ولما كان قد تبين أن السبب في كثرة الحركات المستقيمة إنما هو التضاد الموجود في الحركات المستقيمة، وكان قد تبين من امر الحركة المستديرة أنه ليس يوجد فيها تضاد، أخذ يفحص هاهنا عن السبب الذي له صارت الحركات المستديرة كثيرة، وهو أولا يعرف اعتياص الفحص عن مثل هذه الأشياء في الاجرام السماوية لبعدها عنا في المكان والطبيعة، ولذلك كان ما يدركه الحس من أمرها ليس في كفاية، ولكن كما قال واجب أن نشرع في الفحص عن ذلك بحسب الطاقة الانسانية، فنقول : إنه لما كان كل شيء موجود فإنما هو من أجل فعله، وكان الشيء الالهي الأزلي واجبا أن يكون الدوام والبقاء هو فعل جوهره وذاته، وهذه هي الحياة الأزلية، فإن كان هاهنا (حياة) أزلية فواجب أن يكون هاهنا حي أزلي متحرك حركة أزلية، وواجب أن يكون هذا المتحرك جسما مستديرا على ما تبين. وإذا كان هاهنا جسم مستدير متحرك حركة دائمة، فباضطرار أن يكون هاهنا شيء ثابت عليه يتحرك، لأنه لابد لكل متحرك من شيء ساكن عليه يتحرك، والشيء الذي بهذه الصفة هو الأرض، فواجب إذا كان هاهنا جسم متحرك دورا أن يكون هاهنا جسم خفيف باطلاق وهو النار، لأنه إذا وجد أحد الضدين وجد الضد الآخر ضرورة، والسبب في ذلك أن الضدين موضوعهما واحد، ونسبة الهيولي إليهما نسبة واحدة، بل النار هي المتقدمة بوجه ما على وجود الأرض، على جهة ما تتقدم الملكة العدم، فإن الثقل عدم الخفة، كما أن البرودة عدم الحرارة، والرطوبة عدم اليبوسة، وإذا وجد العدم وجدت الملكة ضرورة، فإن العدم انما يقال بالإضافة إلى الملكة. وإذا كان هاهنا أرض ونار، فباضطرار أن يكون بينهما ماء وهواء، وذلك أن الماء يضاد النار بجميع كيفياته، والهواء يضاد الأرض بجميع كيفياتها، إذ كانت الأرض باردة يابسة والهواء حار رطب والنار حارة يابسة والماء بارد رطب، فيجب من جهة التضاد الذي بين الماء والنار <واجب> أن يوجد الهواء [18ظ : ع] المتوسط إذا وجدت النار، ومن جهة التضاد الذي بين الأرض والهواء أن يوجد الماء إذا وجدت الأرض، وسنبين هذا اللزوم فيما بعد بيانا أكثر. وإذا كان هذا هكذا ، فباضطرار كان وجود الأضداد عن حركة الجرم المستدير، وإذا وجدت الأضداد فباضطرار أن يوجد كون وفساد. وذا كان الكون والفساد فيها واجبا أن يجري على تعادل ونظام لتبقى هذه الأجسام المتضادة محفوظة بكليتها، إذ كان وجودها دائما من ضرورة وجود المتحرك المستدير دائم الحركة، فواجب أن تكون الحركات المستديرة أكثر من حركة واحدة ليكون التعادل والتساوي الموجود لها ، أعني للاسطقسات، في الكون والفساد ليس انما وجد لها من قبل أنفسها فقط، بل ومن قبل الحركات (18 ظ)[ 20 ظ] المختلفة المجانسة بتحريكها لطبيعة طبيعة من هذه الطبائع الأربع ، مثل مجانسة فعل القمر لتوليد الماء، ومجانسة فعل الاجرام لتوليد النار، فإن التعادل الذي يوجد لها في الكون والفساد إنما يلفي لها من هاتين الجهتين، أعني من قبل طبائعها المتضادة المتقاومة، ومن قبل اختلاف مقاومة الأسباب المجانسة لمضادة مضادة منها بعضها بعضا، فإنه واجب ان كان مزمعا أن يكون هاهنا كون وفساد دائما أن يكون يجري ذلك على التكافؤ ونظام محدود. وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن يكون هنالك تكافؤ وتعادل بين الأسباب الفاعلة والنفعلة. فقد تبين من هذا القول لم كانت الحركات السماوية كثيرة باضطرار، وذلك من قبل ضرورة الهيولي لا من قبل السبب الغائي، ولذلك ما اعتذر عن اعطاء هذا السبب في هذا الموضع، إذ لم يكن أن يظهر له في هذا الموضع غير هذا السبب.
المطلب الثالث
ونقول أيضا: ان شكل السماء، كما سلف من قولنا، واجب أن يكون مستديرا لأنه الشكل الذي يليق بجوهرها وطباعها. وهو يستعمل هاهنا في بيان هذا المطلب أربعة براهين :
Page 202