L'ère du renouveau : Histoire de la nation arabe (Partie 8)
عصر الانبعاث: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
Genres
توطئة
المقدمة
الباب الأول
1 - أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
2 - حركات الإصلاح في العالم العربي
3 - حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في الجزيرة العربية
4 - حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها في العراق والشام
5 - الحركات في العهد الحميدي وأثرها في العالم العربي
6 - العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
7 - الجمعيات والمنظمات السرية العربية ونشاطها
Page inconnue
الباب الثاني
1 - الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
2 - جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي
3 - الحكم على نتائج الثورة العربية
4 - الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية
5 - الحالة العامة في مصر والسودان
6 - الحالة في شمال أفريقيا
الباب الثالث
1 - حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
2 - مظاهر الحضارة في العالم العربي
Page inconnue
توطئة
المقدمة
الباب الأول
1 - أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
2 - حركات الإصلاح في العالم العربي
3 - حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في الجزيرة العربية
4 - حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها في العراق والشام
5 - الحركات في العهد الحميدي وأثرها في العالم العربي
6 - العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
7 - الجمعيات والمنظمات السرية العربية ونشاطها
Page inconnue
الباب الثاني
1 - الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
2 - جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي
3 - الحكم على نتائج الثورة العربية
4 - الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية
5 - الحالة العامة في مصر والسودان
6 - الحالة في شمال أفريقيا
الباب الثالث
1 - حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
2 - مظاهر الحضارة في العالم العربي
Page inconnue
عصر الانبعاث
عصر الانبعاث
تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
تأليف
محمد أسعد طلس
توطئة
إن كتابة هذا الجزء من تاريخ الأمة العربية كانت أشد أجزائه صعوبة؛ لا لقلة المواد الأولية، ولا لتعقد موضوعاته وحسب، بل لأنها تتصل بحاضرنا الذي نعيش فيه، وما يزال بعض الذين قاموا بأدواره أو سطروا بعض وقائعه وأخباره أحياء بيننا. وما أحب أن أزج بنفسي في خضم المناقشات والمباحث الجدلية؛ ولذلك اعتزمت على أن أبتعد ما أستطيع عن مواطن النقاش والجدل والأمور المختلف فيها، والمباحث التي كثر الرد والاختلاف بسببها. ولست في هذا الجزء مؤرخا، ولكني سارد ومعلق، وموضح؛ لأن التاريخ النهائي لهذه الحقبة لم تتوفر بعد مواده، ولم تنضج النضج الكافي. وما أعمله في الحقيقة ليس إلا محاولة من المحاولات العديدة المفيدة التي قام بها بعض المؤرخين والكتاب المعاصرين.
وكل ما أرجوه في عملي هذا، هو أن أضع أمام الكتاب والمؤرخين الذين سيحاولون بعدي أن يلجوا هذا الخضم، بعض المواد الأولية المدروسة المهيأة، يستعينون بها على أداء رسالتهم القومية، أو يقدمونها إلى المؤرخين الأجانب الذين يريدون درس تاريخنا دراسة صادقة مخلصة، نقية من التعصب والغرض.
لقد قلت في توطئة الجزء الخاص بتاريخ «عصر الانحدار»: «إن في النهضة العربية التي نراها اليوم بين صفوف الشعوب العربية من مراكش إلى العراق، لبشارة طيبة تؤكد أن الله سبحانه قد آذن لهذه الأمة الكريمة أن تستعيد مجدها.» وفي هذا الجزء يجد القارئ العزيز بذور تلك النهضة، وأسبابها، ودوافعها، وبواكيرها، منذ فجر القرن الثالث عشر الهجري، حتى العصر الأخير الذي تكونت فيه الدول العربية في مراكش وتونس والجزائر، وليبيا ومصر والسودان، والعربية السعودية وسورية ولبنان والأردن، والعراق والكويت.
ولن أتعرض في هذا الجزء إلى أوضاع هذه الدول وأحوالها، ولا إلى جامعة الدول العربية وتاريخها وأعمالها؛ فإن الوقت لم يحن لذلك بعد، وأرجو أن يتاح لي بعد فترة من الزمن دراسة أحوال البلاد العربية منذ حركة الحسين بن علي ملك الجزيرة العربية إلى الوقت الحاضر، دراسة مفصلة مستوعبة، والله المسئول أن يعين على إتمام هذا العمل القومي، ويوفق إلى أداء الرسالة الوطنية التي هدفنا إليها طوال حياتنا.
Page inconnue
المقدمة
أطل القرن الثالث عشر للهجرة مع نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، وكانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة على أكثر أرجاء العالم العربي، وإن كانت هذه السيطرة روحية في بعض أقاليمه كشمالي أفريقية ومصر والسودان. أما الجزيرة العربية والعراق والشام فكانت تحت النفوذ المطلق للإمبراطورية، كما كانت في حالة عجيبة من التفكك والتفسخ الداخلي والخارجي.
ولما حاول السلطان سليم الثالث العثماني إصلاح الأمور، وتنظيم الجيش والأخذ بطرائق الإصلاح الأوروبية الحديثة، بمعونة سفير نابليون الثالث لدى بلاطه الجنرال سباستياني
Sebastiani ، لم يمكنه الجنود الانكشاريون المرتزقة من ذلك، وأكرهوه على أن يخلع نفسه، وتم لهم ذلك في سنة 1807م، وفتكوا بجميع زعماء الإصلاح الذين آزروا السلطان في حركته الإصلاحية، وأجلسوا على العرش ابن عمه مصطفى الرابع الذي سار معهم كما يريدون، وأرجع الإمبراطورية إلى طرائق الرجعية والفساد. وكذلك فعلوا مع خلفه السلطان محمود الثاني، الذي أراد أن يخطو خطوة نحو الإصلاح، فوقفوا في وجهه فترة إلى أن تغلب عليهم وأصدر «فرمانا» شاهانيا في سنة 1826م أوجب به تأليف جيش نظامي حديث في الإمبراطورية، وفتك بعدد كبير من الانكشارية، وقضى على سلطانهم قضاء مبيدا. ولكن الدول الغربية الطامعة في استعمار الإمبراطورية العثمانية لم تترك السلطان المصلح يتم خطواته؛ ففي سنة 1827م اتفقت الدول الثلاث: روسية وإنكلترة وفرنسة، فيما بينها، على تجزئة أوصال الإمبراطورية العثمانية، وحطمت أسطولها في معركة «نافارين» المشهورة. ثم تتابعت المحن على الدولة العثمانية المريضة، فلم تمكن السلطان محمودا الثاني من إتمام إصلاحاته ولا إلى إعادة القوة إلى الجسم المريض.
ومنذ ذلك الحين أخذت المقاطعات والولايات الخاضعة للدولة العثمانية تفكر في الاستقلال عن الدولة والانفصال عنها شيئا فشيئا، وكان الانبعاث العربي؛ فسارت البلاد العربية في طور جديد.
الباب الأول
الفصل الأول
أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
رأينا في الجزء الماضي الخاص بتاريخ «عصر الانحدار» سوء الحالة العامة التي بلغت إليها الدولة العثمانية التركية المسيطرة على دنيا العرب، وبخاصة في ختام القرن الثاني عشر للهجرة. وبينما كانت الدولة تسلك طريق الانحدار والتدهور، كان عدد من الزعماء في الشام ومصر يحاول بعث الأمة العربية، وكانت فلسطين ولبنان ومصر ميدانا لتسابق أولئك الزعماء، وكان من أبرزهم الشيخ ظاهر العمر الزيداني، الذي رأينا طرفا من سيرته، وسمعنا بأهدافه الرامية إلى الاستقلال وتأسيس ملك عربي في الشام.
والشيخ ظاهر هو بدوي الأصل، كان أبوه من زعماء البادية الأذكياء الأقوياء المقربين من الأمير بشير الشهابي حاكم لبنان. ولما رأى الأمير الشهابي كفاية الزيداني، سماه أميرا على منطقة صفد، فقضى فيها عمره على خير حالة، ولما مات خلفه ابنه ظاهر في سنة 1737، وعمل على توسيع رقعة إمارته فضم إليه طبرية، وما زال يتوسع حتى سيطر على عكا وأصلح أحوالها، ورمم أسوارها، وأعاد الهدوء والسكينة إلى سائر المنطقة، وسار بالناس سيرة عادلة، وعامل أهل الذمة بما يقضي به الشرع؛ فأحبه الناس، وشجع الزراعة والصناعة والتجارة فازدهرت البلاد في عهده. ولم تأت سنة 1750م حتى كان الحاكم المطلق لفلسطين، ورأى أن علي بك حاكم مصر رجل مرهوب الجانب كثير المطامع، فتعاهد معه، ثم تحالف مع روسية ضد الإمبراطورية العثمانية، واستطاع أن يستولي على صيدا ويطرد واليها العثماني بمعونة المراكب العسكرية الروسية، التي كانت شرقي البحر الأبيض المتوسط في سنة 1772م. وامتد سلطانه من جنوبي لبنان حتى حدود مصر، فقلقت الدولة العثمانية بسبب مطامعه، وطلبت إلى والي دمشق التركي وأمير لبنان الشمالي أن يزحفا عليه بجيش لجب، فتمكنا منه واستطاعا أن يحاصراه ويتآمرا مع بعض رجاله على قتله غيلة، واحتلا مدينة صيدا. وكان في جيش دمشق التركي ضابط حدث، اسمه: أحمد الجزار، استطاع بدهائه وذكائه أن يحل محل ظاهر العمر، ويستولي فيما بعد على كافة المنطقة.
Page inconnue
وكان الجزار فتى أرناءوطيا من بلاد البوسنة، هرب من بلاده إلى الآستانة، ثم باع نفسه من تاجر يهودي، وانتهى به مطاف الرق إلى أن صار بين مماليك علي بك صاحب مصر، فأدخله علي ضمن جنده وعهد إليه بأمور الشرطة وتأديب العصاة، فكان شديدا عليهم، سفاحا، ظالما حتى عرف بالجزار، ثم اضطرته ظروف مجهولة أن يغادر مصر إلى دمشق، فاتصل بحاكمها وكان في عداد رجال الحملة التي بعث بها الوالي لقتال ظاهر العمر. ولما تمكنت حملة دمشق من حصار الشيخ ظاهر والفتك به غيلة، عمل أحمد الجزار على أن يحل محله، ثم ما زال يوسع سلطته ويكثر من المماليك والأجناد، وبخاصة البشناق، والألبان الأرناءوط، والمغاربة، حتى استولى على فلسطين كلها، وتقرب من الباب العالي في إستانبول، فاعترف بولايته ثم سماه واليا على دمشق في سنة 1780م وحاكما على لبنان . وهكذا استطاع الجزار الألباني المستعرب أن يوحد المقاطعات الثلاث ويكون جيشا قويا، وأسطولا ضخما استطاع بهما أن يسحق قوى نابليون بونابرت على أبواب عكا ويرده طريدا، فعظمت مكانته لدى الباب العالي وأضحى السيد المطاع في بلاد الشام، إلى أن مات في سنة 1804م/1219ه بعد أن فتك بالشام وأهله فتكا ذريعا.
وكان أبرز أمراء الشام المستقلين في ذلك الحين هو أمير جبل لبنان بشير الشهابي الثاني 1788-1840م، وكان الجزار قد طلب إليه أن يعاونه على حرب نابليون، فقصر في ذلك وغضب عليه الجزار واضطره على الهرب؛ فلجأ إلى مصر على إحدى المراكب البريطانية وقوى أواصر المودة بينه وبين محمد علي باشا.
وبعد هلاك الجزار أسندت الدولة العثمانية ولاية الشام إلى والي حلب إبراهيم باشا فمهد الأمور، وأضافت الدولة إليه ولايات دمشق وصيدا وطرابلس، وطلبت إلى الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان أن يكون تحت إمرته، فانصاع لذلك كارها، ولكنه لم ير من ذلك بدا لتسلم له إمرة لبنان.
