وهذا البرهان مبناه على مقدمتين: إحداهما: أن الشكل المستدير هو أول الأشكال والمتقدم عليها بالطبع . والمقدمة الثانية: أنه واجب أن يكون الشكل الأول للجسم الأول . فأما ان الشكل المستدير أول الأشكال فهو يستعمل في ذلك بيانات : احدها: أن كل سطح فاما أن يحيط به خط واحد وإما أكثر من خط واحد . والذي يحيط به خط واحد فهو المستدير، والذي يحيط به أكثر من خط واحد فهي الأشكال الكثيرة الأضلاع. وإذا كانت الدائرة هي التي يحيط بها خط واحد، وسائر السطوح أكثر من خط واحد ، وكان الواحد في كل جنس قبل الكثير ومتقدم عليه تقدما طبيعيا فواجب أن تكون الدائرة أول السطوح والمتقدمة عليها تقدما طبيعيا على جهة ما تتقدم الأسباب المتقدمة بالطبع مسبباتها. فهذا أحد البيانات أن الدائرة أول الأشكال . وبيان ثان (أيضا) وهو أن التام قبل الناقص ضرورة، والتام هو الذي لا يمكن أن يزاد فيه ولا ينقص منه، والناقص هو الذي تمكن فيه الزيادة والنقصان. والخط المستدير تام ضرورة لأنه لا تمكن فيه الزيادة والنقصان ويبقى بعد خطا مستديرا، والخط المستقيم ناقص لأنه تمكن فيه الزيادة والنقصان وهو بعد خط مستقيم. وإذا كان الخط المستدير تاما والمستقيم ناقصا والتام قبل الناقص، فالخط المستدير ضرورة قبل الخط المستقيم ومتقدم عليه . وإذا كان ذلك كذلك، فالسطح المستدير قبل السطح الكثير الخطوط [19 و: غ ] لأن ما يتقوم بالمتقدم، وهو جزء جوهره، هو ضرورة متقدم على ما يتقوم بالمتأخر، وهذه هي حال السطح المستدير مع الكثير الاضلاع. وإذا تبين أن الدائرة متقدمة على سائر الأشكال المستقيمة الخطوط ، وكانت نسبة الدائرة إلى الأشكال المسطحة، (هي) نسبة الكرة إلى المجسمات، فبين أن الكرة متقدمة على سائر المجسمات. وأيضا فإنه كما قلنا أن الدائرة هي التي يحيط بها خط واحد فأوجبنا من ذلك أن تكون متقدمة على سائر السطوح التي تحيط بها الخطوط أكثر من واحد ، كذلك الكرة يجب أن تكون متقدمة على سائر المجسمات، إذ كانت الكرة يحيط بها سطح واحد وسائر المجسمات (يحيط بها) سطوح أكثر من واحد. قال : وقد يشهد لهذا الذين يولدون الاجرام من السطوح، وذلك انهم يحلون المجسمات التي يحيط بها أكثر من سطح واحد إلى سطوح كثيرة، مثل حلهم الشكل الناري إلى مثلثات، ولا يحلون الكرة إلى سطوح كثيرة، إذ كانت ذات سطح واحد. فقد تبين من هذا أن الشكل المستدير متقدم على سائر الأشكال وأولها أولية طبيعية . وقد يظهر أيضا (أن الشكل المستدير هو أول في الترتيب العددي)، أعني إذا شبهنا الأشكال في ترتيبها بالعدد في ترتيبه، وذلك انك تجد أشبه شيء بالواحد الدائرة وبالاثنينية المثلث فإن المثلث أول الأشكال المستقيمة الخطوط ، إذ كانت جميع الأشكال إليه تنحل ، وكذلك الاثنينية أول الكثرة . وأيضا فإن المثلث تتقوم صورته (19 و) [29 و] بالاثنينية، إذ كانت خاصته أن تكون زواياه مساوية لزاويتين قائمتين ، وهذه الاثنينية الموجودة فيه هي خاصة لازمة عن صورته فلذلك كان في صورته اثنينية ما. وأما الدائرة فصورتها واحدة وليس فيها اثنينية بوجه من الوجوه، ولذلك كانت اليق من المثلث بهذه النسبة، أعني أن تكون نسبتها من سائر الأشكال نسبة الواحد من العدد ، فإنه ان جعلنا هذه النسبة للمثلث، لم يكن أن نقول في الدائرة انها قبل المثلث ولا بعده، وذلك ممتنع، أعني أن يقال في شكل ما أنه ليس قبل شكل ولا بعده . وإذ قد تبين أن الشكل الكرى أول الأشكال (ضرورة)، وكان من البين بنفسه أن الشكل الأول للجرم الأول، فهذا الشكل ضرورة هو لأول الاجرام، ولما كان قد تبين أن الجرم السماوي هو أول الاجرام، فواجب أن يكون الجرم السماوي كري الشكل ضرورة. وإذا كان الجرم السماوي مستدير الشكل فالاجرام التي تتصل به وتماسه مستديرة (أيضا)، إذ كان ليس يمكن أن يوجد (فيما) بينهما خلاء ، ولذلك ما يظهر أنه واجب ان تكون الأفلاك التي للكواكب المتحيرة مستديرة من جهة ما تماس الفلك (الأعظم، وان تكون الاسطقسات أيضا مستديرة من جهة ما تماس مقعر فلك) القمر. فهذا أحد ما يبين به أن شكل جرم السماء مستدير وكذلك سائر الاسطقسات.
البرهان الثاني:
Page 207