Révolution de la poésie moderne : De Baudelaire à l'époque contemporaine (Première partie) - Étude
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genres
ونلاحظ أن «الأنا» في البيت الثالث تظهر بصورة عابرة وفي موضع لا أهمية له، ثم لا نجد إشارة إلى «أنت»، وكل ما نجده ذلك الشعر الذي ينتشر فوق الجبهة، ولا يلبث هذا الشعر أن يتحول إلى شعلة من اللهب تصدر عنها سلسلة من صور الاحتراق والاشتعال. ويقف الحدث الحسي في القصيدة عند هذا الحد، ولكننا نلمح وراءه حدثا آخر أهم، أو لعله هو الحدث الحقيقي المقصود. إنه الأمل في مثالية سامية، والفشل، والقناعة المرتابة بالواقع المحدود. إن اللعب بالصور والاستعارات ينقي الشيء المادي، وهو هنا الشعر، من ماديته، والرؤية الباطنة المتأملة تنقي عاطفة الحب وتجردها. والنتيجة شيء غريب غير مألوف . غريب في بناء الجملة، غير مألوف في الصور والاستعارات.
فالاستعارات في هذه السوناتة لا يمكن أن تفهم على ضوء الاستعارة التقليدية التي تقوم على صلة واقعية أو منطقية تجمع بين التشبيه والمشبه، بل ينبغي أن تفهم من شعر مالارميه في مجموعه، بحيث تصبح رموزا بعيدة الدلالة على موقفه الأنطولوجي من الحياة والفن والوجود. إن هذه الاستعارات تتحرر من سببها المادي وتستقل بنفسها وتقتحم مجالات وآفاقا بعيدة كل البعد عن شعر المحبوبة. والحدث الظاهر الذي تتناوله القصيدة (وهو خصلات شعر الحبيب التي تسقط على جبينها) تخفي وراءها حدثا آخر مجردا ومشحونا بالتوتر، لا يمت للإنسان عامة بأية صلة، ومن الصعب أن نحلل القصيدة تحليلا كاملا؛ لأن الشاعر نفسه يتعمد هذا التداخل والتعقيد، ويتعمد أيضا أن توحي بمعاني عديدة بحيث يصبح من المتعذر أن نعود بها إلى المجال البشري الطبيعي.
ونستطيع الوصول إلى نتائج مشابهة لو قارنا بين قصيدتي فيكتور هيجو ومالارميه في رثاء صديقهما الشاعر تيوفيل جوتييه، فقصيدة هيجو «قبر ت. جوتييه 1872م» تعبر عن حزن الشاعر على صديقه الذي مات وإن كان لا يزال قريبا منه كإنسان، تحيطه هالة من ذكريات الشاعر عن الصداقة التي كانت تجمعهما، في أبيات ذات نغمة خطابية مؤثرة، وصور مثالية عن العالم الآخر.
أما قصيدة مالارميه «نخب جنائزي لتيوفيل جوتييه» فهي تضع الميت في بعد شاسع لا سبيل للوصول إليه، وتؤكد أنه قد اختفى وانطفأ «كإنسان» - لأن الروح تموت مع الموت - بينما تبقى روحه في أعماله الأدبية التي تبلغ الآن حقيقتها «اللاشخصية» المأمولة بعد أن غاب صاحبها. فهي إذن تقوم بعملية التجريد من البشرية من ناحيتين. والغريب أن القصيدتين قد كتبتا في وقت واحد، والشاعران متأثران، ولا شك، بالمدرسة الرومانتيكية. والفارق بينهما هو أن أولهما كان أحد مؤسسيها وقد وصل بها إلى القمة في شيخوخته، أما الآخر فهو وريثها الذي استطاع أن يتخلى عن إرثه؛ ولذلك فمن العسير أن نقيم جسرا يصل بين إنتاجهما الذي كتباه في وقت واحد. (5) مأساة الشاعر
ويجرنا هذا إلى نظرة مالارميه لمأساة الشعر والشعراء كما عالجها في عدد من قصائده التي نعى فيها أصدقاءه وفي غيرها من شعره.
وقد لا نجد قصيدة تصور مأساة الشعر والشاعر أروع من القصيدة التي كتبها سنة 1885م بعنوان: «اليوم البكر الحي الجميل»، ولنحاول أن نقرأها أولا، على الرغم من استحالة ترجمتها ترجمة تفي بنقاء لغتها وتشابك عباراتها وتميز قوافيها (وقد اهتديت فيها بترجمة الأستاذ شفيق مقار في كتابه «شيء من الشعر»، ص131):
اليوم البكر، الحي، الجميل
أتراه سيفتت لنا بضربة جناح مخمور
هذه البحيرة الجامدة المنسية التي تغشاها تحت الصقيع
الثلاجة الشفافة للأسراب التي لم تهرب!
Page inconnue