وتعاقب الولاة الأتراك على الشام، وأكثرهم ظالم مستبد لا يعمل إلا لمصلحته الخاصة. وكثيرا ما كان يقع الخلاف بين ولاة الشام فيتحاربون ويقاسي الأهلون من ذلك شرا مستطيرا، وكم من مرة هاجم والي حلب والي دمشق، أو هاجم كلاهما معا والي عكا أو صيدا أو طرابلس، أو حاكم جبل لبنان. وما نريد أن نتوسع في ذلك فليس ها هنا مجاله.
1
وقد استمرت الدولة تتخبط في الفوضى والفساد، على الرغم من محاولات الإصلاح التي قام بها السلطان محمود الثاني، وكان لانفصال بلاد اليونان عن جسم الدولة واستقلالها في سنة 1830م بعد حرب فظيعة ذهب بها أكثر الأسطول التركي والأسطول المصري، كما كان لانفصال المقاطعات الرومانية عن الدولة العثمانية وإعلانها استقلالها في ذلك الحين أثر بالغ في إضعاف كيان الدولة. ويظهر أن الدولة العثمانية قد طاش صوابها، وأرادت التنفيس عن غمها الذي لحق بها من جراء الانهزامات، فسلكت إلى ذلك طريقا بشعة، وهي: الانتقام من نصارى الشام، فكتبت إلى واليها فيه تطلب إليه أن ينتقم منهم. وجمع والي دمشق العثماني أعيان البلاد في سنة 1831م، وتلا عليهم الفرمان الشاهاني القاضي بقتل كبراء النصارى في هذه البلاد لتآمرهم وإفسادهم، ولكن موقف أعيان المسلمين كان موقفا مشرفا؛ إذ قالوا له: ليس بين النصارى المقيمين بيننا مفسدون، وإنما هم أهل ذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
أوصى بهم خيرا، فقال: من آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة. ونحن لا نتحمل تبعة ظلمهم والفتك بهم. فأخذ خطوطهم على ذلك وبعث بها إلى الباب العالي في الآستانة. ولعمر الحق إن موقف عرب الشام المسلمين من عرب النصارى لموقف مشرف ومنطقي، وهو دليل على أن الروح القومية السليمة كانت قوية في هذه الأمة العربية على الرغم من محاولة الدولة العثمانية تفكيك عراها، وفصم أوصالها، فأية علاقة بين نصارى اليونان الثائرين على الدولة العثمانية وبين النصارى العرب العائشين بين إخوانهم، المحافظين على حقوق المواطن، ولكنه منطق الظلم والفوضى.
ولا شك في أن هذا العمل كان بذرة من بذور الانبعاث العربي؛ فقد رأى المسلمون العرب في هذه الديار فساد خطة الأتراك العثمانيين وسوء إدارتهم، فتمركزت في نفوسهم - أو في نفوس الواعين منهم على الأقل - فكرة التخلص من الظلم التركي وإنقاذ البلاد العربية الرازحة تحت عبئه من تلك الحالة الشاذة. وكانت أولى الانتفاضات ثورة أهالي دمشق على واليهم التركي سليم باشا في سنة 1247ه الذي قدم إلى دمشق وأخذ يعامل الأهلين بقسوة وعنف، بعد أن قاسى منه أهل حلب قسوة وعنفا شديدين. وما إن وصل إلى دمشق حتى زاد الضرائب واحتقر الأعيان، وضرب العامة، فعزموا على الفتك به وبجنده، وتجمهروا وتظاهروا عليه، وحصروه في قصره وضيقوا عليه، فاضطر أن يلجأ ليلا إلى الجامع المعلق أولا ثم إلى القلعة، وأمر بعض جنده بإحراق دار الحكومة ليشغل الناس عن محاصرته، فلم يأبهوا لذلك الحريق، واضطر الوالي أن يقذف عليهم نيران المدافع من القلعة، فهلك من الأهلين عدد كبير. ثم لجأ الوالي إلى بيت القاضي فهاجم الناس البيت واحتلوه وقتلوه، واختاروا من بينهم حكومة تدير شئون البلاد كانت بذرة جديدة من بذرات الوعي القومي العربي. ويقول بعض المؤرخين: إن الدافع الحقيقي لثورة أهالي دمشق على الوالي العثماني، هو محمد علي باشا صاحب مصر؛ فإنه كان يطمع في السيطرة على الشام، فدفع أهالي العاصمة السورية للثورة على واليهم.
أما مصر فقد كانت منذ سنة 1798م/1213ه تحت السيطرة الفرنسية، وكان نابليون بونابرت قد احتلها في تموز من تلك السنة، وادعى حين نزوله إلى الإسكندرية أنه محب للإسلام، وأنه صديق للخليفة العثماني، وأنه يريد أن يبني للمسلمين «مجدا عظيما لا نظير له في الأقطار، والدخول في دين النبي المختار»، وأنه إنما جاء إلى مصر لينقذها من ظلم المماليك ... إلى آخر تلك الأقوال المعسولة التي لم تخدع شعب مصر، فثار عليه واعتبره غاصبا ظالما مستعمرا. وأصيب في الإسكندرية وحدها دفاعا عنها حين احتلال الفرنسيين نحو من ثمانمائة قتيل وجريح، وقد لعبت المقاومة الشعبية السرية دورها في الفتك بجيش نابليون وإزعاجه.
Page inconnue
يقول الأستاذ محمود الشرقاوي: «لم تمض عشرة أيام على دخول نابليون الإسكندرية حتى بدأت هذه المقاومة السرية، فقتل أحد جنود الأسطول الفرنسي في أحد الشوارع، وفي الوقت نفسه ألقي في البحر خادم لأحد الضباط وغرق، وغضب كليبر - قائد حامية الإسكندرية الفرنسي - لهذه الحوادث أشد الغضب، فاعتقل بعض أعيان المدينة واستدعى حاكمها السيد محمد كريم، والقاضي الشرعي وغيرهما، فطلب إليهم البحث عن القتلة، وهددهم بشنق من تقع عليه القرعة من المعتقلين إذا لم يسلم القتلة في خمسة أيام. ولكن ذلك كله لم يجد نفعا؛ فقد تستر الناس عليهم حتى هربوا، وعرفوا فيما بعد أن السيد محمد كريم كان عونا لرجال المقاومة السرية. وبعد ذلك بأيام أراد الجنرال كليبر أن يسير كتيبة إلى بعض البلاد في البحيرة، فلم تجد هذه الكتيبة، في اليوم الذي حدد لسفرها، ما تحمل عليه أثقالها وأزوادها وماءها من الإبل؛ لأن أهل الإسكندرية وما جاورها أخفوا إبلهم وهربوها حتى لا يستعين بها الفرنسيون ، وسارت الكتيبة بلا ماء، وبعد يوم واحد من سفرها ظهرت الإبل في الإسكندرية. وعندما سافرت كان العرب يهاجمونها في الطريق ويعرفون سيرها وطريقها وغايتها، وظهر للفرنسيين أن المهاجمين كانوا على اتصال برجال المقاومة في الإسكندرية، ولما وصلت الكتيبة إلى دمنهور وجدت ستة آلاف من المصريين على استعداد لملاقاتها؛ فهابت أن تحاربهم ولم تتم سيرها، بل رجعت إلى الإسكندرية بعد أن فقدت عددا غير قليل من رجالها ... وكما وقف رجال المقاومة بالمرصاد لجنود نابليون يعتدون عليهم ويقتلونهم حيثما وجدوهم، وقفوا كذلك لرسله يتصيدونهم ويفتكون بهم. أرسل نابليون رسالة من القاهرة إلى الجنرال كليبر في الإسكندرية مع الكابتن جوليان يأمره فيها بالقبض على السيد محمد كريم، ولم تصل إليه الرسالة؛ لأن رجال المقاومة قتلوا الكابتن جوليان وهو في طريقه إليها. وخرجت سفينة فرنسية من رشيد، يحمل قائدها رسالة أخرى من كليبر إلى نابليون، فلم تكد تبتعد عنها قليلا حتى هاجمها أهالي مطوبس وإدفينا، فأرغموها على العودة إلى رشيد. ثم خرجت مرة أخرى إلى وجهتها، ولكن الفلاحين أطلقوا عليها نيرانهم من جانبي النيل حتى أرغموها للمرة الثانية على العودة، وأعدم الفرنسيون بالرصاص عمدة إدفينا.»
2
والحق أن الشعب المصري بكافة طبقاته كان إلبا على الاستعمار الفرنسي، ولم ينخدع بخدع نابليون وأحابيله، بل قاومه أشد المقاومة وثار عليه. وكان الأزهر الشريف مقر الثورة، كما كانت أصوات المؤذنين تختلط بأصوات الداعين إلى الثورة على الظالمين المغتصبين.
3
وأراد الطاغية نابليون كبت تلك الثورة في مقرها، فسلط نيران مدافعه على الجامع الأزهر، فهدمه وهدم كثيرا من الأحياء المجاورة له، كالغورية والفحامين، والصناديقية. قال الجبرتي: «ضربوا بالمدافع والبنبات، البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر (أي: القنابل). فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا في عمرهم عاينوه، نادوا: يا سلام من هذه الآلام، ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان.» ودخلت جيوش الفرنسيين إلى الجامع الشريف بخيولهم، فربطوها بقبلته وعاثوا بأروقته، وكسروا قناديله ونهبوا خزائن طلبته، وما فيه من المتاع والأواني والودائع والمخبآت، وأتلفوا المصاحف والكتب، وكان ذلك في اليوم الثالث من جمادى الأولى سنة 1213ه/22 تشرين الأول سنة 1798م. ولما رحل نابليون وخلفه الجنرال كليبر لم يكن أحسن حالا منه، ورأى الشعب المصري أنه لا بد من الانتقام؛ فقد تحمل ويلات شدادا، ولم يعد في طوقه أن يصبر على ظلم الفرنسيين، وكان المجلى في ساحة الانتقام هو الشيخ سليمان الحلبي، وهو فتى سوري رحل من حلب لتلقي العلم في الأزهر الشريف، فمكث فيه ثلاث سنوات ثم رجع إلى بلده، ولما وصل إلى حلب وبلغته نكبات الفرنسيين لإخوانه المصريين وتهديمهم لمدرسته الروحية وأكبر جامعة إسلامية، آلى على نفسه أن ينتقم من الظالمين، ورحل إلى مصر للفتك بالقائد الفرنسي الذي سام مصر خسفا. فلما دخلها وزار المسجد المعمور وجده قد تهدم وأضحت معالمه خرابا، اشتدت حماسته وباع نفسه لدينه وقوميته، وترصد القائد العام الجنرال كليبر فقتله في اليوم الرابع عشر من حزيران سنة 1800م بطعنات خنجره، فكانت هذه الطعنة بذرة من بذرات الانبعاث العربي. وإنه لمن الصدف الطيبة أن يقوم بهذا العمل القومي النبيل في ديار مصر فتى لم يتجاوز الرابعة والعشرين من أهل حلب. ولم يكن سليمان يوم محاكمته الصورية إلا مظهرا رائعا من مظاهر البطولة والعزة على الرغم من كثرة تعذيبهم إياه وسوء قتله.
