فجاء عجوز من مجلسه عند الباب، عميق السمرة، مائل للقصر، دقيق الجسم. تتكون ملابسه من طاقية بيضاء، وجلباب رمادي مقلم، ومركوب؛ فأشارت المرأة إلى صابر قائلة: حجرة رقم 13.
ابتسم صابر لدى سماعه الرقم، ثم استأذن في الذهاب لإحضار حقيبته. ولما عاد تبع عم محمد الساوي إلى الحجرة في الدور الثالث. وغادرها الرجل، ثم دخل خادم يحمل الحقيبة. خادم بين الشباب والكهولة، سريع الحركة بدرجة لا تتناسب مع العمل الذي يؤديه، ضيق العينين جدا مستديرهما، صغير الرأس، يوحي منظره بالسذاجة. وسأله صابر عن اسمه فأجاب: علي سريقوس.
وآنس في نبرته امتنانا بدرجة أشعرته بالقدرة على امتلاكه وقتما يشاء. وسأله: هل العجوز الجالس إلى المكتب هو صاحب الفندق؟ - نعم. عم خليل أبو النجا.
وهم بسؤاله عن الفتاة، ولكنه كبح رغبته عن حكمة إلى حين، وحذر نفسه قائلا: إن السذاجة سلاح ذو حدين! ولما خلا له المكان شمله بنظرة سريعة فتركت في نفسه انطباعا بالقدم. السقف العالي والسرير ذو الأعمدة والكنصول، وقال إن أباه كان يعجب بهذا المنظر حينما أحب أمه. ودلف من نافذة عالية، وأطل على ميدان صغير في الطرف الشمالي من الشارع، تتوسطه فسقية تمج نافورتها رذاذا على غلمان مهللين. وأضاء المصباح ثم جلس على كنبة تركية قديمة. وراودته أخيلة جنسية، وتخللتها أحلام بالعثور على أبيه. أما نداء العينين اللوزيتين المضيئتين فعجيب كل العجب. ولعلها الآن تفكر في أمره وتتساءل. ولكن ليس ثمة ما يقطع بأنها هي هي. في زحمة المولد نهرته قائلة لا تقترب مني هكذا، فقال متظاهرا بالكبرياء لم تقلها بنت قبلك، فأجابت بكبرياء أشد: ولكني أقولها وأعيدها. وذهبت في صحبة امرأة شرسة والهواء يلعب بضفيرتيها، فأين كان عم خليل؟ وعيناك اليوم التقت بعينيها أكثر من مرة وتجلت معان، ولكن لم يلتمع بينهما ما يوحي بذكريات مشتركة. لم تقل عيناها إنها تذكر المجلس فوق سور الكورنيش عند قوارب الصيد المقلوبة، والأحاديث المفتعلة للتستر على الرغبات الجامحة، وقبلة خطفت أعقبتها معركة غير حامية. وعندما أعيتك الحيل صحت سأقتلع يوما أظافرك. أما يوم المطاردة الرائعة، وصراع الركن المظلم، وشذا القرنفل، والهواء المشبع برائحة البحر فكانت نصرا صريحا، ثم تلاه اختفاء وصمت، لا هي ولا الأم الشرسة، وأسف دام طويلا، حتى انتقلت أمك من حال إلى حال، واستقر بك المقام في الشقة الأنيقة ب «النبي دانيال». من أدراك أن لهذا الفندق علاقة بعطفة القرشي؟ وأن هذه الفتاة المثيرة هي تلك البنت القرنفلية؟ على أي حال فهذه الفتاة تثير عاصفة في دمك، وفي سواد مقلتيها ترى الليالي المعربدة بأنغامها الجنونية. وما أحوجك إلى دفء الشهوة المعزية في فترات الراحة من البحث! وقيمة ذلك تتضاعف للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعندما تجيء المعجزة ستقول له: أنا صابر، صابر سيد سيد الرحيمي، هاك شهادة الميلاد، وهاك شهادة الزواج، وانظر جيدا في هذه الصورة!
عند ذاك سيفتح لك ذراعيه، وتنجاب عنك الوساوس إلى الأبد. وصرت امرأة أنيقة بكل معنى الكلمة. أين البنت المغطاة بملح البحر؟ أين رائحة غفلة العذراء؟
3
استيقظ مبكرا بعد ليلة لم ينم فيها سوى ثلاث ساعات. ووجد رغم ذلك نشاطا لم يحلم به من قبل. وفتح النافذة فلم ير المنظر الذي في غفلة توقعه، منظر عمارات النبي دانيال وسعد زغلول، وزرقة البحر على مرمى البصر، وهواء الإسكندرية العامر بالفتن. رأى سماء ملفعة بالسحب السمراء، وفي الأفق الشرقي نضح الستار ببياض ناصع، وعلى الأرض الخالية سعى فوج من العمال والباعة، وفي لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة أبيه، والوجه الدافئ المفعم بالإثارة، وجاءه علي سريقوس بالفطور إلى حجرته فأكل بشهوة عظيمة، ولما رجع الخادم ليحمل الصينية الفارغة، سأله: من الفتاة التي كانت تجلس إلى جانب عم خليل أمس؟ - زوجته!
ليعترف بأن هذا لم يجر له في بال، وكم بدا له مزعجا: من الإسكندرية؟ - لا أدري. - متى امتلك عم خليل هذا الفندق؟ - لا أدري، إني أعمل هنا منذ خمس سنوات فقط. - وهل كان وقتذاك متزوجا؟ - نعم.
هي بنت عطفة القرشي. اشتراها العجوز هناك من المرأة الشرسة، وصنع منها امرأة حسناء طاغية. ولكن عليه هو أن يتفرغ لمهمته قبل أن ينفد آخر ما يملك من نقود. ووجد عم خليل أبو النجا بمجلسه وراء المكتب وهو يحادث عم محمد الساوي الجالس إلى يمينه. ولمح في طريقه إليهما نفرا من النزلاء يجلسون في الاستراحة ما بين متناول لفطوره وقارئ لجريدة. جاء بكرسي أمام المكتب، ثم جلس رافعا يده بالتحية وهو يقول: عن إذنك دليل التليفون.
وفر الصفحات حتى عثر على حرف السين. سيد. سيد سيد. وسيد سيد الرحيمي. وخفق قلبه بقوة. هذا هو في مدينته. ليس كصاحب مكتبة المنشية. والمهنة؟ طبيب بميدان الأزهار وأستاذ بكلية الطب. كما يحدث للوجهاء وأبناء الوجهاء. واستخفه فرح فتمتم: الظاهر أن ربنا سيرضى عني.
Page inconnue