين مصر والعراق، قد نكون صنعنا شيئا، ولكن هذا الشيء لا يزيد عن حفر الأساس، إنما يتم التعاون العلمي بين مصر والعراق يوم نعرف تبادل الأساتذة وتبادل الطلاب، كما يفعل الفرنسيس والإنجليز والألمان، ويومئذ تتأصل المودة الحقيقية التي لا تزعزعها كلمة وشاية أو كلمة بهتان.
وهذه الآمال قد يعجز عن تحقيقها مصري مثلي، أو عراقي مثلك فهذه آمال لا ينهض بتحقيقها غير رجال لهم صبر الأنبياء.
أما بعد، فأنا أومن بأن الأمم العربية، أو الأمة العربية، شبعت من النضال السياسي وهو في أغلب أحواله نضال أثيم، فلم يبق إلا النضال الأشرف، وهو النضال العلمي والأدبي.
أنت تعرف أيها الأخ أننا لم نعرف البطولة في غير الميادين السياسية، وهي بطولة محترمة، فمن حق من أوذى في سبيل الوطن أن يقول إنه من رجال التضحية، وأن يطلب من المناصب ما يشاء، ولكن يبدو لي أن الوقت حان للبطولة العلمية والأدبية.
حان الوقت الذي نحرر فيه بلادنا من السيطرة الأوربية في العلوم والآداب والفنون، وما أدعو إلى غض أبصارنا عما في أوربا من آثار العقول، فهذا كلام لا يقوله رجل متخرج في السوربون.
وإنما يجب أن نروض أبناءنا على الشعور بأن لهم أدبا وعلما وفنا، يجب أن نروض أبناءنا على الشعور بأن لنا عقولا وأذواقا وأحاسيس.
يجب أن يفهم أبناؤنا أننا صالحون لبناء مجدنا الأدبي والعلمي بأيدينا.
يجب أن يكون مفهوما أن العرب صلحوا مرة للأستاذية العالمية نحو ثلاثة قرون.
يجب أن يكون مفهوما أن اتخاذ اللغات الأجنبية لغات تدريس في المعاهد والكليات هو اعتراف خطر بأن لغتنا فقيرة وأننا فقراء، وقد حاربت هذه النزعة في مصر وأنا اليوم أحاربها في العراق.
أيها الصديق
تلك كلمتي إليك، وما يهمني أن أنتصر عليك.
وإنما يهمني أن تفكر في الموضوعات التي طفت بها طوافا في هذا المقال، وأن تحاول بقلمك أن تخلق لها أنصارا من أهل الأدب والبيان.
لقد لقيتك وفي يدي سيف وأنا أعرف أنك ستلقاني وفي يدك غصن من الزيتون.
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعا إلى سواء السبيل.
الفصل الأربعون
عبقرية الشريف الرضي1
أما بعد، فهذا كتاب «عبقرية الشريف الرضي» وما أقول إني شغلت به نفسي سنة كما قلت يوم أخرجت شرح «الرسالة العذراء»، ولا سبع سنين كما قلت يوم أخرجت كتاب «النثر الفني»، ولا تسع سنين كما سأقول بإذن الله يوم أخرج كتاب «التصوف الإسلامي» فما شغلت نفسي بكتابي هذا غير خمسة أشهر، ولكنها من أشهر بغداد لا أشهر القاهرة ولا باريس، وما كان لي في بغداد لهو ولا فتون، فكانت الليلة في بغداد كليلة القدر، خير من ألف شهر، والتوفيق من أشرف الأرزاق.
وكتابي هذا هو مجموعة المحاضرات التي ألقيتها في قاعة كلية الحقوق، وكانت تلك المحاضرات من أشهر المواسم في حياتي، فقد كان أصدقائي يخشون أن يمل الجمهور بعد أسبوع أو أسبوعين، ولكن الجمهور كان يزداد إقباله من أسبوع إلى أسبوع، ولم ينقذني منه غير التصريح بأني أنفقت كل ما كنت أملك، ولم يبق إلا أن أستريح.
ومحاضراتي بكلية الحقوق في بغداد هي الموسم الثاني بعد محاضراتي عن «المدائح النبوية» وهي المحاضرات التي ألقيتها باسم الجامعة المصرية في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة، فهل يتسع العمر لموسم ثالث في القاهرة أو في بغداد؟ •••
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأعددت هذه المحاضرات وأنشأت معها مقالات كثيرة جدا نشرتها صحف مصر ولبنان والعراق، ورججت الحياة الأدبية في بغداد رجا عنيفا، فذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع لأحفظ لنفسي مكانا بين الأساتذة المصريين الذين تشرفوا بخدمة العراق من أمثال: محمد عبد العزيز وأحمد حسن الزيات والسنهوري وعبد الوهاب عزام ومحمود عزمي، وذلك كان أقل ما يجب أن أصنع في خدمة تلاميذي وتلميذاتي في بغداد، وقد رأيت في وجوههم وجوه أبنائي وبناتي فكلفت نفسي في خدمتهم فوق ما أطيق.
لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فأنفقت من العافية ما أنفقت، فقد ساءني أن أعرف أن «دار المعلمين العالية» لها في بغداد تاريخ، فكانت تفتح ثم تغلق، وتفتح ثم تغلق، فاستعنت الله وانتفعت بعطف معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي وأريحية الأستاذ طه الراوي ومودة الدكتور فاضل الجمالي، وعولت على همة زميلي وصديقي الدكتور فؤاد عقراوي وأقمنا لدار المعلمين العالية أساسا من متين التقاليد الجامعية، فأغنينا مكتبتها بالمؤلفات القديمة والحديثة، وعلمنا طلابها كيف يبحثون ويراجعون، وغرسنا فيهم الشوق إلى التحقيق والاستقصاء.
ورأيت أن يكون من تقاليد هذا المعهد العالي أن يخرج في كل سنة كتابا عن شاعر أو أديب أو مفكر لم يدرسه أحد من قبل، فألفت كتابي هذا عن الشريف الرضي، فإن ترفقت شواغلي بمصر وأذنت لي بالرجوع إلى بغداد فسأخرج في كل سنة كتابا جديدا، وإن أبت تلك الشواغل أن أتمتع مرة ثانية بالاستصباح بظلام الليل في بغداد فسيذكر من يخلفني أني طوقت عنقه بطوق من حديد، وأن لا مفر له من أن يشقى في سبيل «دار المعلمين العالية» كما شقيت.
وإنما نصصت على هذه المعاني في مقدمة هذا الكتاب لأجتدى العطف على «دار المعلمين العالية»، وممن أجتديه؟ من حكومة العراق، فما يجوز أن يغلق هذا المعهد، وإنما يجب أن تبذل الجهود ليصبح منافسا قويا لكلية الآداب بالجامعة المصرية. •••
قد يقول قوم من خلق الله: ولماذا ابتدأت بالشريف الرضي؟! إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو يذكر جيدا أنني قلت له يوم أخرج كتابه عن ابن الرومي: كان الأفضل يا أستاذ أن تنفق هذا الجهد في دراسة أشعار الشريف الرضي.
إن قالوا ذلك فالجواب عند الأستاذ الدكتور طه حسين، فهو يذكر جيدا أني نبهته إلى أن الاهتمام بدراسة شعر الشريف الرضي كان أولى من الاهتمام بدراسة شعراء القرن الثالث.
إن قالوا ذلك فالجواب عند نادي الموظفين بالقاهرة فقد طلب في سنة 1932 أن ألقى محاضرة عن أعظم شاعر في اللغة العربية، فكانت محاضرتي عن الشريف الرضي.
ابتدأت بالشريف الرضي على غير موعد، فقد رأيتني فجأة بين دجلة والفرات، فتذكرت أن قد جاء الأوان لدراسة هذا الشاعر الذي تعصبت له منذ أعوام طوال.
ويشهد الله وهو خير الحاكمين أني لم أفكر في إنصاف الشريف الرضي إلا يوم قدم لي الدكتور شريف عسيران نسخة من كتاب الأستاذ المقدسي عن أمراء الشعر في العصر العباسي، فأزعجني أن يهتم بأبي العتاهية وينسى الشريف الرضي، مع أن ديوان أبي العتاهية لا يساوي قصيدة واحدة من قصائد الشريف.
فمن شاء له هواه أن يزعم أن لي غاية في التعصب للشريف الرضي فليتق الله في نفسه، وليذكر أن الدكتور زكي مبارك لو كان أنفق نشاطه في الاتجار بالتراب لأصبح من كبار الأغنياء، ولكنه بلا أسف سيموت فقيرا لأنه أنفق نشاطه في خدمة الأدب العربي.
والأدب العربي خليق بأن يكون له شهداء، وأنا في طليعة أولئك الشهداء. •••
سيرى قراء هذا الكتاب أنني جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟
وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتابا مثل هذا الكتاب.
والقول الفصل في هذه القضية أن المتنبي في بابه أشعر من الشريف، والشريف في بابه أشعر من المتنبي، وكل عبقري هو في ذاته أعظم الناس؛ لأن ميدانه لا يجاريه فيه أحد سواه، والشريف بهذا المعنى أفحل الشعراء لأنه جرى في ميدان سيظل فارسها السباق على مدى الأجيال.
وما الذي يضر أنصار المتنبي حين أقدم عليه الشريف؟
هل فيهم من يحفظ ديوان المتنبي كما أحفظ ديوان المتنبي؟
إن سجلات كلية الآداب بالجامعة المصرية تشهد بأنني كنت أول من دعا إلى الاحتفال بمرور ألف سنة على وفاة المتنبي، ولي على ذلك شهود منهم الشيخ السكندري والأستاذ عباس محمود والدكتور منصور فهمي.
وما الذي يضر أهل العراق من أن أهتم بشاعر لا يعرف العراقيون موضع قبره على التحقيق؟ أليس من العجائب أن يعرف العراقيون قبر معروف الكرخي، ويجهلوا قبر الشريف الرضي؟
إن هذا هو الشاهد على أن العوام أحفظ للجميل من الخواص! إن كان خصومي في بغداد دهشوا من أن أتعصب لشاعر رضي عنه ناس وغضب عليه ناس، فليذكروا أنني كنت كذلك طول حياتي فوضعت بالنقد قوما ورفعت آخرين، وفقا للحق لا طوعا للأهواء، وأنا والله راض بأن يغضب علي أهل بغداد، فقد غضبوا على أبي طالب المكي فمنحوه الخلود.
أنا أحب الخصومات لأنها تذكي عزيمتي، ومن أجل هذا أنظر نظر الجزع إلى مصير خصوماتي في بغداد، فلن يكون لي في بغداد خصوم بعد ظهور هذا الكتاب، وإنه لقادر على أن يفجر العطف في القلوب المنحوتة من الجلاميد، سيذكر أدباء بغداد أنني أحييت شاعرا هو من ثروة العروبة وثروة العراق، سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية حين اهتممت بشاعر كان أصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد. •••
وكتابي هذا تطبيق لما شرعت من قواعد النقد الأدبي، تلك القواعد التي أذعتها في كتاب (الموازنة بين الشعراء) وهو من أجل هذا لون جديد في اللغة العربية، وسيكون له تأثير شديد في توجيه الدراسات الأدبية، وقد يصلح ما أفسد الزمان من عقول الباحثين.
وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلميذ كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق، والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جدا، ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي: كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني.
وهذا الترفق في معاملة الشريف ليس نزوة شخصية، وإنما هو وثبة علمية، فما كان يمكن أن أكون وفيا للبحث إلا إن سايرت الشاعر الذي أعرض عقله وروحه على تلاميذي، وهذه هي المزية التي أتفرد بها بين أساتذة الأدب العربي.
سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق: فإن آمن آمنت، وإن كفر كفرت، إن جد الشريف جددت، وإن لعب لعبت، إن عقل الشريف عقلت، وإن جن جننت، إن قال الشريف إن غاية الرجل العظيم هي الحرب، قلت: صدقت، وإن قال: إن الحياة هي الحب، قلت : والحب الحياة!
ولكني مع هذا عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق، نبهته تنبيها دقيقا جدا لا يفطن إليه إلا الأذكياء، وفي بني آدم أذكياء، نبهته إلى عيوبه أكثر من ستين مرة، وما أظنه يحقد علي؛ لأن الصديق الذي في مثل حالي تغفر له جميع الذنوب.
والشواهد في هذا الكتاب كثيرة جدا، وذلك هو أسلوبي في البحث، فأنا أشغل القارئ بالشاعر الذي أدرسه أكثر مما أشغله بنفسي، وهذه إشارة أرجو أن ينتفع بها المتحذلقون.
اعتمدت على طبعة بيروت وصححت ما صادفني فيها من أغلاط، وشرحت ما يجب شرحه من الأشعار خدمة للقارئ الجاحد الذي لا يفهم قيمة الوقت الذي ينفقه الشارح في تحديد المعاني، وصححت الكتاب كله بنفسي تصحيحا دقيقا، فإن رأى فيه القارئ أغلاطا؛ فذلك ذنب العجلة لا ذنبي، وأدخلت فنونا من الذوق على الطباعة في بغداد سيذكرها أصحاب المطابع.
بغداد!
هذا كتابي، أقدمه بيميني في تهيب واستحياء، فإن رضيت عنه فذلك لطف ورفق، وإن غضبت عليه فلست أول حسناء تجحد الجميل.
بغداد!
اصنعي في ودادي من التنكر والتقلب ما شاء لك الدلال، أما أنا فأشهد أنك صنعت بقلبي وعقلي ما عجزت عنه القاهرة وباريس!
أنت مظلومة يا بغداد، وأنا مظلوم يا بغداد، والظلم يجمع بين القلوب.
نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مجيب.
وعليك مني السلام.
الفصل الحادي والأربعون
بين مصر ولبنان1
أخي الأستاذ رئيس تحرير البلاد
إنك تذكر ولا ريب أنني صحفي قديم، وتذكر أنني ابتدأت بالصحافة السياسية، ثم انتهيت إلى الصحافة الأدبية، فرارا مما يصحب السياسة من المحرجات التي يضيق بها الوجدان في بعض الأحوال.
وتذكر أيضا أنني غامرت في أكثر من ألف معركة أدبية، ثم انتصرت فيها جميعا، فليس في مصر عالم ولا أديب يستطيع أن يقول في السر أو في العلانية إنه انتصر على الدكتور زكي مبارك.
كل ذلك تعرفه يا سيد رافائيل، ولكن غابت عنك أشياء، فهل تصدق أنني سأنهزم أمام مجلة المكشوف التي تصدر في بيروت؟ إي والله! سأنهزم وسأعود إلى أهلي وأنا جريح الفؤاد.
لا تعجب أيها الأخ من هزيمة أخيك الشجاع زكي مبارك، فإن جريدة المكشوف تدخل معي في مضايق أجبن عنها كل الجبن، لأنها تحاول أن توقد نار العداوة بين أدباء مصر وأدباء لبنان، وأنا رجل صممت على أن أعيش دهري كله من دعاة الأخوة بين الأقطار العربية فلا أستبيح لنفسي أن أشترك في مناقشة يقال فيها لبنان أفضل من مصر، أو مصر أعظم من لبنان.
أضف إلى ذلك أن لي أصدقاء من اللبنانيين يسوءهم أن أعرض لبلادهم بكلمة ملام، فهل رأيت أحرج من هذا الموقف أيها الصديق؟
أنا لا أرى لبنان في وجوه أولئك السادة الذين يحاربونني في جريدة المكشوف، وإنما أرى لبنان في وجوه الأصدقاء الأمجاد الذين عرفتهم في بيروت وفي القاهرة وفي باريس.
قد يسأل قراؤك: وما أصل الخصومة؟
وأجيب بأن جريدة المكشوف تقول إن الأدباء اللبنانيين أعمق من الأدباء المصريين!!
وما يسوءني أن يكون الأمر كذلك، فنحن جميعا إخوان، ولكن الواقع يشهد بغير ذلك، الواقع يشهد أن أدباء مصر هم اليوم حماة اللغة العربية، وأقطاب الأدب والبيان، وتفوق الأدباء المصريين ليس مغنما لمصر وحدها، وإنما هو مغنم لجميع الأمم العربية، فإن استطاع لبنان أن يقدم للعروبة أدباء أعمق من أدباء مصر فسأكون أول المرحبين، ولكن مصر بحيويتها العلمية والأدبية والفنية ستظل مرفوعة العلم شامخة البنيان.
وأؤكد لك يا صديقي أن مصر تعرف جيدا ما هي مقبلة عليه، هي تفهم أن المجد الأدبي يقدم له وقود هائل من الجهد والمال، وهي من أجل ذلك تحض أبناءها على الجهاد الموصول في سبيل الحياة العلمية والأدبية والفنية، وهي تعمل ما تعمل في سكون، وتترك الأقاويل والأراجيف لمن لا يعرفون قيمة الأخوة العربية.
هل تصدق أيها الأخ أن وقتي في العراق يضيع منه جزء ثمين في دفع المفتريات التي تصوب إلى مصر بلا حساب؟
أحب أن أعرف ما هو الموجب للتحامل على الأدباء المصريين وهم يقذفون أبصارهم تحت المصابيح في خدمة اللغة العربية.
أحب أن أعرف ما هو الموجب للحقد على مصر في بلد مثل لبنان، وقد كانت مصر هي الملاذ للمضطهدين من أحرار الفكر في لبنان.
أما بعد، فإن بعض أصحاب الأهواء يسوءهم ثم يسوءهم أن يقال إن مصر لها الزعامة الأدبية، وأنا أقول بصوت جهوري يسمعه من في القبور: إن الأمم العربية لم تتصدق على مصر بالزعامة الأدبية، وإنما هي مجد غنمه المصريون بفضل ما قدموا من الجهود في نصرة اللغة العربية، ونحن على أتم استعداد لأن نقدم الراية لمن ينفقون من أعمارهم بعض ما ننفق في سبيل لغة الضاد.
فلتسمع هذا الكلام مجلة المكشوف، ولتفهم جيدا أن أدبي لا يسمح بمجاراتها في ميدان الهجاء؛ لأن لي في لبنان إخوانا كراما يؤذيهم أن تعثر قدمي في هذا الميدان، وأنا لا أنظر إلى الساعة الحاضرة، وإنما أتمثل المستقبل المشرق الذي ترفرف فيه راية العروبة الغالية، وذلك أمل أراه برعاية الله سهل المنال.
أكتب هذا إليك وأنا أرجو أن لا تعلق عليه بما يؤذي إخواني في لبنان، ولمجلة المشكوف أن تعلق بما تشاء، فليست أول مجلة آذتني، ولن تكون آخر مجلة تؤذيني بالظلم المبين.
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعا إلى سواء السبيل.
الفصل الثاني والأربعون
بعض ما رأيت في العراق1
أيها السادة
تفضلت الإذاعة اللاسلكية فدعتني لإلقاء محاضرتين عن العراق، فرأيت أن أقسم الموضوع إلى قسمين:
الأول:
أصور به بعض ما رأيت في العراق.
والثاني:
أصور به الحياة الأدبية في العراق.
وأبدأ فأذكر أن هجرتي إلى العراق لم تكن تخطر بالبال، فقد كانت لي في مصر شواغل تصرفني عن التفكير في ذلك، ثم فوجئت بالدعوة إلى خدمة العلم في العراق في مطلع شهر أكتوبر من السنة الماضية، فترددت في قبول الدعوة، ثم قلت في نفسي: إن من العقل أن أعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب، وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلي أن يصف باريس عن علم ويصف بغداد عن جهل .
وما هي إلا أيام حتى كنت في طريقي إلى العراق، ولعلى كنت المصري الوحيد الذي لم يطل بينه وبين المفوضية العراقية أخذ ولا رد في شروط العمل بالعراق.
ولكن كيف أصل إلى العراق؟
كانت هناك مسالك للوصول:
الأول:
الوصول بالطيارة، وهو أسهل الطرق، لأنه يمكن المسافر من الفطور بالقاهرة والعشاء في بغداد، ولكني تذكرت أني أعطيت جماعة من تلاميذي موضوعا للإنشاء منذ عشر سنين عن (خطر انعدام المسافة في العصر الحديث) وكنت أرى أن الطيران قضى على جانب مهم من الأدب الوصفي، فلن يكون في الدنيا بعد اليوم رجل مثل ابن بطوطة ولا رجل مثل چان چاك روسو، وأنا أرى الشرق العربي أول مرة، فليس من المفيد أن أسافر في طيارة فأحجب عما فيه من أنهار ومدائن وسهول.
الطريق الثاني:
هو طريق البحر من الإسكندرية إلى بيروت، وهو يعطي الفرصة لرؤية لبنان وسورية، ولكنه يحرمني رؤية فلسطين، ويحبسني في البحر يوما وبعض يوم، وأنا ركبت البحر إلى أوربا أكثر من عشر مرات وشبعت منه وشبع مني.
الطريق الثالث:
هو السفر من القاهرة إلى القنطرة لاخترق فلسطين بالقطار حتى أصل إلى حيفا، ومنها إلى بيروت ثم إلى الشام ثم إلى بغداد.
ولكن طريق فلسطين كان في ذلك الوقت محفوفا بالمكاره، فقد كانت البرقيات تحدثنا أن الثوار ينسفون القطارات، فلم يصرفني ذلك عن المرور بفلسطين، لأني كنت أحب أن أرى البلاد التي يقتتل حول خيراتها العرب واليهود، وقد نهاني بعض الزملاء المسافرين إلى العراق فلم أنته، وتفردت بتلك المغامرة لأكحل جفني برؤية فلسطين.
وصلت إلى القنطرة في ليلة قمراء توحي غرائب الشعر والخيال، فعلمت أن القطار سيتأخر قيامه من هناك ثلاث ساعات حتى لا يدخل فلسطين إلا مع ضوء الصباح، تجنبا لمخاطر التعرض لنسفه بالليل، وكذلك عرفت أن من نهوني عن المرور بفلسطين لم يكونوا مخطئين.
قضيت ساعات في مناجاة قناة السويس والتأمل فيما صنعت مصر لخدمة الإنسانية، الإنسانية الجاحدة التي جهلت ما قدمت مصر من جميل.
وقفت أنظر كيف خدمنا بني آدم وكيف أتعبنا أجسادنا وأفقرنا جيوبنا لنسهل وسائل النفع ولنصل بين المشرقين والمغربين، ثم لا نجد من يتفضل بكلمة ثناء.
وسار القطار قبيل الصبح فبخلت على عيني بالهجود لأرى أطراف مصر من ناحية المشرق ولأنظر بساتين فلسطين.
ولم يكفني ما رأيت من فلسطين في الذهاب فقررت المرور عليها في الإياب لأتمتع باختراقها مرتين ولأقتنع بأنها بلاد جميلة جذابة تستحق ما ثار حولها من النضال.
ولم أبت في فلسطين إلا ليلة واحدة عند الرجوع، وكانت ليلة متعبة، فقد كان محرما على أهل حيفا أن يتجولوا بالليل، وكان من الحزم أن أقضي سهرتي في رحاب الفندق، وإن حرمني ذلك شهود المجتمع الفلسطيني في تلك المدينة البيضاء.
وأعود فأقول إني امتطيت سيارة في ذهابي من حيفا إلى بيروت وفي بيروت قضيت ليلة واحدة كانت أبقى أثرا من الليالي الطوال، مضيت أتنقل في بيروت من مكان إلى مكان بعد أن ألقيت أمتعتي في الفندق، ثم اتفق أن عرفني بعض الأدباء هناك فساقني ذلك إلى زيارة أكثر الجرائد واندفعت فجاذبت أهل بيروت أطراف الأحاديث، وعرفت ألوانا من عتابهم على مصر والمصريين، وقد تعقبوني بعد أن وصلت إلى العراق فكان بيني وبينهم مناوشات ستعرفون أخبارها حين أنشر كتاب «وحي بغداد».
ومن بيروت رحلت إلى دمشق مخترقا جبال لبنان، فرأيت من جمالها الأعاجيب، ولا أزال مفتونا بما شهدت في الموضع المعروف بسهل البقاع.
وفي دمشق رأيت الأستاذ محمد كرد علي والأستاذ عبد القادر المغربي وزرت بعض الزعماء وقضيت لحظات في مناجاة نهر بردي الذي خلده حسان.
ثم أسلمت نفسي إلى سيارة «نيرن» لأقطع الصحراء بين الشام والعراق ولأرى بنفسي كيف شقى أسلافنا بمخاطر البيداء.
كنت أعرف أني سأقضي أكثر من خمس وعشرين ساعة في ذلك السجن المتحرك، وكان ذلك يغرق نفسي في بحر من الانقباض، ولكن كان يعزيني ما عرفت من أننا سنستريح في كل مدينة تصادفنا في الطريق، ولم يكن في الطريق مدائن وإنما هناك محطتان هما الرطبة والرمادي.
وبعد ساعات من عبور الصحراء نظرت فرأيتنا مقبلين على مدينة فيحاء، مدينة تقع على نهر واسع تجري فيه سفائن بخارية وشراعية، فانشرح صدري، وقلت: سنستريح لحظات، ثم عجبت من جهلي بالجانب الجغرافي من ذلك الطريق، فما كنت أعرف أن هناك مدينة تقع على نهر عجاج، وترحمت على أستاذي إسماعيل بك رأفت الذي أسقطني في امتحانات الجامعة المصرية مرتين لقلة ما كنت أعرف من دقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب.
ولكن لم تمض غير دقائق حتى اختفت تلك المدينة مرة واحدة، فعرفت أنها كانت أضلولة من أضاليل السراب.
وبعد نصف ساعة لاحت مدينة جديدة، فتأملت مرة ومرتين ومرات فتأكدت أنها مدينة حقيقية، وكنت كلما اقتربت منها زدت يقينا بأننا سنستريح بعد لحظات، وتمتاز تلك المدينة بما يكثر فيها من منارات المساجد وأبراج الكنائس، وبما يحيط بها من حدائق وبساتين، وقد نظرت فرأيت حولها فرقة من الجيش تسير نحو الشرق، وفوق ذلك الجيش يحلق سرب من الطيارات.
ما اسم تلك المدينة؟ ولمن ذلك الجيش؟ ولأي غرض يتجه نحو الشرق؟ آه من جهلي بدقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب!
كنت أستطيع أن أسأل بعض المسافرين عن تلك المدينة، ولكني خجلت من السؤال، فقد كان فيهم من يعرف أني ذاهب لخدمة العلم في العراق، ومن كان في مثل حالي لا يليق به أن يجهل هذه البسائط الجغرافية.
