فنظر عم خليل بعينيه المذكرتين بالآخرة، فقال: الظاهر أني سأنجح في المهمة التي جئت من أجلها من الإسكندرية.
فغمغم العجوز: جميل أن ينجح الإنسان.
كما نجحت في شراء الفاتنة! ورآه ما زال ينظر إليه مستطلعا فقال: إني أبحث عن رجل هو كل شيء في حياتي.
فدعا له عم محمد الساوي قائلا: ربنا يحقق مقاصدك.
وقال عم خليل أبو النجا: لا يجيء أحد إلى هذا الفندق للإقامة، ولكن لمهمة تستغرق ليلة، أو أسبوعا، أو شهرا، ثم يمضي إلى حال سبيله. - هذا طبيعي جدا. - ولذلك فهم يتجاورون في الغرف والموائد والاستراحة، ويندر أن يعرف أحد منهم الآخر. - يخيل إلي أن عملك مسل جدا. - لا شيء مسل على الإطلاق.
ومغالطة الزمن أليست مسلية؟ وسمع وقع حذاء نسائي فأجل قيامه الذي هم به. وجاءت الزوجة مدملجة الجسم في جونلا سوداء، وبلوزة حمراء، مطوقة الرأس والخدين بإشارب أبيض منمنم. ووشى خطرانها باكتناز سوي هو الوسط المثالي بين النحافة والبدانة، فسرعان ما ثمل أنفه بعبير أنثوي مسكي عصف بعقله وقلبه. وهي وإن لم تبتسم إلا أن عينيها عكستا نظرة راضية موحية كأرض خصبة لم تزرع بعد. ونهض عم محمد الساوي وهو يحبك معطفا رماديا قديما، أما عم خليل فقد رفع إليها وجهه متمتما: نويت بالسلامة؟
فقالت بصوت حلقي دسم: فتك بعافية.
ومضت إلى الخارج يتبعها عم محمد الساوي. أنت سر من الأسرار يا عم خليل. ووجهك يصلح رمزا للموت كعلم القرصان. ولم يرتكب أناس الأخطاء بلا تبصر؟ وقام متظاهرا بالهدوء فحيا الرجل وغادر الفندق. وسبقته عيناه إلى كافة أنحاء الطريق حتى رأى المرأة والعجوز يميلان مع ميدان الفسقية فأسرع في مشيه حتى لحق بهما. والتفت عم محمد نحوه فابتسم كالمعتذر، وقال: لا تؤاخذني يا عم محمد، أود أن أعرف الطريق إلى ميدان الأزهار؟
والتفتت نحوه المرأة في شيء من الدهشة. ووقف عم محمد ليصف له طريق الوصول؛ فاضطرت المرأة إلى الانتظار. وتظاهر بالإنصات إلى كلام عم محمد دون أن يعي منه كلمة، وكلما وجد فرصة آمنة حدج المرأة بنظرة فتتلقاها بالرضى الهادئ المثير للطموح بلا دليل. ود أن يسألها عن القرنفل وملح البحر والظلام العاري، ولكن الساوي انتهى من شرحه، فشكره ثم ذهب. ترى أين هي ذاهبة مع كلب الحراسة؟ وألم تكن جرأته سابقة للأوان؟ إنه دائما جريء، غير أن الجرأة هذه المرة قد تفسد عليه البحث أو تعرقله. وبلغ ميدان الأزهار مستعينا بالمارة، ولم يجد في العيادة سوى التمرجي. وأخبره الرجل أن الطبيب يحضر عادة حوالي الثانية عشرة فجلس لينتظر. هل ترددت أنفاس أبيه في هذه الشقة؟ ها هو القلق يساوره والجزع، والأمل واليأس. وكلما تقدمت الساعة قل صبره. وإن وجد أباه حقا فكيف يكون موقفه منه؟ كيف يتصرف إن أنكره أو طرده؟ ولكنه سيستميت في الدفاع عن حقوقه؛ ولذلك تبدى في أحسن مظهر، ولم يخف عليه أن التمرجي رمقه باحترام وإعجاب! ولكنه تذكر أنه لعجلته واضطرابه لم يعرف اختصاص الدكتور! وخرج من حجرة الانتظار إلى الصالة فجلس في قبالة التمرجي وسأله: من فضلك ما اختصاص الدكتور؟ - القلب! حضرتك طبعا ... - أردت أن أتأكد، أصلي من الإسكندرية.
وشعر بسخافة أسئلته ولكنه لم يبال، بل عاد يسأله: هل عندك فكرة عن عمره؟
Page inconnue