فالقنصل فارو أصر على منازلة القرطجنيين في الحال ولكن أميليوس أبى ذلك، فقال له فارو إنه يحتج بكل قوته على ذلك الإهمال الذي لا عذر لهما في العمل به ويصر على مكافحة الأعداء، وإنه لا يوافق قطعيا على أن يكون بعد ذلك مسئولا عن إبقاء إيطاليا منطرحة أمام ذلك العدو الفاتح، فأجابه أميليوس قائلا إنه إذا أصر على القيام بمعركة فهو أيضا يتبرأ من كل تبعة تتأتى عن نتيجة تلك المعركة.
واشترك رجال المعية في الجدال؛ فمنهم من كان على رأي هذا القنصل ومنهم من أيد ذاك، ولكن الأكثرية ناصرت فارو، ومن أجل هذا امتلأ المعسكر صياحا وحدة متناهية أدت إلى الشحناء، وكان سكان هاتيك الأنحاء في الوقت نفسه يفرون هاربين من أوطانهم بعد مشاهدة هذه الجموع الغفيرة ذات الهيئات الشرسة الواقفة متقابلة استعدادا للعراك الذي توقعوه، وأنه سيكون هائلا للغاية، وقد أخذوا معهم ما استطاعوا حمله من ممتلكاتهم، وساروا بنسائهم وأولادهم إلى مسافات مختلفة إنقاذا لهم من شر المعركة التي أوشكت رحاها أن تدور، فوضعوهم في الجبال والكهوف.
وكان أولئك الهاربون من وجه الجيشين يحملون أخبار العراك القادم إلى حيث يصلون، فدرت إيطاليا بجملتها بقرب اقتتال الجيشين، وأصبح الناس يتوقعون بفارغ الصبر نتيجة المعركة المنتظرة، وتمرنت الجيوش مدة يوم أو يومين استعدادا للنزال، فكان فارو في يوم قيادته يعد كل شيء ويحث الجنود على بذل منتهى الجهد في القتال، وأميليوس في يوم قيادته يعاكسه عاملا بكل قوته على التأجيل والإبطاء.
ولكن القنصل فارو فاز عليه وأقنع الجيش بأفضلية تعجيل المعركة، فهيأ الصفوف تأهبا للشروع في العراك، أما القنصل أميليوس فكان لا يزال معارضا لفارو في الابتداء بالقتال، ولكنه لما غلب على أمره في ذلك أخذ في إعداد ما يساعد على الفوز، ويقلل بواعث الانخذال علما منه بأن الحرب واقعة لا محالة، وابتدأت المعركة على صورة نترك للقارئ تصورها؛ لأن القلم يعجز عن وصفها.
فهناك جيش عدده خمسون ألفا واقف مقابل جيش عدده ستة وثمانون ألفا؛ الأول جيش هنيبال والثاني الجيش الروماني. وقد اشتبكا معا في تقتيل بعضهما بعضا مدة ست ساعات، وفي رواية دائرة المعارف ثماني ساعات ضربا بالسيوف وطعنا بالخناجر وغير ذلك من أدوات قتال ذلك الزمان، بين ضجيج وصياح وعداء وألم وأنين كلها ممتزج معا في ساحة واحدة اهتزت لما يجري فيها جوانب تلك الأرض التي دارت فيها المجزرة على مسافة أميال عديدة، فهيأت مشهدا مرعبا لا يدركه إلا الذي رأى مثل هذه المعارك العظيمة، وما يجري فيها من الهول والويل والتقتيل.
وكأننا بهنيبال لا يستطيع إتيان أمر من الأمور بدون خدعة حربية، فهو قد أرسل في بدء المعركة قطعة من جنوده إلى صفوف الرومانيين تظاهرا بأنهم قد هجروه وفروا من جيشه؛ ليلتحقوا بالأعداء، وعند وصولهم إلى صفوف الرومانيين ألقوا حرابهم وتروسهم على الأرض إشارة إلى تسليمهم، فرحب الرومانيون بهم وفتحوا لهم سبيلا اجتازوه إلى ما وراء الجيش الروماني، وأمروهم بالبقاء هناك.
وبما أنهم كانوا بلا سلاح لم يتركوا عندهم من الحراس سوى عدد قليل، على أن أولئك المخادعين كانوا مسلحين تحت الثياب بخناجر، فقعدوا ينتهزون الفرصة الملائمة حتى إذا حمي وطيس المعركة على أشده هبوا من مجاثمهم وأفلتوا من حراسهم، وهاجموا الرومانيين من الوراء عندما بدا لهم أن الجيش القرطجني قد شد على الجيش الروماني، وأبلى فيه البلاء الحسن من الأمام حتى إنه لم يستطع الثبات في وجه صدماته.
واتضح بعد ذلك أن الجيش الروماني قد أخذ يتضعضع في كل مكان ويتراجع، وكان تراجعه في أول الأمر بطيئا وبشيء من التأني فأصبح بعدئذ أشبه بالهزيمة، وفي فرار الجنود كان الجرحى والضعفاء من الجنود يداسون تحت أقدام المنهزمين خلفهم، أو كانوا يصرعون بضربات شديدة تنقض عليهم من رجال العدو الذين كانوا يجدون في اللحاق بالجند المنهزم ، وفيما كان أحد الضباط الرومانيين منهزما في غضون ذلك المشهد الهائل أبصر عن بعد ضابطا آخر جالسا على حجر، والدم يتدفق منه وهو على وشك الإغماء.
فلما وصل إليه وقف وتأمله فوجد أنه القنصل أميليوس، فعرض الضابط واسمه لنتولوس جواده على القنصل ليمتطيه وينجو بنفسه، فأبى القنصل أميليوس ذلك قائلا إن وقت إنقاذ حياته قد فات، ذلك فضلا عن أنه لا يريد البقاء حيا، ثم قال «اذهب أنت ذاتك بأسرع ما تستطيع وما يجري بك الجواد إلى رومية، وأخبر الحكومة هناك عن لساني أننا قد خسرنا كل شيء، وقل لهم أن يتأهبوا ويعدوا ما أمكن من الوسائل للدفاع عن المدينة، أسرع يا ولدي جهد إمكانك؛ وإلا سبقك هنيبال إلى بوابات المدينة.»
وأوصى أميليوس ذلك الضابط ليقول لفابيوس: إن الذنب ليس ذنبه في المخاطرة بمحاربة هنيبال؛ لأنه قد بذل الجهد في الحئول دون ذلك عاملا في المقاومة بإرشاد فابيوس الذي بقي يرن في أذنيه إلى آخر دقيقة، فاحتمل لنتولس الرسالتين وسار مسرعا، وكان القرطجنيون جادين في أثره وقد ترك القنصل يموت في مكانه، ووصل القرطجنيون فرأوا أميليوس على وشك الاحتضار فشكوا حرابهم في جسمه الواحد بعد الآخر، وهم يمرون من أمامه إلى أن لم يبق فيه حراك.
Page inconnue