ومنذ ذلك اليوم ازدادت ريبة الفرنسيين في شيوخ الجامع الأزهر وفي طلبته، وعرفوا أنهم لن يستطيعوا البقاء في هاته الديار. ولكن جنونهم وحمقهم دفعاهم إلى إغلاق الجامع الأزهر والتضييق على أساتذته وطلابه، وتسفير الغرباء من أبناء العروبة إلى ديارهم، كما أنهم أمعنوا في إغلاق المساجد والجوامع الكبيرة في القاهرة وسائر المدن المصرية، وامتهنوا حرمتها المقدسة فجعلوا من مسجد الأمير أزبك في الأزبكية سوقا لبيع أموال المصريين المصادرة، ومن مسجد الرويعي خمارة، ومن المسجد الناصري قلعة عسكرية، ومن مسجد الأمير سليم الكاشف في أسيوط سجنا، وهدموا عددا كبيرا من المساجد والمدارس، نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر: مسجد الجنبلاطية في باب النصر، ومسجد جركس، ومسجد خوتد بركة، ومسجد عثمان الكنجية، ومسجد خاير بك، ومسجد عبد الرحمن الكنجية، ومسجد البنهاوي، ومسجد الطرطوشي، ومسجد الشيخ العدوي.
هكذا فعل نابليون الإمبراطور العظيم الذي يزعم بعض المؤرخين أن حملته على مصر كانت حملة جد مفيدة، وأنها سارت بمصر خطوات نحو التقدم والخير، مع أنها كانت حملة استعمارية لم يهدف من ورائها إلا إلى استعمار مصر والاستمتاع بخيراتها. وحين بعثت الدولة العثمانية حملتها العسكرية لطرد الفرنسيين، أخلص الشعب المصري في كفاحه مع الدولة العثمانية ضد الغاصب، ثم أعان محمد علي على الدولة العثمانية ظنا منه أن الحالة ستتحسن على يديه، ولكن فأله قد خاب.
فقد استولى محمد علي باشا الأرناءوطي الألباني على مصر بعد أن أوقع بين فرق أجناد الدولة العثمانية وبقايا المماليك، واضطرب حبل الأمن في البلاد وساءت أوضاعها، وأخذ أهل مصر وعقلاؤها يفتشون عن المخلص، وكان محمد علي داهية استطاع أن يخلب ألبابهم ويستولي على السلطة في مصر في سنة 1805م/1220ه، وقد سار أول الأمر بالبلاد سيرة حسنة، واستعان بالمخلصين من قومها كالسيد عمر مكرم الزعيم القومي المخلص، كما استعان بنفر من شيوخ الأزهر الفاضلين. ولكن لما توطدت أقدامه ساءت سيرته وأخذ يفتك بالناس ويسيء معاملتهم، ولكنه على الرغم من ذلك كان واحدا من أولئك الذين أثاروا في سكان مصر والشام جذوة الوطنية، ووضع - سواء كان متعمدا أو غير متعمد - بذرة من بذور القومية العربية في البلد الذي احتله، كما فعل ذلك نابليون من قبل كما سنفصله بعد.
الفصل الثاني
حركات الإصلاح في العالم العربي
Page inconnue
حركة محمد علي في مصر
رجع الأتراك وحلفاؤهم الإنكليز إلى أرض مصر بعد أن خرج عنها الفرنسيون، وكانت البلاد مقسمة السلطات؛ فالإنكليز يسيطرون على الإسكندرية وأكثر الوجه البحري، والوالي التركي يسيطر على القاهرة وما حولها، وبقايا المماليك وزعيمهم محمد بك الألفي يسيطرون على الوجه القبلي، وجنود الأتراك في القاهرة والوجهين يعيثون في الأرض فسادا، ولا يصيخون للوالي التركي، وقد حاول هذا الوالي، واسمه: خسرو باشا، أن يقصي محمد الألفي عن مصر، فأعلمه أن السلطان يستدعيه إلى الآستانة، وأنه سينعم عليه بألقاب ورتب وأموال، فلم يأبه به، وقال له: نحن في بلادنا ولن نتركها حتى يأذن الله.
ولم يتمكن خسرو باشا من فرض سلطانه على الصعيد؛ وكيف يستطيع ذلك وجنوده الأتراك لا يطيعونه؛ لأنه قد مضى عليهم شهور وهم بدون رواتب ولا جامكيات؛ ولذلك أخذوا يعيثون الفساد في البلاد، ويقطعون السابلة، ويغيرون على الأهلين، ويسرقون بيوتهم ومحلاتهم، وكم ثارت فتن بين خسرو باشا وبين الأجناد بسبب مرتباتهم، وقد اضطر في بعض هذه الفتن أن ينجو بنفسه وأهله هاربا من القاهرة إلى دمياط؛ خوفا من فتك الأجناد الذين أحرقوا بيته وأرادوا الفتك به وبحريمه.
ولم يكن الوالي التركي الذي خلفه - واسمه: طاهر باشا - خيرا منه، حتى ساءت حالة البلاد، وتمنى أهلها زوال هذه الدولة الظالمة؛ لما رأوه من عبث جنودها وبخاصة الانكشارية الذين رفضوا الوالي العثماني الجديد؛ علي باشا الطرابلسي. وكان محمد علي رئيس الجنود الأرناءوط في مصر يعمل في الخفاء على إثارة القلاقل وتوسيع شقة الخلاف بين الدولة والجنود، وبينهم وبين المماليك، ويثير الأهلين على الولاة الأتراك، حتى تمكن من الاستيلاء التام على زمام الأمور في مصر يوم 13 صفر سنة 1220ه/13 مارس 1805م، فأخذ ينظم البلاد، ويدعم سلطانه في البر والبحر، حتى هابته الدولة العثمانية واعترفت به على شريطة أن يؤدي لها أموال الجباية في أوقاتها. وعرف كيف يصانع رجال الدولة حتى ثبت قدميه، ثم انصرف إلى إصلاح شئون البلاد الداخلية؛ فأنشأ المصانع والمعامل ودور الصناعة والسفن، ومعامل البارود، والقنابر «القنابل» ومسابك المدافع، والأسلحة، كما أمر بإنشاء مدرسة للهندسة، ومعامل لصنع النسيج الحريري والقطني والصوفي،
1
وأمر بإقامة سد عظيم عند مدينة رشيد لتنظيم ري البلاد، ونظم الدورات الزراعية في مصر بتحديد مساحات زراعة القطن أو الكتان أو الحمص، أو القمح أو السمسم.
وعلى الرغم من أن «محمد علي» ظل على عنجهية الأعجمية، فقد اضطر إلى أن يتعرب ولا يكون شديد التعصب لقوميته غير العربية، لمعايشته المصريين واضطراره إلى أن يداريهم، وطموحه للسيطرة على البلاد المجاورة، وبخاصة الشام الذي تربطه بمصر شتى الروابط من دينية وقومية وتاريخية واجتماعية، فعمل على ضم الشام إلى بلاده، وأرسل حملة على رأسها ابنه (بالتبني) إبراهيم، وكان قائدا محنكا، وسياسيا عميقا، ففتح حصن عكا الحصين، ثم سار حتى بلغ بالجيش العثماني ضواحي حمص فشرده، ثم احتل بعلبك، وأتاه الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان خاضعا، واستسلم له حكام السواحل كصيدا وصور وبيروت واللاذقية في محرم سنة 1248ه، ثم استسلمت له مدينة دمشق ودخل مدينة حلب ونظم أموره، ثم عزم على احتلال الأناضول، فعبر جبال طوروس حتى بلغ قونية والتقى بالجيش التركي فكسره، ثم سار نحو «كوتاهية» وكاد أن يبلغ الآستانة، ولكن السلطان محمودا اضطرب، وداخله الفزع والغضب وطلب معونة الدول الأوروبية، وبخاصة روسية التي أصبحت بعد أن عقدت الدولة معها معاهدة أدرنة ترى من مصلحتها نصرة السلطان العثماني، فبعثت إليه باثني عشر ألف مقاتل. ولما رأى إبراهيم باشا أن لا قبل له بالوقوف أمام الدولة العثمانية اضطر إلى أن يعقد معها معاهدة صلح، على أن تبقي له بلاد الشام وجنوبي الأناضول من حدود آذنة، مع جزيرة كريت، على أن يدفع للسلطان في كل سنة مبلغا من المال، هو: ستون ألف كيس طوال خمس سنوات، وأن يذكر اسم السلطان على المنابر يوم الجمعة في مصر والشام. واستقر إبراهيم باشا في مدينة «أنطاكية» شمالي الشام، وأخذ يعمل على توطيد دعائم دولته وترتيب المجالس الإدارية والشئون المالية، وتنظيم الأحوال الزراعية والتجارب الصناعية. وقد حمد الناس - على وجه العموم - سيرة إبراهيم باشا في الشام، ولم يتبرموا بها. ولو لم يقم بتجنيد الأهلين تجنيدا إجباريا، وبفرض ضرائب باهظة لسكن الناس إلى الحكم الجديد، ولكن لم تمض فترة حتى ابتدأت الاضطرابات؛ ففي القدس ثار أهلوها سنة 1249ه ووقعت فتنة كبيرة بين المسلمين والنصارى. وفي بلاد النصيرية عند الساحل السوري اشتعلت نار فتنة عمياء بين الجند والأهلين، فانتدب إبراهيم باشا لإخمادها الأمير بشير الشهابي، وكان عنيفا في حربه إياهم والفتك بهم وبمزروعاتهم وقراهم؛ فقد أتلف جنده نحوا من مائة قرية من قراهم. وفي بلاد طرابلس ثار الأهلون لفداحة الضرائب، فاضطر إبراهيم باشا أن يطلب إلى الأمير الشهابي قمع الثورة في جبال عكار وصافيتا والحصن، كما ثار أهالي حلب والشمال السوري حتى أنطاكية، ولم يقدر جند إبراهيم باشا على قمع ثورتهم حتى أمده أبوه من مصر بعساكر جديدة. وفي بلاد نابلس امتنع الأهلون عن تنفيذ قانون التجنيد العام، وثاروا على إبراهيم باشا وحاصروه في القدس مدة شهرين، ولو لم يحضر أبوه محمد علي من مصر على رأس جيش وينقذه، لكانت العاقبة جد وخيمة. وفي بلاد الدروز في حوران ووادي التيم ثار الأهلون أيضا، واضطر نائب إبراهيم باشا في دمشق إلى إرسال جيش كبير لقتالهم في سنة 1251ه، ولكن الجيش انهزم أمام قوى الدروز، واضطر إبراهيم باشا أن يجيش جيشا قويا، ففتك بالدروز شر فتكة.
وهكذا بدأ الأهلون يعلنون عداءهم للدولة المصرية، ولا شك في أن الدولة العثمانية ومن وراء إنكلترا كانت تثير الأهلين، وتدس الدسائس، وتحرك رؤساء العشائر، وزعماء الطوائف، ومشايخ البلاد على الثورة، إلى أن كانت سنة 1255ه، فبعثت الدولة العثمانية إلى سورية جيشا كبيرا بقيادة حافظ باشا، والتقى مع الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا عند مدينة «نزب» فانتصر إبراهيم باشا. وبلغت الأخبار إلى إستانبول وكان السلطان محمود الثاني قد مات وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد وهو فتى في السادسة عشرة، فاضطر رجال الدولة أن يهادنوا إبراهيم باشا. ولكن الدول الأوروبية كفرنسة وإنكلترا وروسية وبروسية والنمسة قلقت لاستكانة الدولة العثمانية، فعقدت مؤتمرا في لندرة سنة 1840م قررت فيه عدم موافقتها على بقاء محمد علي في الشام وانحصار سلطته في مصر وعكا، وخالفت فرنسة في هذا القرار وعزمت في الخفاء على مساعدة محمد علي نكاية بإنكلترا. ولكن الدول الأخرى، وبخاصة إنكلترا، عزمت على مقاومة نفوذ محمد علي، فبعثت إنكلترة أسطولها إلى سواحل الشام، واحتلت بيروت وسائر المدن الكبرى الساحلية، واضطر محمد علي أن يتراجع إلى مصر، وترك إبراهيم باشا دمشق في سنة 1256ه، ثم انسحب من سائر البلاد الشامية.
