مناطق العرب:
الحروف العربية.
الحرف هيئة عارضة للصوت الساذج يتكون في مواضع من اللسان والحلق والسن والنطع١ والشفة، وهذه المواضع هي مخارج الحروف، ومحال أن يتكون الصوت في جميعها تكونًا طبيعيا يشمل الناطقين جميعًا، بل لا بد في ذلك من عمل وراثي يتبع حالة اللغة من الكمال ويقدر بقدرها، وذلك لا تجده على أكمل الوجوه إلا في لغة العرب.
وقد بينا فيما سبق أن الحرف الطبيعي في المنطق إنما هو الحرف الهاوي الذي يتسع مخرجه لهواء الصوت فلا يقع الحرف فيه على مدرج من مدارج الحلق ولا اللسان ولا غيرهما من سائر المخارج، ويتلوه في التكون أحرف الحلق، لقربها من مصدر الصوت؛ ثم تكونت باقي الحروف على نظم طبيعي بطيء، وذلك بارتقاء أوتار الصوت وتفن الإنسان في توقيع الأصوات عليها؛ لأن الحلق إنما هو في أصل الخلقة أداة الموسيقى اللغوية.
وثبت ما قدمناه ما وقف عليه علماء اللغات في مباحثهم، وهو أن بعض القبائل في أواسط إفريقيا لا توجد في لغتهم الحروف الشفوية: كالفاء والباء والميم والواو؛ وبعض هنود كولومبيا لا يجدون سبيلًا إلى النطق بهذه الحروف "ب ف ج د و" وأكثر أقوام أوستراليا لا يستعملون حروف الصفير "س ص ز" ولا هذه الحروف "ش ث ط"؛ وأهل "نيوزيلاندا" لا ينطقون هذه الحروف "ب س د ف ح ج ل ن ص وي" وكذلك وجودا اللغة الهيروغليفية القديمة -وهي من أقدم اللغات المعروفة- ليس من حروفها في المنطق "ب ج د ز ظ ض" بل أنت ترى الدليل الذي لا سبيل إلى رده في هذه الحروف الطبيعية الخالدة التي لا يزاد فيها ولا ينقص منها وهي ما يتهيأ في منطق الحيوان السائم٢ فإنها على قدر الحاجة الحيوانية، مما لا يتجاوز معنى الإحساس الذي هو النطق الباطني.
أما الحروف العربية فهي المعروفة اليوم بالحروف الأبجدية؛ أو ألف باء، ولم تكن على هذا الترتيب الهجائي من قبل، وإنما هو ترتيب نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر العدواني، في زمن عبد الملك بن مروان، حين بدئ في إصلاح الخط وتمييز الحروف والحركات -كما سيأتي في موضعه- كانت قبل ذلك على ترتيب "أبجد هوز" المعروف، وهو ترتيب السريانية والعبرانية.
_________
١ النطع: ما ظهر من الغار الأعلى للفم وفيه آثار كالتحريز، وحروفه "ط د ت" وتسمى الحروف النطعية.
٢ أما الحيوان المروض المأخوذ بالعناية والتعليم والتلقين، فقد يقتبس جملة من حروف اللغة التي يعلم بها، وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية. ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية: كالأكل والشرب، فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضًا.
1 / 75