فتقدمت جماعات من الجيش الروماني بكل تؤدة وحذر إلى أن تدانت من صفوف القرطجنيين، فعرفوا لفورهم أن المعسكر قد خلا من الجنود مع أن الخيام كانت لا تزال باقية والنيران مضطرمة، فكان ذلك باعثا على هياج الجيش الروماني برمته واضطرابه ، فتألب الجنود حول مضارب القنصلين وهناك طلبوا بإلحاح السماح لهم بالزحف على معسكر الأعداء والاستيلاء عليه، وملاحقة الجيش القرطجني قائلين: إن القرطجنيين قد لاذوا بالفرار، وما دام هنيبال قد ترك خيامه ونيرانه مضطرمة فهو يريد مخادعتنا؛ لكيلا نتبعه فلنسرع في اللحاق به في الحال.
وكانت حدة القنصل فارو مماثلة لحدة الجنود وهو يدعو إلى القتال متهوسا، أما أميليوس فكان مترددا وألقى على الجنود أسئلة عديدة مستفهما، وأخيرا دعا إليه ضابطا اسمه ستاتليوس معروفا بالدراية والفطنة، وأمره باقتياد طائفة من الفرسان والذهاب إلى المعسكر القرطجني والوقوف على الحقيقة والرجوع إليه بالخبر اليقين، ففعل ستاتليوس كما أمره أميليوس، فلما تدانى من معسكر هنيبال أمر جنوده بالوقوف، واستصحب فارسين يعتمد على شجاعتهما وقوتهما وتقدم.
فاقترب الفرسان الثلاثة من المعسكر القرطجني، وفحصوا كل شيء للاستيقان مما إذا كان هنيبال وجيشه قد غادروا المكان أو أن في الأمر مكيدة مقصودة. ولما عاد الضابط إلى رئيسه قال إنه يعتقد بأن إخلاء المعسكر لم يكن حقيقيا؛ بل حيلة مدبرة لإيقاع الرومانيين في حباله، فإن أعظم النيران المشتعلة كانت على الجانب المقابل لمعسكر الرومانيين مما دل على أن إيقادها على تلك الصورة كان مقصودا به الخديعة.
وقال أيضا إنه رأى نقودا وأشياء أخرى ذات قيمة مبعثرة في أرض المعسكر، مما أقنعه بأنها ألقيت كذلك بمثابة شرك، وليست مما قد ترك بعد فرار أصحابه للتخفيف عنهم، فلم يقتنع فارو بذلك، وعندما سمع الجيش بالمال المتروك في المعسكر زاد تحمسه، واشتدت رغبته في النهب إلى حد العصيان، حتى أصبح أمر رده عن ذلك من الصعوبة بمكان.
وفي غضون ذلك أقبل على معسكر الرومانيين عبدان رقيقان كانا قد وقعا أسيرين في قبضة القرطجنيين قبل ذلك، فأخبرا القنصلين بأن الجيش القرطجني مختبئ بجملته في مرصاد قريب من هناك، وهو يتوقع دخول الجيش الروماني في معسكره الذي غادره، وعندئذ يحيط به من كل جانب ويفتك برجاله، وقالا إنهما قد تمكنا من الفرار في وسط الضجة التي حصلت من انتقال القرطجنيين إلى حيث اختبئوا .
فاقتنع الرومانيون بما سمعوه ورجعوا عن قصدهم مستائين وقد خابت منهم الآمال، وكذلك هنيبال الذي خاب مسعاه واغتاظ كثيرا عاد إلى معسكره، ووجد بعد ذلك بقليل أنه غير قادر على البقاء طويلا هناك؛ فإن الأقوات التي معه قد نفدت وهو غير قادر على جلب غيرها، وأن الرومانيين لا يخرجون من معسكرهم لينازلوه في ساحة منفرجة، وهم متحصنون في ذلك المكان بحيث يعجز عن مهاجمتهم في مواقفهم، فقر رأيه على مغادرة تلك الجهة من البلاد والانتقال بسرعة إلى ناحية أكويلا.
وأكويلا هذه واقعة على الجانب الشرقي من إيطاليا يجري في وسطها نهر اسمه أفيدوس، وعلى مقربة من مصبه بلدة اسمها كانيه، وكان إقليم نهر أوفيدوس عبارة عن واد دافئ معرض للشمس وفيه الشيء الكثير من مزارع الحنطة التي اقترب وقت حصادها، فأعجبه توجهه إلى ناحية الجنوب حيث تكون المحصولات أقرب إلى النضج بتأثير الشمس من أي مكان، فيتسنى له إذ ذاك أن يمأن جيشه ويوفر له ما يحتاجه.
وعلى هذا صمم على ترك المكان الذي عسكر فيه والانتقال إلى أكويلا، وجرى على نفس طريقته التي عمل بها من قبل لمخادعة الرومانيين، فترك خياما منصوبة ونيرانا مشتعلة وسير جيشه ليلا تحت جنح الظلام بكل هدوء وسكينة؛ بحيث لم يشعر الرومانيون بتركه ذلك المكان، وفي اليوم التالي عندما بدت لهم مظاهر خلو المعسكر القرطجني من الرجال، ظنوها خدعة أخرى فلم يأتوا بحركة.
أخيرا اتصلت بهم أخبار تفيد أن جيشا كبيرا هو جيش هنيبال - دون ريب - يسير على عجل مثقلا بأحماله إلى الشرق بعيدا منهم، فبعد الجدال الطويل والتردد الكثير عول الرومانيون على اللحاق به، وهكذا كانت نسور جبال أبنين تنظر من العلاء جماهير غفيرة من الجنود تزحف بين الغابات سائرة إلى حيث تلحق بجماهير أخرى سبقتها، فإذا سارت تلك سارت هذه، وإذا وقفت وقفت.
وتدانى جيش الرومانيين من جيش هنيبال إلى أن واجهه على نهر أوفيدوس قريبا من كانيه، فعسكر الجيشان هناك استعدادا للقتال، وكانت لهما ضجة وجلبة شأن سائر الجيوش التي تكون آخذة في الاستعداد للقتال في ثاني الأيام وهي قريبة بعضها من بعض. على أن الضجة الكبرى كانت في المعسكر الروماني التي تفاقمت هناك؛ لاختلاف حصل في الرأي بين القنصليين وأشياعهما على أفضل خطة يعمل بها الجيش الروماني في محاربة الجيش القرطجني.
Page inconnue