والحق أن حركة محمد علي في الشام كانت - على ما فيها من المساوئ - حركة طيبة مباركة؛ فقد أحيت أصول الوعي القومي العربي من جهة، وأثارت في أكثر النفوس جذوة الوطنية وحب الاستقلال والتخلص من النير التركي، ورفعت أيدي أصحاب الإقطاعات عن الأراضي الشاسعة التي كانوا يتملكونها من جهة ثانية، هذا فضلا عن روح العدالة والإنصاف التي بثتها بين الأهلين خلال الفترة التي حكمت البلاد فيها.
الفصل الثالث
Page inconnue
حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية
في الجزيرة العربية
أراد محمد علي وابنه إبراهيم أن يسيطرا على البلاد العربية؛ تمهيدا لإقامة إمبراطورية عربية واسعة، وكان الابن أكثر تفهما لهذه الحركة من أبيه محمد علي؛ لأنه كان أكثر إدراكا للوعي العربي العام؛ ولذلك حبت نفسه إلى الاستيلاء على الجزيرة العربية والقضاء على الحركة الوهابية التي قام بها أحد زعماء الإصلاح الديني في الجزيرة، وهو: محمد بن عبد الوهاب.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سليمان هذا هو فقيه مصلح من بني تمام، ولد سنة 1115ه/1703م في «العيينة» من بلاد نجد، وكان ذكيا ألمعيا، درس مبادئ العلوم الدينية في بلده على شيوخه، ثم رحل إلى الحجاز وسكن المدينة المنورة، فقرأ على شيوخها، ثم انتقل إلى العراق وسكن البصرة فآذاه بعض أهلها، ورجع إلى نجد فسكن في «حريملة» فترة، ثم رجع إلى مسقط رأسه يبشر بدعوة الإصلاح الديني التي ارتآها، ويعمل على تطهير الدين، ويدعو إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويحرض على قراءة كتب المجتهد أحمد بن تيمية. وقد آزره أول الأمر في دعوته هذه أمير «العيينة» عثمان بن حمد بن معمر، ثم خذله فقصد إلى «الدرعية» في سنة 1157ه، فرحب به أميرها محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن فرحان بن إبراهيم الذهلي الشيباني، وآزره لما كان بينه وبين أمير «عيينة» من التنافس. وفي الدرعية كثر مريدوه. ولما مات محمد بن سعود سنة 1179ه/1765م وخلفه ابنه عبد العزيز، قوي سلطان ابن عبد الوهاب؛ لحب الأمير إياه وإخلاصه في تقبل دعوة الإصلاح التي دعا إليها ابن عبد الوهاب، ولما مات عبد العزيز سنة 1218ه/1803م وخلفه ابنه سعود الثاني المعروف بالكبير؛ اتفق هو والشيخ على نشر الدعوة بالسيف، فاتسع نطاقها وعمت جميع شرق الجزيرة العربية واليمن والحجاز، إلى أن مات ابن عبد الوهاب سنة 1206ه/1792م في الدرعية،
1
فخلفه ابنه، وقويت الصلات بين آل عبد الوهاب وآل سعود طوال العصر، وما يزال أبناء عبد الوهاب حتى أيامنا هذه معروفين بآل الشيخ، ولهم لدى الملوك السعوديين أعظم المكانة.
ولما عظمت مكانة السعوديين الوهابيين السياسية وامتد سلطانهم ذلك الامتداد الواسع، خافت الدولة العثمانية منهم، وخصوصا في أيام سعود الكبير، بعد استيلائهم على الأماكن المقدسة وزحفهم على النجف وبغداد ودمشق، فعهدت إلى أمير مصر محمد علي بمحاربتهم، وصادف ذلك هوى من نفس محمد علي، فجيش جيشا ضخما وبعث به، وعلى رأسه أحد أبنائه: طوسون، فزحف على المدينة المنورة، ولكن السعوديين تمكنوا من الفتك بالجيش، ولم ينج طوسون إلا بأعجوبة، فجمع قواته من جديد وزحف على المدينة فاستولى عليها في سنة 1228ه/1812م. ولكن السعوديين ظلوا يناوئونه حتى توفي أميرهم سعود في سنة 1229ه/1814م، فخلفه ابنه عبد الله، وكان مثل أبيه نجدة وشجاعة، وقد استمرت الحرب بينه وبين محمد علي فترة طويلة، حتى عهد محمد علي إلى ابنه إبراهيم، فهاجم بلاد القصيم وأخرج السعوديين منها، ثم اضطرهم إلى الاحتماء بعاصمتهم الدرعية، وما زال محاصرا لها حتى استسلم له أميرها عبد الله في أيلول سنة 1818م، فساقه أسيرا إلى الآستانة حيث قتله السلطان سنة 1234ه/1818م وهدم مدينة «الدرعية»، وأقام في نجد أميرا من قبله، وأعاد بلاد الحجاز إلى الأشراف الذين كان السعوديون قد أقصوهم عنه، ثم حاول الاستيلاء على بلاد «عسير» فلم يتمكن، واستمرت حروبه في الجزيرة منذ سنة 1825م إلى سنة 1837م. ولما احتل الإنكليز بلاد عدن في سنة 1839م رأى أن يتخلى عن مطامعه في جزيرة العرب، ويسلم المدينتين المقدستين «المدينة ومكة» إلى الباب العالي.
ولما ضعف سلطان محمد علي في الجزيرة، لمع نجم أحد أمراء السعوديين في نجد، وهو: تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في الرياض، وكان تركي هذا رجلا قويا ذا شكيمة، فاتخذ الرياض عاصمة له، وأعاد للسعوديين عزتهم ووطد احترام دولتهم، فلما قتل سنة 1249ه/1832م
2
خلفه ابنه فيصل، وكان فتى حازما كثير المطامع مؤمنا بقوميته ودينه، عاملا على تطهير بلاده وسائر الجزيرة من الدخلاء والأجانب، فشمر عن ساعده وثار على قاتل أبيه مشاري بن عبد الرحمن فقتله، ثم انصرف إلى محاربة جنود محمد علي المصريين محاربة عنيفة، ولكنهم استطاعوا بمعونة ابن عمه خالد بن سعود أن يفلوا من حده ويأسروه، فجيء به إلى مصر في سنة 1255ه/1838م فأقام أسيرا سجينا إلى سنة 1259ه، ثم فر من سجنه وعاد إلى نجد، ودانت له البلاد إلى أن توفي في الرياض سنة 1282ه/1865م، فخلفه سعود بن فيصل بن تركي بعد أن تولاها أخوه عبد الله بن فيصل بن تركي فترة قصيرة وخلع منها في سنة 1287ه. وفي أيام سعود تفرقت الديار النجدية إلى إمارات صغيرة، وضعف شأن السعوديين؛ فكان بلد الخرج تحت سيطرة ثنيان بن عبد الله بن ثنيان. وكانت بلاد الأحساء والقطيف وقطر والبحرين وعمان تحت سيطرة عبد الله بن عبد الله بن ثنيان، وكانت بلاد العارض تحت نفوذ سعود بن جلوي بن تركي، وبلاد الفرع وما إليها تحت سلطان فهد بن حنيتان بن ثنيان، ومدينة الرياض تحت نفوذ عبد الرحمن بن فيصل. وقد ظلت هذه الحالة إلى أن كانت سنة 1292ه/1875م؛ ففيها مات سعود بن فيصل، وتمكن الأمير محمد بن الرشيد الشمري أمير حائل في شمالي نجد من الاستيلاء على أكثر ملك آل سعود. وفي سنة 1305ه تمكن من الاستيلاء على الرياض عاصمتهم، وامتد سلطانه على نجد كله فخضع له، وظل على ذلك إلى أن مات سنة 1314ه/1896م.
Page inconnue
3
ولا شك في أن الحركة الوهابية كانت بذرة من بذرات القومية العربية، وعاملا من عوامل إيقاظ الوعي الوطني الديني الساعي إلى تطهير النفس العربية مما علق بها من أوضار الماضي وجهالات الاستعمار الأجنبي الذي أفسد كل شيء في دنيا العرب، وحاول أن يطمس نور الحقيقة والإيمان، ويقضي على الحيوية العربية، في البلاد العربية عامة وجزيرة العرب خاصة. ولكن ظهور الدعوة الوهابية بما اشتملت عليه من تحريض على الجهاد، وتطهير للنفوس، وإذكاء للوعي بصفة عامة، قد أيقظ العرب من سباتهم، وأثار فيهم الوعي القومي العربي وإن لم تكن هذه الإثارة مقصودة بذاتها.
الفصل الرابع
حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها
في العراق والشام
لقد أحس حكام الآستانة بعد توقيع مندوبهم على معاهدة «كوتاهية» يوم 18 نيسان سنة 1833م في مقر إبراهيم باشا ابن محمد علي، أن إمبراطوريتهم العظمى آخذة في الانحلال فالاندثار، إن لم تتخذ خطة جديدة في سيرها وتعمل على الإصلاح والأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛ ولذلك أصدر السلطان محمود الثاني سنة 1255ه/1839م فرمانات بتنظيم الجيش تنظيما صحيحا، وبإصلاح شئون البلاد، وبعقد المعاهدات مع الدول العظمى، وبالأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛
1
فإنه بعد أن نظم الجيش تنظيما صحيحا بوساطة المدربين الأوروبيين، عمد إلى الإصلاح الإداري؛ ففي سنة 1253ه/1837م ألغى لقب «الصدر الأعظم» وأحدث لقب «الباش وكيل»؛ أي رئيس الوزراء، وأحدث منصب وزارة الداخلية والوزارات الأخرى، وبعد سنة نظم أمر رواتب الموظفين، فصاروا يأخذونها آخر كل شهر من خزينة الدولة بعد أن كانوا قبل ذلك يأخذون منحا أو تعويضات من الأهلين.
ولم يمت السلطان محمود في 19 ربيع الثاني سنة 1255ه 1 تموز سنة 1839م إلا بعد أن وضع أسس الإصلاح، حتى عده المؤرخون بمثابة الملك بطرس الأكبر الذي نظم شئون القيصرية الروسية.
ولما مات محمود خلفه ابنه السلطان عبد المجيد خان وله من العمر نحو 18 سنة، وفي عهده تولى وزارة الخارجية رشيد باشا، وكان رجلا مصلحا تقلب في عدة من وظائف الدولة الكبرى، ومن بينها سفارة بلاده في لندن، فأعجب أشد الإعجاب بالنظام البرلماني والأسلوب الدستوري، فلما تولى منصبه السياسي ببلده عزم على أن يطبق تلك الأنظمة ويجعل لبلاده دستورا عصريا، ويسمو ببلاده في نظر الأوروبيين الذين أخذوا ينظرون إلى محمد علي صاحب مصر نظرة إكبار على عكس نظرتهم إلى دولة الخلافة العثمانية، وقد حبذ العمل كل من بريطانية وفرنسة. ونورد فيما يلي خلاصة ذلك الدستور المعروف باسم: «فرمان كل خانه»، الذي تلي علنا على جمهور كبير من الوزراء والأعيان يوم 26 شعبان سنة 1255ه 3 تشرين الثاني سنة 1839م:
Page inconnue
غير خاف أن دولتنا العلية جرت منذ مبدأ ظهورها على هدى أحكام القرآن الكريم وضوء القواعد والقوانين الشرعية، فبلغت بذلك مكانة سامية ورفاهية. ولكنها ما عتمت منذ قرن ونصف أن أخذت تنحرف عن ذلك السبيل، فتبدلت أحوالها وانقلبت قوتها إلى ضعف، وغناها إلى فقر.