وما هي إلا دقائق حتى اختفت هذه المدينة، وعرفت أنها كتلك: أضلولة من أضاليل السراب.
ولكن خداع السراب لن يستمر طويلا، فقد أقبلنا على واحة كثيرة النخيل، قد انتثرت فيها منازل صغيرة أكثرها أكواخ، وفيها ألوان من الحيوان أكثرها الإبل والشاء، وفيها عدد قليل من الأعراب.
لم أطرب كثيرا لظهور هذه الواحة، فقد كنت أستبعد أن نقف عندها لحظة أو لحظتين، فما فيها - فيما أظن - مطاعم ولا مشارب حتى يستريح بها المسافرون.
ولكنها على كل حال فرصة للنزول، وسأقترح الوقوف عندها بضع دقائق.
آه، ثم آه!
هذه أيضا أضلولة من أضاليل السراب.
ولكن هذه الأضاليل ستقفني بعد أشهر موقفا سخيفا جدا، ستكون حفلة الافتتاح للمؤتمر الطبي العربي في بغداد، وسيكون فيها الوزراء والنواب والأعيان وكبار الأطباء، وسيلقى الأستاذ علي الجارم بك قصيدته في تحية المؤتمر فيقول في وصف البيداء:
طالت بنا الصحراء حتى
خلتها أبد الأبيد
يتخلص المرمى البعيد بها إلى مرمى بعيد
كتخلص الحسناء من
وعد طوته إلى وعود
فأصرخ: أعد يا أستاذ، أعد الكلام عن وعود الحسان!
وعندئذ يتلفت الحاضرون فيرون الدكتور زكي مبارك هو الذي يستعيد، فيقول بعضهم لبعض: هذا مجنون ليلى، ولا حرج على المجانين!
وعذرهم في اللوم مقبول فما عرفوا من أضاليل السراب مثل الذي عرفت. •••
ثم وصلت إلى الرطبة تعبان فلم أذق معنى للراحة هناك.
وبعد نصف الليل قضينا مدة في الرمادي فذقت أول مرة طعام العراق، وبعد الفجر رأيت أفواج الفلاحين وهم يسيرون بمواشيهم إلى حقولهم على الأسلوب الذي يجرى عليه الفلاحون المصريون.
وبعد تفتيش الأمتعة أخذت سيارة لأدخل بغداد بعد أن بقيت في ذلك السجن المتحرك مدة طويلة رأيت فيها الشروق والغروب ثم الشروق. •••
الله أكبر ولله الحمد!
هذه بغداد التي قرأت عنها ما قرأت، وسمعت في وصفها ما سمعت، وهذا هو الجسر الذي قال في مثله ابن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلين الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرا إلى جمر
وذلك خيال باب الرصافة الذي تشوق إليه ابن نبانة السعدي، فقال:
سقيا لتغليسي إلى
باب الرصافة وابتكاري
أيام أخطر في الصبا
نشوان مسحوب الازار
حجى إلى حجر الصرا
ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذات أوطا
ني ودار اللهو داري
وما كدت أضع أمتعتي في الفندق حتى أخذت عربة ومضيت فسلمت على وزير المعارف، فراعني أن أرى شيخا معمما أسمر الوجه فصيح الحديث، وقد سألني عن الصحراء، فأظهرت تأملي لما كابدت وعانيت، فقال: اشكر ربك، فقد قطعتها قبلك في مدة دامت خمسة وعشرين يوما قبل أن تعرفها السيارات، وكان حديثا ممتعا عرفت به من خصائص الصحراء ما لم أكن أعرف.
ومضيت فقيدت اسمى في ديوان حضرة صاحب الجلالة ملك العراق، وانتقلت فسلمت على فخامة رئيس الوزراء، وأسرعت فألقيت الدرس الأول في دار المعلمين العالية وأنا بغبار الطريق.
سلام الله وسلام الحب على أيامي في العراق.
كنت في البداية أظن أنني ما حضرت إلا لتدريس الأدب العربي، فحبست نفسي بين المدرسة والمكاتب زمنا غير قليل.
ثم رأيت أن هذا المسلك غير مقبول لأنه سيحجبني عن الخصائص الذاتية للشعب العراقي، وخصائص هذا الشعب تفسر كثيرا من دقائق الأدب في العصر العباسي، فانقطعت انقطاعا يكاد يكون تاما عن المصريين المقيمين في بغداد، وأقبلت على البغداديين أصاحبهم وأصادقهم وأقضي معهم ما تسمح به أعمالي من لحظات الفراغ.
وكانت حجتي أن الشعوب لا تموت، فبغداد التي غيرتها الأزمان من أحوال إلى أحوال لا بد أن تحفظ كثيرا من شمائلها الأصيلة لعهودها الذهبية، ولا بد من الوصول إلى بعض الأسرار التي قضت بأن ينبغ فيها كبار الكتاب والشعراء.
وما هي إلا أشهر قلائل حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صححت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ.
وبغداد تنقسم في وضعها الحاضر إلى قمسين: بغداد القديمة التي كان يعيش فيها الناس قبل التمدن الحديث، وهي مدينة جافية لمن يراها أول مرة، ولكنها جذابة جدا لمن يعرف روحها الشفاف، هي مدينة تجذب من يعرف أهلها، وهم في أكثر أحوالهم على جانب عظيم من الأدب والذوق ولطف الأحاسيس وكرم النفوس.
ولن أنسى طول حياتي ما لقيت في تلك الدور الجافية من عذوبة الأرواح وصفاء القلوب.
كنت أدخل المقاهي في تلك المدينة القديمة فيؤذيني حرمانها من النظافة والتنسيق، ولكن قلبي كان يتفجر بالعطف حين أتذكر أن هؤلاء الناس قاوموا الحوادث والخطوب حتى حفظوا أصول اللغة العربية وقواعد الإسلام، وحتى استطاعوا أن يحفظوا لأنفسهم وجودا خاصا بالرغم من تصاريف الزمان.
في تلك الدور الجافية نشأ ناس تغلبوا على مصاعب أخفها الأوبئة والطواعين.
في تلك الدور الجافية خلقت عواطف وأحاسيس وأهواء.
في تلك الدور الجافية نبغ شعراء وصفوا الحب والليل.
في تلك الدور الجافية ألفت أحزاب ودبرت مؤامرات غيرت وضع العراق من حال إلى حال.
وكانت لتلك الدور الجافية تقاليد، أهمها الباب المفتوح للجائعين والملهوفين.
إليك أيتها الدور الجافية وإلى ما يعلوك من رواشن وما يحيط بك من مضايق، إليك في خشونتك التي أراها أنعم من خدود الملاح أقدم تحيتي وثنائي.
أما بغداد الجديدة فتصورها الضواحي التي أنشئت على النظام الحديث.
وهذه الضواحي تمتد إلى آفاق بعيدة على شواطئ دجلة، وفيها يعيش المياسير من أهل بغداد، هي ضواح لا تقاس إلى الجيزة أو مصر الجديدة أو المعادي أو حدائق القبة، ولكنها بالنسبة إلى بغداد القديمة تعد انتقالا سريعا إلى أجواء الرفاهية واللين.
وفي الأحياء الجديدة ميل شديد إلى الأناقة والتنسيق، ولن تمضي غير سنين قلائل حتى تخلق بغداد كلها خلقا جديدا، بفضل أبنائها الذين يزورون مصر وغير مصر فينقلون إلى وطنهم بذور الحضارة والعمران. •••
ليس في بغداد مواصلات سريعة على نحو ما في القاهرة أو الإسكندرية، فليس فيها ترام ولا مترو، وسيارات التاكسي قليلة جدا، وإنما يعتمد أهل بغداد على عربات تجرها الخيل، وهناك سيارات عمومية تسمى «باسات»، وهي قذرة وضيقة ولا يركبها في الغالب إلا الطبقة الشعبية.
والنساء في بغداد يؤثرن الحجاب، وهو الزي الغالب على النساء المسلمات، والسفور لا يشيع إلا بين نساء النصارى واليهود، على أن تلميذات المدارس من المسلمات ينتقلن رويدا رويدا إلى السفور، ومن المنتظر أن يصرن بعد نحو عشرين عاما إلى ما صار إليه الفتيات القاهريات، إن لم تقع موجة اجتماعية تردهن جميعا إلى مأثور الحجاب.
وأهل بغداد لا يشربون الخمر على قارعة الطريق كما يقع في بعض الحواضر المصرية، وإنما يشربونها في فنادق مغلقة الأبواب، وذلك أدب مقبول.
وقد أذيعت منذ أشهر أوامر توجب أن لا تقدم الخمر في الفنادق والملاهي بعد الحادية عشرة مساء، حفظا لصحة الشعب وآدابه من التبديد.
وفي العراق مدن لا يباح فيها بيع الخمر علانية، وأشهر المدن في هذا المعنى مدينة النجف، وهي مدينة كبيرة، ولكنها مع ذلك خالية من الملاهي والملاعب والمراقص، ولم يدخل فيها الراديو إلا بعد جدال طال أمده بين العلماء.
ولما زرت النجف جلست على قهوة، فلامني إخواني هناك، وقالوا: سيكتب في التاريخ أن الدكتور زكي مبارك حين زار النجف جلس على قهوة!!
وسمعت أن أحد الموظفين بالكوفة كان يشرب الخمر سرا، فلما علم الأهالي بخبره طاردوه إلى أن نقلته الحكومة من هناك.
ويمكن القول بأن أهل العراق في جملتهم ينكرون شرب الخمر، تشهد بذلك الحفلة التي أقامها فخامة رئيس الوزراء لأعضاء المؤتمر الطبي فلم يكن فيها شراب غير الماء القراح، ومعنى هذا أن آداب الإسلام لا تزال مرعية في تلك البلاد.
وهناك شارع مشهور يسمى شارع أبي نواس، وكنت أظنه يشبه شارع وجه البركة في القاهرة، فلما رأيته عجبت، لأنه شارع نظيف جدا يساير دجلة بحيث يمكن أن نسميه كورنيش بغداد، وفيه قهوات لا يباح فيها شرب الخمر على الإطلاق.
وإنما نصصت على هذا الجانب من حياة أهل العراق لأنه يدخل في صميم المجتمع، ويمثل أذواق الناس أصدق تمثيل.
وقد لوحظ أخيرا أن الفنادق التي تبيع الخمر تكثر فيها المشاجرات، فاهتمت الحكومة بالأمر وبثت حولها الأرصاد والعيون.
ويتصل بهذا ما شهدته حين دخلت بغداد فقد عرفت أن هناك أوامر تعاقب من يفطرون علنا في رمضان، وكذلك ينقضي شهر الصوم وليس فيه مطعم مفتوح أثناء النهار، وليس معنى هذا أن أهل بغداد يصومون جميعا، ولكن معناه أنهم يراعون آداب الصيام.
وملاهي بغداد تنقسم إلى قسمين: ملاه شرقية، وملاه غربية.
أما الملاهي الشرقية: فتقوم على الغناء والرقص على نحو ما كنا نشهد في القاهرة منذ سنين، وقد عرفت أن البغداديين لا يصفقون حين يطربون للغناء، وهذا فيما علمت كان من أسباب الوحشة التي أحسها الأستاذ محمد عبد الوهاب حين غنى هناك.
أما الملاهي الغربية: فتقوم على الرقص الإفرنجي، وهي ملاه قليلة جدا ؛ لأن الذهب إليها يعد من العيوب، وهي مع ذلك تزدحم بالرواد في أكثر الليالي.
ومن هذا تفهمون أن المجتمع العراقي يعاني صعوبة الانتقال من وضع إلى وضع.
وما نقول به في الحكم على مدينة بغداد نقول به في الحكم على مدينة البصرة، ففيها رأيت مرقصا إفرنجيا لو شهده الجاحظ لكتب في وصفه رسالة أو رسالتين!!
وقد أقمت في مدينة الموصل خمسة أيام فرأيتها أكثر احتشاما من البصرة وبغداد، والسر في ذلك أن الموصل يكثر فيها النصارى فيحرص المسلمون على آدابهم أشد الحرص ليقيموا التوازن بين المذاهب ويذهبوا قالة السوء عن العقيدة الإسلامية. •••
ويسوقنا هذا الوصف إلى الحديث عن تدين أهل العراق، فهم في رأيي من أشد الأمم تمسكا بالإسلام، وربما كان العراق هو الأمة الوحيدة التي لا تزال تختلف وتأتلف حول المذاهب الإسلامية، والاختلاف حول تلك المذاهب يوحي إلى الجمهور حب التعمق في درس الآراء والنظريات، وكذلك يعرف أهل العراق من تاريخ الخلفاء والأئمة ما لا يعرف جمهور المسلمين في غير العراق.
وفي العراق عدة جمعيات تهتم بنشر المعارف الدينية، منها جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية، والجمعية الإسلامية، والأخيرة جمعية يديرها جماعة من فضلاء الهنود.
وعلماء الدين في العراق يحترمون أئمة الإسلام احتراما شديدا، وقد يصلون في ذلك إلى حد التعصب الممقوت، وأذكر أن جماعة منهم قاطعوا محاضراتي في بغداد بسبب كتاب (الأخلاق عند الغزالي).
ومحطة الإذاعة العراقية تصنع مثل الذي تصنع محطة الإذاعة المصرية من الاهتمام بتلاوة القرآن وإذاعة الأحاديث الدينية، وهم ينظرون إلى من يذكرهم بالدين والأخلاق نظر الاحترام والإعجاب وهم يتوجعون لما قد يقع بالمسلمين من سوء، تشهد لذلك مواساتهم التي لا تنقطع لأهل فلسطين.
وبهذه المناسبة أذكر أن يهود العراق يكادون ينفصلون عن الدعوة الصهيونية بفضل اهتمام أهل العراق بقضية فلسطين، وإني لأذكر أن أول إعانة قدمتها هناك لمنكوبي فلسطين كانت ونحن مجتمعون في بيت رجل من بني إسرائيل.
وجملة القول في هذا الباب أن العواطف الدينية في العراق عواطف سليمة جدا، والمصلح الموفق يستطيع أن يقود العراقيين باسم الدين إلى أشرف الغايات.
وهم مع تدينهم أهل مرح وطرب وانشراح، وأكثرهم يجيد الغناء. •••
بقيت كلمة عن خيرات العراق.
وأقول إنهم لم يستطيعوا إلى اليوم أن ينتفعوا تمام الانتفاع بما في بلادهم من خيرات، فعندهم نهران عظيمان هما دجلة والفرات، ولكن مياه هذين النهرين يذهب معظمها إلى البحر بلا رقيب ولا حسيب.
ويوم يستطيع العراق حبس مياه هذين النهرين ستنقلب سهوله إلى رياض وحقول تعود على الناس بالخير العميم، ولعل ذلك قريب.
وجو العراق عنيف جدا في الصيف، ولكن ينتظر أن يلطف حين تخزن مياه الأنهار وتكثر المزارع والبساتين.
وأنهار العراق مسمكة جدا فهم يأكلون السمك في جميع الأوقات وليست أنهارهم كنهر النيل الذي يضن بالسمك فلا يراه الفلاح في العام غير مرات معدودات، وكثرة السمك في أنهار العراق هي السبب في رخص اللحوم هناك.
وفي العراق يختلف الشمال عن الجنوب. فالذاهب إلى البصرة تروعه النخلات التي تعد بالملايين، والذاهب إلى الموصل تبهره حقول الحنطة، وهي حقول ممدودة على مسافات طوال.
وفي العراق خيرات النفظ الذي نسميه البترول، ولها سوق قائمة في كركوك، ويرى المسافر جذوات اللهب من مكان بعيد.
وسكان العراق هم اليوم نحو أربعة ملايين، ولو استطاعوا تدبير الخيرات في بلادهم لوصل السكان إلى أربعين مليونا.
وأخلاق أهل العراق تدور بين الشدة واللين، فهم يسرفون في الحب، ويسرفون في البغض، وهم في هذا يتبعون جو بلادهم الذي يرق فيكون نسيما، ويقسو فيكون جحيما. •••
ذلك أيها السادة بعض ما رأيت في العراق سقته إليكم بلا تزيين ولا تجميل، وهو يصور أهم ما يجب أن تعرفوه عن المجتمع العراقي، وفي المحاضرة المقبلة أحدثكم عن الحياة الأدبية في تلك البلاد لنرى كيف صارت اللغة وصار الأدب في الأمة التي رفعت لواء النهضة العلمية في عصر بني العباس.
ويسرني وأنا في مصر أن أقدم التحية إلى سائر أهل العراق راجيا لهم من الخيرات والبركات ما أرجوه لنفسي ولأهلي ولوطني حيا الله العروبة، وحيا الله الإسلام.
الفصل الثالث والأربعون
الحياة الأدبية في العراق
أيها السادة
حدثتكم من قبل عن بعض ما رأيت في العراق، والليلة أحدثكم عن الحياة الأدبية في تلك البلاد.
ولكن هل في العراق حياة أدبية؟
العراقيون أنفسهم يرتابون في ذلك.
وهذا الارتياب يرجع إلى شعورهم بضعف الصلات بين حاضرهم وماضيهم، فهم يرون أنهم كانوا في العصر العباسي أئمة الناس في العلم والأدب والبيان، وينظرون فيرون بلادهم كانت خضعت أحقابا لسيطرة اللغة الفارسية واللغة التركية، ثم يتأملون فيرون القاهرة تصنع في العقول العربية ما كانت تصنع بغداد في عصر بني العباس.
وهذا الشعور يغرق أهل العراق في بحار من التأملات، فهم يجاهدون جهادا قويا لينتصفوا لأنفسهم ولأدبهم من سفاهة الزمان.
والحق أن العراق من أصلح البلاد للشعر والخيال، وترجع هذه الصلاحية إلى جو العراق، فهو شديد الحرارة في الصيف وشديد البرودة في الشتاء، ومن طبع الجو العنيف أن يوقظ العواطف والأحاسيس.
والذي عاش في العراق يعرف صحة ما أقول، فربما كان العراق هو القطر الوحيد الذي لا تنقطع فيه الحمائم عن البكاء والنحيب، ويكون ذلك حين تهجم طلائع الصيف، وترق العواطف وتضعف الأعصاب.
وفي العراق أقاليم تنقل الخواطر من حال إلى أحوال، فهناك البصرة وهي المدينة التي تجري من تحتها الأنهار، والبصرة تدخل على القلوب ألوانا من الأحزان والأفراح، بفضل ما تعرف أنهارا من المد والجزر، وما يعرف نخيلها من الشدة واللين، وما يعرف أهلوها من القبض والبسط تبعا لتقلب الفصول.
وهنالك الموصل، الموصل المزهر الذي يسمونه أم الربيعين، فللموصل قدرة عجيبة على تلوين الحزون والسهول، وهو يستقبل الربيع بمواكب تتموج من الأعشاب والأزهار والرياحين، ثم تجف أعشابه فجأة فتسبغ على النفوس أثواب الاكتئاب، وبين الأفراح والأشجان تنبغ عواطف الشعراء.
وهنالك الطغيان، طغيان دجلة والفرات، وهذا الطغيان يغزو القلوب بالروع والفزع فيجعلها صالحة أشد الصلاحية للشعر والخيال.
وهنالك الظباء الوحشية ذوات العيون والأجياد، وقد رأيتها مرات، رأيت أسرابها في طريقي إلى البصرة وفي طريقي إلى بغداد، وسمعت بأخبارها في سامراء.
وهنالك الليل، ليل بغداد الذي يطول على حلفاء الألم والأنين، ومن اسم الليل جاء اسم ليلى التي صحت في كل أرض ولم تمرض إلا في العراق.
وهنالك الصحراء، الصحراء الشامية التي تطوق العراق ، والصحراء التي تقع بين النجف وكربلاء. وكان لي مع صحراء النجف تاريخ، فقد ثارت عواصفها ذات يوم وأنا في سيارة مع ثلاثة من الأصدقاء، هم الأساتذة رزوق غنام وصادق الوكيل وتقى آل الشيخ راضي، فكانت حبات الرمل تضرب وجوهنا بقوة وعنف حتى كادت تدميها، ثم انغرزت السيارة في الرمل فظللنا هائمين لا ندري أين نتوجه نحو ساعتين.
وذلك الجو العنيف الذي يهيج الأعصاب والأحاسيس هو الذي جعل أهل العراق مضرب الأمثال في صدق اللوعة ورقة الحنين، وقضى بأن يكونوا أكثر الناس شكاية من قسوة الأيام والليالي، وما قال قائل (ياليل) في مشرق أو في مغرب إلا كان نواحه منقولا عن أهل العراق.
والعراقي حين ينتشي يضع راحته على خده ويغني غناءا شجيا تلين له الجلاميد، وربما كان السر في ذلك أن العراق قضى الدهور في كروب وأشجان، فهو طول عمره في حرب مع الطبيعة ومع الناس.
ومن أجل هذا كان أهل العراق أجرأ أهل الأرض على إعلان ما يضمرون، وهل رأت اللغة العربية شاعرا مثل الشريف الرضي يتغزل في موسم الحج وهو أمير الحج ونقيب الأشراف؟
وهل رأى الناس رجلا مثل الحبوبي؟ وكان إمام المجتهدين بالنجف، هل رأى الناس مثله وهو في منصبه الديني يستبيح أن يقول:
اسقني كأسا وخذ كأسا إليك
فلذيذ العيس أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك
فاسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرة من ناظريك
أصبحت نسكا وأضحت منسكا
وانهب العمر ودع ما سلفا
واغتنم صفوك قبل الرنق
إن صفا العيش فما كان صفا
أو تلاقينا فقد لا نلتقي
وفي العراق ينبغ الشعراء نبوغا بلا سابقة عهد بالثقافة الأدبية، ينبغون في الشعر بلا تثقيف كما تنبغ الحمائم في السجع بلا تثقيف.
فمن شعراء اليوم في بغداد شاعر مجيد هو صديقنا العزيز السيد عبد الرحمن البناء، وهو بناء حسا ومعنى، ولكن عبقريته نقلته من هندسة المباني إلى هندسة القوافي، فله عدة دواوين شعرية، وله مطبعة، وله جريدة تسمى بغداد.
جلست أسمر مرة مع هذا الشاعر في ليلة قمراء كأنها الصبح المشرق في مصر الجديدة، جلسنا في بهو الفندق - فندق العالم العربي على شط دجلة - فنظر إلي وقال: (أنا الذي بنيت هذه المسناة).
فوقعت هذه العبارة من نفسي موقع الشعر الجميل.
وقد عجب الأستاذ محمد بهجة الأثري إذ رآه يوما واقفا في الشارع العام يدير أمر الفعلة فيأمر هذا ويصرخ بذاك وفي يده قلم وصحيفة ليدون ما يجيش بصدره من المعاني.
ولكن لا عجب: فذلك بناء نشأ في العراق.
أيها السادة
قد رأيتم أنه ما كان يمكن أن تعيش مثل تلك البلاد بلا أدب وبلا خيال.
فكيف حالها اليوم؟
كيف حال البلاد التي رفعت راية العلم والمدنية بعد أن هجع الفرس والروم؟
عرفت في بغداد ثلاثة من الأندية الأدبية: نادي القلم العراقي، ونادي المعارف، ونادي المثنى.
أما نادي القلم العراقي فهو شعبة من نادي القلم الدولي، وهو تحت رياسة معالي الأستاذ محمد رضا الشيببي، أحد الأفذاذ بين شعراء العراق، وسكرتير هذا النادي هو الدكتور محمد فاضل الجمالي مدير التربية والتدريس بوزارة المعارف العراقية.
وصلتي بهذا النادي قوية، فقد تشرفت بعضويته، وكانت حجة من رشحوني للعضوية بذلك النادي أني عراقي الروح وإن كنت مصري النشأة، وقد أنسى كل شيء ولا أنسى أيامي بذلك النادي الجميل.
وكيف أنسى سهرات ذلك النادي وفيها صخب وضجيج يذكرني بمكتب تفتيش اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية؟
كنا نجتمع في كل شهر نحو ثلاث مرات، وما كان لنا مكان معين، وإنما كنا نجتمع كل مرة في منزل أحد الأعضاء، وكان على العضو الذي نجتمع في بيته أن يراعي مقتضيات الأحوال، فإن كنا في المدينة قدم إلينا الشاي والحلواء، وإن كان منزله في الضواحي قدم إلينا العشاء الخفيف، والعشاء الخفيف هو طعام تبقى ذكراه في الذهن نحو ثلاثة أسابيع، كالذي كان يقع في الرستمية والزوية، ومن الزملاء من تلفت أمعاؤه من ذلك العشاء الخفيف.
وفي كل اجتماع يلقى أحد الأعضاء محاضرة، ولا تسألوا كيف كنا نستمع تلك المحاضرات فمعالي الأستاذ الشبيبي هو الذي كان يستمع ، وهو من أصبر الناس على المكاره والخطوب، أما الأعضاء فكانوا يقضون الوقت في مضايقة الخطيب، وأشهد أني كنت من أوفر الناس أدبا في تلك الاجتماعات، فما كنت أعترض على الخطيب أكثر من سبعين مرة في المجلس الواحد، وقد رأى معالي الرئيس أن يريحني من المشاغبات فكان يقفل باب المناقشة بعد كل اجتماع، وهو فضل لن ينساه من كان ينقذهم تدخل الرئيس.
وفي نادي القلم العراقي عنزان ينتطحان: هما الأستاذ عباس العزاوي والأستاذ عبد المسيح وزير، وكنت بدأت أناطح الأستاذ عبد المسيح، ولكن الدورة انتهت قبل أن أشفي غليلي، فإن رجعت إلى العراق فسوف ألقاه بما يشتهي حساده وعاذلوه.
ويهتم نادي القلم العراقي بطبع ما ألقى أعضاؤه من جيد المحاضرات، وستكون مجموعة قيمة تمثل جوانب من أدب العراق في العصر الحديث.
أما نادي المعارف فهو نادي المعلمين، وهو اليوم تحت رياسة الأستاذ رشيد العبيدي - أحد المتخرجين في دار العلوم بالقاهرة - وهو ناد خفيف الروح كنت ألقى فيه أصدقائي في مساء الخميس من كل أسبوع، حيث أسمر مع الصديقين عبد الستار وحسين، وحيث أقرأ ما لا أستطيع الوصول إليه من جرائد ومجلات، وحيث أسمع إذاعة مصر والعراق وفلسطين.
