ولما كان الجرم المستدير يمكن أن يتحرك باحدى حركتين مختلفتي ، مثل أنه ممكن أن يتحرك من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق، وكان قد تبين من أمر هذه الحركات أنه ليس فيها تضاد حتى يكون ذلك هو السبب في اختلاف جهات هذه الحركات واختصاص جرم (جرم) من الاجرام السماوية بجهة دون جهة، أخذ يفحص عن السبب في ذلك، أعني لم كانت الحركة اليومية العظمى من المشرق إلى المغرب ولم [20 ظ : ع] تكن من المغرب إلى المشرق كالحال في حركات سائر الأفلاك ، فإنه لما كان لا يلفي شيء من الأشياء الطبيعية الكائنة الفاسدة عطلا ولا بغير علة وسبب، وكانت الأشياء الأزلية أحرى بذلك. ولذلك ما نرى أن للسماء علة وسببا في كون حركتها من بعض النواحي دون بعض، فإن هذه الحركة لما كانت معلولة، وجب أن يكون اختصاصها بناحية دون ناحية معلولا (وإنما كان يمكن ألا يكون لذلك علة لو كانت الحركة بذاتها علة غير معلولة، وذلك أن الأشياء الأزلية اما أن تكون علة وإما أن تكون ذات علة ، فما كان منها معلولا) فجميع ما يلحقه ويعرض فيه معلول ضرورة. وهو يعتذر أولا هاهنا من هذا النحو من الفحص لقلة ما بأيدينا من المقدمات الأول في هذه الأشياء البعيدة عنا بالجوهر والمكان، ويقول أنه قد يظن ظان أن الفحص عن جميع العلل من فعل الرجل السيء النظر، الذي الباعث عليه اما جهل وإما شهوة في النظر مفرطة، ( إذ كان لا يمكن أن يوصل من علل هذه الأشياء إلى ما يوصل إليه من علل الأشياء القريبة من جوهرنا، لكن نقول ) وان كنا لا نصل من معرفة علل هذه الأشياء < إلا> القدر الذي نصله من علل تلك، فليس ينبغي لنا من أجل ذلك أن نرفض طلب علل هذه الأشياء إذ كانت بجهة داخلة في جنس العلل اليقينية ، وإن لم تكن من أعلاها رتبة، وإنما الذي ينبغي لنا أن نرفض من علل الأشياء ما كان منها على جهة الاقناع الخطبي ، واما من وجد في هذه الأشياء عللا من جنس العلل اليقينية فينبغي أن يحمد ويقرظ. وإذا كان ذلك كذلك، فقد ينبغي أن نروم في هذا المعنى اعطاء علة واضحة من جنس العلل اليقينية التي تقع تحت الحس، أعني لم كانت السماء تختص بابتداء الحركة من ناحية دون ناحية ، فنقول: إن ما يقوله في اعطاء هذا السبب يبين بمقدمتين: احداهما: أن الطبيعة إنما تفعل في جميع الأشياء الطبيعية الأفضل (والأكرم من أحد الامكانين أو الامكانات المختلفة). والمقدمة الثانية: أن ناحية اليمين أعني الموضع الذي اختص بابتداء الحركة هو أفضل من ناحية اليسار، والأمام أفضل من الخلف، والفوق أفضل من الأسفل. وإذا تقررت هاتان المقدمتان، وكانت السماء هي أولى الأشياء الطبيعية وأحراها أن تتوخى فيها الطبيعة أبدا أفضل الامكانات، وكان ابتداء الحركة من جهة اليمين أفضل من الحركة من اليسار في كل ما له يمين ويسار، وكانت السماء ( 20 ظ) [ 30 ظ] قد تبين أن لها يمينا ويسارا وأماما وخلفا، فبالواجب ما كان ابتداء حركة السماء من جهة اليمين لا من جهة اليسار، وإلى جهة الأمام لا إلى جهة الخلف. وإذا كان ذلك كذلك ، فليس لاختصاص الحركة اليومية بجهة المشرق علة غير هذه العلة، أعني العلة التي اختصت من أجلها جهة اليمين في الحيوان باليمين من جهة اليسار باليسار وذلك لطلب الأفضل. والدليل على أن الطبيعة تتحرى في حركة السماء الأفضل والأكرم ما صيرت عليه حركتها من الدوام والاتصال غير المنقطع، وذلك أنه كما تخيرت أفضل الوجودين من الحركة، أعني المنقطع والدائم، كذلك اختارت لها أفضل الناحيتين التي منها تكون الحركة، فإن الحركة تفضل الحركة في هذين المعنيين جميعا. فقد تبين من هذا القول لم كانت السماء الأولى تتحرك من المشرق إلى المغرب، ولا تتحرك من المغرب إلى المشرق.
المطلب الخامس
Page 218