وبما أن الممالك التي لا تسير إدارتها على القوانين الشرعية لا يمكن أن تخلو أو تثبت؛ لذلك انصرفت أنظارنا الملكية إلى دراسة أحوال أمتنا وتعمير ممالكنا، والعمل على رفاهية شعوبنا، والتنقيب عن الأسباب التي تهيئ ذلك، والسعي في ذلك السبيل، لما تتمتع به مواقع ممالكنا الجغرافية، وخصوبة أراضيها، ومواهب أهاليها. وإننا لنرجو أن نصل إلى أهدافنا المرجوة خلال خمس سنوات أو عشر.
وبعد الاعتماد على العلي القدير، نعلن وضع قوانين وأنظمة جديدة تتحسن بها إدارة ممالك دولتنا، تشتمل على النقاط العامة التالية:
صيانة الأرواح والأعراض والأموال.
تحديد الضرائب والخراج.
تنظيم شئون التجنيد ومدته؛ لما في ذلك من صيانة البلاد والعباد والأعراض والأموال. أما صيانة الأرواح والأعراض والأموال فلما في ذلك من حماية الدولة؛ لأن الدولة التي لا تصون أرواح أهاليها وأعراضهم وأموالهم ليست جديرة بأن تسمى دولة، والشخص الذي لا يأمن على روحه وعرضه وماله لا يمكنه أن يرتبط بهذه الدولة، وعلى العكس إذا كان آمنا على ماله وروحه وعرضه فإنه يغار على دولته وتزداد محبته لها.
وأما تحديد الضرائب والخراج، فإنه لا بد لكل دولة من مصارف الجند ورجال الإدارة، ولا بد للناس من وضع قوانين عادلة في تحديد الضرائب وأخذ الخراج، والبعد عن نظام الإقطاع الكيفي «والالتزامات المضرة» التي لا تتقيد بقانون، ولا ترحم أصحاب الأرض، ولا تحد من سلطات المسئولين.
وأما مسألة تنظيم الجندية، فإنه لا بد للبلاد من جند يصونون أراضيها ويحمون حدودها، ولكن يجب ألا يقسر الناس على التجنيد إلا ضمن حدود القانون، ولا يطلب من بلدة أو عشيرة زيادة عن تحملها؛ لما في ذلك من الظلم والإخلال بموارد البلاد من زراعة وتجارة. كما أنه لا بد من تحديد مدة التجنيد لكل فرد من أفراد الممالك بأربع أو خمس سنوات بطريق المناوبة. وهناك أمور أخرى تتعلق بتنظيم العدالة، وهي:
لا يجوز إعدام أرباب الجنح، ولا يجوز تسميمهم جهارا أو خفية، ولا يعدم أحد إلا بعد ثبوت إجرامه بمقتضى القوانين الشرعية.
ولا يجوز تسلط أحد على عرض أحد.
Page inconnue
ولا يجوز التعدي على أموال الآخرين وأملاكهم، ولكل امرئ حق التصرف التام بأملاكه الخاصة، ولا يحق لأحد أن يعتدي على أحد أو يتدخل في أموره الخاصة. ومن مات وهو متهم، فورثته أبرياء لهم حقوقهم ما لم يحكم على المورث، ويبقى لهم مال مورثهم بعد أخذ حقوق المحكوم لهم.
يتمتع جميع أفراد شعوبنا من مسلمين وغيرهم بحماية الدولة لهم ومساعدتهم بدون استثناء.
يزداد عدد أعضاء مجلس الأحكام العدلية على قدر اللزوم، وسيجتمع الأعضاء ورجال الدولة في المواعد المضروبة، ويتناقشون في أحوال الدولة بحرية تامة، ويقررون القوانين المختصة بالأمن والأموال والخراج، ثم تقدم إلى «السرعسكرية» القيادة العامة، ثم يرفع إلى مقامنا لتوشح بتوقيعنا وتصبح نافذة إلى ما شاء الله، وسنحلف بالله العظيم في غرفة الخرقة النبوية بحضور جميع العلماء والوكلاء الأعضاء، وسيحلفون بالله على أن من خالف هذه القوانين الشرعية من الوكلاء والعلماء والناس، فسيقع عليه العقاب مهما كانت مرتبته، وسيقرر قانون للعقوبات.
سيزاد راتب الموظفين بحيث يصبح الفرد منهم مكفي المئونة، وسيعاقب المرتشون ويوضع قانون خاص شديد لعقوبة الرشوة؛ لأنها أعظم سبب لخراب الممالك، ولأنها محرمة شرعا. سينفذ هذا الدستور في كافة أنحاء الممالك العثمانية وفي العاصمة.
يبلغ هذا الدستور إلى كافة سفراء الدول الصديقة الممثلة في العاصمة؛ ليكونوا شهودا على دوام هذه الإصلاحات إلى الأبد. ونسأل الله أن يلهمنا التوفيق، وأن يصب سوط عذابه على كل من خالف هذه القوانين، وأن لا ينجح له أعمالا مدى الدهر، آمين.
حرر في يوم الأحد 26 شعبان سنة 1255ه.
2
ويظهر أن هذه القوانين الدستورية لم تطبق تماما؛ لانشغال الدولة العثمانية بحروبها مع روسية، وهي المعروفة بحروب القرم، فما إن انتهت هذه الحروب في سنة 1272ه/1856م حتى أصدر السلطان قانونا جديدا عرف ب «الإصلاحات الخيرية»، التي نورد فيما يلي موجزا عنها: إن من أهم أفكارنا السامية العمل على إسعاد رعايانا التي ما فتئنا نعمل على الترفيه عنهم منذ تبوأنا العرش، فازدادت ثروة البلاد. ورغبة منا في رفع دولتنا إلى مصاف الدول العظيمة وبلوغها درجة الكمال بالتعاون مع كافة الدول الصديقة، أصدرنا الإرادة الملكية بإجراء الأمور الآتية: اتخاذ كافة التدابير لحماية جميع رعايانا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وحفظ أموالهم وأعراضهم، ضمن الأحكام الشرعية والقوانين النظامية السابقة الواردة في «فرمان كل خانه»، وإخراجها من حيز الكتابة إلى حيز العمل، وغيرها من القوانين النافعة الصادرة عن أجدادنا السلاطين العظام، والممنوحة للطوائف المسيحية وغيرهم من أرباب الطوائف المقيمة في ديارنا، والسماح لهم بإقامة مجلس في «البطريق خانات» تحت رعاية بابنا العالي، تعمل على الإصلاح الذي يقتضيه الوقت وتستدعيه المدنية الحديثة، بموجب الوثيقة المرخص بها لأساقفة الطوائف المسيحية من السلطان أبي الفتح محمد خان الثاني وخلفائه ... وتمحى وتزال إلى الأبد - من المحررات الرسمية الديوانية - كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر في اللسان أو الجنسية أو المذهب. ويمنع قانونا استعمال كل وصف أو تعريف يخل بالشرف أو يستوجب العار بين الناس أو الموظفين. لا يمنع أحد من رعايانا من إجراء رسوم الدين وشعائره، ولا يجبر أحد على تبديل دينه.
يتمتع كل أحد من رعايانا بوظائف الدولة إذا استوفى الشروط القانونية المطلوبة، وجاز الامتحانات المرعية، وتخرج من المدارس المؤهلة. ولا يمنع أحد من رعايانا من الدخول في المدارس الملكية والعسكرية، بلا فرق ولا تمييز بين المسلمين وغيرهم. ويسمح لكل طائفة من رعايانا بفتح مدارس خاصة بها لتعليم المعارف والحرف والصنائع تحت إشراف الحكومة وتطبيق برامجها، ويكون انتخاب معلميها وطرق تدريسها تحت ملاحظة مجلس المعارف المختلط الذي نسمي أعضاءه.
تحال كافة الدعاوى التجارية والجنائية التي تقع بين المسلمين والنصارى وغيرهم من الرعايا والأجانب، على الدواوين والمحاكم الخاصة المختلطة، وتكون محاكماتهم علنية. ويجوز للمسيحيين أن يتحاكموا في محاكمهم البطريكية أو الروحية، إذا كانت الدعوى متعلقة بشئون الميراث، وتصدق شهادة الشاهد بمجرد تحليفه اليمين حسب قواعد دينه.
Page inconnue
تحال كافة الدعاوى الحقوقية إلى المحاكم الحقوقية في الولايات والمديريات، بحضور كل من الوالي والقاضي، وتكون المحاكمة فيها علنية. وإذا رغب أحد المتحاكمين في الدعاوى الحقوقية من المسيحيين إحالة دعواه إلى المحاكم البطريكية أو الروحية جاز ذلك.
يجب أن تكون لغات المرافعة في المحاكم التجارية والجنائية مفهومة، وبلغات أهل البلاد المعروفة في ممالكنا المحروسة.
يجب أن تنظم أحوال السجون لحبس مستحقي السجن أو المتهمين، ولا يؤذى سجين ولا يعذب تعذيبا جسديا، ولا يعامل سجين إلا بما تنص عليه القوانين النظامية الخاصة بالسجون.
يجب أن يتساوى رعايانا في دفع الضرائب، كما يستوون في التمتع بوظائف الدولة، لا يتميز مسلم على مسيحي أو غيره، ويقبل منهم بدل الخدمة العسكرية النقدي أو الشخصي.
تطبق أنظمة انتخابات أعضاء المحاكم والمجالس العامة على سائر رعايانا من مسلمين أو غيرهم، وستتخذ الإجراءات لتكون الانتخابات حرة طليقة من كل قيد من قيود الضغط.
تهيأ قوانين وأنظمة لحفظ الحقوق والبيوع والتصرف في العقارات والأملاك، تحافظ فيها على روح الشرائع السماوية.
يمنح الأجانب المقيمون في ممالكنا جميع الحقوق التي يمنحها رعايانا في بلادهم الأجنبية، وتصحح كافة الأخطاء السابقة التي حدثت قبلا، وخاصة فيما يتعلق بالضرائب والعشور.
تنظم شئون الالتزام والمناقصات والمزادات العلنية في الدولة، وتطبق العقوبات الشديدة على من يخالفونها ويستغلونها لمنافعهم الخاصة.
تنظم شئون الأشغال العامة والضرائب المفروضة من أجلها في المديريات والولايات، مما يتعلق بالطرق والمسالك البرية والبحرية.
بما أنه قد وضعت مؤخرا جداول خاصة بموازنة كل مديرية أو ولاية سنويا، فيجب على المسئولين ترتيب هذه الجداول وتقديم الحسابات المضبوطة، وتسوية شئون المعاشات، تحت إشراف الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)، ويجتمع كبار موظفي الدولة المختصون لمناقشة هذه الموازنات العامة، كما يشترك معهم النواب الممثلون لكافة المديريات والولايات بعد أن يحلفوا الأيمان، ويبدون آراءهم بكل حرية وصراحة في الدورات العادية أو الاستثنائية.
Page inconnue
تطبق كافة القوانين الصادرة عنا على جميع رعايانا وسكان ممالكنا من كافة الرعايا مهما كانت جنسياتهم ومأمورياتهم.
يسمح بفتح البنوك والدوائر المالية، وتهيأ كافة الأسباب لصيانة أموال الدولة ومواردها وزيادة الثروة العامة.
تفتح الطرق، وتشق الشبكات، وتنظم شئون الملاحة اللازمة لنقل محصولات ممالكنا، وتمنع الأسباب التي تحول دون تقدم التجارة والزراعة.
يعمل على تعميم العلوم والمعارف الأجنبية بطرق تدريجية مفيدة. على رئيس الوزراء نشر هذا الفرمان الجليل في العاصمة وكافة أنحاء ممالكنا، والعمل على تحقيق ما تضمنه، والأسباب اللازمة والوسائل الكافلة لتحقيق أهدافه النبيلة، وأن يبذل جهده لتعميمه واستمراره.
حرر في دار الخلافة أوائل جمادى الآخرة سنة 1272ه.