وفي ذلك النادي كنت أتشرف بمقابلة سعادة الأستاذ الراوي من حين إلى حين، وقد أخذت منه كلمة بالسعي لدى ولاة الأمور ليمنحوا النادي قطعة أرض بالضواحي ليشعر أعضاؤه بأنهم أصبحوا من أصحاب الأملاك المعنوية في بغداد.
أما نادي المثنى فهو نادي العروبة، وله صلات مع أكثر الزعماء بالأقطار العربية، وله نشرات دورية تصور ما يدعو إليه من مبادئ وآراء.
ومن أعضاء ذلك النادي عرفت السيد مهدي كبة والسيد عبد المجيد محمود، ورئيس هذا النادي رجل شهم، ولكني نسيت اسمه مع الأسف، وعرفت أيضا جمعية الشبان المسلمين، ودارها بالكرخ الذي كان فيه قمر بن زريق.
ولجمعية الشبان المسلمين هناك حيوية جذابة، فهي ملتقى السامرين من أهل الفضل في بغداد.
وهناك جمعية الهداية الإسلامية، وما أعرف أين تقيم، ولكن لها مجلة قوية اسمها: الكفاح، ولها صلات بأكثر الباحثين في الأقطار الإسلامية، وهي تصدر في كل سنة عددا خاصا بالمولد النبوي تلتقي فيه أقلام المتعمقين في التاريخ الإسلامي.
أيها السادة
قد تسألون عن الصحافة في العراق، وهي من أهم مظاهر الحياة الأدبية.
وأجيب بأن الصحافة هناك تجاهد لتؤدي واجبها في تثقيف الجمهور المتعطش إلى الآداب والفنون، ولولا ضعف الطباعة وغلاء الورق لكان للصحافة في العراق مكان مرموق.
ومركز الصحافة هو بغداد - لأنها العاصمة - ففيها تصدر عدة جرائد يومية وعدة مجلات أسبوعية وشهرية مثل الأخبار والعالم العربي والزمان والرأي العام والعقاب والكرخ والاستقلال وبالك وحبزبوز والكفاح والمناهل والهدف والعراق وبغداد وفتاة العراق والمعلم الجديد.
وفي البصرة تصدر جريدة الناس وجريدة الثغر، وفي الحلة تصدر جريدة حمورابي، ورأيت في الموصل جريدتين.
وفي النجف تصدر الاعتدال والحضارة والهاتف.
وهناك جرائد ومجلات غاب اسمها عن الذاكرة، وهي جميعا تكافح الأمية وتدعو إلى الفضيلة، وتعاون على التثقيف.
ولا تظهر قيمة الجهاد الصحفي في العراق إلا إذا تذكرنا ما يعترض الصحافة من عوائق لا يتسع لشرحها هذا الحديث.
ويجب النص على أن جماهير أهل العراق لا يكتفون بما يصدر في بلادهم من جرائد ومجلات، فهم يقبلون إقبالا شديدا على المجلات المصرية، من أمثال المقتطف والهلال والرسالة والدنيا والاثنين والمصور وروز اليوسف والرواية وآخر ساعة واللطائف والصباح، وهم في الأغلب يفضلون المجلات الجدية على المجلات الفكاهية.
وكذلك يمكن الحكم بأن الشاب العراقي يتصل بأصول الثقافة الحديثة على نحو ما يتصل بها الشاب المصري، وربما جاز أن نحكم بأن الشبان العراقيين قد يعرفون من مؤلفات مصر ما لا يعرف الشبان المصريون.
وهذا يبشر بمستقبل مزهر للحياة الأدبية في العراق.
أيها السادة
قد تسألون عن الشعر والنثر في العراق.
وأجيب بأن العراق هو في ذاته جذوة شعرية، ففيه من الشعراء مئات أو ألوف، ومن فاته نظم الشعر لم تفته رواية الشعر ، وأسمارهم تقوم في الأغلب على رواية الأشعار، وطباعهم الشعرية في غاية من السماحة والنبل، وفيهم أريحية تذكر بأسلافهم في عصر بني العباس، ولو صرحت بما في نفسي لقلت إن شمائل أهل العراق تعد نماذج من الشعر الرائع.
ومع هذا لم يظفر منهم بشهرة عالمية غير شاعرين اثنين: الزهاوي والرصافي.
أما الزهاوي: فكان أهل مصر يرونه ناظما لا شاعرا، وأكثر أشعاره يؤيد هذا الرأي.
ولكني سمعت من أخباره في بغداد ما أكد لي أنه كان يحيا حياة شعرية، وأنه كان في ذوقه وإحساسه من الأقطاب بين أهل الفنون، وهو الذي يقول في دفع من يتحاملون عليه:
علي تهافتوا فرفعت كفى
أصد به عن الأدب الذبابا
وأما الرصافي فهو أهل للشهرة التي ظفر بها بين قراء اللغة العربية، وله ديوان فخم سيحفظ مكانة بين دواوين الفحول.
وللرصافي أشعار كثيرة لم تنشر، وهي على ألسنة الناس، وأكثرها في الهجاء، وما وصل إلى سمعي من تلك الأشعار يشهد بأن العراق لم يضيع مذهبه المأثور في السخرية من سخيف الأخلاق والتقاليد.
والعراق مغبون من الوجهة العالمية، ففي بغداد والنجف شعراء لا يعرفهم غير أهل العراق، ولو اعتدل الميزان لسارت أسماء أولئك الشعراء.
أما النثر فلاحظ له في العراق لهذا العهد، وما أذكر أني قرأت في العراق رسالة أو مقالة تضع كاتبها في الطبقة الأولى بين طبقات الكتاب المبدعين.
وكذلك حالهم في النقد الأدبي، فليس فيهم اليوم ناقد حصيف يدرك الفروق بين دقائق المعاني.
وحظهم من التأليف الجيد قليل، والصلة بين حاضرهم وماضيهم من هذه الناحية تكاد تكون منقطعة تمام الانقطاع.
وتخلف العراقيين في الإنشاء والنقد والتأليف له أسباب، فهذه الفنون لا تزدهر إلا حين تقوى الثقافة الأدبية وتستفحل، والعراقيون لم يوجهوا همهم إلى الثقافة الأدبية إلا منذ زمن قليل، أي منذ تنسموا هواء الاستقلال.
وإني لأرجو أن يصل إليهم هذا الصوت، فما أحب أن يكونوا في النقد والإنشاء والتأليف من المتخلفين، وكان أسلافهم من السابقين الأولين في هذه الميادين.
وهناك بوارق لهذه الفنون في الجرائد والمجلات، ولكنها كالبوارق التي تسبق الفجر الصادق.
وإنما نصصت على هذه الجوانب؛ لأن أهل العراق يحبون من يدلهم على مواطن التخلف، ولو كنت أعرف أن النص على هذه الجوانب يؤذيهم لراعيت ما بيني وبينهم من الحب والوداد.
أيها السادة
في العراق حياة أدبية بلا ريب، ولكن يعوزها أشياء، وهم يعرفون ما أعني.
في العراق حياة أدبية يرى المتطلع شواهدها في كل مكان، ولكني أحب أن أسمع أن العراق أصبح يسيطر على الحياة الأدبية في مختلف الأقطار العربية، كما تصنع مصر في هذا الزمان.
أنا أشتهي أن يقترب اليوم الذي تثور فيه المنافسة بين القاهرة وبغداد.
أنا أشتهي أن يقترب اليوم الذي تروج فيه المؤلفات العراقية في مصر، كما تروج المؤلفات المصرية في العراق.
إن أدباء العراق يرون زيارة مصر من الفروض، وأنا أنتظر اليوم الذي يرى فيه أدباء مصر أن زيارة العراق من الفروض.
فيا إخواني في العراق، أنا أذكركم بواجبكم، وأدعوكم إلى مضاعفة الجهد والنشاط لتصلوا بعون الله إلى ما يرجوه لكم محبوكم من خير وسداد وتوفيق.
وإلى اللقاء، يا أدباء العراق، في ميادين النضال بين القاهرة وبغداد.
إلى اللقاء القريب يوم تصبح الأقطار العربية أمة واحدة متجانسة تجانسا تاما في العواطف والمقاصد والأغراض.
إلى اللقاء القريب يوم ترفع الحواجز التي خلقتها الأوضاع السياسية فلا يحتاج الرجل إلى جواز سفر حين ينتقل من العراق إلى مصر أو من مصر إلى العراق.
إلى اللقاء القريب يوم تصبح الأخوة العربية أقوى وأمنع من أن تكدرها وشايات الواشين ونمائم النمامين.
إلى اللقاء القريب يوم يصبح الوجود العربي جسما واحدا إذا تألم منه عضو توجع له سائر الأعضاء.
إلى اللقاء القريب يوم تتوحد بيننا المذاهب التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، يوم لا تكون الفوارق الجغرافية إلا نعمة ندرك بها كيف شاء الله أن ينوع الخيرات والبركات.
وهذا حلم قد لا يتحقق ونحن أحياء، ولكن يشرفنا أن نكون من أوائل الهاتفين بهذا الحلم الجميل.
الفصل الرابع والأربعون
أبو العلاء في الميزان
أكتب هذا المقال في لحظات حزينة أكتوى بنارها أبو العلاء، أكتب هذا المقال وأنا أحزم أمتعتي للرحيل عن بغداد، وهو - رحمه الله - قد بكى يوم فارق بغداد، ولعله لم يعرف موجعات الحزن إلا يوم قهره الوجد على أن يقول:
أودعكم يا أهل بغداد والحشا
على زفرات ما ينين من اللذع
وداع ضن لم يستقل وإنما
تحامل من بعد العثار على ظلع
فبئس البديل الشام منكم وأهله
على أنهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني
قدرت إذا أفنيت دجلة بالكرع
أما بعد، فإني أرى أن أبا العلاء لم يكره الدنيا أبدا، ولم يكن يوم اعتزل دنياه إلا حيوانا مفترسا نزع الدهر ما كان يملك من أظافر وأنياب، ولو كان أبو العلاء كره دنياه لاكتفى منها بأيسر العيش، ولكنه عاش عمرا طويلا جدا، وطول العمر يشهد بقوة الأواصر بين المحب والمحبوب، فالقتال بين أبي العلاء وبين دنياه كان قتالا بين عاشقين يظهران البغض والحقد، ويضمران العطف والحنان.
والناس متفقون على أن أبا العلاء كان طلق دنياه فلم يظفر بما في حواشيها من نعيم ومتاع، ولكني بعد التأمل عرفت أنه زهد في جميع الأشياء إلا المجد، والمجد هو أشهى الأطايب في دنيا الرجال، فإن لم يكن هذا صحيحا فكيف نفسر خضوعه لما شاع في زمانه من التقاليد الأدبية، والخضوع للتقاليد الأدبية دليل الحرص على انتهاب ما يملك الناس، وأحب أن أشرح هذه النظرية فأقول:
ينقسم شعر أبي العلاء إلى قسمين:
أولهما:
ممثل في سقط الزند.
وثانيهما:
ممثل في اللزوميات.
أما سقط الزند فمجموعة شعرية تشهد بأن الرجل كان يعجبه ويرضيه أن يكون من أقطاب اللغويين، وهو قد أفصح عن ذلك حين خاطب الشريف الرضي والشريف المرتضى في القصيدة التي رثى بها أبا أحمد الموسوي فقال:
يا مالكي سرح القريض أتتكما
مني حمولة مسنتين عجاف
لا تعرف الورق اللجين وإن تسل
تخبر عن القلام والخذراف
وهي شهادة صريحة بأنه كان يحب أن يملك قلوب البغداديين، وكان البغداديون ألفوا حب البادية، وهو مرض فظيع ترك في اللغة العربية أسقاما وعقابيل، وأما اللزوميات فمجموعة شعرية تشهد بأن الرجل خضع لأمراض زمانه أبشع الخضوع، فقد كان الأدباء في صدر القرن الخامس قد ابتلاهم الجهل ببلية سخيفة هي الهيام بالزخرف، والفناء في التزويق والتهويل.
والفرق بين مجموعة سقط الزند ومجموعة اللزوميات فرق عظيم جدا عند من لا يعرف، أما أنا - وأنا باحث يزعم أنه يعرف - فأحكم بأن المعري انتقل من بلاء إلى بلاء، وأراه في سقط الزند مولعا بالإغراب، أعني تصيد الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير، وأراه في اللزوميات مريضا بعلتين: الاغراب والبديعيات.
هل كان المعري يجهل أنه يجني على اللغة العربية بما صنع؟ هل كان يجهل أنه في أغلب أحواله يخاطب أهل العراق وأهل الشام بما لا يفهمون؟ هل كان يجهل أن في سقط الزند واللزوميات ورسالة الغفران شطرات وفقرات لا يفهمها المتفهم إلا بعد التأمل العميق؟ هل كان يجهل أن البيان الحق هو الذي يروعك لأول نظرة كما يروعك الجمال الفصيح؟
ما كان أبو العلاء يجهل ذلك أو بعض ذلك، وإنما كان رجلا لبقا يعرف مواضع الضعف فيمن عاصروه فغزاهم بلا رحمة ولا إشفاق.
قد يقول القارئ: وما محصول هذا الكلام؟
وأجيب بأن هذه النزعة هي الشاهد على أنه لم يكن في دنياه من الزاهدين، ولو أنه كان زاهدا لانصرف عن حيازة ما يملك معاصروه من زخرف وبريق، وهو قد انتهب ثروتهم فاعتز بها واستطال.
كان المعري سياسيا في حياته الأدبية، والسياسي لا يكون صحيحا سليما إلا إن استراح إلى أوهام الناس فتملق أهواءهم بلا تهيب ولا استحياء، وكذلك صنع المعري فتكلف الغريب من الأخيلة والألفاظ والتعابير؛ لأن الغريب كان في ذلك العهد رائج السوق في مصر والشام والعراق.
ولو كان الرجل زاهدا في المجد الأدبي لظهرت الحكمة على لسانه سمحة سهلة لا يشويها تكلف ولا افتعال، ولكن القارئ لن يسكت، فقد يكون ألأم مني، فيسأل: وأين أنت من الزاهد الذي حرم على نفسه لحم الحيوان؟
إن قال ذلك فإني سأقنعه بأيسر جهد، فقد اتفق لي أن أعيش نباتيا في باريس زمنا غير قليل، وما كنت مخلصا كل الإخلاص في إيثار الحياة النباتية، وإنما أردت أن أعرف سر المذهب النباتي لأكتب عنه بحثا أو بحثين، وحالي في هذا أقرب إلى النزاهة من حال أبي العلاء، فقد حرم على نفسه لحم الحيوان ليوهم الغافلين أنه تفرد بالرحمة والشفقة والعطف، وما كان في حقيقة أمره إلا آكل لحوم، وستعرفون صدق هذا الكلام بعد لحظة أو لحظتين.
هل يذكر القارئ ما وقع لأبي العلاء يوم مرض؟
مرض أبو العلاء - عفا الله عنه وعني - فنصحه الطبيب بالحمية وحين اطمأن الطبيب إلى نجاته من المرض وصف له فروجا - والفروج فرخ الدجاج - ودارت يد أبي العلاء حول جسم الفروج في ترفق مصطنع، ثم هتف: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد؟!
الله أكبر! ذلك هو منطق شيخنا أبي العلاء.
فهل كان يظن هذا الشيخ أن الطبيب يستطيع أن يصف له شبل الأسد؟ إن نثيرة واحدة من شبل الأسد كانت تكفي لنقل أبي العلاء إلى حظيرة الأموات، ولكن الرجل استطاب الضحك على المغفلين من أبناء ذلك الزمان.
هل زهد أبو العلاء في أكل اللحم؟ هذا تمويه وتضليل، كان الرجل يتحرج من لحم الطير والحيوان، ولكنه كان مولعا بأكل اللحم المحرم - لحم الإنسان - فما ترك فئة ولا جماعة إلا انتاش لحمها بأنياب حداد.
لقد انسحب المعري من المجتمع، وما كان ذلك بابا من الزهد، وإنما كان فرار المناضل الذي تعب من النضال، وماذا صنع المعري حين انسحب من المجتمع؟ أترونه نظر إليه نظر الرفق والعطف، وذلك واجب الفيلسوف؟
ما صنع شيئا من ذلك، وإنما قضى دهره في أكل لحوم المجتمع، ولو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع قد يفسد من حيث لا يريد، لو كان قلبه أحس النور لعرف أن المجتمع غير مسئول عما يعاني من أوهام وأضاليل، فتلك مواريث القرون الطوال، لو كان المعري على شيء من الصفاء لأدرك أن المجرم قد يجرم وهو غير مسئول.
ولو كنت أستبيح لحم المعري كما استباح لحوم الناس، لقلت إن ثورته على المجتمع كانت ضربا من الانتقام الأثيم، فالرجل كان يعرف أن أهل زمانه يتهمونه بالمروق من الدين، فشاء له هواه أن يسجل مخازيهم ومآثمهم وأن يفضحهم في العالمين.
قد يقول القارئ مرة ثانية: وما محصول هذا الكلام؟
وأجيب بأن هذا النزق هو دليل الحيوية، فالمعرى كان يناضل نضال الأحياء.
وما أعيب على غير التناقض في فهم الرحمة، فهو كان يعطف على جميع المخلوقات إلا الإنسان، ولو أنه دخل في معركة مع الطير أو الحيوان لنظم في ثلبها مجموعة أعنف من اللزوميات.
كانت نظرات أبي العلاء إلى المجتمع نظرات عوام لا خواص، وأنا أرتاب كل الارتياب في أن يكون هذا الرجل حاول التوفيق بين سيطرة المقادير وضعف الناس، وأكاد أجزم بأنه لم يدرك خطر العسف، عسف الحاكم الذي يبيح فتح الحانات ثم يعاقب الناس على الشراب.
أما آراؤه في الزهد والزهاد فهي أضاحيك، وهي تشهد بأنه لم يعرف الزهد، لأنه كان في سريرة نفسه يؤمن بأن الناس لا يزهدون إلا مخادعين أو مرائين، ولعله لم يزهد إلا خداعا، أو رياء. بل لعله جهل كيف لطف الله به حين حجب بصره عن أسباب الشهوات، فلو أن الله كان حفظ عليه نور العيون لعرف أن الفضائل لا تشق ولا تصعب إلا على من يقارعون فتن الوجود. لو أن أبا العلاء كان مبصرا لرحم الناس. لو أن أبا العلاء كان مبصرا لعرف صدق الحكمة التي تقول: «القابض على دينه كالقابض على الجمر». لو أن أبا العلاء كان مبصرا لعرف أن الرجل لا يستطيع البعد عن مواطن الشبهات إلا حين تكون عزيمته أرزن من الجبال.
لو أن أبا العلاء كان مبصرا لعرف أن الناس لا ينخدعون لمظاهر الفتون لاهين أو لاعبين.
من أنت والإنسانية يا أبا العلاء؟ من أنت والإنسانية حتى تفضحها بذلك الكتاب الذي اسمه اللزوميات؟
أيها الرجل العظيم! إني أرثى لك وأعطف عليك، فقد حرمتك الأقدار من نعمة الجهاد في سبيل الفضيلة، حرمتك الأقدار من أسباب الشهوات فلم تكتب لك صفحة واحدة في كتاب الجهاد.
وكيف يحتاج إلى جهاد النفس من يحبس نفسه في بيته ولا يأكل غير البقول؟
كيف يحتاج إلى جهاد النفس من يقضي الدهر ولا تقع عينه على وجه جميل؟
كيف يحتاج إلى جهاد النفس من لا تذوق روحه صهباء الوجود؟
أغلقت أبواب الجهاد الأكبر - جهاد النفس - في وجه أبي العلاء منذ أصبح رهين المحبسين، ومنذ اكتفى بالطعام الذي لا يوقظ شهوات الحواس، ولكن بقى أمامه باب واحد من أبواب الجهاد، هو نزاهة الأذن ونزاهة اللسان، فماذا صنع؟
لقد أصبح أبو العلاء في ذمة التاريخ، وما يضره أن نتجنى عليه، ولو كنت أعتقد أنه يتأذى لحبست عنه قلمي، وفي حدود هذا التحفظ أقول إن الرجل أقام أذنيه مقام عينيه فعرف من صور المجتمع كل شيء، وكان له فيما أفترض أصحاب ينقلون إليه سوءات الناس فيمضي في ثلبهم وذمهم وتجريحهم بلا ترفق، وكذلك حرم من روح التصوف فلم يعرف معنى العطف على مصائب الناس. •••
قلت إن أبا العلاء كان ينتقم من المجتمع، وأقول مرة ثانية إن ذلك دليل الحيوية، فمن الذي يحرم على هذا الرجل أن ينتقم من أهل عصره وقد آذوه أشنع إيذاء؟
ومن الذي يملك من الصبر ما يكف به لسانه عن عورات الناس في بعض الأحيان؟
إن أبا العلاء هجم على المنافقين، والقرآن استباح الهجوم على المنافقين، وما يمكن أن نعيب على أبي العلاء ما استباحه القرآن. إن أبا العلاء هجم على رجال الدين، ولا غرابة في ذلك، فرجال الدين أنفسهم يهجم بعضهم على بعض، إن أبا العلاء أعلن يأسه من الإنسانية، فهل استطاعت الإنسانية أن تحمي أهل الصدق والوفاء؟ إن أبا العلاء سخر من تعدد الديانات والمذاهب، فهل استطاع المصلحون أن يمحوا أسباب الخلاف بين الديانات والمذاهب؟
إن أبا العلاء جزم بأن بني آدم:
ما فيهم بر ولا صالح
إلا إلى نفع له يجلب
فهل استطاع بنو آدم أن يقيموا الدليل على خطأ هذا الظن الأثيم؟
إن أبا العلاء حكم بأن المرأة إذا شربت الكأس فقد تعرت، فهل اكتسى من بعده النساء؟ إن أبا العلاء حدثنا بأن ناسا ينهون عن الخمر في الصباح ويشربونها في المساء، فهل انقرض هذا النوع من النفاق البغيض؟
أسرف أبو العلاء في تجريح الإنسانية، وقد أنصف، فهذه الإنسانية الباغية تحتاج إلى من يفضح بغيها من حين إلى حين، ومن هم بنو آدم حتى يعطف عليهم أبو العلاء؟
هل عاش فيهم مصلح إلا بغصة أليمة لا يزحزحها في حلقة غير الموت؟
وهل كانت تواريخ الأنبياء إلا سلسلة من الرزايا والنكبات؟
وما الذي كان يصنع أبو العلاء والدنيا من حوله تضج بالظلم والعسف والزور والبهتان؟
إن أشعار أبي العلاء سجل صحيح لأوهام الإنسانية، فلتكذبه الإنسانية الباغية إن استطاعت.
لم يعرف الناس أن أبا العلاء رجل ضرير، وأن من كان في مثل حاله خليق بالشفقة والعطف، وهم تعقبوه بقالة السوء من أرض إلى أرض، فلتكن قالته فيهم وصمة باقية على الزمان.
ولكن ما هذا الذي صنعت بالناس يا أبا العلاء؟ إن عماك أخف من عماهم، هم جميعا مساكين صحت فيهم كلمة من يقول:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
أنت عبت النفاق على رجال الدين، فكيف غاب عنك أن رجال الدين لم يعش بينهم رجل صريح؟ أنت عبت الظلم على الحكام، فكيف غاب عنك أن الحاكم العادل جزاؤه الخسران؟ أنت أنكرت تعدد الديانات والمذاهب، فكيف غاب عنك أن لله حكمة في هذا التعدد؟
أنت رجوت أن يكون الناس حكماء، وما استطعت أن تكون حكيما.
أنت رجوت أن يضبط الناس ألسنتهم، ثم عجزت عن ضبط لسانك.
أنت عشت في قرية صغيرة ولم يسلم عقلك من الفتون، فكيف رجوت السلامة لمن عاشوا في كبريات المدائن، وصارعوا فواتك الأهواء؟ •••
أما بعد، فأنا أشهد أن المعري كان رجلا عظيما، بدليل أنه عاش نحو ألف سنة على ألسنة الناس في المشرقين والمغربين، ولو كان حقيرا لمات يوم مات.
والمعري له أخطاء لا تحتملها الملائكة ولا الشياطين، وله عندي عذر مقبول، فقد كان على عظمته شخصا من بني آدم، آدم المسكين الذي أغوته امرأة حمقاء فنزل إلى الأرض بعد أن كان يسكن فراديس الجنان.
عفا الله عنك يا أبا العلاء وعفا عني!
الفصل الخامس والأربعون
في ضيافة القرآن1
سيداتي، سادتي
أرجو أن تلقوني بقلوبكم قبل أسماعكم، إن كان فيكم من يندم على ذنوبه كما أندم على ذنوبي، أرجو أن نقضي لحظات في ضيافة القرآن فهذه الأيام هي أصلح الأوقات للتشرف بضيافة القرآن، وإنما كانت كذلك لأن الخطايا أثقلت كواهلنا، والمريض هو أعرف الناس بفضل الطبيب، وقد آن أن نرجع إلى القرآن كلما دهمتنا ظلمات الذنوب، فهو يهدينا برفق وعطف، ويوجهنا إلى الخير بلطف وحنان.
وأنا أرجع إلى القرآن من حين إلى حين، أرجع إليه حين تعجز المذاهب الفلسفية عن هداية قلبي، أرجع إليه حين لا ينجيني الغرور السخيف الذي يوهمني بأني وصلت إلى أصول الحقائق حين طوفت بالمذاهب الفلسفية عند القدماء والمحدثين، أرجع إليه حين أكون كالمريض العاقل الذي لا يخفي علته على الطبيب.
واسمحوا لي أن أتهم نفسي علانية فأنا أتهيب إعلان صداقتي للقرآن المجيد لئلا يشك الناس في علمي، فمن أوهام هذا العصر أن يكون العلم عند الملحدين لا عند المؤمنين، ولن أجرؤ على إعلان إيماني إلا يوم يصح عندي أن منافع الدنيا وإن جلت وعظمت لا تساوي التشرف بالخضوع لأحكام القرآن.
أنا أيها السادة صريع العصر الحديث، ويعزيني في بلواي أن لي زملاء يعدون بالمئات أو بالألوف، فأكثر من تعلموا في أوربا يؤذيهم أن يقال إنهم مؤمنون، لأن أوربا طافت بها موجة عنيفة أشاعت في الناس اليقين بأن العلم والدين لا يلتقيان.
