L'ère du renouveau : Histoire de la nation arabe (Partie 8)
عصر الانبعاث: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
Genres
يقول الأستاذ محمود الشرقاوي: «لم تمض عشرة أيام على دخول نابليون الإسكندرية حتى بدأت هذه المقاومة السرية، فقتل أحد جنود الأسطول الفرنسي في أحد الشوارع، وفي الوقت نفسه ألقي في البحر خادم لأحد الضباط وغرق، وغضب كليبر - قائد حامية الإسكندرية الفرنسي - لهذه الحوادث أشد الغضب، فاعتقل بعض أعيان المدينة واستدعى حاكمها السيد محمد كريم، والقاضي الشرعي وغيرهما، فطلب إليهم البحث عن القتلة، وهددهم بشنق من تقع عليه القرعة من المعتقلين إذا لم يسلم القتلة في خمسة أيام. ولكن ذلك كله لم يجد نفعا؛ فقد تستر الناس عليهم حتى هربوا، وعرفوا فيما بعد أن السيد محمد كريم كان عونا لرجال المقاومة السرية. وبعد ذلك بأيام أراد الجنرال كليبر أن يسير كتيبة إلى بعض البلاد في البحيرة، فلم تجد هذه الكتيبة، في اليوم الذي حدد لسفرها، ما تحمل عليه أثقالها وأزوادها وماءها من الإبل؛ لأن أهل الإسكندرية وما جاورها أخفوا إبلهم وهربوها حتى لا يستعين بها الفرنسيون ، وسارت الكتيبة بلا ماء، وبعد يوم واحد من سفرها ظهرت الإبل في الإسكندرية. وعندما سافرت كان العرب يهاجمونها في الطريق ويعرفون سيرها وطريقها وغايتها، وظهر للفرنسيين أن المهاجمين كانوا على اتصال برجال المقاومة في الإسكندرية، ولما وصلت الكتيبة إلى دمنهور وجدت ستة آلاف من المصريين على استعداد لملاقاتها؛ فهابت أن تحاربهم ولم تتم سيرها، بل رجعت إلى الإسكندرية بعد أن فقدت عددا غير قليل من رجالها ... وكما وقف رجال المقاومة بالمرصاد لجنود نابليون يعتدون عليهم ويقتلونهم حيثما وجدوهم، وقفوا كذلك لرسله يتصيدونهم ويفتكون بهم. أرسل نابليون رسالة من القاهرة إلى الجنرال كليبر في الإسكندرية مع الكابتن جوليان يأمره فيها بالقبض على السيد محمد كريم، ولم تصل إليه الرسالة؛ لأن رجال المقاومة قتلوا الكابتن جوليان وهو في طريقه إليها. وخرجت سفينة فرنسية من رشيد، يحمل قائدها رسالة أخرى من كليبر إلى نابليون، فلم تكد تبتعد عنها قليلا حتى هاجمها أهالي مطوبس وإدفينا، فأرغموها على العودة إلى رشيد. ثم خرجت مرة أخرى إلى وجهتها، ولكن الفلاحين أطلقوا عليها نيرانهم من جانبي النيل حتى أرغموها للمرة الثانية على العودة، وأعدم الفرنسيون بالرصاص عمدة إدفينا.»
2
والحق أن الشعب المصري بكافة طبقاته كان إلبا على الاستعمار الفرنسي، ولم ينخدع بخدع نابليون وأحابيله، بل قاومه أشد المقاومة وثار عليه. وكان الأزهر الشريف مقر الثورة، كما كانت أصوات المؤذنين تختلط بأصوات الداعين إلى الثورة على الظالمين المغتصبين.