هذه بعض خطوات الإصلاح التي أراد رشيد باشا أن يسير عليها، وقد استطاع أن يضمن لها النجاح بموافقة السلطان الشاب عليها والدعوة إليها، وبالعمل على إيجاد برلمان يظهر للعالم أجمع تطور الحياة الاجتماعية والسياسية في الإمبراطورية العثمانية. وعلى الرغم من أن انتخاب نواب ذلك البرلمان لم يكن مثاليا؛ فإن هذه الحركة الإصلاحية قد آتت أكلها ونبهت الأذهان، سواء في أجزاء المملكة العثمانية العربية أو في غيرها من الأجزاء، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن الجزء العربي من المملكة العثمانية أصبح يشعر بحقه في الحياة الحرة الديمقراطية.
ولما مات السلطان عبد المجيد وخلفه أخوه السلطان عبد العزيز في 25 حزيران سنة 1861م، انكفأت حركات الإصلاح لما كان عليه من عقلية رجعية وفساد نفسي وتبذير أرهق كاهل المملكة وجعلها تخضع للنفوذ الأجنبي، حتى اضطرت أن تعلن إفلاسها سنة 1875م. وتدخل الأجانب بشكل سافر في إدارة شئون المملكة، وقد حاول السلطان عبد العزيز أن يعقد قرضا جديدا مع البنك الفرنسي، على أن يعوض هذا المصرف بوضع يده على موارد البلاد جابيا وخازنا، ولكن الحكومة الفرنسية رفضت.
وهكذا اضطر السلطان أن يعلن إفلاس الدولة عن تأدية فوائد وحصص قروضها العشرة السابقة التي كانت قد عقدتها مع بعض الدول الأوروبية، وقد حاول بعض زعماء الإصلاح في المملكة إنقاذ هذا الموقف، وفي طليعتهم الوزير المصلح مدحت باشا، فخلعوا السلطان في سنة 1876م، ورفعوا إلى العرش السلطان مراد الخامس؛ كان فتى حسن الثقافة مستنير الفكر، تثقف بالثقافة الحديثة، وكان يرجى للبلاد في عهده كل خير لولا إدمانه على الخمر الذي آل به إلى اختلال عقله وخلعه من السلطنة في 31 آب سنة 1876م، فتولى الأمر من بعده السلطان عبد الحميد الثاني، وتولى الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) المصلح مدحت باشا، فسار بالبلاد سيرة حسنة، وألف لجنة من ستة عشر موظفا كبيرا وعشرة من العلماء واثنين من قادة الجيش لوضع نواة الدستور، فاستقت مواده من الدستور البلجيكي ونشرته بعنوان «قانون أساسي» في 23 كانون الأول سنة 1876م، وألغت امتيازات العاصمة إستانبول التي كان أهلها متمتعين بعدة مزايا وإعفاءات عسكرية ومدنية، وأطلقت حرية الصحافة، وأقيم تمثيل شعبي في مجلسين: أحدهما للنواب، والآخر للأعيان. أما النواب فينتخبون من كافة أرجاء المملكة بمعدل نائب واحد لكل خمسين ألف إنسان كل أربع سنوات، وأما الأعيان فيسميهم السلطان نفسه، ويضع مجلس النواب ميزانية المملكة، ويسمي محكمة عليا من عشرة أعضاء، وعشرة مستشاري دولة، وعشرة مستشاري استئناف لمحاكمة الوزراء وكبار القضاة والمتهمين بالخيانة العظمى، وأن يكون التعليم الابتدائي إجباريا في كافة أرجاء المملكة.
وحاول الوزير المصلح مدحت باشا أن ينفذ مواد الدستور وقوانين الإصلاح بكل ما أوتي من قوة، ولكن السلطان عبد الحميد الثاني شل حركته فأقاله في 5 شباط سنة 1877م، ثم نفاه بتهمة الخيانة العظمى واتصاله بالدول الغربية، ثم انصرف السلطان إلى الاستعانة على تنفيذ خطته الرجعية بأفراد الجيش الذين استمالهم وأغدق عليهم المناصب والمراتب، واستعان بنفر من الضباط الألمان لتدريبهم، واستطاع أن يقضي على كل حركة إصلاحية أو نشاط وطني، واضطر زعماء الإصلاح المعروفين باسم رجال «تركية الحديثة» إلى الهرب لباريس وجنيف.
وقد استعان السلطان عبد الحميد الثاني على حركته هذه بنفر من الرجال، وفي طليعتهم مستشاره وفقيه بلاطه الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الحلبي الذكي الداهية، واستطاع أن يستولي على نفر كبير من المثقفين ورجال الدين وأرباب الطرق الصوفية، ويتخذ منهم بطانة تقف أمام تيار الإصلاح، فأخذت هذه البطانة الحميدية تنشر آراءها في كافة أرجاء المملكة، ومن بينها البلاد العربية، مبينة للناس أن الوعي القومي الممثل في هؤلاء أو غيرها من الجماعات التي تدعو إلى القوميات في سائر بلاد المملكة، إنما هو وعي كاذب، وأن أوروبة إنما بعثت به لإفساد أحوال المسلمين.
Page inconnue
واستطاع السلطان عبد الحميد وبطانته أن يستمروا في الهيمنة على أجزاء المملكة فترة طويلة، كما استطاعوا أن يؤخروا بعث الوعي القومي - وبخاصة الوعي العربي - فترة ما، فتفسخت المملكة ودب الفساد إلى كافة أجزائها، وتداعى العقلاء من أهلها الأتراك وغير الأتراك للعمل على إنقاذها والقضاء على روح الجاسوسية، والاستخذاء والدسائس التي سيطرت عليها طوال العهد الحميدي. وكان في طليعة هؤلاء المتداعين ثلاثة من الشبان الأتراك، وهم: أنور، ونيازي، وطلعت؛ فأسسوا «جمعية الاتحاد والترقي»، وعملوا على تنفيذ الدستور في سنة 1908م، وسيطروا على العاصمة، فخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني، وولوا أخاه السلطان محمد رشاد الخامس، وأوجدوا برلمانا يمثل كافة بلاد الإمبراطورية، ويعمل على تنظيم كيان الإمبراطورية المتفكك، ولكن هذا كان شبه مستحيل؛ لأن الإمبراطورية كانت مؤلفة من عناصر متباينة في الأجناس والأديان والأفكار، ولأنها كانت محاطة بعدد كبير من الخصوم الأقوياء، ومليئة بعدد ضخم من المشاكل. ولقد حاولت «جمعية الاتحاد والترقي» خلق ما أسمته «الجامعة العثمانية» ولكنها لم تستطع، وكان شبان العرب الأحرار في طليعة من حاولوا الانفصال عن تلك الجامعة الغريبة، وأخذوا يفكرون في العمل للتخلص من ربقة الاحتلال العثماني والعهد الحميدي المتستر بستار الدين، البعيد عن روح الدين ومبادئه القويمة وأهدافه السامية على ما سنفصله فيما بعد.
الفصل الخامس
الحركات في العهد الحميدي وأثرها
في العالم العربي
كانت الإمبراطورية العثمانية وقت اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني على عرشها في حالة من التفكك الداخلي جد واضحة، كما كانت الدول الأوروبية تعمل على انتقاص رقعتها وإفساد الجو الخارجي حولها، وكانت أقرب الدول الأوروبية منها هي دولة ألمانيا القيصرية؛ فقد تقرب القيصر غليوم الثاني من السلطان عبد الحميد الثاني، وتظاهر بأنه صادق في تقربه، وأنه يريد أن يجعل من دولة الخلافة دولة قوية، واعتقد السلطان العثماني بصحة هذا القول، فبادل القيصر العواطف، وقويت المظاهر الودية بين الدولتين، وتتابع الرسل والسفراء ورجال الإرساليات والبعوث بينهما، وكان من أبرزها بعثة الكولونيل فون ديركولتز،
1
وهو من أقدر ضباط الجيش الألماني، وقد قدم الآستانة في ربيع سنة 1883م لينظم الجيش التركي، فقام بعمله أحسن قيام، وظل ثلاث عشرة سنة يعمل بدأب حتى استقامت أمور الجيش، ونبغ فيه نفر من الضباط الأذكياء - وفيهم عدد غير قليل من الشبان العرب - وكان هؤلاء الضباط نواة الحركة التحررية في الإمبراطورية العثمانية.
وفي عام 1898م قدم القيصر نفسه إلى زيارة السلطان زيارة رسمية، فتلقاه وفتح له القصور واستقبله استقبالا باهرا، وعقد معه اتفاقية سكة حديد «برلين - بغداد - البصرة»، وزار الإمبراطور في هذه المناسبة بيت المقدس ودمشق، وكانت هذه الزيارة بمثابة دقة ناقوس نبهت الدول الغربية، وبخاصة بريطانية، على وجوب الوقوف أمام هذا التقرب التركي-الألماني، واستمر هذا التقارب بين الدولتين طوال عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
ومما هو جدير بالذكر أن أكثر العالم العربي كان خاضعا في هذا العصر للنفوذ العثماني؛ فبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية كانت ممتلكات خاضعة خضوعا تاما للباب العالي، وكانت بلاد الشام مقسمة إلى ولايتين وسنجق واحد، ثم رأوا تقسيمها منذ سنة 1887م إلى ثلاث ولايات وسنجقين اثنين، وهي ولاية حلب في الشمال والشمال الشرقي، وولاية بيروت في الغرب، وولاية الشام في الشرق، وسنجق لبنان الذي اقتطع من ولاية بيروت، وسنجق القدس في الجنوب، وكان لهذين السنجقين وضع إداري مستقل.
وأما العراق، فكان مقسما إلى ثلاث ولايات، وهي: ولاية الموصل في الشمال، وولاية بغداد في القلب، وولاية البصرة في الجنوب.
Page inconnue
وأما الجزيرة العربية فلم تكن الأوضاع فيها مستقرة، ولم تتمكن الدولة العثمانية من فرض سيطرتها عليها تماما إلا في سنة 1841م حينما سمت الدولة واليا على الحجاز خولته سلطة السيطرة على الجزيرة كلها، ومنحت أشراف مكة نوعا من السلطان الروحي والنفوذ التقليدي في ربوع الحرمين: مكة والمدينة. ولم يخرج عن سلطان الوالي إلا اليمن الذي كان دائم الثورات، وقد استطاع قائد إحدى الحملات العسكرية العثمانية على بلاد اليمن في سنة 1849م أن يخضع البلاد للخليفة العثماني، ولكنها ما لبثت أن انتقضت عليه، ثم اضطرت إلى أن تخضع ثانية في سنة 1865م، ثم ثارت إلى أن خضعت نهائيا في سنة 1872م بعد تعدد الحملات عليها عن طريق قناة السويس البحري، وطريق الحجاز البري.
وأما بقية أجزاء الجزيرة العربية، وهي: مقاطعتا هضبة نجد وبلاد شمر، فكانتا خاضعتين لنفوذ الأسرتين العربيتين القويتين: أسرة «آل سعود»، وأسرة «آل رشيد»؛ اللذين كانا يتنازعان السلطة في تلك الديار، ولا تستطيع يد الدولة العثمانية أن تمتد إليهما، وكانت ثمة بعض البقاع امتدت إليها يد دولة أجنبية مغتصبة، هي: دولة بريطانية؛ فإنها احتلت منطقة عدن في سنة 1839م، ثم احتلت جزيرة بريم الواقعة عند مدخل البحر الأحمر في سنة 1857م وأخذ سلطانها يقوى شيئا فشيئا في المناطق العربية الواقعة في الخليج العربي على طريق الهند.