وقد اكتوينا في مصر بهذه البلية، وما أعرف بالضبط كيف حالكم في العراق. •••
ولكن أفي الحق أن القرآن يملك هدايتنا إلى أصول الخير في العصر الحديث؟
أفي الحق أن الكتاب الذي مضت عليه أجيال وأجيال يعطينا من الهداية ما تعجز عنه الفلسفة العميقة التي تدرس في الجامعات الفرنسية والألمانية؟
ألا يكون كلامي هذا تعصبا مصطنعا أجتلب به العطف من جماهير المسلمين؟
ألا يمكن أن أكون مرائيا يخادع الناس؟
أنا لا أكذب عليكم، أيها السادة، فعصركم لا يشقى فيه غير الصادقين، وإنما قضت المقادير أن تشرفني محطة الإذاعة بالدعوة لإلقاء كلمة في الليلة التاريخية التي ولد في مثلها الرسول، وقد قبلت بعد تردد وتهيب؛ لأن الكلام في هذه الليلة يوجب الصدق، والصدق صعب على نفسي، لأني أعيش - واأسفاه - في عصر الأكاذيب.
أيها السادة
نحن في ضيافة القرآن، فما الذي نجده على مائدة القرآن؟
نجد الأعاجيب من أطايب العقل والوجدان.
وإلا فكيف اتفق أن يثني القرآن على جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن أي ثناء؟
إن النصارى لم يمجدوا المسيح بمثل ما مجده القرآن.
واليهود لم يثنوا على موسى بمثل الذي أثنى عليه القرآن.
والشرائع القديمة لم تحفظ ذكرياتها الطيبات إلا بفضل القرآن.
فكيف صح للرجل الذي اسمه محمد أن يزكي منافسيه من الأنبياء والمرسلين؟
كيف صح لهذا الرجل أن ينسى أول حقيقة في حياة المجتمع، وهي السخرية من جميع المبادئ ليتم له التفرد بالعظمة النبوية؟
هنا تظهر بارقة من النور تشهد بأن هذا الرجل لم يكن طالب صيد، وإنما كان نبيا.
ارجعوا إلى القرآن أيها السادة تجدوه لا يفرق بين أحد من الأنبياء، وعندئذ تؤمنون بأن محمدا لم يبن مجده على أنقاض الشرائع، ولو كان كاذبا لادعى لنفسه كل شيء، وزيف ما جاء به الأنبياء والمرسلون.
ارجعوا إلى التاريخ - أيها السادة - وانظروا كيف صنع من سموا أنفسهم مصلحين.
اقرأوا تواريخ المسيطرين وانظروا كيف كانوا يمحون آثار من سبقوهم بلا ترفق.
استنطقوا الآثار في الشرق والغرب، وانظروا كيف كان الملوك ينكرون فضل آبائهم.
ارجعوا إلى ماضيكم القريب مع إخوانكم وأصدقائكم تجدوهم سلقوكم بألسنة حداد.
انظروا كيف ينسى الأخ فضل أخيه وكيف يعق الابن أباه.
انظروا وتأملوا ثم تذكروا كيف صح للرجل الذي اسمه محمد أن يقيم كتابه على تمجيد من سبقوه إلى الإيمان.
كم كنت أحب أن أسخر من القرآن ليتحدث الناس باسمي في كل مكان.
لقد ضاعت الفرصة الطنانة الرنانة، فرصة الزندقة والإلحاد، لأنني مع الأسف الموجع لم أستطع النجاة من سحر القرآن.
كنت أحب أن أتمرد على القرآن ولكني عجزت، ومن واجبي نحو نفسي أن أبين كيف عجزت، فاسمعوا واعجبوا:
هناك آية لا يصدق أحد أنها في القرآن، هناك آية أخشى أن ترفض من أجلها هذه المحاضرة، وسأذهب إلى محطة الإذاعة وفي يدي المصحف، حتى لا يظن المشرفون على الإذاعة أني كذبت أو افتريت.
هناك آية غريبة، وما أكثر ما في القرآن من غرائب.
هناك آية عجيبة، وما أكثر ما في القرآن من عجائب.
هناك آية تقول:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
أتذكرون هذه الآية؟ لقد رأيتها في المصحف، وما تخونني عيناي، فما معنى هذا الكلام؟
تذكروا أن الرسول يروي عن ربه تباركت أسماؤه، وهنا وجه الغرابة والعجب، وهل رأيتم أغرب وأعجب من أن يشهد الله على نفسه بأنه يراعي أحوال المجتمع فينقله في التشريع من وضع إلى وضع؟
هل تصدقون بأن الله وهو مالك الملك يضع نفسه من الناس موضع الأستاذ من التلاميذ؟
هل تصدقون بأن الله يشهد على نفسه بأنه يتدرج في هداية المخلوقات؟
عز شأن الله - فهو بكل شيء عليم - ولو شاء لخلق للناس شريعة أبدية لا ينالها تغيير ولا تعديل، ولكنه أراد أن يروضنا على أدب النفس، أراد أن يعلمنا التواضع، فهل تعلمنا التواضع؟
إن الله ينسخ آياته أو ينسيها رفقا بالمجتمع.
أما نحن فنحرص على آرائنا وأفكارنا ونقضي العمر في الدفاع عما نملك من أباطيل.
أين الحاكم أو الفيلسوف الذي يستطيع أن يعلن أنه كان في بعض آرائه من المخطئين؟
إن الرسول يخبرنا أن ربه كان يراعي أحوال المجتمع.
فمن هو المصلح الذي يترفق بالمجتمع؟ عز شأن الله، فما أراد إلا أن نتأدب، فهل تأدبنا؟
إن الإنسانية ترتطم كل لحظة في أضاليل الفلاسفة والمفكرين؛ لأن أكثرهم يموت وهو مصر على الضلال. •••
نحن على مائدة القرآن، فماذا نجد؟
نجده يقول:
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون .
فنفهم قيمة اليقظة في السريرة الإنسانية.
ونجده يقول:
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .
فنفهم أن نعيم الحواس متاع خسيس، وأن النعيم الأعظم هو النعيم في عالم المعاني.
ونجده يقول:
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء .
فندرك أن الإنفاق في سبيل الخير من أشرف وسائل الجهاد.
ونجده يقول:
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
فنتذكر المآسي الموجعات التي نعاني مكارهها في كل صباح وفي كل مساء، فحياتنا مكدرة مرنقة بسبب الاستماع للوشايات والنمائم، لأننا نسمع في أصحابنا ومعارفنا وأصدقائنا كل قيل، ونرتب المقدمات والنتائج على ما نسمع، وقلما نتذكر أن من واجبنا ألا نصدق ما نسمع إلا بعد درس وتثبت وتبين وتحقيق، قلما نتذكر أن الحكم على الغائب لا يخلو من اعتساف، وسكوتنا عن مراجعة الواشين والنمامين، وتفريطنا في تقديمهم إلى ساحة الجزاء، كل ذلك غرس فيهم الطمأنينة إلى السلامة من عواقب ما يصنعون، فالنمام يضع بذور الفتنة بين الناس وهو مطمئن لأنه يعرف أننا في الأغلب نصدق كل ما نسمع، ولا نفكر في معاقبة المفترين.
هذه الآية عجيبة، ولكن تاريخها أعجب فقد نزلت في أعقاب غلطة كاد يقع فيها الرسول، ثم نجاه الله وحماه. •••
ومن عجائب القرآن أنه يجعل النبي
صلى الله عليه وسلم
إنسانا يخطئ ويصيب، وهو يوصي النبي بتأكيد هذا المعنى في أنفس الناس فيقول:
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
وفي أي عصر يقع هذا الكلام؟ في عصر كان أهله في كل أرض يرون النبوة ضربا من الألوهية، ويستبعدون أن يكون الرسل ناسا كسائر الناس، فلو كان محمد من الكاذبين لأوهم الجهال أن فيه نفحة ربانية.
ولكن هذا مستحيل على من يروي عن ربه هذا الحوار الطريف:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
وهذا الحوار غريب أيضا، فهو ينطق عيسى عليه السلام بما يليق بالأنبياء، ثم يصوره بصورة المشفق على أتباعه من عواقب الزيغ فيسترحم لهم ويستعطف، وذلك ترفق نبيل.
والعذوبة في مثل هذا الحوار تشهد بأن أسلافنا كانوا على حق حين جعلوا جميع العلوم وسائل لفهم القرآن فأنا أكاد أجزم بأن القرآن لا يفهم حق الفهم إلا بعد التعمق في العلوم الأدبية والعقلية، وأكاد أجزم بأن النظر في المصحف يعصم المرء من عواصف الشهوات ويهديه سواء السبيل، ومن كان في ريب من ذلك فليجرب مرة أو مرتين فقد ينقله المصحف من حال إلى حال، وقد يكون له من الخير نصيب فينقل من سجل الأشقياء إلى سجل السعداء.
أيها السادة
هل فيكم من تشرف بالنظر في سورة الحجرات فرأى فيها هذه الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .
هل فيكم من فطن إلى أن هذه الآية تنطبق على أحوال هذا العصر كل الانطباق؟ فنحن اليوم في الأقطار الإسلامية منقسمون إلى أحزاب، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل جماعة تظن أن الخير وقف عليها، وأن من خرج على حدودها فهو من الضالين.
وهذا الظن السيء هو الذي عاد على قلوبنا بالخراب، فقلوبنا أيها السادة أصبحت كأوكار الحيات والثعابين، أصبحت قلوبنا موبوءة وكأنها البقعة الخربة التي تعيش فيها الهوام والجراثيم ، ولو كنا نعقل لتأدبنا بأدب القرآن وعرفنا أن قلوبنا في حاجة إلى مصابيح من حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس.
واسمحوا لي مرة ثانية أو ثالثة أو رابعة بأن أتهم نفسي فأنا الشقي وأنتم السعداء، اسمحوا لي أن أعترف بأني ضيعت على نفسي خيرا كثيرا حين فاتني أن أتأدب بأدب القرآن، فقد حملني الغرور على الظن بأن الخير لم يعرف قلبا غير قلبي، ثم تبينت بعد فوات الوقت أن الله لم يخلق العالم عبثا، وأنه لم يمنح النور والهواء والحياة إلا لمن يراهم أهلا لكل أولئك الطيبات.
وأبشركم بأني بدأت أهتدي، وأصبحت أنظر إلى من يسيئون الظن بالناس نظر العطف، فهؤلاء يعانون من أمراض القلوب بعض ما كنت أعاني، هؤلاء أطفال في عالم الأخلاق، فلننظرهم قليلا فسوف تنضجهم الأيام والليالي، هؤلاء مساكين يتوهمون أن الدنيا يقوم بأعبائها رجل واحد، أو حزب واحد، فلننظرهم قليلا فسوف تعلمهم الحوادث أن العالم لا يعيش إلا إذا اجتمع فيه الفاضل والمفضول، والراجح والمرجوح، والرئيس والمرءوس.
وهذا الكلام الذي أقول به هو في جوهره أصغر من الحكمة القرآنية، فالقرآن يوصينا بالحذر المطلق، وهو لا يسمح لفرد ولا قوم أن يظنوا بأنهم أفضل الناس على الإطلاق، ويقول:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن .
وقد علمتني الحوادث بأن الثقة لا تتم بين رجلين إلا إذا اعتقد كل واحد منهما بأنه أقل من أخيه في أدب النفس، وعلمتني الحوادث وعلمت غيري أن الرجل يصبح أجهل الناس إذا اطمأن إلى أنه صار من العلماء، والقرآن يوصينا بأن نحترس فلا نزعم التفرد بالكمال، فإن هذا الزعم باب إلى الخراب، خراب العقول والقلوب.
وأحب أن أذكر نفسي وأذكركم إن شئتم بهذه الوصية:
ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب .
واللمز هو تجريح الناس والغض من أقدارهم، وهو من أخلاق من لا يتقون الله، والتنابز بالألقاب هو أن يخاطب الناس بعضهم بعضا بما لا يحبون.
فأين من هداه الله إلى مراعاة هذه الآداب؟
أين من يحدثه القلب بأن الاهتمام بإظهار محاسن الناس أفضل من الهيام بكشف مساويهم؟
أين من يحدثه القلب بأن التلطف في الخطاب أدب جميل؟
ولكم أن تعجبوا أيها السادة حين ترون القرآن يعقب فيقول:
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان .
فهو يرى التفريط في هذه الآداب خروجا على الإيمان، وهذا حق، فما كان الإيمان كلمة تلوكها الألسنة وتمضغها بلا إحساس، وإنما الإيمان عقيدة وأعمال.
جعلنا الله بفضله من المؤمنين.
أيها السادة
إن مائدة القرآن متعددة الألوان، وفيها أطايب تنفع جميع الأمعاء، فللفاجر حديث، وللمرتاب حديث، وللمؤمن حديث، وللجاحد حديث، ولكل إنسان مكان على مائدة القرآن.
ولكن يبدو لي أن إيماننا لا خوف عليه، فأنا مطمئن إلى أن المسلمين هم في الأغلب مؤمنون.
غير أني وقد اختبرت نفسي أشعر بأننا في حاجة شديدة إلى النظر في الآية الآتية:
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم .
فهذه آية يجب أن ترقم على كل مكان لأراها ويراها أمثالي من المساكين، فكل إنسان في هذه الأرض يحب أن يكون له في الناس رأي، ويزعجني أن أقرر أنه يؤذينا أن تحسن آراؤنا في الناس، وقد جربت ذلك، ولكم أن تجربوه، فما ذكرت إنسانا بالخير في حديث أو مقال أو كتاب إلا كان ذلك كافيا لقيام ثورة عنيفة لتصحيح ما أخطأت فيه، ولا ذكرت إنسانا بالشر في حديث أو مقال أو كتاب إلا رأيت من يثني على أدبي ويصفني بالجرأة والشجاعة والعبقرية.
فما سر ذلك؟ لذلك تأويل، ولكنه يفضح بني آدم، وتأويل ذلك أن الناس يتوهمون أن حسن السيرة والسمعة إذا تم لرجل كان فرصة لانتهاب الخير من أيديهم ، وهم مخطئون أبشع الخطأ، فالله عز شأنه خلق من الخيرات والثمرات أضعاف ما خلق من الإنسان والطير والحيوان، ولا تزال في الأرض والأشجار والأنهار والبحار خيرات منسية تنتظر من يكشف عنها الغطاء.
والشجرة لا تثمر مرة واحدة، وإنما تؤتي أكلها في كل حين.
والأنهار لا تفيض مرة واحدة، وإنما تحفظ أدبها مع بارئها فتفيض بمواعيد على مر السنين والأجيال.
والأرض لا تجدب إلا إن غفلنا عنها أو زهدنا فيها.
والفكر لا ينضب إلا إن أغفلناه.
فما الذي يوجب هذا التطاحن البغيض يا بني آدم؟
ما الذي يسوؤكم في أن تحسن سمعة رفيق لكم فيجاهد في دنياه وهو محمود الخصال؟
وقد علمتني التجارب وستعلمكم أن الإنسان أضعف من أن يقطع رزق أخيه الإنسان، فهناك قوة ربانية تبيح الجهاد في سبيل الرزق الحلال، وهذه القوة لا تنتظر آراءكم في التجريح والاغتياب، فانطحوا الصخر إن شئتم، فلن يسمع لكم في مصاير الناس قيل ولا قال، وإنما الأمر كله لله.
أيها السادة
كنت أحب أن أطيل الطواف حول الألوان الشهية التي تزخر بها مائدة القرآن، ولكن الوقت الذي حددته محطة الإذاعة يضيق عن ذلك، فاسمحوا لي أن أشير إلى هذه الآية فهي تنفعني وتنفع من يحمل على ظهره أوزارا مثل أوزاري، وهذه الآية تقول:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
فإن رأيتم خيرا من إنسان فنوهوا به وتحدثوا عنه في السر والعلانية، واعلموا أن هذا يرضي الله، وتذكروا دائما أنكم لستم أغير من الله، تذكروا أن أخطر حية في الأرض هي الحية التي تسمى الكوبرا وهي حية شريرة جدا، وقد هربت إحدى هذه الحيات مرة من متحف قصر العيني بالقاهرة، وشاع ذلك فباتت محلة المنيرة بالقاهرة في جزع وارتياع.
فهل تعرفون كيف كشف العلم عن حقيقة هذه الحية الشريرة اللئيمة؟
لقد ثبت علميا أن سم هذه الحية هو الدواء الشافي لمرض السرطان، وقد يأتي زمان نربي فيه هذه الحية الشريرة كما نربي كرائم الخيل.
أيها السادة
تذكروا، ثم تذكروا، تذكروا دائما أنكم لستم أغير من الله، تذكروا أنكم لم تروا من أنهار الحقائق غير أوشال، تذكروا أن القرآن لم يكن أبطولة من الأباطيل، وإنما كانت آياته من غرائب الحقائق، وتذكروا أن القرآن هو الذي أعز العرب فجعل لهم إخوانا في المشرقين والمغربين، ولولا القرآن لظل العرب في عبودية كما كانوا في أكثر عهود التاريخ.
أيها السادة
في مثل هذه الليلة، أو في قريب من مثل هذه الليلة، ولد الرسول، فلنجعل هذه الليلة من ليالي الصدق، عساها تكون كفارة عما عانينا في طول العام من أكاذيب.
والصدق يوجب أن نذكر أن الإسلام ليس دين العرب وحدهم وإنما هو دين الإنسانية جمعاء، فإلى سائر المسلمين في بقاع الأرض وإلى من انتفعوا بهدى الإسلام من قرب أو من بعد، وإلى كل إنسان سمع باسم القرآن، إلى جميع من خلق الله نوجه التحية الخالصة راجين أن نتعرف إليهم أو يتعرفوا إلينا، في ظلال الراية الرحيمة، راية الرسول الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
الفصل السادس والأربعون
كيف رأيت الرصافي
كانت شواغلي في دنياي أضاعت علي كثيرا من الفرص النوادر، فأنا لم أر إسماعيل صبري شاعر الحب والوجدان، وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، وأنا لم أر الموسيقار سيد درويش وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، والشاعر جميل الزهاوي زار مصر، وكنت أستطيع أن أراه ولكني ضيعت الفرصة، وأنا لم أر الكاتب الشاعر محمد السباعي مع شوقه الشديد إلى أن يراني، ولما كثر سؤاله عني ذهبت إلى جريدة البلاغ لأخذ عنوانه فنعوه إلي في ذلك اليوم، وكانت فجيعة طار لها صوابي.
ولما قدمت بغداد كنت أنتظر أن يبدأ الرصافي بزيارتي، ولكنه لم يفعل، ثم علمت أنه لا يقيم في بغداد، وإنما يقيم في الفلوجة، وهي قرية على شاطئ الفرات.
وتحدث المتحدثون بأنه عليل فرأيت من الذوق أن أبدأ أنا بالسؤال عنه، وتفضل الصديق الكريم السيد ثابت عبد النور فصحبني إلى الفلوجة مع رفيقين كريمين، ورأينا أن تكون الزيارة فجائية حتى لا يتكلف الرصافي نحر الذبائح على الطريقة العربية.
دخلنا على الشاعر وهو شيخ جليل يقارب الخامسة والستين، وكان في أعقاب علة أقام من أجلها أشهرا يستشفي في لبنان، فالتفت إلى السيد ثابت عبد النور، وقال: كيف جئتم على غير ميعاد؟ أما تعرف أنه كان يجب أن نحتفل بقدوم الدكتور زكي مبارك إلى الفلوجة؟ فقال السيد ثابت: نحن ما جئنا لزيارتك، وإنما جئنا لمشاهدة مطار «سن الذبان» ورأينا الفرصة سانحة للتسليم عليك.
وكانت حيلة طريفة هربنا بها من كرم الرصافي.
وبدأ الشاعر فتحدث عن المازني، المازني العظيم، فأنشدنا أبياتا قالها فيه، وهو يشبه أدبه بشراب التوت، وما أدري ما شراب التوت، ولكن هكذا قال.
ثم أمر الشاعر فتاه بأن يحضر كتابه عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وألح الشاعر في أن ألقي نظرة على ذلك الكتاب، وهو مخطوط في عشرة كراريس، وكنت قضيت ساعة في هدوء، فلما وقع بصري على بعض فقرات الكتاب ثرت ثورة عنيفة، وانطلقت أجادله بلا ترفق ولا تلطف.
وقابل الشاعر ثورتي بأدب رائع دلني على أنه من أقطاب العقل، ثم قال: انتظر فسنلتقي بعد عشرة أيام في بغداد.
وكان معنى ذلك أنه سيفارق الفلوجة يوم ينتخب عضوا في مجلس النواب. •••
وبعد أيام أقام لي أفاضل الأدباء في بغداد حفلة تكريم، وفي طريقي إلى مكان الحفلة اشتريت جريدة الاستقلال فرأيت في صدرها قصيدة رائعة أراد بها الرصافي أن يسبق أهل بغداد إلى تكريمي، وكذلك يكون الذوق في إكرام الضيف.
ولم يقف الرجل عند هذا الحد؛ بل تجشم الانتقال إلى كلية الحقوق ليسمع إحدى محاضراتي، ثم جاء للسؤال عني في منزلي مرتين، وعرض علي أن أقرأ كتابه عن الرسول وأدون ما أشاء من الملاحظات، فاعتذرت بضيق الوقت، وبالغ في اللطف فدعاني إلى التشرف بزيارته كلما شئت، ولكن شواغلي حرمتني من لطفه فلم أزره في منزله غير ثلاث مرات، ثم يئس من وفائي فلم يعد يسأل عني.
فمن هو الرصافي؟
هو مجموعة طريفة من العقل والأدب والذوق والذكاء.
هو صورة صادقة للروح البغدادي، الروح المرح الطروب.
هو عنوان الرجولة الصريحة التي تمقت الكذب والرياء.
هو بالتأكيد من أثمن ذخائر العراق.
والعراقيون يعزون شاعرهم كل الاعزاز، ولما قدم لسماع محاضرتي بكلية الحقوق قابله الجمهور بتصفيق الإعجاب، ويكفي أن يكون سعادة الأستاذ طه الراوي من رواة شعر الرصافي، وطه الراوي إمام من أئمة اللغة العربية، أعزه الله ورعاه.
وللرصافي ديوان يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير، ولكن أي ديوان؟ هو جذوات من الفكر والمنطق والوجدان، وسيعيش هذا الديوان على التاريخ. •••
والرصافي متبرم بالعراق، وهذا كل ما عنده من ضلال، وقد أملاني هذين البيتين:
قد كان لي وطن أبكى لنكبته
واليوم لا وطن عندي ولا سكن
ولا أري في بلاد كنت أسكنها
إلا حثالة ناس قاءها الزمن
وقد اتفق له أن يقول منذ أعوام طوال:
عتبت على بغداد عتب مودع
أمضته فيها الحادثات قراعا
أضاعتني الأيام فيها ولو درت
لعز عليها أن أكون مضاعا
لقد أرضعتني كل خسف وإنني
لأشكرها أن لم تتم رضاعا
وما أنا بالجاني عليها وإنما
نهضت خصاما دونها ودفاعا
وأعملت أقلامي بها عربية
فلم تبد إصغاء لها وسماعا
وأن يقول:
ويل لبغداد مما سوف تذكره
عني وعنها الليالي في الدواوين
لقد سقيت بفيض الدمع أربعها
على جوانب واد ليس يسقيني
أفي المروءة أن يعتز جاهلها
وأن أكون بها في قبضة الهون
وأن يعيش بها الطرطور ذا شمم
وأن أسام بعيشي جدع عرنيني
1
وأن يقول:
إلى كم أستغيث فلا مغيث
وأدعو من أراه فلا يجيب
أقمت ببلدة ملئت حقودا
علي فكل ما فيها مريب
أمر فتنظر الأبصار شزرا
إلي كأنما قد مر ذيب
وكم من أوجه تبدي ابتساما
وفي طي ابتسامتها قطوب
سكنت الخان في بلدي كأني
أخو سفر تقاذفه الدروب
وعشت معيشة الغرباء فيه
لأني اليوم في وطني غريب
والرصافي شاعر يسخر من أوهام الناس وهو الذي يقول:
لقد خامرتني في الزمان وأهله
شكوك عليها يعذر المنزندق
أرى الدهر في أمرين يعمل دائبا
صناع اليدين فيهما يتأنق
يجدد للموتى مناقب لم تكن
لديهم وللأحياء يبلى ويخلق
فكم من قبور عظم الناس أهلها
بما لم يكن عند النهي يتحقق
ورب امرئ قد عاش يستقطر الثنا
فلما قضى سال الثنا يتدفق
فما كتب التاريخ في كل ما روت
لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
وما صدقتنا في الحقائق أعين
فكيف إذن فيهن يصدق مهرق
2
وديوان الرصافي على عظمته ليس كل شعر الرصافي، فله شاعرية لم يحوها الديوان، هي ذلك الروح الطروب الذي يهزأ من أحداث الزمان.
والرصافي مؤلفا غير معروف، ولكن كتابه عن النبي محمد كتاب هائل جدا، وترجع أهميته إلى ما فيه من نقد الأخبار والأحاديث وقد لا تتسع الصدور لظهور هذا الكتاب، وهذا هو الشاهد على أن أسلافنا كانوا أوسع صدرا وأعلى مقاما.
أما بعد، فما كتبت هذه الكلمة لأفي الرصافي حقه من الثناء، فذلك يحتاج إلى مؤلف ضخم تحدد به نواحي هذه العبقرية.
ما هذا بحثا مفصلا عن الرصافي، وإنما هي كلمة موجزة أردت أن أشرف بها نفسي فأقول إني زرت بغداد ورأيت الرصافي، ولعلها تكون كفارة عن تقصيري في مودة هذا الشيخ الجليل، وأقسم ما انصرفت عن مودته طائعا، وإنما صرفني عن مودته ما ألقاه القدر على كاهلي من أعباء وتكاليف.
