أصل العربية:
لا يذهبن عنك أن العلماء إنما يكتشفون عن أصول اللغات القديمة بما يعثرون عليه من بقايا الطبقات التاريخية؛ وبقية التاريخ في الدلالة الزمنية غير التاريخ نفسه؛ وبذلك يجيئون في أحكامهم بالناسخ والمنسوخ، وربما كشفوا عن حفرة من الأرض فأحيوا منها تاريخا ميتًا ودفنوا فيها تاريخًا حيا؛ فنحن إن قلنا "أصل العربية" لا نريد أنها فجر اليوم من أمس، أو نهار يدل به على الشمس، وإن لم تظهر الشمس، ولكنه فجر يوم من أيام الله أظهره ثم محاه، وشهد الأولون تباشيره ثم تعاقبت الأجيال ولا يزال العالم في ضحاه.
بعد أن انشعبت اللغات من البابلية، ذهب المعينيون، وهم من القبائل الذين اقتبسوا تمدن السومريين مع الدولة البابلية في عصر حمورابي، فنزلوا اليمن وحذوا في عمارتها حذو بابل؛ وكانت لغتهم من البابلية في منزلة العامية من الفصحى لما ثبت فيها من أثر المخالطة والتجول، وهم الذين اقتبسوا حروف الفينيقيين واستعملوها في التدوين على طريقة سهلت للزمن أسباب التنويع فيها، حتى انتهت في صورها إلى الخط المسند المشهور، وهو القلم الحميري؛ واستمرت لغتهم تتباين من البابلية بتقادم الزمن، حتى لم يعد من الشبه بينهما إلا أثر الدلالة التاريخية فقط، وقد وجدوا من ذلك علامة لا توجد من اللغات السامية إلا في هاتين اللغتين وفي الحبشية أيضًا، وهي السين التي هي ضمير الغائب في اللغات الثلاث؛ وقالوا إن هذه السين ربما كانت دخيلة في الأصل السامي من اللغة الطورانية.
ثم نشأت الدولة السبئية، وهم القحطانيون الذين يسمونهم العرب المتعربة، ويرجح العلماء أن أصلهم من الحبشة؛ وكان ظهور دولتهم على ما تحققوه من القرن الثامن إلى سنة ١١٥ قبل الميلاد؛ وقد اقتبسوا لغة المعينيين إلا في ضمير الغائب الذي أشرنا إليه، ولعل هذا ما ينظر إليه قول المؤرخين إنهم أخذوا العربية عن العرب العاربة: وبديهي أن هذه العربية لا يمكن أن تكون لغة مضر، فإنهم يعرفونها -أي: العربية- درجات ويعدون منها لغة حمير، فلا يكون إذن إلا أنهم أرادوا عربية ذلك الزمن، وهي أصل في المضرية وغيرها؛ ولا عبرة بما يتعلق عليه أهل اللغة من أن منطق القحطانيين ومن قبلهم، بل ومنطق آدم، هو العربية الفصحى؛ فإن ذلك كذب لغوي يحتاج إلى تصحيح١.
وابتدأت الدولة الحميرية من سنة ١١٥ قبل الميلاد واستمرت إلى سنة ٥٢٥ بعده، وهو العهد الذي زهت فيه عربية مضر، وحفظ أهله بعض خصائص الحيرية كما سنبينه.
أما الأحباش فيرجح بعضهم أن أصلهم عرب هاجروا من اليمن زمن المعينيين، وأخذوا معهم
_________
١ بعضهم يغلو في ذلك غلوا كبيرًا حتى يقول: إن لغة آدم ﵇ في الجنة كانت العربية، فلما عصى ربه سلبه العربية وأعطاه السريانية، ثم لما تاب ردها عليه؟
1 / 53