أما بقية أجزاء العالم العربي، وهي: مصر والسودان وطرابلس الغرب والجزائر وتونس ومراكش، فلم تكن ترتبط بالخلافة العثمانية ارتباطا سياسيا قويا ولا سلطان لها عليها؛ فبلاد مراكش لم تطأها قدم الغزاة العثمانيين، ولم تمتد إليها يد سلطانهم أصلا. وبلاد تونس فقد انقطعت صلتها بدولة الخلافة وخضعت للسلطان الفرنسي منذ سنة 1881م، وبلاد الجزائر رزحت تحت قوى الاستعمار الفرنسي منذ سنة 1830م، وانقطعت الصلات نهائيا بينها وبين الدولة العثمانية. وبلاد طرابلس الغرب هي وحدها التي ظلت تحت النفوذ العثماني، وكانت مقسمة إلى ولايتين، هما: طرابلس، وبنغازي. وفي سنة 1912م استولت عليهما الدولة الإيطالية وطردت القوات العثمانية منهما. ومصر والسودان خضعتا للتاج البريطاني في سنة 1882م، ولم يبق للباب العالي عليهما إلا شبه نفوذ روحي.
هكذا كانت أوضاع البلاد العربية حين اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني عرش الباب العالي، وقد ظل ثلاثا وثلاثين سنة يحكم إمبراطوريته الواسعة، ومن ضمنها البلاد العربية، بطريقة تغلب عليها روح الفوضى والرشوة والفساد، وأخذت أصوات التذمر ترتفع في أنحاء الإمبراطورية، وتألفت الجمعيات السرية تعمل على التخلص من ذلك العهد السيئ، وكان السلطان يصم أذنيه عنها حينا أو يتصامم حينا آخر؛ إلى أن يتمكن من القبض على أفرادها فيفتك بهم. وكانت أقوى تلك الجمعيات
2
وأكثرها نشاطا جمعية تركيا الفتاة «جون تورك»، فإن الأحرار العثمانيين من عسكريين ومدنيين أخذوا يضيقون ذرعا بالفساد المستشري بالبلاد، وبخاصة بعد الضربات العسكرية التي تلقتها الدولة في حروبها مع الغرب، فاجتمع نفر من ضباط الجيش واعتنقوا مبادئ جمعية «تركيا الفتاة»، وآلوا على أنفسهم أن يعملوا لتخليص البلاد من الحكم الاستبدادي. وكان في طليعة هؤلاء الضباط: أنور بك، ونيازي بك، اللذان آليا على نفسيهما أن يجهرا بالدعوة ويعملا على إعادة الدستور، الذي كان المصلح مدحت باشا قد وضعه، وانضم إلى هذين الضابطين رجل مدني كان يشغل منصبا حساسا في إدارة البريد، هو: طلعت أفندي. وأخذ الثلاثة يدأبون على العمل ويتصلون ببعض البيوتات المالية في منطقة سلانيك لتغذية حركتهم ماليا، واستطاعوا أن يجدوا من تجار الدونمة - وهم يهود سلانيك المتظاهرون بالإسلام - عونا ماديا كبيرا مكنهم من تأليف جمعية كبيرة انتشرت في كافة أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن بينها البلاد العربية، ألا وهي: جمعية «الاتحاد والترقي».
وقد استطاع الضابط نيازي بك أن يفر من الجيش مع بعض إخوانه من أعضاء الجمعية؛ الضباط والمدنيين، فيلجئون إلى جبال «رسنه» في ولاية مقدونية، وأخذوا ينظمون الحملة على «الخليفة الطاغية»، معطل الدستور، ويؤلبون الجيش عليه، ويحرضون المدنيين على العصيان المدني. وكان أول النذر أن أعلن رجال الفيلقين الأول والثاني في بلاد «الروم أيلي» والفيلق الرابع في بلاد «كردستان» انضمامهم إلى الحركة الإصلاحية، وأبرق نيازي بك إلى الخليفة برقية يطلب فيها أن يعيد العمل بالدستور وإلا فإن الفيالق ستزحف على دار الخلافة وتقصي الخليفة السلطان عن عرشه. فاستهان هذا بهم أول الأمر ، ولكنه لما رأى أن الأمر جد أصدر «إرادة شاهانية» بإعادة الدستور العثماني، وكان ذلك يوم الجمعة في 25 جمادى الآخرة سنة 1326ه/1908م، فتنفس الأحرار في البلاد، وأطلقت حرية الكتابة والنشر، وألغيت الجاسوسية المخيفة المنتشرة في شتى أنحاء البلاد.
وكانت البلاد العربية، وبخاصة العراق وسورية، قد ابتهجت ابتهاجا عظيما، وأخذ الأحرار ينخرطون في سلك «جمعية الاتحاد والترقي»، ولكن هؤلاء الأحرار فوجئوا بظهور نوايا سيئة لدى «الاتحاديين» الأتراك؛ لأنهم كانوا ميالين إلى تتريك البلاد العربية ودمجها في العنصر التركي، فأخذوا ينظرون إلى حركاتها بحذر وانتباه شديدين.
كما أخذ الاتحاديون من جانبهم يعملون على تقوية نفوذهم والقضاء على خصومهم. ثم رأوا أن الحل الجذري هو في خلع السلطان، فاستصدروا فتوى بخلعه لقتله الأبرياء وتعذيبهم وإحراق الكتب والإسراف في تبذير أموال الأمة، وبايعوا ولي عهده رشاد أفندي باسم: محمد رشاد الخامس. •••
ساءت الإدارة العامة في العهد الحميدي بشكل واضح، وبخاصة في البلاد العربية؛ لأن السلطان عبد الحميد الثاني كان سيئ الإدارة كما رأيت، تسيطر عليه الأفكار الرجعية ويطغى عليه حب الطمع والخوف من أن تتفتح عيون الشعب عليه. وكان يحكم البلاد بشبكة من الجواسيس والإرهابيين، وقد حظر تعليم التاريخ الصحيح في المدارس، وحرم تدريس العلوم السياسية والاجتماعية، وبخاصة في البلاد العربية. وكان يهتم بنفسه في تسمية الأساتذة والمدرسين، ممن يطمئن إليهم على تنفيذ خطته، وكان يوعز إليهم من وراء ستار بأن يعملوا على نشر الجهالة ويعرقلوا سير ركب العلم، وكان من جهة ثانية يسعى عن طريق بعض ضعفاء النفوس من رجالات الدين وأرباب الطرق الصوفية ليعملوا على نشر الأباطيل والخرافات والجهل، كما كان لا يسمح بطبع الكتب إلا بعد تدقيقها؛ فإن وافق عليها المدققون من جماعته نشرت، وإلا طويت وأحرقت. يقول الأستاذ المرحوم محمد كرد علي: «اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع؛ لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، وأصدر إدارته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام: أن يوقفوا سير المعارف عند الحد الذي وصلت إليه؛ لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة.
Page inconnue
ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه، عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق، أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلا ولا تزيل جهلا. وحاول أن يرفع من «دعاء القنوت» لفظ: «ونخلع ونترك من يفجرك»؛ لأن فيها لفظ «خلع»، وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من «صحيح البخاري» أحاديث الخلافة، وأن تصادر «حاشية ابن عابدين»؛ لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ: كالعدل، والمساواة، والاغتيال، والقانون الأساسي، والجمهورية، ومجلس النواب، والخلع، والديناميت، والقنابل. وغير بعض الأسماء، فلا يقال: «مراد» بل: «مرآة»، ولا: «عبد الحميد» بل: «حامد» أو «حميد» أو «حمدي»؛ لأن مرادا اسم أخيه، وعبد الحميد اسمه. وأصبحت الصحف في أيامه أبواقا تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.»
3
ولم تكن حالة البلاد المالية والاقتصادية خيرا من الحالة الثقافية؛ فقد كان السلطان ووزراؤه وعماله في الولايات يعملون على ملء جيوبهم وخنق الشعب، وكانت الوظائف العامة تباع بيع السلع، وتقبض أثمانها، وكانت الخزانة العامة في الآستانة فارغة، والعجز يسيطر على موازنة الدولة العامة.
أما السياسة الخارجية للدولة فكانت سياسة المداورة والمخاتلة؛ لأن السلطان كان يعرف الضعف الذي يسيطر على إمبراطوريته، والمرض الدفين الذي يفتك بها، كما أنه كان لا يجهل أن الدول العظمى في ذلك الزمان كانت تتنافس فيما بينها، فلذلك عمد - بما فطر عليه من دهاء - إلى المخاتلة والدس، وخصوصا بعد أن زحفت جيوش الروس على بلاده وطوقت عاصمته، ولم تنسحب حتى فرضت عليه معاهدة تتشح بالعار والذل. ولم تكن معاهدة برلين أقل عارا، وكانت ثالثة الأثافي، حين أراد انتشال البلاد من الإفلاس الاقتصادي، فرهن بعض مواردها الكبرى لدى جماعات من كبار الممولين الأجانب، من إنكليز وفرنسيين وألمان، وأخذ منهم مبالغ ضخمة، زعم أنه يريد بها تقوية الجيش، وقد فعل شيئا كثيرا لتقوية الجيش، وخلق الروح العسكرية خلقا جديدا وتنظيم المعاهد العسكرية تنظيما حديثا، فرفع هذا العمل من مكانته بين رعاياه إلى حد ما، وإلى فترة ما.
ثم إنه عمد من جهة ثانية إلى تسخير رجال الدين في كافة أنحاء الإمبراطورية، لنشر الدعاية له بأنه ظل الله في الأرض، وأنه أمير المؤمنين، وزعيم المسلمين الروحي في كافة أرجاء المعمورة، وأنه خادم الحرمين الشريفين. وقد استطاع بهذا كله أن يفرض سلطانه على الناس، وأن يطيل عهده، وبخاصة حين سلك هو مسلكا دينيا خالصا، فأقصى عن القصور الملكية الموبقات التي كان أدخلها إليها أسلافه، وأحاط نفسه بهالة من رجال الدين وأرباب الوعظ والإرشاد، في طليعتهم الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي الحلبي، الذي كان يتمتع بسلطان روحي كبير، ودهاء وعبقرية دينية كبيرين، فأنشأ في الآستانة معهدا دينيا كبيرا لتخريج القضاة والمفتين والدعاة وغيرهم من رجال الدين، واستطاع أن يجتذب أشراف مكة - وهم حكامها الروحيون - فأخذوا يؤيدونه في سياسته، ويعملون على تمتين أواصر سلطته الروحية بين طبقات الحجاج الوافدين إلى الحجاز من شتى بقاع الإسلام. ولما رأى السلطان أن العرب قد أخذوا يضيقون ذرعا بحكمه، وأن البلاد العربية لا بد من أن تثور عليه، أخذ يعمل على تقريب نفر من كبار رجالاتهم، ويغدق عليهم الأموال الضخمة والمناصب الرفيعة،
4
أو يستدعيهم إلى جواره فيضيفهم «ضيافة طويلة» في العاصمة، كما فعل مع الشريف الحسين بن علي - الملك حسين فيما بعد - فقد بلغه عنه أنه فتى كثير النشاط، كبير المطامع، ينحدر من أسرة عريقة، حكمت بلاد الحرمين عدة أجيال، فاستدعاه إلى الآستانة مع أسرته في سنة 1893م وهو فتى في عنفوان شبابه يصحب معه أولاده الأمير عليا الذي صار ملك الحجاز فيما بعد، والأمير عبد الله الذي صار ملك الأردن فيما بعد، والأمير فيصلا الذي صار ملك سورية فالعراق بعدئذ. وأوصى السلطان بإدخال الأولاد الثلاثة في إحدى مدارس العاصمة التركية على نفقته، ولكن الشريف حسينا أدرك الهدف من تلك الضيافة، فتقبلها صامتا ولقن أبناءه وجوب التحلي بالصبر والسكينة، إلى أن تحين الفرصة للقيام بالدعوة القومية، والعمل على تخليص البلاد العربية من ربقة الظالمين الأتراك، وفي طليعتهم هذا الخليفة الطاغية الذي يتستر بالدين ويرهق أبناء جلدتهم العرب عسفا وجبروتا.