الفصل السابع والأربعون
إصلاح الخط العربي
إلى الصديقين الكريمين محرري مجلة التربية الحديثة
أقدم إليكما أصدق التحيات، ثم أتشرف بتقديم ما سألتموني من الرأي في إصلاح الخط العربي، ولكن على شرط أن تحتملوا الاطناب، لأن لي في هذه المسألة آراء عرضتها في مواقف رسمية، أحدها في مدرسة اللغات الشرقية في باريس يوم حاججت الأساتذة العظام مرسيه وكولان وديمومبين، وثانيها يوم قدمت رسالة «اللغة والدين والتقاليد» إلى لجنة رسمية مؤلفة من حضرات أصحاب المعالي والعزة أحمد لطفي السيد باشا وجعفر ولي باشا وبهى الدين بركات باشا وطه حسين بك ومصطفى عبد الرازق بك، وهناك موقف أخطر وهو الذي دعوت فيه صراحة إلى كتابة المصحف بالرسم الحديث، وتصريحي بأن سيدنا عثمان كان مبتدئا في الخط وأنه لو عاش في هذا العصر لكان من المستحيل أن نكل إليه تعليم الخط في مدرسة أوليه، ثم تصريحي بأن مشايخ الأزهر يصدون عن كتاب الله حين يوجبون أن يرسم بخط تصعب قراءته على أكثر الناس.
أما موقفي في مدافعة المستشرقين فيتلخص في أن الخط العربي هو أصلح الخطوط للغة العربية، وأن الحروف اللاتينية لا تنفعنا أبدا، لأنها تعجز عن تأدية النطق العربي تأدية صحيحة.
قالوا: ومع ذلك يعجز الخط العربي عن تأدية النطق العربي تأدية صحيحة!
قلت: لأننا نهمل الشكل وهو عنصر أساسي في الخط العربي.
وهنا أذكر أن أهل بغداد كانوا السبب في حرمان الخط العربي من أهم عناصره وهو الشكل، لأنهم كانوا يرون الشكل إهانة للمخاطب واتهاما له بالجهل.
وهذا الذوق البغدادي كان يقبل في القرن الثالث يوم كانت الثقافة الأدبية مقصورة على الخواص الذين يؤذيهم أن ترشدهم إلى صواب النطق بشكل الكلمات.
وقد تغير الحال في هذا الزمان وصرنا مضطرين إلى مخاطبة الجمهور كله وفيه أطفال ونساء وجاهلون، فما كان يعتبر إهانة عند أهل بغداد في القرن الثالث أصبح في زماننا من الواجبات.
وخلاصة هذه الفكرة أن التشبث بالخط العربي ليس نزعة قومية، كما يتوهم أكثر الناس، وإنما التشبث بالخط العربي أمر يوجبه العقل والمنطق لأنه أصلح الخطوط لتأدية النطق الصحيح في اللغة العربية.
وكلمة «كتب» معناها في الأصل «قيد» وكذلك «الشكل» معناه «القيد» أنه مأخوذ من الشكال، أي القيد، فالذي يشكل الكلمة يقيدها: أعني أنه يحصرها في وضع واحد، وكانت قبل الشكل تنطق بأوضاع مختلفات.
وأقول ثم أقول، وأقرر ثم أقرر، أن الخط العربي لا يعوزه غير الشكل، فإذا شكلناه أصبح قادرا كل القدرة على تأدية النطق وتحديد المعاني على نحو ما تصنع الحروف اللاتينية في اللغات الأوربية.
ولو ظهرت الجرائد والمجلات مشكولة عامين اثنين لرأيتم كيف يصلح النطق وكيف يشيع الإفصاح. •••
وهنا ندخل في شعاب المعضلة الحقيقة فنقول:
إن لحرف القاف مثلا أربع صور هي: ق، ق، ق، ق.
ولو وضعنا لكل صورة ثلاث حركات لاحتجنا إلى اثنتي عشرة صورة لكل حرف، وبذلك تتعدد الصناديق، وتحتاج كل مطبعة إلى مضاعفة عدد الصفافين، كما يعبر أهل مصر، أو المرتبين، كما يعبر أهل العراق.
وأنا بكل صراحة أدعو إلى توحيد الحروف، أدعو إلى الاكتفاء بصورة واحدة لكل حرف، فيكون له رسم واحد في أول الكلمة وفي الوسط وفي الطرف، ثم يصب من كل حرف ثلاثة أشكال فيها الكسر والضم والفتح، مع الاستغناء مؤقتا عن حركات الإعراب.
وهذا الاقتراح يذهب بشيء من جمال الخط العربي، ولكن جمال الخط لا يساوي ما نظفر به من الدقة والتحديد في الخط المقترح.
الشكل هو الإصلاح الوحيد للخط العربي، ولكن شكل الحروف بوضعها الحاضر يوجب تعقيد الصناديق، وتوحيد أشكال الحروف يمنع هذا التعقيد.
في الصندوق العتيد أربع صور لحرف الفاء هي: ف، ف، ف، ف.
وفي الصندوق الذي أقترحه أربع صور هي: ف، ف، ف، ف.
والصورة الأخيرة عارية عن الشكل فلتكن صورة السكون أو الوقف. •••
وما أقترحه خاص بحروف الطباعة، أما الكتابة العادية فخط الرقعة يكفي فيها كل الكفاية، ويحسن أن يكون عندنا خطان اثنان فقط: خط للطباعة وخط للتحرير.
وأنا - بعد الذي أسلفت - أقرر بصراحة أن صعوبة النطق التي أوجبها سوء الخط كانت السبب في اهتمام العرب بالتمكن من لغتهم، كما أن صعوبة النحو العربي كانت السبب في نبوغ أكثر الأدباء.
والتعليم في الأزهر كان نافعا جدا يوم كان يجري على نظام غير مرتب، فلما وصلت إليه طرائق التربية الحديثة أصبح ضعيفا.
أقول هذا وأنا أعرف أن سيغضب الدكتور بقطر والدكتور جولت.
ولكني قضيت عشرين سنة في درس علم النفس، وأصبح من المقرر عندي أن الاهتمام هو أصل كل تفوق، وصعوبة الخط والنحو والصرف توجب الاهتمام، وهذا الاهتمام هو الذي جعل الأزهريين القدماء من أعرف الناس باللغة العربية.
ولكن لا مفر من إصلاح الخط العربي لنصل به إلى الجمهور الأعظم الذي يعد بالملايين، ولنقضي على الدسيسة الخطرة التي تزين الحروف اللاتينية، ولنسهل الوصول إلى فهم لغتنا لمن يهمهم ذلك من كرام الأجانب، فقد اشتغلت بالتدريس في الليسيه فرانسيه نحو عشر سنين وكان يؤذيني أن يعتقد الأجانب من التلاميذ أن لغتنا أصعب اللغات.
وحين يتضح الخط العربي ويتكلم لغتنا ألوف من الأوربيين والأمريكيين تدخل في لغتنا حيويات جديدة قد تعود على أدبنا بأعظم النفع.
إن إصلاح الخط العربي أمل جميل، ولكن على شرط أن يكون تطورا في الخط، ولا يكون تبديلا للخط، فإني أخشى أن نبالغ في الحذلقة فلا تسايرنا الأقطار العربية، والسلام.
زكي مبارك
بغداد «المجلة» نتفق مع صديقنا الدكتور زكي مبارك في أشياء ونختلف معه في أشياء: (1)
نتفق معه أن اللغة العربية ليست أصعب اللغات. (2)
ونتفق معه أن صعوبة الخط مسألة سطحية وصعوبة الشكل كذلك، ويوجد في اللغات الأوربية الحية من الصعوبات على المبتدئ والمتعلم من غير أهلها ما يفوق مثلها في العربية بمراحل. (3)
أن صعوبة العربية في رأينا تنحصر في وجود لغتين العامية والفصحى، ولكل منهما تيار فكري يعطل أحدهما الآخر فيقتل التفكير والإنتاج، وهذا هو الرأي الذي أدلى به سر وليم ولكوكس ولدي ما يعزز قوله مما لا يتسع له المقام الآن. (4)
أما قول الدور زكي مبارك إن صعوبة النطق وصعوبة الخط وصعوبة النحو هي التي مكنت العرب من لغتهم وحدت إلى نبوغ أكبر الأدباء فلا يقره عليه عاقل ولا مجنون، وهذا المنطق يذكرني بما يقوله بعض الانكليز دفاعا عن نظامهم العقيم في الموازين والمقاييس والنقود، بجانب النظام العشري الجميل في النقود والموازين والمقاييس والمكاييل في فرنسا وإيطاليا ومعظم بلدان أوربا.
يقول السفسطائيون من الإنجليز إن هذا النظام المعقد يدرب العقل ويهذبه بعكس النظام العشري، وعلى هذا المبدأ ينبغي تعقيد كل شيء في الحياة توصلا للغرض عينه. (5)
أما قول صديقنا الدكتور إن الأزهر ضعف طلابه منذ إدخال التربية الحديثة فهذا يحتاج إلى أدلة يتعذر إقامتها بغير تجارب علمية وأرقام إحصائية، غير أنني أسر في أذن الدكتور أن التربية الحديثة لا تزال بعيدة عن الأزهر وعن معظم معاهد التعليم في بلادنا بعد الأرض عن السماء أو العكس على الأصح، اللهم إلا إذا كنت تفهم بالتربية الحديثة الجغرافيا والحساب. (6)
بقيت عبارة واحدة اسمح لي أيضا أن أسرها في أذنك، تقول إنك درست علم النفس منذ عشرين عاما، وقد نسيت أن علم النفس هذا لم يكن منذ عشرين عاما مما هو عليه اليوم إلا بمنزلة التنجيم من علم الفلك، فشمر عن ساعديك وأعكف على دراسته من جديد. (7)
وأخيرا دعني أشكرك من صميم الفؤاد لإخلاصك للعلم وتلبيتك لدعوتنا فقد طلبنا إلى أكثر من ثلاثين من رجال التربية في جميع البلدان العربية أن يدلوا بآرائهم فلم يحرك منهم ساكنا إلا من زينا صفحات المجلة بأسمائهم، فعليك من قراء مجلة التربية الحديثة وعلى جميع من ساهموا في هذا العدد، ومني، السلام ورحمة الله.
المخلص
أمير بقطر
الفصل الثامن والأربعون
مذاهب التربية
إلى الدكتور أمير بقطر
أيها الصديق العزيز
أقدم إليك أطيب التحيات، وأذكر أن هذا الخطاب كان يجب أن يوجه إلى مجلة التربية الحديثة، ولكني رأيت أن العدد الأخير هو ختام هذه السنة، وفي تعليقك على مقالي كلمات لا أحب أن أتركها بلا تعقيب إلى العام المقبل. (1) تفضلت يا صديقي فقلت:
أما قول الدكتور زكي مبارك إن صعوبة النطق وصعوبة الخط وصعوبة النحو هي التي مكنت العرب من لغتهم وحدت إلى نبوغ أكثر الأدباء فلا يقره عليه عاقل ولا مجنون، وهذا المنطق يذكرني بما يقوله بعض الإنجليز دفاعا عن نظامهم العقيم في الموازين والنقود بجانب النظام العشري الجميل في النقود والموازين والمقاييس والمكاييل في فرنسا وإيطاليا ومعظم بلدان أوربا، يقول السوفسطائيون من الإنجليز إن هذا النظام المعقد يدرب العقل ويهذبه بعكس النظام العشري، وعلى هذا المبدأ ينبغي تعقيد كل شيء في الحياة توصلا للغرض عينه.
ذلك كلامك أيها الزميل، وقد استغربت واستغرب فريق من أصدقائك بالعراق أن يصدر عنك، فعبارة «لا يقره عاقل ولا مجنون» عبارة غير مقبولة، ومن المؤكد أنك ندمت عليها ولو قليلا، فعهدي بك تزن الألفاظ وتنقيها من العيب، ولو وقعت هذه العبارة في معركة أديبة لكان لها موضع، فإن المعارك لعنفها قد تبيح ما لا يباح، وما كنت أخاصمك حين استجبت لدعوتك الكريمة إلى كتابة مقال لمجلة التربية الحديثة حتى يجرى قلمك بذلك التعبير «المقبول»!
ومن حقي أن أمسك بخناقك حتى تعترف بالحق.
فمن أين عرفت أن الصعوبة تنافي مذاهب التربية؟
يظهر أن التربية في ذهنك لها مدلول خاص، هو أن تقال في أمريكا، وفي كتاب طبع سنة 1938.
وفاتك أيها الزميل العزيز أن التربية كانت موجودة قبل أن تظهر «الطريقة الأمريكانية» وأن الصعوبة كانت مما يقصد إليه المربون لتمرين الأذهان والعقول.
ويظهر أيضا أنك تفهم علم النفس على «الطريقة الأمريكانية» وإخوانك الأمريكان قوم لطاف ظراف، ولكن دعواهم التفرد بالعلم أمر «لا يقره عاقل ولا مجنون».
وأخوك زكي مبارك وهو دكتور في الفلسفة مرة أو مرتين أو مرات يفهم غير ما تفهمون، أخوك زكي مبارك يقول إن الاهتمام هو أصل كل تعمق، وعنده شواهد يعرفها العقلاء والمجانين، والصعوبة توجب الاهتمام، وهي السر في إقبال الناس على درس المعضلات.
والصعوبة أو التصعيب من المذاهب التعليمية التي عاش عليها الناس قبل أن يخلق كريستوف كولمب، وهي طريقة نافعة جدا، وستأخذها عني يا شيطان، ستأخذها عن الفيلسوف الذي تطاولت عليه بلا حق، مع أنه زميلك وأخوك، وهذه الطريقة، طريقة التصعيب، تشبه في عالم الأفكار طريقة أهل اسبرطة في عالم الأبدان فالاسبرطيون كانوا يرمون مواليدهم في العراء ثلاثة أيام ليعرفوا صلاحيتهم للحياة الجثمانية، وطريقة التصعيب هي من هذا الباب، هي تعريض الأذهان للامتحان الصعب لتظهر صلاحيتها للحياة العقلية.
ولو أن الحظ كان أغاثك فمررت بالأزهر أو الجامعة المصرية أو السوربون أو مدرسة اللغات الشرقية كما اتفق لأخيك أن يمر وهو خائف يترقب، لو أن الحظ كان أغاثك بهذه المصاعب لعرفت كيف يكون صيال العقول، ولكنك عرفت الأمريكان الظرفاء الذين يدرسون العلم على الأساليب السينمائية.
أساليب سينمائية؟؟
ما هذا الكلام؟ يظهر أني بدأت أتطاول عليك!
لا، لا، فما أقبل أن أتطاول على أخي وزميلي، ولكنك أيها الأخ المحبوب نسيت أن تربط أجزاء اعتراضك بعضها ببعض، فجاز لي أن أفهم أنك تدرس ما تدرس على الأساليب السينمائية.
وبيان ذلك أيها الأخ أنك حين حكمت بأن كلامي في طريقة التصعيب لا يقول به عاقل ولا مجنون مضيت فقررت أن كلامي يشبه ما يقول به بعض الإنجليز في الدفاع عن نظامهم في النقود والموازين.
ومن كلامك عرفت أن الطريقة الإنجليزية هي أيضا طريقة أزهرية.
وأنا والله راض بأن أحشر مع علماء الإنجليز، ولو في الجحيم!
طريقة التصعيب أيها الأخ هي التي «تغربل» العقول، وبفضلها استطاع أخوك زكي مبارك أن يصاول العلماء في الامتحانات العلنية مرارا كثيرة، منها مرتان في باريس، وسأضع عقلك في «الغربال» بعد حين، لأعرف نصيبك من العمق، أراني الله وجهك بخير وعافية. ••• (2) تفضلت يا صديقي فقلت:
بقيت عبارة واحدة اسمح لي أيضا أن أسرها في أذنك، تقول إنك درست علم النفس منذ عشرين عاما، وقد نسيت أن علم النفس هذا لم يكن منذ عشرين عاما مما هو عليه اليوم إلا بمنزلة التنجيم من علم الفلك، فشمر عن ساعديك واعكف على دراسته من جديد.
سمعت وأطعت يا دكتور بقطر!
سمعت وأطعت لأني قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية، وقد أوصاني أساتذتي رضي الله عنهم بأن أفتح قلبي لكل نصيحة، ولو صدرت من الدكتور أمير بقطر!
ألمثلي يقال هذا الكلام؟ ألمثلي يوجه هذا النصح؟
إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
كنت أحسب أنني أنصفت نفسي حين أضعت شبابي في دراسة الأدب والفلسفة، وكنت أحسب أن جهادي في سبيل الأدب والفلسفة سيعصمني من سماع هذا النصح المرير، وكنت أظن أن زملائي يعرفون فضلي وأني لن أحتاج إلى اكتساب ثقتهم في سر أو علانية، ثم قضى الدهر الغادر بأن أرجع إلى حياة التلمذة وأن يطلب مني الرجوع إلى دراسة علم النفس من جديد.
ومعاذ الأدب أن أنكر قيمة هذه النصيحة الغالية: فقد رضت النفس على أكون طالب علم من المهد إلى اللحد.
ولكن يؤذيني شيء واحد: وهو؟
ما هو ذلك الشيء ؟
إني لأحتاج إلى شجاعة عظيمة لأفصح عما أريد.
وأتشجع فأقول: لن أستأنف دراسة علم النفس إلا يوم يستأنف الدكتور أمير بقطر دراسة الأبجدية.
هذه وقاحة!
لا ، والله؛ وإنما هي كلمة حق.
ومن أين عرف الدكتور أمير بقطر أني درست علم النفس منذ عشرين عاما حتى ينصحني بالعكوف على دراسته من جديد؟
من أين عرف ذلك؟!
لقد قلت في مقالتي ما نصه بالحرف، وكما نشرته مجلة التربية الحديثة:
ولكني قضيت عشرين سنة في درس علم النفس، وأصبح من المقرر عندي أن الاهتمام هو أصل كل تفوق.
فأنا لم اقل إني درست علم النفس منذ عشرين سنة، وإنما قلت إني درست علم النفس عشرين سنة.
وللقارئ أن يحكم بين هذا الزميل وبيني.
وللدكتور أمير بقطر أن يوجه إلى نفسه الملام إن شاء. •••
أما بعد، فما كان يسرني أن أوجه إلى ذلك الصديق الكريم هذه الملاحظات، وما كان يسرني أن أنال مذاهب الأمريكان بنقد أو تجريح.
ولكني أحسب الوقت حان لتذكير الأمريكان بخطر ما يقدمون عليه، فهم - كما عرفتهم - ناس سطحيون، وقد صحبتهم عامين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وما أذكر أبدا أني رأيت في تفكيرهم شيئا من التعمق، وإنما هم قوم يغلب عليهم اللطف والإيناس وحفظ الجميل.
وصديقنا الدكتور أمير بقطر هو نموذج من التربية الأمريكانية فهو يمر على ما يقرأ مرور الطيف، ثم ينقد ويعتسف بلا بينة ولا برهان.
ومن واجبي أن أذكره بأن (الطريقة الأمريكانية) لا تنفع في مصر؛ لأن مصر ورثت تقاليد التعقل والتدبر منذ أجيال طوال، ثم ماذا؟
ثم أرجو أن ينقل الدكتور أمير بقطر هذه الملاحظات إلى أول عدد يصدر من مجلة التربية الحديثة، وأن يعلق عليه بما يشاء، عساه يتيح الفرصة لأن أدخل بقلمي فأقف الأمريكان عند حدهم فلا يدعون التفرد بالأستاذية في العصر الحديث.
الفصل التاسع والأربعون
إلي الدكتور أمير بقطر
أخي وصديقي
لعلك قرأت كلمتي الماضية، وهي عتب عليك، عتب قاس عنيف ندمت عليه أشد الندم لأنه اتصل بأيامي في الجامعة الأمريكية المعهد الذي صحبتك فيه وصحبت الأستاذ حبيب اسكندر وهو من أكرم من صحبت، فقد وصفت الأمريكان بأنهم قوم سطحيون، وكان الأدب يوجب ألا أقول ذلك بعد أن صحبتهم سنتين : وبعد أن عرفت المستر جولت وزوجته الغالية.
وكان للمستر جولت قصة نبيلة، فقد كتب إلي خطابا بالفرنسية يقول فيه:
لقد قهرتنا الأزمة على الاستغناء عن بعض المدرسين، فكان الدكتور زكي مبارك أول من فكرنا في الاستغناء عنه، لأنه رجل صالح للحياة، ومواهبه كفيلة بأن تمكنه من طيبات الأرزاق.
وأنا أعتقد أن هذه الشهادة هي أعظم ما ظفرت به من الألقاب، وقد اقترحت في ذلك العهد أن أدرس في الجامعة الأمريكية مجانا، ثم صرفتني الشواغل عما أريد، وليتني استطعت لأقيم الدليل على أنني من أصحاب المعاني، فالجامعة الأمريكية تقوم في نفس البناء الذي كانت تقوم فيه الجامعة المصرية، وفي ذلك المكان نفسه استطاع أستاذنا الشيخ محمد المهدي بك أن يقوم بتدريس الأدب العربي مجانا حين نقصت موارد الجامعة المصرية بسبب الحرب العالمية.
ولكن ندمي على ما آذيت به الأمريكان بدأ يخف، لأنني أخذت أفهم أنني لا أحارب الطريقة الأمريكانية لأسباب شخصية، وإنما أحاربها في سبيل المبدأ، وأنا يا صديقي رجل يتوهم أنه من أصحاب المبادئ، وقد تجد فيمن صحبناهم من الأمريكان من يشهد بصدق ما أقول.
وأنا أعتقد حقا أنكم قوم سطحيون، وأعتقد أن نبوغ أمريكا في الفن السينمائي له دخل في ذلك، فهم قوم تبهرهم الألوان قبل أن تبهرهم الحقائق، فالدنيا عندهم صور وزخارف وتهاويل، والبيت لا يكون عندهم بيتا إلا إن ناطح السحاب، مع أن أرض الله أوسع مما تظن ويظنون.
وليس عند الأمريكان غير فضيلة واحدة هي الابتسام، وقد ورثت عنهم شيئا من هذه الفضيلة العالية، وأشهد صادقا أني ابتسمت حين قرأت كلمتك في الرد على أخيك.
فهل آمل أن تبتسم أيضا حين أقول إنكم قوم سطحيون؟
اسمع يا صديقي
أنت قلت إن علم النفس منذ عشرين سنة لا يقاس إلى علم النفس في هذه الأيام إلا كما يقاس التنجيم إلى علم الفلك.
ذلك كلامك الذي سطرته بقلمك في مجلة التربية الحديثة.
فهل تعني ما تقول؟ وهل يصدقك رجل مثل سعادة الدكتور منصور فهمي أو رجل مثل معالي الأستاذ مصطفى عبد الرازق؟
وهل يوافقك على ذلك فريق من الذين تلقيت أنا عنهم الفلسفة في السوربون؟
من سوء حظي أيها الأخ أني دكتور في الفلسفة، ومن سوء حظي أن وجدت رجلا يعتذر عن نقد كتاب «النثر الفني» بحجة أنه قام على أصول فلسفية توجب النظر الدقيق، وهذا الرجل هو الأستاذ إسماعيل مظهر وهو فيما سمعت وسمعتم من المطلعين على المذاهب الفلسفية.
ومن سوء حظي أيضا أني اطلعت اطلاعا لا يخطر ببالك على الفلسفة اليونانية والعربية، وصح عندي بعد البحث أن الفلسفة الحديثة لها أصول عند القدماء.
هل تصدق أنني اكتشفت أن مذهب فرويد له أصل في كتب الشعراني؟ وهل تصدق أني وجدت لذلك المذهب أصولا صحيحة عند علماء الفقه الإسلامي؟
ليتني أفرغ لك ولأمريكا لأفهمكم أن لا جديد تحت الشمس مع استثناء اللاسلكي والبخار والكهرباء.
إن قوتكم في الإعلان تفوق كل قوة وقد أزغتم الأبصار والعقول، وأصبح من واجب كل مخلص أن يقفكم عند حدكم، فقد ملأتم الدنيا بالأوهام والأضاليل.
أفي الحق أن علم النفس كان منذ عشرين سنة خرافة من الخرافات؟
فما رأيكم فيمن يحدثكم أن علم النفس كان علما صحيحا منذ ألوف السنين؟
ما رأيكم فيمن يحدثكم أن الحقائق النفسية عرفها قدماء العرب والفرس واليونان والمصريين والهنود؟
ما رأيكم فيمن يحدثكم أن الاستهانة بميراث الإنسانية هي الشاهد على أنكم تمزحون فيما تقولون وما تكتبون؟
لقد اتفق لك يا دكتور بقطر أن توهم قراءك مرات ومرات بأن مناهج التعليم في مصر وفي فرنسا وفي انجلترا وفي ألمانيا وفي الدنيا كلها مناهج تقوم على غير أساس لأنها غير أمريكانية، فاتق الله والأدب والذوق في عقلك، وتذكر أن الأمريكان ناس كسائر الناس وليسوا من الملائكة ولا الشياطين.
أما بعد، فما أوجه الكلام إلى شخصك بالذات لأنك صديق عزيز، وإنما أنقد مذهبا ضعيفا من مذاهب الفهم هو المذهب الأمريكاني.
وقد آن الأوان للتفكير في نقلك إلى وطنك حتى لا تضيع.
آن الأوان للتفكير في رياضتك على النظر إلى الحقائق.
آن الأوان لنفهمك أن الفلاسفة كان لهم قبل عشرين سنة مذاهب صحيحة في علم النفس.
آن الأوان لنفهمك - وأنت صالح للفهم - أن علم النفس له ماض وتاريخ.
أيها الصديق
لا تحسبني أسأت إليك، فستذكرني بالخير بعد حين، والسلام.
الفصل الخمسون
كيف نصادق أطفالنا1
سيداتي وسادتي
لا تظنوا أن الظفر بصداقة الطفل أمر سهل؛ لأن بيننا وبين الأطفال فوارق كثيرة جدا، وهذه الفوارق تباعد ما بيننا وبينهم، وتجعل عقد المودة معهم أمرا عسير المنال.
وأسعد الآباء هو من يستطيع الوصول إلى قلوب أبنائه في ترفق وتلطف، ليكونوا قرة عينه، وليكون قرة أعينهم، وليصبح البيت موئلا للانشراح والابتهاج.
وأسارع فأقرر أن الأب لا يستطيع الظفر بصداقة أبنائه إلا إن ضمن عطف زوجته عليه، فالزوجة هي الرباط الأول بين الأب وبين قلوب أبنائه، وهي تستطيع أن تغير قلوبهم على أبيهم حين تشاء، لأنها تملك من أمورهم كل شيء، ولها وسائل خفية تصل بها إلى قلوب الأطفال.