3
وأراد الطاغية نابليون كبت تلك الثورة في مقرها، فسلط نيران مدافعه على الجامع الأزهر، فهدمه وهدم كثيرا من الأحياء المجاورة له، كالغورية والفحامين، والصناديقية. قال الجبرتي: «ضربوا بالمدافع والبنبات، البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر (أي: القنابل). فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا في عمرهم عاينوه، نادوا: يا سلام من هذه الآلام، ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان.» ودخلت جيوش الفرنسيين إلى الجامع الشريف بخيولهم، فربطوها بقبلته وعاثوا بأروقته، وكسروا قناديله ونهبوا خزائن طلبته، وما فيه من المتاع والأواني والودائع والمخبآت، وأتلفوا المصاحف والكتب، وكان ذلك في اليوم الثالث من جمادى الأولى سنة 1213ه/22 تشرين الأول سنة 1798م. ولما رحل نابليون وخلفه الجنرال كليبر لم يكن أحسن حالا منه، ورأى الشعب المصري أنه لا بد من الانتقام؛ فقد تحمل ويلات شدادا، ولم يعد في طوقه أن يصبر على ظلم الفرنسيين، وكان المجلى في ساحة الانتقام هو الشيخ سليمان الحلبي، وهو فتى سوري رحل من حلب لتلقي العلم في الأزهر الشريف، فمكث فيه ثلاث سنوات ثم رجع إلى بلده، ولما وصل إلى حلب وبلغته نكبات الفرنسيين لإخوانه المصريين وتهديمهم لمدرسته الروحية وأكبر جامعة إسلامية، آلى على نفسه أن ينتقم من الظالمين، ورحل إلى مصر للفتك بالقائد الفرنسي الذي سام مصر خسفا. فلما دخلها وزار المسجد المعمور وجده قد تهدم وأضحت معالمه خرابا، اشتدت حماسته وباع نفسه لدينه وقوميته، وترصد القائد العام الجنرال كليبر فقتله في اليوم الرابع عشر من حزيران سنة 1800م بطعنات خنجره، فكانت هذه الطعنة بذرة من بذرات الانبعاث العربي. وإنه لمن الصدف الطيبة أن يقوم بهذا العمل القومي النبيل في ديار مصر فتى لم يتجاوز الرابعة والعشرين من أهل حلب. ولم يكن سليمان يوم محاكمته الصورية إلا مظهرا رائعا من مظاهر البطولة والعزة على الرغم من كثرة تعذيبهم إياه وسوء قتله.
ومنذ ذلك اليوم ازدادت ريبة الفرنسيين في شيوخ الجامع الأزهر وفي طلبته، وعرفوا أنهم لن يستطيعوا البقاء في هاته الديار. ولكن جنونهم وحمقهم دفعاهم إلى إغلاق الجامع الأزهر والتضييق على أساتذته وطلابه، وتسفير الغرباء من أبناء العروبة إلى ديارهم، كما أنهم أمعنوا في إغلاق المساجد والجوامع الكبيرة في القاهرة وسائر المدن المصرية، وامتهنوا حرمتها المقدسة فجعلوا من مسجد الأمير أزبك في الأزبكية سوقا لبيع أموال المصريين المصادرة، ومن مسجد الرويعي خمارة، ومن المسجد الناصري قلعة عسكرية، ومن مسجد الأمير سليم الكاشف في أسيوط سجنا، وهدموا عددا كبيرا من المساجد والمدارس، نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر: مسجد الجنبلاطية في باب النصر، ومسجد جركس، ومسجد خوتد بركة، ومسجد عثمان الكنجية، ومسجد خاير بك، ومسجد عبد الرحمن الكنجية، ومسجد البنهاوي، ومسجد الطرطوشي، ومسجد الشيخ العدوي.
هكذا فعل نابليون الإمبراطور العظيم الذي يزعم بعض المؤرخين أن حملته على مصر كانت حملة جد مفيدة، وأنها سارت بمصر خطوات نحو التقدم والخير، مع أنها كانت حملة استعمارية لم يهدف من ورائها إلا إلى استعمار مصر والاستمتاع بخيراتها. وحين بعثت الدولة العثمانية حملتها العسكرية لطرد الفرنسيين، أخلص الشعب المصري في كفاحه مع الدولة العثمانية ضد الغاصب، ثم أعان محمد علي على الدولة العثمانية ظنا منه أن الحالة ستتحسن على يديه، ولكن فأله قد خاب.
فقد استولى محمد علي باشا الأرناءوطي الألباني على مصر بعد أن أوقع بين فرق أجناد الدولة العثمانية وبقايا المماليك، واضطرب حبل الأمن في البلاد وساءت أوضاعها، وأخذ أهل مصر وعقلاؤها يفتشون عن المخلص، وكان محمد علي داهية استطاع أن يخلب ألبابهم ويستولي على السلطة في مصر في سنة 1805م/1220ه، وقد سار أول الأمر بالبلاد سيرة حسنة، واستعان بالمخلصين من قومها كالسيد عمر مكرم الزعيم القومي المخلص، كما استعان بنفر من شيوخ الأزهر الفاضلين. ولكن لما توطدت أقدامه ساءت سيرته وأخذ يفتك بالناس ويسيء معاملتهم، ولكنه على الرغم من ذلك كان واحدا من أولئك الذين أثاروا في سكان مصر والشام جذوة الوطنية، ووضع - سواء كان متعمدا أو غير متعمد - بذرة من بذور القومية العربية في البلد الذي احتله، كما فعل ذلك نابليون من قبل كما سنفصله بعد.
الفصل الثاني
حركات الإصلاح في العالم العربي
Page inconnue