لغتها، واستدلوا على ذلك من مشابهة لغتهم المعينية والبابلية في ضمير الغائب "السين" ثم من مشابهتها للغة الحميرية حتى إن أحرف الكتابة تكاد تكون واحدة في اللغتين، غير أن الأحرف الحبشية تكتب من اليسار إلى اليمين، وهم يزيدون رسم الحركات مما لم يكن عند الحميريين. هذا غير ما يرى من تشابه الملامح في الأحباش وأهل اليمن، وتماثل الآثار في البلادين، ونحو ذلك مما يرجح أنهم طارئون على تلك البلاد من اليمن.
وقد أسلفنا أن عرب الشمال المستعربة، وهم الإسماعيلية، يبتدئ تاريخهم من القرن التاسع عشر قبل الميلاد؛ ولكن عدنان الذي ينتهي إليه عمود النسب العربي الصحيح كان في القرن السادس قبله؛ فلا بد أن تكون العربية العدنانية قد ابتدأت بعد الحميرية أو قبلها بقليل، ومهما يكن من ذلك فإن أصل هذه العربية لا بد أن يكون من الحبشية والحميرية، ثم من اللغات السامية الأخرى؛ لأن العرب قوم رحل، وقد اختلطوا بأمم كثيرة، فلا بد أن يكون أثر هذا الاختلاط بيتًا في تكوين لغتهم؛ وتلك سنة عامة في اللغات كلها، حتى لقد تجد في لغات هذا الزمن ما لا صفة له في نفسه، بل هو لغة مركبة كالعروض التجارية: تؤخذ من كل مكان إلى مكان واحد، وذلك خاص بالبلاد التي عرفت بتجارة المقايضة على نحو ما كان يصنع العرب. ومن هذا القبيل لغة "البيجيين" في الشرق الأقصى، وهي مزيج من الإنجليزية والصينية؛ ولغة السابير، وهي تتألف من العربية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. وهكذا كانت العربية في أول نشأتها إلى أن ضربت القبائل في البادية بعد سيل العرم، وذلك يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد على أبعد تقدير١؛ فاستقلت بعدئذ طريقة العربية، وانصرف أهلها إلى العناية بتشقيقها، وعلى ذلك لا يمكن الجزم مطلقًا بأن للعربية العدنانية أصلًا معينًا، إلا إذا أمكن القطع بأن لهم دولة مستقرة في التاريخ مميزة الحضارة، حتى تقتضي أصالة اللغة، وهذا مما لا يقول به أحد؛ لأنه لا مكان له في التاريخ.
_________
١ ذكرت هذه الحادثة في سورة سبأ، ويقال إن سد العرم هذا بنى في القرن الثامن قبل الميلاد، كما وجدوا ذلك في النقوش التي على صدفيه. وأكثر الروايات على أن الحادثة كانت حوالي تاريخ الميلاد.
1 / 54