وبيان ذلك أن بعض الزوجات يستطبن إعلان التذمر من الأزواج، وهذا التذمر قد يسمعه الأطفال فيرسخ في أذهانهم أن أباهم رجل بغيض، وعندئذ يصعب على الأب أن يظفر بصداقة بنيه.
والزوجة الصالحة هي التي تشعر أبناءها في كل وقت بعظمة أبيهم وتروضهم على احترامه وحبه، وتؤكد في أنفسهم الشعور بما يملك من جميل المناقب والخصال.
الزوجة الصالحة تقول للطفل: «تمسك بهذا الخلق فإنه يرضي أباك، وتجنب ذلك الخلق فإنه يغضب أباك».
وعندئذ يشعر الطفل بأن عند أبيه ذخائر من الفضائل فيتشوف إلى الاطلاع على ما في قلب أبيه من كرائم الطيبات، ويرى الطاعة من صالحات الأعمال.
فإن سمعتم أن طفلا يحب أباه فاعرفوا أن لذلك الطفل أما صالحة، وإن سمعتم أن طفلا يبغض أباه فاعرفوا أن له أما ذميمة الخلال، وإنما اهتممت بتأكيد هذا المعنى لأنبه الزوجات إلى حقيقة غفل عنها أكثر المربين ، وهي أن الأطفال وديعة ثمينة في أيدي الأمهات، ومن الأمهات من ينسين الواجب فيفسدن ما بين الآباء والأبناء، ويحرمن الأطفال من نعمة عظيمة هي الثقة بالوالد المسكين الذي يضطرب في دنياه ليقدم إلى زوجته وأطفاله أسباب الرخاء.
وما ابتكرت هذه الحقيقة، وإنما هي درس تلقيته عن أهلي، فقد كان أبي رحمه الله رجلا جافيا جدا، وما أذكر أنه ابتسم في وجهي غير مرات معدودات، ولكن أمي رحمها الله كانت لا تذكره أمامي بغير الخير ولا تصوره بغير الجميل.
وكنت في طفولتي أرى أبي لغزا من الألغاز، فهو فيما أرى رجل عنيف، وهو فيما تصور أمي رجل لطيف، ولم أعرف وجه الحق إلا يوم حرمتني المقادير من أبي وأصبحت في الدنيا بلا صديق. •••
ولكن ما الموجب للحرص على صداقة الأطفال؟
لقد سمعت أننا من بني آدم، وسمعت أن آدم كان رجلا له قلب والأطفال يعيشون بيننا في غربة موحشة فليسوا من جيلنا ولسنا من جيلهم، فهمومهم غير همومنا، وهمومنا غير همومهم، ولن يمكن التوفيق بيننا وبينهم إلا إن صعدوا إلينا أو نزلنا إليهم، فمن كان له قلب فليعرف هذه الحال وليفكر في إيناس أولئك الغرباء الذين يتشوفون إلى العواطف والقلوب.
وأول ما يجب التنبه إليه هو اليقين بأن الأطفال يعيشون في عالم المحسوس ويجهلون عالم المعقول.
وعالم المحسوس هو الأصل، ولو شئت لقلت إن عالم المعقول ليس إلا تصويرا لعالم المحسوس.
ومن واجب الأب أن يدرك أن الأطفال يرون الدنيا بعيونهم لا بعقولهم، من واجب الأب أن يفهم أن مدركات الحواس هي كل شيء عند الأطفال.
فإن بدا لك أن تصادق الطفل فابحث عن مواقع هواه، واعرف أن فمه أكثر يقظة من عقله، وأن صندوق الحلوى أفضل عنده من الكتاب الجيد، وأن الثوب المرقش أحب إليه من القول المزخرف، والأب الذكي اللبيب هو الذي لا يلقى طفله إلا وفي يده هدية أو تحفة أو طرفة، فإن فاته ذلك فليقدم إلى طفله قطعة أو قطعين من النقود، وليذكر دائما أن هذا هو ما يدرك الأطفال من معاني الوجود.
وفي الدنيا أشياء هي عندنا أوهام، وهي عند الأطفال حقائق ولن نظفر بصداقتهم إلا إن رأينا الدنيا بعيونهم، ولعلهم أعرف وأصدق ! كنت أدخل المنزل فيلقاني أطفالي باسمين متهللين لأن الراديو قدم إليهم هدايا نفيسة، فيها من كل فاكهة زوجان، فأفرح لفرحهم، وأطلب نصيبي من هدايا الراديو، فيقدمون إلي ما بقى هداياه متفضلين.
وكان هذا الراديو عجيبا، ولعله أعجب راديو عرفه الناس، كان الأطفال يصبحون فيجدون حوله أطايب كثيرة من المأكولات والمشروبان فيصفقون ويهللون، وتموج بهم الدنيا موج الفرح والاغتباط.
وكنت أنتفع بهذه الفرصة فأفرح لها كما يفرحون.
وكان في المنزل طفل كبير يرتاب في هدايا الراديو، ويظن لسخفه أن تلك الهدايا قدمتها يد إنسان لا يد شيطان.
وكنت بفضل عقلي أفهم أن هدايا الراديو هدايا رديوية، وأن الراديو هو الذي ينقل الهدايا كما ينقل الأصوات:
وكان أطفالي يحبون أباهم لأنه عاقل، ويتهمون أخاهم الكبير الجنون.
فليت شعري ماذا صنع الراديو بعد رحيلي إلى العراق؟
أكان يجري على عادته السخية فيقدم الهدايا إلى أطفالي في الصباح والمساء؟
أم ترونه حزن لفراقي فحرم الأطفال من تلك الهدايا الطيبات؟
إن الراديو الذي في منزلي بمصر الجديدة هو أغرب المبتكرات، ومن الواجب أن يكون له أمثال في كل أرض، هو راديو كريم يقدم إلى الأطفال كل ما يشتهون، وهو يعرف الفوارق بين هدايا المواسم وهدايا الأعياد، ولم يكن فيه إلا عيب واحد، هو أنه يضن بالهدايا حين أغيب، ولا أعرف السبب في ذلك.
فمتى أرجع إلى أطفالي ليرجع الراديو إلى بره المألوف؟ •••
والطفل كثير الاعتداد بالنفس، وهو لا يصادق من يعدون عليه الذنوب، ونحن خليقون بالتغاضي عن هفوات أطفالنا، لأنها في الأغلب هفوات طبيعية، ولأن هؤلاء الأطفال سيدخلون دنيا الناس بعد حين، وسيشربون الصاب والعلقم من أيدي الأصدقاء المزيفين، سينتقل هؤلاء الأطفال إلى دنيا خسيسة لئيمة لا كرم فيها ولا رفق، سينتقلون إلى صحبة ناس لا يسترون عيوبهم، ولا يغفرون ذنوبهم، فلتكن صحبتهم إيانا هي الموسم الطيب الذي يرونه في الحياة.
ولنتذكر أن الأطفال الصغار ليسوا أعقل من الأطفال الكبار فقد كان لي صديق أثق بعقله وكرمه ونبله، ثم اتفق أن أداعبه فأذكر أنه دميم الوجه، والدمامة لا تعيب الرجال، فغضب وشتمني أقبح الشتم في إحدى الجرائد، وعنه تلقيت درسا لن أنساه، وهو أن الأطفال الكبار أقل عقلا من الأطفال الصغار في بعض الأحيان ومزاحهم ثقيل ممجوج.
وأطفالنا سيلقون هذه المكاره بعد حين، فلنعطف عليهم، ولنذكر أننا نلقيهم إلى دنيا غادرة لا يحفظ فيها تاريخ إنسان إلا إن لطخ يده بدماء الأبرياء.
الطفل يحب أن تكون له أخلاق الرجال وشمائل الرجال، ولن نظفر بمودته إلا إن منحناه الثقة بمواهبه العالية. فما الذي يمنع من النزول عند إرادته عساه يستفحل ويستأسد؟
الطفل يحب أن نثق بأنه أجمل الناس وأذكى الناس. فما الذي يمنع من أن نقوله له صدقت أيها الذكي الجميل؟!
إننا ننخدع كارهين للأطفال الكبار وهم الرجال، فما الذي يمنع من أن ننخدع طائعين للأطفال الصغار وهم الأبناء؟
سيداتي وسادتي
اسمحوا لي أن أعتب عليكم بعض العتب.
لقد مضت أجيال وأجيال ونحن نفرق بين الذكور والإناث، وقد شهدت بذلك آثار العرب واليهود والهنود.
فهل آن أن نعرف كيف نحب أطفالنا من البنات؟
إن البنت مخلوق نفيس وهي مصوغة من الروح والوجدان.
إن البنت هي سر الوجود، ولكن أين من يفهم المعاني؟
إن البنت هي مصدر الرفق والعطف والحنان.
إن البنت هي أصل ما نملك من الرزق لأنها ضعيفة، والله يرزقنا بفضل ما في بيوتنا من الضعفاء.
إن البنت هي التي تعرف كيف تواسي أباها أو أخاها أو زوجها وهو على فراش الموت، فاحترموا البنت وأعزوها واجعلوها من كرام الأصدقاء.
هل قرأتم سيرة المسيح؟
لقد شاء الله أن يكون ذلك النبي ابنا لامرأة تنكر لها أهلوها ليريكم أن الأمر بيد الله لا بيد الناس.
أراد الله أن يعلمكم أن تقاليدكم خداع في خداع، وأنكم لم تروا من بحار الحقائق غير أوشال.
وقد سمعت أن ناسا من الإنجليز يتطاولون على «العذراء» في حديقة، هايد بارك فليتطاولوا كيف شاءوا، فستبقى العذراء عذارء، وإن نطحوا بقرونهم رواسي الجبال.
سيداتي وسادتي
صادقوا أطفالكم وأطفال من تعرفون بلا تحفظ ولا تهيب ، فالطفل هو الزهرة الكريمة التي تنبت في الصحراء.
الطفل هو أطيب ما في الوجود، وهو الصديق الحق لو تعلمون.
الطفل هو الذي يقبل وجوهكم برفق وعطف، وكل مودة غير مودة الطفل هي رياء في رياء.
الطفل هو المؤمن بالوداد ومن سواه كفار جاحدون.
قبلة الطفل صدق في صدق، وصداقة الطفل إيمان في إيمان. فإن فاتتكم تلك القبلة وهذه الصداقة فستعيشون محرومين.
الطفل مخلوق لطيف لم يطلع على سفه الدنيا ولؤم الزمان.
الطفل يثق ويوقن، فأفهموه أنكم أهل للثقة واليقين.
الطفل يشتهي أن يحب فأحبوه.
الطفل يطمئن إليكم، فاطمئنوا إليه.
الطفل يتوكل عليكم، فتوكلوا على الله واعطفوا عليه.
الطفل يتوهم أنكم ناس، فأفهموه أنكم ناس.
الطفل هو نعمة الله فلا تجحدوا نعمة الله.
أما بعد، فإن الظفر بصداقة الطفل أمر سهل عند من يفهم أسرار الغرائز والميول، ولكنه صعب جدا على من ينتظر من الأطفال أن يفكروا بعقول الرجال.
فارجعوا إلى طفولتكم حين ترون أطفالكم لتذوقوا معاني السعادة من جديد، ولتنسوا في صحبتهم متاعب الجد الرزين.
الفصل الحادي والخمسون
حديث المؤلف مع جريدة الأخبار
قالت جريدة (الأخبار) العراقية الغراء:
كان لصدور كتاب (عبقرية الشريف الرضي) الذي أتحف القراء به حضرة الأديب الكبير الدكتور زكي مبارك أستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية رنة استحسان في مجتمعنا الأدبي ودوي في محافل الفكر.
وقد قصد مندوب جريدة (الأخبار) المؤلف الدكتور زكي وسأله أفانين من الأسئلة حول الموضوع، وفيما يلي خلاصة حديث الأديب المبارك: (س1)
لماذا بدأتم بالشريف الرضي؟
لذلك تاريخ قديم، فقد كان الأدباء في مصر يختلفون حول أبي تمام والبحتري والمتنبي، وكنت وحدي أقدم الشريف الرضي على هؤلاء الشعراء، وأثر هذا التقديم واضح في كتاب (مدامع العشاق) الذي طبع مرتين، وهو يشهد بإعزازي للصديق العظيم محمد بن الحسين، ولما قدمت بغداد رأيت الفرصة قد سنحت لإنصاف هذا الشاعر المظلوم الذي غفل عنه الناقدون. (س2)
هل تعتقد أن الشريف الرضي كان منسيا؟
إرجعوا إلى المؤلفات الحديثة التي دونت أخبار الشعراء تروا أن الشريف الرضي لم ينل بعض حقوقه في الحياة الأدبية، ويكفي أن تذكروا أن كتاب (الوسيط) لم يشر إليه، وكتاب الوسيط ألف لغاية واضحة هي تعريف الشبان المصريين بأهم الشخصيات التي كان لها سلطان في عالم الشعر والأدب والبيان. (س3)
ما هي أهم النواحي الذوقية في حياة الشريف؟
كان القدماء يرون أنه أشعر الناس في «الحجازيات»، وأرى أن أهم النواحي في شعره هي «المعالي» وأعتقد أنه أعظم شاعر وضع دستورا لحياة الفتيان، وأكاد أجزم بأنه أكبر شاعر صور الضجر من حياة الخمول، فالشريف الرضي شاعر ثائر يدعو إلى تحطيم قيود الذل والاستعباد، ونواحي الرجولة قد اكتلمت فيه كل الاكمال، فهو رجل له صبوات وآمال، هو عاشق وفارس ومؤمن وزعيم، هو رجل يجمع بين المرارة والحلاوة والعنف والرفق، هو شخصية عراقية تقسو فتكون أعنف من الجحيم وترق فتكون أرفق من النسيم. (س4)
ما هو الأسلوب الذي اخترته في التأليف؟
لقد أقمت كتابي على غير مثال سبق، وأنا أحرص كل الحرص على أن تكون مؤلفاتي ألوانا مختلفات، وأحب أن ألقى قرائي في كل كتاب بأسلوب جديد، والتأليف عندي فن من الفنون فلكل كتاب ضرب من التصميم، ولون من التصوير، واختلاف الموضوعات يوجب ذلك، فللمؤلفات الأدبية لون، وللمؤلفات الفلسفية لون، فلي في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) شخصية غير شخصيتي في كتاب (النثر الفني) وكذلك كان كتاب (عبقرية الشريف الرضي) صورة جديدة تخالف سائر الصور فيما نشرت من مؤلفات. (س5)
قلت إنك سايرت الشريف الرضي مسايرة الصديق للصديق، فما معنى ذلك؟
تلك خطتي في التأليف، فأنا أهتم بارتياد المجاهل من حيوات الشعراء وأحرص على التعرف إلى ما عندهم من ميول وأذواق وأهواء، وأنا بكل صراحة أعتقد أن لا بد للناقد من أن ينسى شخصيته ويفني في شخصية الشاعر الذي يدرسه بحيث يبصر بعينه، ويسمع بأذنه، ويفقه بقلبه، ليسبر أغوار نفسه، ويرى مبلغ شعوره بما وصف من الأشياء. (س6)
كيف كانت إحساساتكم عند تأليف ذلك الكتاب؟
كنت في حالة نفسية تشبه تمام الشبه أحوال الشريف في دنياه، وقد تفتح قلبي تفتحا لم أعهده من قبل، فأنشأت في أشهر قلائل ألوفا من الصفحات، وأصبح من المقرر عندي أن الشريف شاعر يوحي، والشاعر الذي يوحي هو الشاعر الحق، وأنا أؤمن بأن كتابي عن الشريف سيخلق نهضة أدبية وذوقية وفنية، وسيكون له تأثير شديد في توجيه التأليف وجهة جديدة سترون شواهدها بعد قليل. (س7)
دعوت في آخر كتابك للاحتفال بمرور ألف سنة على ميلاد الشريف، فماذا توصي به في هذا الشأن الخطير؟
إن إحياء الذكريات لون من حياة المجتمع الإسلامي، ولكنه كان مقصورا على الشخصيات الدينية، ونحن قد أخذنا عن أوربا الاحتفال بالشخصيات الأدبية والفلسفية، ولعل ذلك التقليد وقع في مصر أول مرة حين احتلفت الجامعة المصرية بإحياء ذكرى الأعضاء المؤسسين، فقد كان معالي الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا يلقي علينا محاضرة في كل سنة عن قاسم أمين، ثم توسعت الجامعة المصرية فاحتفلت بذكرى رينان ومحمد عبده والجاحظ والمتنبي، وشاعت هذه البدعة الجميلة في سائر الأقطار العربية، وكان للعراق نفسه نصيب من إحياء ذكرى المتنبي، فمن الواجب أن ينتهز الفرصة التي ستسنح بعد عام ونصف للاحتفال بمرور ألف سنة على ميلاد الشريف الرضي، وإني لأرجو أن يكون احتفالا عالميا تشترك فيه سائر الأمم العربية، ويكون فيه للفن نصيب مرموق: ففي ديوان الشريف قصائد كثيرة تصلح للغناء، ومن الواضح أن أمثال هذه الاحتفالات تنفع في إحياء الدراسات الأدبية، وتوجه الباحثين إلى أفانين من شائق البحوث. (س8)
كيف رأيتم استقبال الرأي العام لكتابكم الجديد؟
ضاق وقتي عن تذكير الرأى العام بكتابي فلم أهد إلى الصحفيين العراقيين غير نسخ معدودات، وفي العراق جرائد ومجلات لم أهد إليها الكتاب، مع أن فيمن تغافلت عنهم أصدقاء فضلاء، ولعلهم يعتبون ويلومون ولكنهم سينسون هذا التغافل حين يتذكرون أني كنت مشغولا بتلاميذي، على أن هذا لم يمنع من أن يكون كتاب (عبقرية الشريف الرضي) أول كتاب شعرت بوصوله إلى أفئدة القراء بسرعة بعد كتاب (النثر الفني) فقد وزعت مئات النسخ في بضعة أسابيع، وسيكون له مجال حين يصل إلى مصر، فالصحافة المصرية تهتم بحياة التأليف أكثر مما تهتم الصحافة العراقية، وكأن أهل العراق يعرفون ذلك، فهم يتسامعون بأخبار الكتب الجديدة قبل أن تحدثهم عنها الجرائد والمجلات. (س9)
هل أستطيع أن أسأل كيف قضيتم عامكم هذا في بغداد؟
أنا ما قضيت عاما في بغداد، وإنما قضيت في بغداد لحظات ستكون ذخيرتي من الأنس فيما بقى من حياتي، وما عرفت معنى الحياة إلا في بغداد، فقد قضيت جميع تلك اللحظات والقلم في يدي، واستطعت أن أشغل طوائف من الجرائد والمجلات في مصر والعراق ولبنان، وأستطيع أن أصرح بأنني أول موظف تلطفت معه حكومة العراق، فلم يسألني أحد عما أنشر من المذاهب والآراء، وقد ظن بعض من لا يفهمون أن حكومة العراق سكتت عني لمكانتي الأدبية، والرأي الحق أن حكومة العراق سكتت عني لأنها تعرف أني من أصدق أصدقاء العراق. (س10)
من هو الشاعر الذي ستدرسونه في العام المقبل؟
العام المقبل في ضمان الله، فقد اعتذرت عن مواصلة العمل بدار المعلمين العالية في العام المقبل، لأنني أريد أن أطبع كتاب «التصوف الإسلامي» الذي نلت به الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية برتبة الشرف، وهو لا يطبع في غير القاهرة لأسباب فنية.
وبهذه المناسبة أوجه أصدق الثناء لمن عز عليهم أن أحرم من هواء بغداد في العام المقبل، ولا يعزيني عن فراقهم إلا يقيني بأن بغداد ستكون في أكرم المنازل من قلبي، وسأذكر أني احتملت مشاق السفر لأرى قبر أبي تمام بالموصل، ولأهيء نفسي لتأليف كتاب عن عبقرية الشاعر الذي أعز دولة الشعر في القرن الثالث، فإن ترفقت شواغلي بمصر وسمح أطفالي بالرجوع إلى بغداد فسأقيم موسما ثانيا للشاعر الجميل الذي اسمه حبيب، وإن كان هذا آخر العهد بتنسم هواء بغداد فإني أؤكد لكم أنني سأقصر جهودي وأنا بمصر على الاهتمام بالآثار الأدبية لأهل العراق، وسيكون شعاري قول جميل في خطاب بثينة:
فإن كنت لما تعلمي العلم فاسألي
وبعض الرجال للرجال رموق
سلى هل قلاني من خليل صحبته
وهل ذم رحلى في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الكرام صحابتي
إذا اغبر مخشي الفجاج عميق
والسلام عليكم وعلى العراق ورحمة الله.
الفصل الثاني والخمسون
من العمامة إلى الطربوش ثم إلى القبعة فالسدارة
أخي الأستاذ طاهر الطناحي
لا أدري والله كيف خطرت ببالك، وأنا الصديق الذي نسيه الأهل والأحباب.
حدثكم الأستاذ محمود عزمي أنني لبست السدارة فتذكرتموني؟
وهو كذلك!
أما أنا فتذكرتك في طريقي إلى البصرة وطن العلم والشعر والخيال، فقد كانت مجلة «الدنيا المصورة» أنيسي في ذلك الطريق الطويل، وكانت الشاهد على أن مصر تؤدي دينها إلى العراق، العراق الذي أحبكم ورعاكم، إن كنتم تستحقون الرعاية والحب، يا أشقياء!
وإنما غمزتكم هذه الغمزة لأذكركم بواجبكم نحو العراق، فقد أصبحت أغار عليه كما أغار على وطني، وأرى من حقه عليكم أن تكونوا أسبق الناس إلى تسجيل أعماله الصالحات، فلمجلاتكم بالعراق مكان مرموق، وما يجوز لكم أن تقابلوا الجميل بغير الجميل.
وبعد، فقد آن أن أدخل في صميم الموضوع فأقول:
إنني تقلبت في ملابسي من حال إلى حال، فكنت أولا ألبس الطاقية والجلابية، وذلك ما لم تسألوني عنه، مع أنه لباس الفلاحين المصريين، ولباس أهلي في سنتريس، ولعلكم ظننتم أنني أتنكر للنشأة الأولى، فرأيتم من الذوق أن تسكتوا عن ذلك العهد، وقد صقلتكم المدنية فحرصتم على الذوق وهو عندكم يوزن بميزان الذهب، وغيركم يكيله بالمكيال، حفظكم الله ورعاكم يا جيران قصر النيل، ولكن لا بأس من أن تذكروا أنه لا يضايقني أبدا أن أعترف بأني فلاح لا يزال في يده أثر الفأس والمحراث.
كنت معمما يوم كنت طالبا بالأزهر الشريف، ولكن يظهر أنني كنت غريبا بين الأزهريين، فقد كانت عمامتي أظرف عمامة، وكان هندامي أجمل هندام، وكنت وحدي أمثل في الأزهر مذهب المعتزلة، يوم كان الأزهر لا يذكر المعتزلة إلا قال قبحهم الله.
وكان في النية أن أظل أزهريا، فقد انتقلت من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة لأكون مفتي الديار المصرية، ولكن أين أنا مما تصنع المقادير!
لقد شاءت المقادير أن تخلقني على طراز غير طراز القضاة والمفتين فنقلتني إلى الجامعة المصرية لأصبح من تلاميذ منصور فهمي وطه حسين، والله الحفيظ.
ومع ذلك ظللت معمما إلى أن ظفرت بإجازة الليسانس في العلوم الفلسفية والأدبية، سنة 1921 ثم أخذت أستعد لامتحان الدكتوراه، فبدا لي أن أصبح «أفندي» وكانت كارثة، لأني لم أكن أعرف تقاليد «الأفندية» الظرفاء، فقدمت ما عندي من «الجبب» إلى أحد الطرزية في شارع محمد علي فصنعوا منها بذلتين سخيفتين شهدتا بأني كنت مهندما في الجبة والقفطان ثم أصبحت أضحوكة في السترة والبنطلون.
وفي يوم امتحان الدكتوراه أوصاني الدكتور منصور فهمي بأن أحضر في البذلة السوداء، فلم أفهم المراد من البذلة السوداء، وحضرت ببذلة مكونة من لونين، لونين سخيفين كل السخف، ولولا فصاحتي وبلاغتي في ذلك اليوم لعدني الحاضرون من السفهاء، وكانت قوة حجتي في امتحان الدكتوراه هي الشاهد على صواب الكلمة المأثورة:
إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.
والرسالة التي قدمتها لامتحان الدكتوراه يومئذ هي كتاب «الأخلاق عند الغزالي» وقد جاء في ذلك الكتاب في فصل لا أدري ما هو لأنني نسيته أني قد أخلع العمامة وألبس الطربوش ولكني لا ألبس القبعة.
ذلك ما سجلته في كتابي، أيها الصديق.
ولكني لبست القبعة بعد ذلك بثلاث سنين حين هاجرت لطلب العلم في باريس سنة 1927.
ومن الغريب أني لم أصنع كما يصنع زملائي، وعهدي بهم يذهبون إلى البواخر بالطرابيش، وإنما لبست القبعة من منزلي في مصر الجديدة، فلم يعرفني المودعون، وفيهم الشيخ إبراهيم القاياتي - رحمه الله - وفيهم الشيخ علي مبارك الذي زاغ بصره ليعرف أين عمه الغالي، وكان يجهل أنه أصبح من الخواجات في محطة باب الحديد، ذلك تاريخ معروف، والمهم هو تسجيل لبس السدارة في بغداد وهنا أدخل في صميم الموضوع من الناحية الفلسفية فأقول:
إنني أعتقد أن الأخلاق الكريمة تقوم على أساس واحد : هو الاندماج المطلق في البلد الذي تعيش فيه، وحجتي في ذلك أن الحيوان الصالح للحياة هو الذي يأخذ لونه من الأرض التي يعيش فيها، وأدمة الغزال هي في الأصل من لون الصحراء، والربدة في الأسود والنمور هي اللون الغالب على الأرض التي يعيض فيها النمور والأسود، ولون الحوت من لون المحيط، والحرباء تمثل السياسة العالية في عالم الحشرات، لأنها تبيض وتسود وتخضر وتصفر وفقا لما تخالط من مختلف الألوان، فتسلم من عيون الأعداء.
