ولما كان علم الأخلاق هو علم السلوك مطلقا فليس موضوعه إذن البحث في نوع خاص من السلوك ولا غاية بعينها من تلك الغايات، وإنما يبحث عن الغاية القصوى التي تتجه إليها كل حياتنا تلك هي «الخير الأسمى» السالف الذكر.
أما طبيعة هذا الخير الأسمى فموضوع اختلاف كبير بين فلاسفة الأخلاق؛ فمنهم من يراه في اتباع وحي الفطرة، ومنهم من يراه في تحصيل اللذة ومنهم من يراه في تكميل النفس بل إنهم لا يزالون مختلفين في تعريف الخير مطلقا والشر من الأفعال والصواب والخطأ من المناهج، ولكن الذي يعنينا هنا أن في الحياة مثلا أعلى ودستورا يمكننا بالقياس عليه أن نحكم عند تعارض ضروب السلوك أن هذا الضرب منه خير من ذاك.
هذا الدستور يسمى دستور الأحكام الأدبية. (1) موضوع الحكم الأدبي
تبنى الأحكام الأدبية على السلوك، والمراد بالسلوك الأفعال الاختيارية كافة، وعلى ذلك فلا يدخل في حد السلوك ما يصدر عن النفس من الأفعال التي ليس للإرادة دخل فيها كالتنفس ورمش العين حين تأثرها فجأة بضوء شديد، أو كالتفزع لصوت فجائي، أو ألم، بل الأفعال التي يصحبها جهد الإرادة؛ أي التي يفعلها الإنسان بتدبر والتي يقصد بها غرض خاص محدود. رب معترض يقول: إن الأفعال التي اعتادها الإنسان لا يفعلها بوعي وتدبر؛ لأنها لم تعد تحت سلطة إرادته؛ فهي في الواقع بالرغم منه. والجواب عن ذلك أن العادة شكل من أشكال الإرادة، فإن لم تكن الإرادة قد سببتها اليوم فقد كانت سببا في تكوينها من قبل؛ لأن العادة لم تنشأ إلا عن تكرار فعل اختياري.
فصح إذن أن يقال: إن الأحكام الأدبية تبنى على كل فعل مرسوم مقصود.
ليس للأفعال في ذاتها صفة أدبية وإنما ينظر إليها من حيث الغرض المقصود بها لا بما يترتب عليها في الواقع؛ فإنك إذا رأيت طفلا يتناول قلما من مكتب لم تدر إن كان عمله هذا خيرا أو شرا؛ إذ إن هذا يتوقف على السبب الذي حدا الطفل على إتيانه هذا الفعل، على كون هذا القلم ملكا له أو لغيره؛ فقد يكون مكلفا بتناوله أو يكون بفعله هذا يسرق القلم، أو يريد نفع رفيق له، أو يعمل على أذيته وهلم جرا.
فإذا كانت نيته أن يفعل خيرا فالفعل خير في ذاته ولو أدى إلى شر، وإن كانت النية شرا فالفعل شر ولو أدى إلى خير، ومن ثم قيل: «كل ما يستحق الفعل، جدير أن يفعل على وجه الكمال.» وعليه فكل إنسان لا يبذل آخر جهده في أي شيء يتولاه، لا يمكن أن يسمى رجلا طيبا. وهذا ما دعا كارليل إلى أن يقول عن نجار - كان يشتغل في منزله: «إنه كان يخالف جميع الوصايا العشر في كل دقة من دقات قدومه.» ويقول أرسطو لا يكون الإنسان على شيء من الخير حتى تلذه الأعمال النبيلة ولا ينعت أحد بالعدل إذا هو لم تلذه الأعمال العادلة ولا بالكرم من لم تلذه المكارم وهلم جرا. ويقول ماثيو أرنولد: «إن السلوك ثلاثة أرباع الحياة.» ولكن لما كان السلوك يشمل كل الأفعال الاختيارية أو المرسومة فظاهر أنه يشمل الحياة كلها لا ثلاثة أرباعها فقط. (2) الخلق
الأفعال إذن تنتج خلقا؛ لأن: (1)
الأفعال التي يغلب تكرارها تصبح عادات . (2)
حاصل كثير من العادات يكون سلوكا. (3)
Page inconnue