الفصل السادس
العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
ظهور الحركة الصهيونية
Page inconnue
تولى السلطان محمد رشاد السلطنة بعد أخيه عبد الحميد سنة 1333ه/1915م، وكان ملكا ضعيف الإرادة، سيئ الإدارة، محدود التفكير، قليل الثقافة، ما عدا شيئا من الآداب الفارسية. وقد عظم سلطان «الاتحاديين» عليه فاستسلم لهم، وأخذوا يفتكون بالناس من خصومهم وبخاصة الحزب المناوئ لهم، وهو حزب «الائتلافيين»، فاغتالوا منهم نفرا في الولايات التركية والعربية، واصطرعت الإمبراطورية، وتنافس الحزبان للسيطرة على الحكم.
وفي هذه الفترة انتهز الأحرار العرب اليمانيون الفرصة، وأعلنوها حربا على دولة الخلافة العثمانية سنة 1329ه، فجهز السلطان جيشا من العرب أكثره من الشاميين، وبعث به إلى اليمن للفتك بإخوانهم هناك، وكانت مجازر بين الفريقين ذهب فيها ألوف من الجند الشامي، حتى اضطرت دولة الخلافة إلى الاعتراف بكيان الدولة العربية في اليمن وعقدت معاهدة صلح بينها وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وبذلك غدت دولة اليمن أول دولة عربية نالت استقلالها الذاتي وتخلصت من نير السلطة العثمانية.
وآلى أحرار العرب في الشام والعراق والجزيرة على التخلص من نير العبودية العثمانية، وكانت حركة أحرار اليمن حافزا لهم، وخصوصا حين رأى العرب ضعف الدولة، وتقلص ظلها عن الولايات التي كانت خاضعة لها في أوروبا كولاية «قوصوه» و«أشقودره» و«يانيه» و«مناستر» و«سلانيك».
وكان لبنان أكثر البلاد وعيا وأعمقها ثقافة، فتداعى أحراره مع نفر من السوريين إلى العمل وتخليص البلاد من الفوضى والفساد؛ ففي سنة 1877م اجتمع نفر من المثقفين العرب في بيروت، وألفوا من بينهم جماعة تسعى بإصلاح الأحوال العامة في البلاد، وكان ممثل الدولة في بيروت وقتئذ رجلا عاقلا، فكتب إلى الصدر الأعظم في الآستانة تقريرا يقول له فيه: «إن البلاد السورية تتجاذبها تيارات مختلفة، فقد اتجه نفر من شبيبة هذه البلاد ورجالاتها بأنظارهم نحو دول الغرب، وبخاصة نحو إنكلترة وفرنسة، يحاولون التشبه بهم، واقتباس حضارتهم، والاستعانة بهم لإصلاح حالة بلادهم، فإذا لم تأخذ الدولة العلية العثمانية بأسباب الإصلاح الحقيقي خرجت هذه البلاد عن الطوق.»
ولما قرأ الصدر الأعظم هذا التقرير اهتم بالأمر، فعرضه على السلطان، ولكن هذا كان لا يأبه لحركات الأحرار، فاستهان بأمرهم وأرسل إلى جواسيسه في الديار الشامية أن يضيقوا الخناق عليهم. ولكنهم لم يأبهوا له وزاد نشاطهم، فاتصلوا ببعض الأحرار العرب في حلب ودمشق وطرابلس وصيدا، واقتبسوا من الماسونية السرية نظمها في الدعاية، كما استعانوا بمحافلها لبث حركتهم، وأخذوا يكتبون نشرات يعلقونها ليلا في الشوارع والساحات يدعون الناس فيها إلى الثورة على الظلم، وطلب الاستقلال الذاتي، حتى قلقت الآستانة لهذا الأمر، وبعث السلطان عيونه إلى سورية يتحسسون الأخبار ليضعوا أيديهم على زعماء الحركة، فلقيت البلاد منهم عنتا شديدا، واعتقل عدد كبير من الأبرياء، وانتشرت شائعة تقول: إن حاكم الشام آنئذ - وهو الوزير مدحت باشا الصدر الأعظم السابق ومنشئ الدستور - هو على اتصال برجال هذه الحركة، وأنه يحميهم؛ طمعا في الاستيلاء على البلاد والاستقلال بها لنفسه وأولاده من بعده، كما فعل محمد علي في مصر. ومهما يكن من أمر فإن العيون قد باءوا بالفشل ولم يستطيعوا معرفة القادة الحقيقيين للحركة، فرجعوا إلى السلطان في الآستانة وجعبتهم خاوية إلا من بعض التكهنات الخيالية، والتهم الباطلة والتقارير الكاذبة، فلما رأى السلطان هذا الأمر رأى أن يتلافى الأمر بحكمته، فكتب إلى الوالي أن يجمع رجالات البلد ويتفهم مطاليبهم، فجمع نحو مائة رجل من أعيان المسلمين والنصارى في لبنان، وعقد عدة جلسات في كانون الثاني سنة 1913م أقروا فيها مطاليبهم الإصلاحية، ثم اختاروا من بينهم لجنة خماسية لرفع تلك المطاليب إلى السدة السلطانية والعمل على تنفيذها، وتنحصر تلك المطاليب في النقاط الآتية:
أن تهتم الدولة بشئون البلاد المالية، وتعنى بتوسيع سلطة المجالس العمومية، وتعين مستشارين أجانب في دوائر الدولة يعملون على السير بالبلاد في سبيل الحضارة الأوروبية.
ولكن الدولة لم تهتم بهذه المطالب، فاضطر نفر من الأحرار أن يغادروا لبنان إلى مصر أو فرنسة، ثم عقدوا مؤتمرا بباريس في 21 حزيران سنة 1913م، وانتهوا فيه إلى مطالبة الدولة بالقيام بالإصلاح، وبمنح العرب حقوقهم السياسية، وأن يشتركوا في المساهمة بإدارة بلادهم، اشتراكا حقيقيا يضمن لأرباب الكفايات مناصب رفيعة بلا تفريق بين الأديان والمذاهب، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تهتم بشئونها، وأن تنفذ مقررات مؤتمر بيروت، وأن تعتبر الدولة العثمانية اللغة العربية لغة رسمية في مجلس المبعوثان العثماني «النواب»، وأن تكون هي اللغة الرسمية للولايات العربية، وأن تكون الخدمة العسكرية محلية، ولا يقذف بالشبان العرب في أقاصي البلاد، وأن تهتم الدولة بشئون التعليم اهتماما جديا.
ولما رأى الاتحاديون أن العرب جادون في مطالبهم اتصلوا ببعض رجالات مؤتمر باريس، وأعلنوا أنهم سيلبون مطاليبهم فيجعلونهم يشاركون في الأعمال العامة ببلادهم وإدارتها، ويجعلون التعليم الثانوي والابتدائي بالعربية، ويبيحون استعمال العربية في المعاملات الحكومية ويعينون نفرا منهم في مناصب رفيعة في مجلسي الأعيان وشورى الدولة، وفي محكمة التمييز، ودائرتي: المشيخة الإسلامية، والفتوى. وشرع الاتحاديون بتنفيذ بعض هذه المطاليب فعلا.
ومما هو جدير بالذكر أن فكرة تهويد فلسطين العربية والدعاية للصهيونية العالمية
1
Page inconnue
قد أخذت تظهر وتنتشر في ذلك الحين، حتى إن بعض النواب العرب في مجلس النواب العثماني قد أعلنوا ذلك للملأ، وبينوا أضراره وخطره، وحالوا دون تمكين اليهود من شراء أراضي فلسطين، وفي طليعة هؤلاء النواب السيد شكري العسلي نائب دمشق؛ فإنه حين رأى أن بعض الاتحاديين من اليهود الدونمة، وهم قوم خبثاء يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ويعتنقون الصهيونية، وفي طليعتهم جاويد بك ناظر المالية العثمانية آنئذ، شرعوا ينفذون خطتهم بامتلاك فلسطين وشراء الأراضي من أهلها بأبخس الأثمان لإقامة دولة صهيونية يهودية فيها، وأنهم قاموا يؤلفون الجمعيات الهادفة إلى هذا الغرض «كجمعية أصدقاء فلسطين» و«جمعية تعاون فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية» و«الجمعية الصهيونية اليهودية» وغيرها من الجمعيات الصهيونية.
رأى هذا النائب القومي العربي ما يكمن وراء هذه الفكرة الخطرة من شرور على البلاد وقوميتها، فأعلن في الصحف وفي البرلمان العثماني أن الصهيونية خطر وبيل، وأن الجمعيات التي ألفت لهذا الغرض كالجمعية «الصهيونية اليهودية» وجمعيات «إيكا» و«فاعوليم» و«الأليانس» وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر أرمياء من الكتاب المقدس الباحث في أسر بابل لليهود، والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره: «يشترون الحقول بفضة، ويكتبون ذلك في صكوك، ويختمون ويشهدون شهودا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم، وفي مدن يهودا، ومدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، لأني أرد سبيهم بقول الرب»، وذلك بعدما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء بعد ذلك؛ لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر، وحكومة الرومان في أنطاكية، ثم انقرضوا ولم يبق لهم ملك ولا دولة.
والآن عملا بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة، ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة، ويكتبون الصكوك ويشهدون، وهكذا تراهم لا يفترون طرفة عين، يتجسسون أخبار من تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد، وهي عبارة عن لواء عكا بأجمعه، ولواء القدس، ولواء نابلس، وقسم من لواء الكرك، وبعض من قضاء عجلون، ويطمعون البائع بالثمن الفاحش، ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرر المقاولات، وعند بعض القنصليات. وكانت الحكومة قبلا منعت استعمارهم.
2
ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر ألباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد، وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس، والقسم المهم من نفس حيفا وبعض قراها، واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج ابن عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق.
وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها، وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئا، ولهم «بنك أنكلو فلسطين» يقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المئة في السنة.
وقد جعلوا لكل قرية إدارة فيها مدرسة، وكل قضاء مديرية، ولكل جهة مدير عام، ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها «صهيون»؛ لأنه جاء في التوراة أن «أورشليم» ابنة صهيون، ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم، ويترنمون بالنشيد الصهيوني، وقد احتالوا على الحكومة فقيدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذبا وبهتانا، وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم، وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدعون الحماية الأجنبية، ويحلون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير، ولا يراجعون الحكومة، ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح، وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة، وفيها كثير من البنادق (المارتين)، ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدءوا بتأسيس مقاصدهم السياسية.
والحق أن هذا النائب وإخوانه من النواب العرب في مجلس «المبعوثان» التركي قد استطاعوا وقف النفوذ اليهودي بعد مشادة قوية في دورة الربيع البرلمانية سنة 1912م، فاستكان اليهود إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، ورأوا علاقات ألمانيا بالباب العالي، فصبوا جهودهم على برلين؛ آملين أن يتوصلوا عن طريقها إلى دخول الباب العالي والسيطرة على رجالاته وتأمين أغراضهم الصهيونية في فلسطين.
أما صهيونيو بريطانية، فقد استطاعوا أن يجتذبوا عطف بعض الزعماء البريطانيين إلى قضيتهم، وفي طليعتهم «سكوت» رئيس تحرير جريدة «المانشستر غارديان» و«بلفور» وزير الخارجية و«لويد جورج» رئيس الوزارة و«هربرت صموئيل» الزعيم البريطاني اليهودي، الذين اشترتهم الصهيونية العالمية واليهودية البريطانية وعلى رأسها «حاييم وايزمن»، فاندفعوا إلى تأييدها إلى أن أعلن «بلفور» وعده لليهود بتأسيس وطنهم القومي في فلسطين، وكان ذلك في الثاني من تشرين الثاني سنة 1917م.
3
Page inconnue