وما أزعم أنني وصلت إلى هذا الحد من السياسة العالية، فما أقدر على الوصول إليه، وإنما أقرر بكل صراحة أن الأخلاق الصحيحة توجب أن تندمج كل الاندماج في الوطن الذي تعيش فيه، والغفلة هي التي تحدثك أن من العبقرية أن تنفرد عن القطيع، وبعض الجهلاء يظنون العبقرية في الشذوذ، وأنا بالفطرة أشعر بوجوب الاندماج في المجتمع، وهذا ما صنعت حين وصلت إلى بغداد.
وأعيذك أن تظن أنني كنت منافقا فيما صنعت، لا، فهناك سياسة أخرى أعرضها عليك:
أنا أعتقد أنه لا بد لحفظ الصحة والعافية من مراعاة الجو والمحيط ومن أجل هذا فكرت في أن ألبس ثيابا من صوف العراق قبل أن أصل إلى العراق، فلم أدخل بغداد إلا وأنا في ثياب صنع قماشها في بغداد، وكنت بحمد الله من الموفقين.
ومن عادتي أن أقرأ جرائد البلد الذي أعيش فيه، فقد كنت وأنا في باريس أعرف جرائد فرنسا كما يعرفها شبان باريس، وكان جيراني من الشبان الفرنسيين يسألونني رأيي في السياسة الفرنسية لأني كنت أعرفها أكثر مما يعرفون، وأنا اليوم أقرأ جميع الجرائد العراقية وأعرف سياسة العراق أكثر مما يعرفها الشبان العراقيون، وأجهل سياسة مصر كل الجهل، فكيف حالكم اليوم؟ حدثوني فقد نسيت.
وبمناسبة الأستاذ محمود عزمي أذكر أنني رأيته يلبس القبعة في بغداد، فعرفت أنه غير موفق، وليتكم تسمحون بأن أسجل أنني رأيته من أهل الجمود، لأن ما يصلح لجو باريس قد لا يصلح لجو بغداد، ولي أصدقاء مصريون لم يعجبهم كلامي فتركوا رؤوسهم عارية فلزمتهم عقابيل من برد العراق ستصحبهم طول الحياة.
والسدارة العراقية لباس جميل، ولكنني «أكبسها» على رأسي بعنف لأتقي بها البرد، وأرجو أن أكون قدوة لسائر أهل العراق.
والله خلقنا بلا شعر ولا وبر ولا صوف، ولكنه منحنا شعر الرأس لينبهنا إلى أن الرأس يستحق الحفظ، ومن أجل هذا كان الإنسان هو الذي يغطي رأسه من بين سائر الحيوان، ومن جهل هذه الحقيقة فسيموت قبل أوان الموت.
وأذكر أيضا أن هذه السياسة العملية توجب أن أسأل عن طعام البلد الذي أعيش فيه، فأنا في مصر من عشاق الملوخية والخبيزة والبلح الأمهات وضأن المنوفية، وكنت في باريس لا أعشق غير الألوان الفرنسية، ولا أذكر ما أسماؤها لئلا يسيل لعابك، وأنا في بغداد لا أوثر غير الأطعمة الأصيلة في بغداد.
وكنت في مصر أعشق العيون العسلية، وفي باريس كنت أعشق العيون الزرق، وفي العراق أعشق عيون الظباء، يظهر أنك غاير مني، تعرف شغلك.
وكنت في باريس أهرب من المصريين، وأنا في بغداد أهرب من المصريين، وما أكره مصر ولا أهل مصر، وإنما أحب أن أعيش في باريس مع أهل باريس، وفي بغداد مع أهل بغداد، ولو انتقلت إلى المريخ لما رضيت بغير صحبة أهل المريخ.
أما بعد فهذا درس ينفع، ولكن أين من يسمع؟
هذا هو السر في أنني أحببت أهل العراق، وأحبني أهل العراق، وستمر أجيال وأجيال ولا ينسى أهل بغداد أن مدينتهم عاش فيها رجل أحبها أصدق الحب اسمه زكي مبارك.
الفصل الثالث والخمسون
أهذا زكي مبارك أم هو جمال الأفغاني؟
أخي طاهر
اسمح لي أن أعتب عليك، فالعتاب صابون القلوب، كما يعبر أهل لبنان.
أنت طلبت مني صورتي بالسدارة، وقد راعيت معك الأدب، فلم أرسل إليك صورة شمسية، وإنما أرسلت إليك صورة رسمها السيد بهاء الدين الراوي أحد الفنانين بالعراق.
وإنما اهتممت بك لأسباب، أولها أنك صديق عزيز جدا، وإن كنت لا تعرف، وثانيها أنك موصل الأواصر بأصدقاء أعزاء منهم الأستاذ أميل زيدان والأستاذ فكري أباظة والأستاذ حسين شفيق، وثالثها أنك تقيم بحدائق القبة ذات الزهر والزيتون، ورابعها أنك تسير على قدميك في شارع قصر النيل وشارع فؤاد، وخامسها أنك تداعب الدكتور زكي مبارك من حين إلى حين.
ولكن هل تعرف أن مداعبتك الأخيرة كانت ثقيلة جدا؟
هل تعرف أنه ما كان يجوز لك أن تنشر صورتي وأنا طالب بالأزهر الشريف؟
ومعاذ الأدب أن أتنكر للأزهر وقد جلست على حصيره الممزق خمسة عشر عاما كما جلس محمد أبو شادي وإبراهيم الهلباوي وسعد زغلول، وهل يؤذيني أن أكون أزهري النشأة، وبفضل الأزهر وصلت إلى ما يعرف خصومي من التفوق في اللغة العربية، وبفضل الأزهر استطعت أن أصاول علماء النجف في بغداد؟
إنما آذاني وأرمضنى أن تذكرني بشبابي، فقد نشرت لي أربع صور في صفحة واحدة، كانت شاهدا على أني تنقلت رويدا رويدا من الشروق إلى الغروب.
واسمح لي مرة ثانية أن أصرح بأن حقدك على أخيك حقد قديم فأنت يا ظالم تريد أن تضيفني إلى طائفة الكهول، مع أني في نفسي وبشهادة ليلاي الغالية شاب رائع الشباب.
أكتب هذا وأنا أعرف أنك ستبتسم؛ لأن دسيستك جازت على قراء «الدنيا» وهي مجلة محبوبة لدي، لأني اشتركت في تحريرها مرات، ولأنها كانت أنيسي في طريقي إلى البصرة، وطن العلم والأدب والخيال.
إن الحقد له حدود يا طاهر، وكان الظن بذوقك أن تخفي عن قرائك صورتي يوم كنت طالبا بالأزهر الشريف، فهي صورة تشهد بأني كنت من أمراء الشباب، ولكن التعقيب بصورتي مسدرا في بغداد أزعجني، لأني رأيت أنني أصبحت شبيها بالمفكر العظيم السيد جمال الدين الأفغاني.
ولو شئت لقلت إن من الشرف أن تكون صورتي شبيهة بصورة جمال الدين، فأنا أصنع مثل الذي كان يصنع، أنا أحاول التقريب بين الأمم العربية والإسلامية، ولكني مع ذلك أتوجع لجنايتي على شبابي، وأشارك الشاعر الذي يقول:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
أخي طاهر
كنت سمعت أنك نشأت في دمياط، فإن كان هذا صحيحا فخبرني كيف خانك الذوق؟
ألم أعاتبك مرتين على ما كتبت في مجلة «الهلال» يوم قلت إني أجمع بين نشاط الشبان وحكمة الشيوخ.
خذ ما عندي من الحكمة، وأعطني ما ضاع من شبابي.
أخي طاهر، ولو شئت لقلت إنك غريمي.
اسمع يا أخي ويا غريمي
لقد تركت دنيا شبابك بلا ورق وبلا أغصان، ولن تدخل مكانا إلا وقد وطئته قدماي، وباريس التي تتشوف إليها لن تجد فيها مكانا لم يضج أديمه وأنا أدوسه بعنفواني فانتقم مني كيف شئت، فقد سبقتك إلى دنيا الحب والمجد بعزائم الرجال.
وإن طاب لك أن تصر على الاختيال بشبابك فسأصارعك في ميدان الجزيرة يوم أعود، لتعرف أينا الشاب وأينا الكهل، ولكن متى أعود؟ حدثني متى أعود؟ فقد طال شوقي إليك وإلى الإخوان الذين أتحداهم بقوتي وعنفواني في دار الهلال.
الفصل الرابع والخمسون
أحيتني بغداد
صديقي
تحيتي إليك وإلى السامرين السعداء في ملاعب القاهرة، وإلى الأصدقاء الكرام الذين رفعوا قدري بمزاحهم اللطيف في مجلات «الشباب والدنيا والإثنين وآخر ساعة والصباح» وتحيتي إلى مصر التي أمنحها البغض فتمنحني الحب.
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما بعد، فأنا أكتب هذه الكلمة والدمع في عيني، ولكن أي دمع؟ دمع السعداء، والسعداء يبكون كما يبكي الأشقياء.
أبكي من الفرح؛ لأني أخرجت كتابا في جزأين سيجعلني أبد الدهر على ألسنة أهل العراق.
أبكي من الفرح؛ لأن الله رعاني فكنت بفضل رعايته عند جميل الظنون، ومن الشرف الهائل أن يعرف قومي أني ظفرت بثقة الأكرمين من أهل العراق.
كان رؤسائي بوزارة المعارف المصرية يعرفون مذاهبي في الأدب والبيان، وكانوا يخشون أن أخلق لمصر أعداء في العراق، وقد نصحني الدكتور طه حسين بصدق وإخلاص، والدكتور طه - على حد تعبيره الجميل - أستاذي وزميلي وصديقي، ونصحني العشماوي بك، الرجل النبيل الذي يجعلني كرما ولطفا في منزلة ابنه رجاء، نصحني هذان الرجلان بالعقل، ونهياني عن مصاولة الأدباء في العراق.
فهر تراني انتصحت؟
لقد لزمت العقل أسبوعا واحدا، ثم أسلمت زمامي إلى الجنون.
وكيف لا يكون مجنونا من ينفق من الحبر أضعاف ما ينفق من الماء القراح؟
كيف لا يكون مجنونا من يحول تلاميذه إلى مؤلفين سينتهبون منه الميدان؟
كيف لا يكون مجنونا من يثير الناس عليه فلا يصبح ولا يمسى إلا وهو في حرب مع الجرائد والمجلات؟
ولكن الأعمال يا صديقي بالخواتيم، وليت أعمالي فيما بقى من دنياي تختم بمثل الذي ختمت به أعمالي في العراق.
لقد صاولت من صاولت، وعاديت من عاديت، ثم رجعت ورجعوا إلى كوثر الصفاء، وأي حظ أشرف وأفضل من أن يصرح أحد كبار الرجال بوزارة المعارف العراقية بأنه قرأ كتاب «عبقرية الشريف الرضي» في ليلة واحدة على ما فيه من الأبحاث الطوال، وعلى كثرة ما يعترض القارئ من غرائب الرموز ودقائق المعاني؟
إن الحب بين القارئ والمؤلف أمنية عزيزة في الأدب العربي، وقد أعانني الله فأبدعتها إبداعا، وإن طالت حياتي فسأقنع شبان العرب بأن أدبهم خليق بأن يشغلهم بأنفسهم وأهوائهم وأخلاقهم ومطامحهم، وأن أساتذتهم ليسوا أقل بصرا بالأدب والحياة من أساتذة السوربون.
لقد كوتني بغداد، ثم شفتني بغداد.
كوتني هذه المدينة، لأني عشت فيها محبوسا لا أدري أين أذهب، وقد تلطف الله فجعل للسيئات رقيبا واحدا، وأساءت بغداد فجعلت للسيئات ألف رقيب، وكذلك عشت فيها أسير الهواجس والوساوس فلم أنعم بغير الطيف، طيف الحب العذري بين ليلى وظمياء.
وشفتني بغداد، لأني أنست بسواد الليل حين فاتني الأنس بسواد العيون، فشرفت نفسي بمراسلة الصحف في مصر والعراق ولبنان، وخرجت من ذلك كله بمحصول أدبي سيملأ خمسة مجلات، وسيكون تذكرة باقية لفضل العراق.
قدمت بغداد وقد حقت علي لعنة المازني فهجرت الشعر إلى الأبد، وسأفارق بغداد وفي صدري قصيدة هي أعظم ما نظمت في حياتي.
قدمت بغداد في أسمال الأشقياء، وسأفارق بغداد وعلى رأسي تاج البيان.
ليت قومي يعلمون.
ليت قومي يعلمون أن كرم العراق فوق الأوهام والظنون.
ليت قومي يعلمون لأي الأسباب تظفر مصر بثقة العراق؟
الأسباب واضحة جدا، ولكن أين من يعرف؟
إن المصريين يفدون إلى العراق، وليس في صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيون، فإن سمعتم أن مصريا شقى في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف، ومصر يكثر في أهلها التزييف، مع الأسف الموجع، لأنها مجمع البحرين.
لقد صاولت العراقيين بلا تلطف ولا ترفق، وآذيتهم في بعض أحوالي أبشع إيذاء ، وظلوا مع ذلك إخوانا كراما، فكيف كنت وكيف كانوا؟
غزوتهم وأنا مخلص فرعوني وهم مخلصون.
استطلت عليهم باسم العلم الذي أدعيه فصبروا باسم العلم الذي يحسنون.
من أنتم يا أهل العراق؟ أتكونون من الملائكة؟ أتكونون من الشياطين؟
من أنتم؟ حدثوني من أنتم فقد خبلتموني؟
إن عاصميكم لا تساوي حيا واحدا من أحياء القاهرة، فما هو السحر الذي صرعتم به قلبي؟
لقد سحرتم أبا العلاء المعري وهو ضرير فظل طول عمره يتحدث عن فضائلكم وشمائلكم. فكيف أكون ولي بصر حاد أنعم الله به وتفضل؟ كيف أكون وأنا أشهد شقاءكم في الصباح ونعيمكم في المساء؟
كيف أكون وأنا أشهد شوارعكم تموج في النهار بالعاملين، وتموج في الليل بالعاشقين؟
عشت بينكم محروما يا أهل بغداد، وسأفارقكم وأنا محروم، فاذكروني بالشعر يوم أموت، وما أريد شعر القوافي وإنما أريد شعر الأرواح.
صديقي
هل سمعت بالمستحيل؟
عشت في باريس ما عشت، وكنت أصدق مصري عشق باريس، ولكني كنت أعد أعوامي في باريس، فكنت حين يقترب رجوعي إلى مصر أجرب السفر في كل مساء إلى محطة ليون، فكيف تراني في بغداد؟
أنا اليوم أتوجع كلما تذكرت أني سأفارق بغداد بعد أسابيع.
أنا أضطرب وألتاع كلما تذكرت أني سأفارق القيظ والغبار في بغداد.
أنا أشرق بدموعي كلما خطر بالبال أني سأرحل عن بغداد.
فهل تراني يا صديقي عشت عيش المنعمين في بغداد؟
لم أر في بغداد غير ظلام الليل.
لم أر في بغداد غير سواد المداد وبياض القرطاس.
لم أعرف كيف تصطرع الأهواء في بغداد، فما عصيت فيها ربي، وذلك أعظم الذنوب، فلولا المعصية لما ظفر الناس بأعظم نعمة من نعم الله وهي الغفران.
رباه! عاقبني بما شئت، فقد كفرت بالعيون السود، في وطن العيون السود.
رباه! اغفر ذنوبي، فقد وقعت في أعظم ذنب وهو الحرمان.
رباه! أنت تعلم أني لا أداري المنافقين، فنجني من شر المنافقين.
رباه! أنا أحب العراق، فاجعلني طول حياتي من المجاهدين في سبيل العراق، واحشرني يوم الحساب مع أهل العراق.
رباه! إن العراقيين رعوني وأكرموني فاجعلهم في الدنيا والآخرة من السعداء.
الفصل الخامس والخمسون
فاجعة بغداد
ما أعجب ما تصنع المقادير!
وهل كان يخطر ببال أحد أن أكتب آخر مقال في بغداد وأنا محزون؟
من كان يظن ذلك؟ لقد قضيت عامي كله فرحا مسرورا، أتنقل في أرجاء العراق من مدينة إلى مدينة، فوق أمواج الجذل والابتهاج، وألقى من عطف العراقيين ولطفهم ما يشرح الصدر ويؤنس الروح.
فكيف جاز أن تكون آخر أيامي في بغداد أيام أحزان؟
تلك ضريبة نؤديها راضين أو كارهين، فكذلك كانت الدنيا وكان الوجود. •••
في ضحى اليوم العشرين من شهر حزيران ذهبت إلى دار المعلمين العالية لمراجعة بعض الشؤون، فلقيني الدكتور عقراوي مذعورا وهو يقول: وقع اعتداء على الدكتور عزمي، فانزعجت وأسرعت لنجدته، وكان الظن أن يكون الاعتداء نوعا من التلاحي والسباب، ولكني ما كدت أجتاز باب كلية الحقوق حتى أفزعتني مناظر الدماء.
ودخلت إلى مكتب نائب العميد فرأيت الدكتور عزمي بخير، وجدته أصفر اللون ممزق الثياب، وهو يرتجف، فقلت: سلامتك يا دكتور، ماذا تجد وما الذي حدث؟
فأشار إشارة خفيفة فالتفت فإذا رجل مددت فوق بساط المكتب وهو مضرج بالدماء، رجل أخفى الدم معالم وجهه وكاد ينقله إلى حظيرة الأموات، ولكن صوته وهو يتأوه ويتوجع دلني على شخصيته فعرفت أنه الصديق الكريم الدكتور حسن سيف.
ما أنت يا دنيا؟ أرؤيا نائم؟
أم ليل عرس؟ أم بساط سلاف
نعماؤك الريحان، إلا أنه
مست حواشيه نقيع زعاف!
ذلك الدكتور سيف الذي قضى أيامه في بغداد وهو يعتب ويتلوم، لأني أنقطع عن زيارته، وأعق واجب الإخاء في السؤال عنه، ولا أراه إلا مصادفة في الطريق.
وكان الدكتور سيف هو وحده الذي يعتب ويتلوم من بين سائر الزملاء، فهل كان يشعر بأن الأقدار ستفرق بيننا بعد قليل؟
كان الدكتور سيف أخا كريما، فعند الله أحتسب فجيعتي في ذلك الأخ الكريم.
كنت أرتاب في أكثر المودات وأثق بمودة ذلك الصديق.
وما هي جريمته حتى يقتل وهو غريب؟
آه، ثم آه، لقد تذكرت.
تذكرت أن الله ابتلاه بحرفة التدريس كما ابتلاني، والتدريس حرفة صعبة قاسية لا يعرف أخطارها إلا الأقلون.
ولم تكن كذلك إلا منذ اليوم الذي وضعت فيه للتدريس قواعد وأصول، وأصبح من المفروض أن يمتحن الأستاذ تلاميذه ليحكم لهم أو عليهم، والتلاميذ كما عرفتهم في مصر وفي العراق لا يرضون أبدا عن أساتذتهم، فإن نجح طالب فنجاحه لم يقع إلا بفضل المحاباة، وإن رسب فرسوبه لم يقع إلا بسبب المعاداة، والأستاذ في جميع أحواله مظلوم، لأن التلاميذ في أغلب أحوالهم صغار، لا يرون الحق والباطل إلا في ضوء المنافع الشخصية.
والرصاصة التي تلقاها الدكتور سيف في دماغه أقل خطرا من كلمة السوء التي يتلقاها غيره من الأساتذة، فكم في الدنيا من أساتذة وصموا بأقبح الوصمات؛ لأن لهم تلاميذ ساقطين يذيعون عنهم الإفك والبهتان. •••
وجاء الإسعاف فنقل الدكتور سيف إلى المستشفى الملكي، وبقيت مع الدكتور عزمي أواسيه، فأخبرني أنه تلقى رصاصة في كتفه، وأنه يخشى العواقب - لأنه مريض بالبول السكري - فقدمت له سيجارة فرفض، فقلت: هي تلهية تنسى بها قليلا همومك فلم يستطع أخذها بيديه، ومد فمه للسيجارة فعرفت أن الرجل يتكلف في ترضيتي مالا يطيق.
وبعد لحظات أخذته في عربة إلى المستشفى الملكي، وأدخلته إلى حجرة الإسعافات، ولكنه ما كاد يجلس حتى غلبه البكاء. •••
كنت أصدق كل شيء، ولكني كنت أنكر أن يبكي الأستاذ محمود عزمي من الجزع، هذا رجل له خصوم وله أنصار، وقد أسرف في الحب وفي البغض، فما الذي مر بخاطره في تلك الحظة حتى غلبه الدمع؟
لعله تذكر أطياف ما لقى من الشقاء في دنياه، فهذا الرجل لم يعرف معنى الهدوء منذ ثلاثين عاما، وهو قد انتقل من ميدان إلى ميادين، وظل يكافح ويناضل حتى عرف أخيرا أن في الدنيا شيئا اسمه الرصاص!
ما أذكر أبدا أني أحببت الأستاذ محمود عزمي، فقد اصطدمت به في القاهرة في أعقاب الثورة المصرية، واصطدمت به في باريس واصطدمت به في بغداد، ولكني لم أخل يوما من العطف عليه، فهو رجل مكافح يستحق الإعجاب، ونكبته في بغداد توجب الأسف، لأنها أثر من آثار الحيوية الذاتية التي امتاز بها هذا الرجل الجوال. •••
وجاء الطبيب الشرعي فشخص جرح الدكتور عزمي، وبدا لي أن التشخيص خطأ، ولكني لم أعترض، وبعد لحظات حملته نقالة إلى حجرة الاستراحة، وكان يستطيع أن يمشى على قدميه، ولكن غلبه الإعياء.
ونظرت فرأيت معالي وزير المعارف الأستاذ محمد رضا الشبيبي، ومدير المعارف العام الأستاذ طه الراوي، ومدير التربية والتدريس الدكتور فاضل الجمالي والمفتش العام الأستاذ يوسف عز الدين، فجلسنا جميعا ننتظر رأي الأطباء في مصير الدكتور سيف.
ولم يكن بد من أن نتحدث، فاقترحت على معالي وزير المعارف أن يغير مواعيد الامتحان، وأن يجعلها في الشتاء لا في الصيف، وقلت: إنني اقترحت ذلك على وزير المعارف المصرية منذ سنتين، والحر في مصر يقتل أعصاب الشبان، فكيف ترونه يصنع بشبان العراق؟ إن الحر في مصر يحمل الطلبة على قتل أنفسهم عند الرسوب في الامتحان، وهو في العراق يحمل الطلبة على قتل أساتذتهم وقتل أنفسهم كما وقع للطالب الذي قتل نفسه بعد أن ضرب أستاذين.
وعندئذ قال الدكتور الجمالي إنه يدعو إلى هذا الرأي منذ سنتين.
وجاء كبير الأطباء فأخبرنا أن الدكتور سيف قد لا يعيش.
وانصرفنا منزعجين، وحملني الأستاذ طه الراوي في سيارته إلى وزارة المعارف وأخذ يعاتبني على ذنب جنيته، وهو أني اعتذرت عن مواصلة العمل بدار المعلمين العالية في العام المقبل بدون أخذ رأيه، ثم قال: لقد قضيت يومين وأنا مبلبل الخواطر بسبب فراقك، ولم أكن أعلم أن الدنيا ستفجعني بما هو أشد من فراقك، وأخذ يبكي بكاء أليما.
وشرعت أواسي الأستاذ طه الراوي كما واسيت الأستاذ محمود عزمي.
فمن أنا في دنياي؟! وماذا عندي من العافية حتى أواسي المجروحين والمحزونين؟ وهل رأى الناس قبلي إنسانا يحترف الطب وهو عليل؟
ثم ذهبت إلى المستشفى الملكي لأعود الدكتور عزمي فرأيت من المحرم أن يدخل إنسان عليه، فرجعت إلى منزلي وأنا مفطور القلب محزون.
ما تغديت ولا تعشيت في ذلك اليوم، وطرق بابي طارق ومعه خطاب ينتظر جوابا، فقرأت الخطاب مرة ومرتين ومرات، ولم أفهم غرض الكاتب، وكذلك فهمت أن التجلد لم يمنع من أن يهد الحزن بنياني.
أما بعد، فقد تكون لهذه الفاجعة عقابيل.
ولكن من واجبي نحو وطني أن أعلن جهرة أن هذه الفاجعة لا يجب أن تفسد ما بين مصر والعراق من الصلات الثقافية.
فالطالب الجاني كان مريضا، وقد ضعفت أعصابه تحت تأثير المرض والقيظ، فجنى ما جنى وهو غير مسئول، ثم قتل نفسه بعد ذلك.
أشهد صادقا أن مصر لها في قلوب أهل العراق أجمل مكان.
وأشهد صادقا أني لم أر من أهل العراق غير الجميل.
وأشهد صادقا أن حكومة العراق وجمهور أهل بغداد عزونا في هذه الفاجعة أجمل عزاء.
وأشهد صادقا أن العراقيين إخوان أعزاء لا يضمرون لنا غير الحب والعطف والوداد.
ودموع الأستاذ طه الراوي، وجزع معالي الأستاذ الشبيبي وحزن فخامة السيد جميل المدفعي رئيس الوزراء، هي الشاهد على صدق ما أقول إن أهل العراق يعيشون منذ أجيال في مآتم وأحزان.
فما الذي يمنع من أن تمتزج دموعنا بدموعهم؟
لنا في العراق شهيد؟ وهو كذلك، فنحن والعراقيون إخوان، مالقيني إنسان بعد هذه الفاجعة في بغداد إلا قال: «ما عسى أن يقول فينا المصريون؟»
فكنت أجيب: لن يقول المصريون فيكم شيئا يا أهل العراق، فتلك أقدار قضت بما قضت، ولا يثور على الأقدار إلا غافل أو مخبول.
أيها العراقيون
إن همومكم من همومنا، وأحزانكم من أحزاننا، وقد شاء الله أن يجمع بيننا وبينكم رباط من الحزن والدمع، وهو رباط وثيق، وقد تفردت مصر بأن يكون لها في أرضكم شهيد، فارعوا هذا العهد فهو أصدق العهود.
أيها العراقيون
ثقوا تمام الثقة بأننا نحبكم، ونعطف عليكم، ونتمنى لكم الخير والعافية.
ثقوا بأن مصر لا يؤذيها أن يموت في عاصمتكم أحد أبنائها الأوفياء.
ثقوا بأن مصر يسرها ويرضيها أن يقال إنها اتصلت بكم بسبب من الدماء.
أيها العراقيون
هل تذكرون قول شاعركم المتنبي؟
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
فأفعاله اللائي سررن ألوف
إن ذكرتم هذا البيت فنحن نذكر أنكم إن كنتم أسأتم إلى واحد فقد أحسنتم إلى ألوف، وما أسأتم إلى أحد منا، وإنما أساء شاب مسكين بكينا عليه حين رأينا أهله يصرخون ويولولون.
إن من الجريمة أن تنسب هذه الجريمة إلى أهل العراق.
هي جريمة فردية يسأل عنها جانيها المسكين الذي قتل نفسه بلا ترفق، هي سحابة صيف سيعقبها الصحو والصفاء.
أيها العراقيون
لقد ساءني أن تنزعج صحافتكم وأنديتكم على سمعتكم القومية، فاسمحوا لي بأن أعتذر عنكم وأن أصرح بأن لله حكمة في مستور الغيوب.
وقانا الله وإياكم شر الفتن، وهدانا جميعا إلى سواء السبيل.
الفصل السادس والخمسون
مكانة مصر في العراق
كانت حادثة كلية الحقوق في بغداد مثارا لكثير من الأقاويل والأراجيف حول التعاون العلمي بين مصر والعراق، وقد ظن فريق من الناس أن تلك الحادثة تقطع ما بيننا وبين ذلك القطر الشقيق من متين الصلات، ومن أجل ذلك أصبح من الواجب على من عرف عواطف العراقيين نحو إخوانهم المصريين أن يشرح جانبا من تلك العواطف السامية، وأن يزيل ما قد يلحق بعض النفوس من كدورة وجفاء.
لقد أقمت في العراق نحو تسعة أشهر، ورأيت أكثر الحواضر العراقية، وطوفت بكثير من أرجاء الريف العراقي، وصادقت في العراق من صادقت، وخاصمت من خاصمت، وحييت بينهم حياة لا تكلف فيها ولا تصنع، كما كنت أحيا في بلادي، واشتركت في كثير من المجادلات والمشاغبات، فكان لي من ذلك كله فرص ثمينة أعرف بها حقائق العواطف عند أولئك الرجال، وقد صح عندي بالخبرة واليقين أنهم أصدقاء أوفياء يرعون العهد ويحفظون الجميل.
والحادث الأخير محنة، ولكنها محنة أراد الله أن يختبر بها قلوبنا وقلوبهم، فالصداقة نوع من الإيمان تصقله الحوادث والخطوب، فمن كان جزع من هذا الحادث الأليم فلينتظر قليلا، فقد يكون هذا الحادث امتحانا إلهيا تريد به الأقدار أن ترينا مبلغ ما في أنفسنا من استعداد لمقاومة المكاره والصعاب.
وأقول بصراحة إن الصداقة كالعداوة لها متاعب وتكاليف، ونحن عقدنا أواصر المودة بين مصر والعراق، فليكن من واجبنا ومن واجبهم أن نحرس هذه المودة وأن نقيها مكاره التقول والبغي والإسفاف، وهذا الحادث فرصة نعرف بها كيف نصلح للتعاون وكيف نقدر على احتمال المصاعب، وكيف نفهم الأشياء على وجهها الصحيح بلا تحريف ولا تزييف.
والذي يهمني في هذا المقال أن أشير إلى بعض الشواهد التي تبين مكانة مصر في العراق فأقول:
يدخل الزائر بغداد فيسمع أول ما يسمع أغاني مصر، ويقرأ أول ما يقرأ أخبار مصر، ويروعه أن يرى المجلات المصرية أهم غذاء عقلي لجماهير الناس هناك، فإذا اتصل بأحد الأندية أو دخل إحدى المدارس رأى الجدل حول أقطاب الأدب في مصر وسمع المفاضلات والموازنات بين الشعراء والكتاب والمؤلفين، وأحس إحساسا قويا بأن رجال مصر يحلون من قلوب أولئك الرجال أكرم مكان.
وفي أكثر البيوت العراقية نجد صورا مختلفة لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر، ونجد صورا للزعماء المصريين من مختلف الأحزاب، وتشعر بأن مودة العراق لمصر أصيلة لا يشوبها تكلف ولا افتعال.
وإذا وقع في مصر حادث سياسي أو اجتماعي أو أدبي كان اهتمام العراقيين به عظيما جدا، ولا أبالغ إذا قلت إن المصري قد يراهم يعرفون من أخبار بلاده أكثر مما يعرف، وقد يراهم اطلعوا على مالم يطلع عليه من المؤلفات المصرية، وذلك لا يقع من باب المصادفات وإنما هو دليل على محبة أكيدة يضمرها لنا أولئك الأصدقاء الأعزاء، وهل يمكن أن يسود التجاوب الأدبي إلا بين أمم يعطف بعضهم على بعض ويتبادلون أواصر المحبة والإخلاص؟
أرجو القارئ أن يطمئن إلى أني لا أكتب هذا الكلام لتهدئة الخواطر بعد الحادث الذي وقع، وإنما أريد أن أؤكد حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد، وهي أن مكان مصر في العراق مكان مرموق، وأن لمصر في العراق ذخيرة من الثقة والمحبة يجب أن نحرص عليها أشد الحرص.
وقد يتفق في بعض الأحيان أن يشعر بعض المصريين في العراق بشيء من الضجر والاستيحاش، وهذا يرجع في الأغلب إلى سبب واحد: هو أن المصري في أكثر أحواله يتضجر من الاغتراب، وقد وقع لي شيء من هذا في الأيام الأولى من حياتي في بغداد، ثم شاء الله أن أقيم لنفسي صلات من المودة مع كثير من أهل العراق، فبدل الله وحشتي أنسا، وشاع السرور في نفسي، ولم أفارق بغداد إلا وأنا دامع العين مفطور الفؤاد.
ليت قومي يعلمون كيف يحبهم أهل العراق؟
ليت قومي يعلمون كيف يفرح أهل العراق لفرحهم، وكيف يحزنون لحزنهم؟
ليت قومي يعلمون كيف تسير أنباؤهم في بغداد والحلة والموصل وكركوك والنجف وكربلاء والبصرة، وما إلى هؤلاء من حواضر العراق؟
ليت قومي يعلمون كيف تسود مجلاتهم ومؤلفاتهم وأناشيدهم في مضارب العشائر، وكيف تكون أغانيهم راح السامرين على شواطئ دجلة والفرات.
إن العراقيين يحبوننا أصدق الحب، فليعرفوا جيدا أننا نحبهم ونتمنى لهم كل خير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق.
وستذكر مصر أن العراق وثق بها، واطمأن إليها، وتطلع إلى أخبارها تطلع الصديق المشغوف. ستذكر مصر أن العراق رآها أهلا لحمل الأمانة العلمية فمكنها من غرس أصول الثقافة الحديثة في رحاب دجلة والفرات.
وسيذكر العراق أن مصر كانت عند ظنه الجميل فلم ير من أبنائها غير الصدق والإخلاص والوفاء، ويرحم الله من قال:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
رب ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صبا إذا غنى بكم
شرب الدمع وعاف القدحا
الفصل السابع والخمسون
نهضة التعليم في العراق
صديقي
سألتموني أن أكتب كلمة عن نهضة التعليم في العراق وعن تأثير مصر في تلك النهضة وما ينطوي عليه من المعاني.
وأجيب بأن التعليم في العراق يتقدم تقدما سريعا، والأمة العراقية في هذه الأيام تتطلع إلى حفظ مكانتها الأدبية والعلمية بين الأمم الحية، وفي وزارة المعارف العراقية رجال أكفاء يصلون النهار بالليل في درس مناهج التعليم ، والتفكير في تحقيق المستقبل العلمي والأدبي لتلك البلاد.
ومن الواضح أن العراق له ماض مجيد في الميادين العلمية والأدبية وهو يجاهد جهاد الأبطال ليكون في حاضره ما يذكر بماضيه، وهو اليوم يرسل البعثات العلمية إلى مصر وإلى غير مصر ليعد فريقا من أبنائه للأستاذية الصحيحة التي تعرف مطالب العصر الحديث، ولن تمضي أعوام حتى نسمع بأن بغداد استردت مجدها العلمي والأدبي في عصر بني العباس، وليس ذلك بعزيز على الأشبال في دجلة والفرات.
وقد ظهرت بواكير ذلك الأمل المنشود، ففي العراق لهذه الأيام معاهد كثيرة ابتدائية وثانوية وعالية، وسنسمع قريبا أن حكومة العراق قررت إنشاء (الجامعة العراقية) وهو حلم جميل دعوت إليه مرات ومرات، وسيحقق بإذن الله فما يمكن أن تعيش بغداد بلا جامعة وهي التي أذاعت علوم المعقول والمنقول في المشرقين، وإليها يرجع أكثر الفضل في نشر علوم اللغة والدين.
ولو شهدتم شواهد التشجيع للمعلمين والمتعلمين في العراق لرأيتم المعجب والمطرب، ففي أكثر الحفلات المدرسية يحضر الوزراء والنواب والأعيان، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن يتفضل حضرة صاحب الجلالة الملك غازي الأول بحضور بعض الحفلات تشجيعا للحياة العلمية والأدبية.
أما نصيب مصر في نهضة التعليم بالعراق فهو يشرفها كل التشريف وأهل العراق يذكرون مصر بالخير ويثنون على جهود أبنائها في بلادهم أطيب الثناء.
ولا بد في هذا المقام من النص على بعض الأسماء التي نهضت بالتعليم في العراق، وأول هذه الأسماء هو الأستاذ محمد عبد العزيز وهو رجل لم أسمع اسمه إلا من أفواه الأساتذة بالعراق، هو رجل يجهله المصريون ويعرفه العراقيون، وقد حدثني الدكتور فاضل الجمالي بأن هذه الرجل سيسجل اسمه حتما في اليوم الذي يوضع فيه تاريخ لنهضة التعليم الحديث بالعراق.
ولا يمكن نسيان الأستاذ عبد الرازق السنهوري فقد كان له فضل كبير في تنظيم كلية الحقوق.
وللأستاذ الزيات والدكتور عزام سيرة عطرة عن ألسنة الرجال هناك.
وحيثما توجهت رأيت آثار الأساتذة المصريين في تلك البلاد، وفيهم جنود مجهولون لا يعرفون غير الواجب، وهم جمهور من المدرسين في المتوسطات والثانويات.
وتأثير مصر في العراق لا يقتصر على التدريس فهناك ألوف من العراقيين يتصلون بمصر اتصالا علميا عن طريق التأليف، فالمؤلفون المصريون لهم تلاميذ أوفياء بالعراق، ولا يصدر في مصر كتاب جيد إلا كان أهل العراق أول من يطلعون عليه، وهم يتابعون الثقافة المصرية بشغف وشوق، ولهم موازين يعرفون بها أقدار النوابغ من الشعراء والكتاب والمؤلفين.
وكذلك الحال في الصحافة المصرية فهم يطلعون على ما يصدر في مصر من جرائد ومجلات، وكلما كانت المجلة قوية كان اتصالهم بها أشد، والمجلات الجدية تقدم عندهم على المجلات الهزلية، بخلاف ما قد يقع عندنا في بعض الأحيان.
وقد درست هذه المسألة وأنا في بغداد وأخذت إحصائيات عن توزيع المؤلفات والمجلات، فصح عندي بعد التحقيق أن أهل العراق يؤثرون المطبوعات التي يغلب عليها التعمق، وليس معنى هذا أنهم ينفرون من الفكاهات، ولكن معناه أنهم لا يقبلون على الأدب الخفيف إلا بعد التزود من الأدب الرزين.
فإن سألتم عن مصير التعاون العلمي بين مصر والعراق فإني أجيب بأنه سيزداد من يوم إلى يوم، ولكن ذلك الازدياد يتوقف على فهم مصر لقيمة الأمانة العلمية، وهذه الأمانة توجب التواضع ونسيان الذات، هذه الأمانة توجب أن يفهم المصري أنه ليس غريبا في العراق، فأهل تلك البلاد يؤذيهم أن نشعر في بلادهم بالغربة، لأنهم في الواقع أهل وأحباب.
وقد اتفق لي أن كتبت رسالة وجدانية بعنوان (القلب الغريب في ليلة عيد) فعاتبوني عليها مرات كثيرة وساءهم أن أقول إني في بلدهم غريب.
والعراق يثق بمصر ثقة عظيمة، ولهذه الثقة أثمان يجب أن يؤديها المصريون، والمصري لا يحتاج إلى مجهود كبير ليظفر بمحبة أهل العراق فيكفي أن يكون رجلا أمينا يعرف الواجب ولا يتدخل فيما لا يعنيه من شؤون تلك البلاد.
وأعتقد أن الاتصال بالعراق ينفع أجزل النفع، فهو يقوي روح العروبة ويغرس معنى التضحية ويصل الرجل بأصول الشهامة والنبل.
ولو كان بيدي شيء من الأمر لفرضت أن لا يعين في مصر وزير للخارجية إلا بعد أن يثبت أنه رجل زار الأقطار العربية وعرف ما يجب أن يقوم بيننا وبين تلك الأقطار من صروح المحبة والوداد.
ومستقبل مصر بين الأمم العربية مرهون بفهم هذه الحقائق، وظفر مصر بمحبة الأمم العربية هو في ذاته مغنم عظيم لا يزهد فيه إلا غافل أو جهول.
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعا إلى سواء السبيل.
الفصل الثامن والخمسون
مصر والبلاد العربية
خطبة المؤلف في حفلة تكريمه بالقاهرة
أيها السادة
أشكر لأدبكم وكرمكم التفضل بالحضور للتسليم على صديق كان اغترب مدة في سبيل خدمة العلم بالعراق.
وأعتذر عن كلمة «اغترب» وأقترح حذفها من المعجمات، فهي كلمة تفردت بها اللغة العربية، ولا يكاد يوجد لها نظير في اللغات الأجنبية، وعن لغة العرب نقلت إلى الفارسية والتركية، وهي كلمة حزينة يتمثل سوادها في كلام من يقول:
وكل محب قد سلا غير أنني
غريب الهوى يا ويح كل غريب
وفي كلام من يقول:
أنا في الغربة أبكي
ما بكت عين غريب
لم أكن يوم خروجي
من بلادي بمصيب
عجبا لي ولتركي
وطنا فيه حبيبي
ولي مع هذه الكلمة الحزينة تاريخ، فقد سببت أول معركة أدبية شهدتها في العراق، ذلك بأني كنت نشرت مقالا في مجلة الرسالة عنوانه: «القلب الغريب في ليلة عيد».
فعز على أدباء العراق أن أقول إني في بلدهم غريب، ودار الجدل أشهرا حول ذلك المقال في الجرائد والمجلات.
والحنين إلى الوطن مرض لا يصيب غير الضعاف في عالم الإنسان والحيوان، فأرجو أن يكون فينا من القوة ما يعصمنا من هذا المرض العضال.
أما ما كنت غريبا في العراق، وإنما كنت بين أهلي وقومي، وإذا صح للمصري أن يشعر بالغربة وهو في وطن عربي مثل العراق، فماذا ترونه يصنع لو هاجر إلى بلد في استراليا أو في إحدى الأمريكتين؟!
لقد آن للمصري أن يبرئ نفسه من ذلك المرض الذي يقضي بأن يتوجع حين تنقله الحكومة من القاهرة إلى حلوان، آن للمصري أن يفهم أن في دمه روحا عربيا يسوقه إلى الانتقال من أرض إلى أرض في سبيل المنافع العلمية والأدبية، آن للمصري أن يفهم أن رجولته لا تكتمل إلا إذا واجه المصاعب واستطاع أن يخلق لنفسه ولوطنه أصدقاء في مختلف البلاد.
وما أقول إني كنت أقوى من سائر الزملاء الذين تشرفوا بخدمة العلم في العراق، وإنما أقول إني رضت نفسي على التخلق بأخلاق أسلافنا من العرب، فرأيت الأرض كلها وطنا أصيلا، ولم تجر كلمة الغربة على لساني إلا تأثرا بالميراث الحزين الذي قضى بأن تنفرد لغتنا بكلمة «غريب» من بين سائر اللغات.
ولما زار سعادة العشماوي بك مدينة بغداد دعا الأساتذة المصريين لسماع ما قد يكون عندهم من مقترحات أو شكايات، فمضيت أبحث عمن أعرف منهم لأصدهم عن حضور ذلك الاجتماع، فقد كنت أحب أن لا يكون بيننا وبين حكومة العراق وسيط، ولو كان ذلك الوسيط هو العشماوي بك الذي أحب العراق وأحبه العراق.
إن صداقتنا للعراق لا تزال في أول عهد من عهود التكوين، وهي لا تزال في حاجة شديدة إلى من يحرسها ويرعاها، وهي تستحق الحراسة والرعاية، لأنها رباط بين أمتين كانت بينهما صلات ودية من أقدم عهود التاريخ.
ولا يعرف قيمة هذه الصداقة إلا من زار العراق، فأهل العراق بمودتهم المتينة يبعثون فينا شعور الثقة بالنفس، ويفرضون علينا أن نؤمن بأن جهادنا في سبيل العلم والمدنية لن يضيع.
أهل العراق منا ونحن منهم، ولو نطقت الأحجار لحدثتكم أن علماء العراق اتصلوا بمصر ونقلوا إليها علومهم ومعارفهم يوم أراد التتار أن يقوضوا حضارة بغداد، ولعل هذا هو السبب في أن مخارج الحروف لا تتفق بين أمتين عربيتين كما تتفق بين مصر والعراق.
أهل العراق منا ونحن منهم، فالمؤلفات القديمة في معاهد مصر هي في الأغلب عراقية، والمؤلفات الحديثة في معاهد العراق هي في الأكثر مصرية.
فأرجوكم بالله أن تكونوا جميعا أنصارا للأخوة التي تربط بين مصر والعراق.
وقد عجب بعض الناس حين رأوني أتصدى لدفع الأذى عن سمعة العراق، فاعرفوا إن شئتم أني أدفع عن مصر دينا ثقيلا، فأهل العراق في أنديتهم وجرائدهم ومجلاتهم ومدارسهم يدفعون عن مصر قالة السوء ويخاصمون في سبيلها كثيرا من الناس، ولو عرفتهم من ذلك بعض ما عرفت لرأيتم أن من القليل أن ينهض كاتب أو كاتبان للإشادة بفضائل أهل العراق.
إن القاهرة تقوم في العصر الحديث بالواجب الذي كانت تقوم به بغداد في عصر بني العباس، فمن واجب القاهرة أن تحمل من التكاليف ما حملت بغداد، بل من واجب القاهرة أن ترحب بمطلع اليوم السعيد الذي يقضي بأن يكون لها في الشرق منافس قوي هو بغداد، فتفرد القاهرة بالزعامة الأدبية قد يضر أكثر مما ينفع، لأن التفرد بالتفوق قد يخلق عيوبا أيسرها الزهو والخيلاء والاطمئنان إلى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقد بدأت هذه العيوب تظهر مع الأسف، فأهل مصر شغلتهم ثقافتهم التي اتسعت وتشعبت عن التطلع إلى ما يبدع أهل الأدب في العراق وسورية ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والجزائر وتونس ومراكش، وما إلى هؤلاء من البلاد العربية، وانصراف أهل مصر عن الأدب في تلك البلاد يحجبهم عن تطور الحياة في أقطار حية سيكون لها بإذن الله مكان بين الأقطار التي تسود العالم في المستقبل القريب.
ومن الواجب في مقامي هذا أن أوجه أنظاركم إلى حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان، تلك الحقيقة هي أن مصر تنفرد بالسيادة العقلية في البلاد العربية، فمؤلفات مصر ومجلات مصر ليس لها مزاحم يخشى خطره في تلك البلاد، وشعراؤنا وكتابنا هم الذين يقدمون الغذاء الأدبي لجمهور المتعلمين في الأقطار العربية، وبفضل إقبال أولئك الإخوان على مؤلفات مصر ومجلات مصر استطاعت اللغة العربية أن تقف على قدميها بجانب اللغة الفرنسية واللغة الانجليزية، فاللغة العربية هي اليوم لغة حية حقا وصدقا، وهي تكافح وتناضل لتسيطر وتسود، وما كان من الغريب أن تسيطر اللغة العربية في أقطار كتب الله أن تستعرب منذ أجيال، ولكن فساد الزمن وتوالي الأحداث والخطوب جعل سيادة اللغة العربية في بلادها من الغرائب، فلنفهم ذلك ولنواصل الجهاد، ولنعرف أن من أعظم الشرف أن نكون في الحياة من المجاهدين، ولنتذكر دائما أن انتصار اللغة العربية في أوطانها هو البشير بأن تلك الأوطان تستعد من حيث تشعر أو لا تشعر لحياة مجيدة سترون أعلامها بعد حين.
وإخواننا العرب يعجبون من تفرد مصر بالتفوق في اللغة العربية ، فإن أذنوا شرحت لهم بعض أسرار ذلك التفوق، فمصر هي الأمة الوحيدة التي استعربت استعرابا تاما، وصارت العربية لغتها الرسمية والقومية في مدة ترجع إلى ثلاثة عشر قرنا، وهذا حظ لم يظفر بمثله المغرب ولا الشام ولا العراق، فما انقرضت اللغة البربرية في المغرب ولا اللغة السريانية في الشام ولا العبرانية في فلسطين ولا اللغة الكلدانية في العراق، وإنا لنرجو أن يكون لمصر يد بيضاء في رجوع اللغة العربية إلى بلاد فارس بفضل المودة الجديدة التي أنشأتها المصاهرة الملكية بين مصر وإيران، فمن المؤكد أن قادة الرأي في تلك البلاد سيراعون عواطفنا مشكورين فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير كما فعل إخواننا الأتراك سامحهم الله حين استبدلوا الحروف اللاتينية بالحروف العربية.
وقد وقع بيني وبين سفير إيران في العراق عتاب حين رأيته أول مرة في بغداد، ولم أكن أعرف أن الله سيخلق بيننا وبينهم صلات جديدة تجعل من الحق علينا أن نذكرهم بماضيهم الجميل في خدمة القرآن يوم كان منهم كبار النحاة وكبار اللغويين.
إن فرنسا لها مدرسة في طهران لنشر اللغة الفرنسية بين أهل إيران، فمتى يجيء اليوم الذي تقوم فيه مدرسة عربية في وطن الجرجاني والتوحيدي وابن العميد؟
لقد ألفت كتاب «النثر الفني» أول مرة باللغة الفرنسية وأنا في باريس، وكان قلبي يفيض بالحزن الدامي كلما تذكرت أن أكثر من تحدثت عنهم في كتابي كانوا رجالا نشأوا في بلاد فارس، وأن لغة العرب في تلك البلاد صارت غريبة الوجه واليد واللسان.
وكذلك كان حالي حين ألفت كتاب «التصوف الإسلامي» فقد رأيت أن أطيب أرواح التصوف هبت علينا من الأقطار الفارسية.
فيا أصدقاءنا الأعزاء في إيران تذكروا، ثم تذكروا، تذكروا وأنتم مسلمون أبرار أن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة الرسول، وتذكروا أن الأمم العربية لها في العالم السياسي والأدبي والاقتصادي موازين، وأنها خليقة بأن تزيدكم قوة إلى قوة حين تراكم ترحبون باللغة العربية التي كان لها في بلادكم أبناء وأحفاد وأسباط.
أيها السادة
تلكم مكانة مصر بين الأمم العربية والإسلامية، وذلكم حظها بين الممالك والشعوب، وهذا التجاوب الأدبي بيننا وبين من نعرف ومن لا نعرف لم يقع من باب المصادفات، وإنما هو علامة حب صادق يضمره لمصر من عرف فضلها من الرجال.
وأخشى والحزن يفعم قلبي أن يكون ما ظفرنا به من المجد الأدبي ميراثا تلقيناه عن أجدادنا النبلاء الذين ملأوا الدنيا بالتأليف والتصنيف وجعلوا مصر تاجا تزدان به هامة اللغة العربية، أخشى أن لا تكون لنا سياسة مرسومة تفكر دائما في حفظ مكانة مصر بين الأمم العربية، أخشى أن نجهل نعمة الله علينا فننسى أننا أغنى الأمم العربية بالأموال والرجال، أخشى أن لا نعرف أن الجهاد في سبيل اللغة العربية هو مجد أبقى على الزمن من الأهرام ومن قصر الكرنك وقصر أنس الوجود.
إن اللغة العربية هي التي ستجعل لنا لسان صدق في الآخرين، وهي التي ستسطر محامدنا على جبين الزمان.
والذي أدعوكم إليه هو تجارة لا تعرف غير الربح.
فإن كنتم في ريب من ذلك فسيروا في الأرض وانظروا كيف تذكر مصر بالحمد والثناء.
إنني أفرض زيارة الشرق على رجلين: الأول وزير المعارف، والثاني وزير الخارجية.
أما وزير المعارف فهو اليوم معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، وليته كان في بغداد كما كنت في بغداد يوم ظهر كتابه عن منزل الوحي، ليته كان هناك ليرى كيف استقبل البغداديون كتابه بموكب لم يعرفه القاهريون، وأما وزير الخارجية فهو اليوم دولة عبد الفتاح يحيى باشا، وليته يرى كيف يأنس أهل بغداد إلى صوره الكاريكاتورية في الجرائد والمجلات، إنه لو رأى ذلك لعرف أن مصر لا تعيش وحدها وإنما تعيش في أنس بأصدقائها في الشرق.
ولن أنسى اليوم الذي زرت فيه نادى المعارف في بغداد مع سعادة الأستاذ طه الراوي فقد رأيت مكتب رئيس النادي يزدان بصورتين كريمتين صورة الملك فاروق وصورة الزعيم سعد زغلول.
ولما زرت النجف أراد أدباؤه أن يقدموا إلي هدية فكانت تلك الهدية هي صورة الرجل الموفق محمد العشماوي بك وكان قد زار النجف واستقبل فيه أكرم استقبال.
ولما زرت الموصل رأيت رئيس نادي الجزيرة أحد تلاميذي القدماء فأحسست أني في داري وبين أهلي.
فيا أهل مصر متى تعرفون نعمة الله عليكم؟ ومتى تؤدون للأمم العربية واجب الوفاء؟
إن الذي كتب أن تكون عاصمتكم عروس الشرق هو وحده القادر على أن يجعلكم أهلا لرعاية العهد وحفظ الجميل.
Page inconnue