قال: ولأن قوما من القدماء قالوا أن للسماء [ 17 و: ع] يمينا ويسارا وهم شيعة فيثاغورش فينبغي أن نفحص عن ذلك. وإن كان يمين ويسار فقد كان تكون لها الجهات الأخر، أعني الفوق والأسفل والأمام والخلف، على ما تبين في كتاب حركة الحيوان، وما سنبين في هذا القول، فنقول : إن هذه الجهات الست، أعني اليمين واليسار والأمام والخلف والفوق والأسفل، متميزة بالطبع في الحيوان والنبات، وأعني بتميزها بالطبع في الحيوان اختلافها في القوة وفي الشكل وفي كليهما، فاما النبات فليس إلا العلو والأسفل فقط، وأما الحيوان فله الست جهات. وذلك أنه واجب أن تكون هذه الجهات الست للاجرام التامة وهي المتنفسة، وهذه الجهات توجد متميزة في الحيوان والنبات بالطبع باختلاف القوى الموجودة فيها في التحريك، فإن جهة الفوق هو طرف الطول الذي فيه مبدأ حركة النمو في النبات والحيوان، وجهة اليمين هو طرف العرض الذي منه ابتدأت الحركات في المكان، وجهة الأمام هو طرف العمق الذي فيه الحواس، والخلف الذي هو الأين المضاف إلى هذه الجهة هو الموضوع الذي إليه حركة الحيوان. وهذه الجهات انما توجد متميزة بالطبع في المتنفس، واما في غير المتنفس فهي غير موجودة بالطبع ، فإنه ليس في النار ناحية يختص بها مبدأ حركتها من النواحي الست بل انها تتحرك <النار> من كل جهة من جهاتها إلى فوق ، وكذلك الأرض إلى أسفل. وانما يمكن أن يتخيل في هذه الأشياء هذه الجهات على طريق التشبيه بالإضافة إلينا، مثل ما يفعله أصحاب الزجر ، فإنهم يسمون ما جرى عن ايماننا يمينا وما جرى عن اليسار يسارا، ومثل ما نقول ان للصنم يمينا وشمالا. ولما تقرر أن كل متنفس فله الجهات الست المتميزة بالطبع، وكانت السماء متنفسة ومتحركة من بعض الجهات دون بعض، أنتج عن ذلك أن السماء لها جهات ست هي اليمين واليسار والأمام والخلف والفوق والأسفل، ثم أتى بالشكوك التي ⎤يمكن أن⎡يتشكك بها على هذا الرأي وهي ثلاثة : أحدها أن أكثر هذه الجهات متميزة بالشكل في الحيوان مثل الأمام والفوق، والجرم السماوي شكل جميع جهاته واحدة إذ هو كرى، وهذا هو الذي صير أفلاطون أن يعتقد أن السماء بهذه الجهات. والثاني أن حركة الجرم السماوي ليس لها مبدأ زماني وإذ لم يكن لها مبدأ زماني فليس لها مبدأ في الموضع. والثالث أن أجزاء الكرة لا تحفظ موضعا واحدا بل الجزء الذي يكون منها في الاين الذي هو يمين يعود في الأين الذي هو اليسار، وكذلك الحال في الأمام والخلف. وهو يحل هذه الشكوك باعطاء جهة التصور التي بها يضع أن للسماء هذه الجهات الست وذلك، كما يقول، بأن نتخيل انسانا قد أدار على نفسه فلكا وهو يحركه من المشرق إلى المغرب ومن تحت الأرض، فإنه يجب أن يكون رأس هذا الانسان مما يلي القطب الجنوبي، وقدماه مما يلي الشمالي، ويمينه في الأفق الشرقي، وشماله في الجنوبي، ووجهه إلى وسط السماء ، ويكون مبدأ الحركة من هذه في الأفق الشرقي ضرورة، ويكون تحريكه إلى وسط السما ، وذلك على ما تلفي عليه الحركة اليومية، فإنه يظهر من أمرها أن الجزء الذي يصعد فوق الأرض هو المقصود أولا بالطبع، وأعني بالأرض ها هنا منها المسكون منها وأن الذي يهبط منها إنما هو من أجل الذي يصعد، كالحال في حركة الحيوان المكانية ، فإن اليمين هو الذي يحركه على القصد الأول واليسار إنما يحركه على جهة الاعتماد عليه لتعود حركة اليمين ، وكذلك يظهر أن الأفق الشرقي هو موضع ابتداء حركة السماء وهو يمينها، وأن الأفق الغربي إنما تتحرك فيه السماء لتعود الحركة في الأفق الشرقي. وإذا كان ذلك كذلك فمبدأ التحريك هو ضرورة على القصد الأول في الأفق [17 ظ : ع] الشرقي، ولذلك يجب أن يكون هذا الموضع يمين السماء، وغاية هذه الحركة هو وسط السماء الذي هو الأمام. فعلى هذا يمكن أن يتوهم لهذه الحركة مبدأ ونهاية من قبل المحرك لها وأن كان يتحرك دورا وفي غير زمان، وكانت جهات الفلك متشابهة فمعنى اليمين الموجود للفلك أنه يلفى له موضع محدود منه ابتداء حركة المشرق على القصد الأول، ومعنى الأمام أنه يلفي له موضع انتهاء الحركة للمحرك له على القصد الأول، وليس هذا المبدأ منه في أجزاء محدودة، فإن الجزء من الفلك الذي نتوهمه يمينا بكونه في الأفق الشرقي يعود يسارا بكونه في الأفق الغربي، وكذلك الأمام أو الخلف، وإنما يظهر فعله في مواضع منه محدودة. وبحق كان ذلك كذلك لأن القوة المحركة له ليست منقسمة بانقسام الجسم فيكون في جزء دون جزء منه. فمعنى قول أرسطو أن للسماء يمينا وأماما أن مبدأ قوة التحريك على القصد الأول يوجد في الأفق الشرقي آخذا إلى وسط السماء، كما قال في آخر السماع أن المحرك هنالك يعني في أسرع الدائرة التي في الفلك وهي أعظمها ، فكما أنه حيث وجدت سرعة الحركة نسب ذلك الموضع إلى وجود المحرك ، كذلك حيث وجد مبدؤها ومنتهاها على القصد الأول سمى ذلك يمينا وأماما وسميت مقابلتها يسارا وخلفا، وذلك على وجه الشبه باليمين واليسار والأمام والخلف الموجود في الحيوان، فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذه الجهات تتميز بالموضوع والقوة المحركة وهذه تتميز بالقوة المحركة وبالموضع لا بالموضوع، وأما الفوق والأسفل في الفلك على هذا فتميز بالموضع والموضوع، وذلك أنه إذا تميزت الحركة بالمبدأ والنهاية تميز الفوق والأسفل، فعلى هذا ينبغي أن يتصور مذهب أرسطو في أن للسماء يمينا ويسارا وأماما وخلفا وفوقا وأسفلا. وبين أن هذا المعنى الموجود للسماء من هذه الجهات هو مقول بتشكيك مع الذي يوجد في الحيوان ، كما [أن] معنى ذي النفس فيها يقال بتشكيك، ولكن المقدمات المشهورة قد تستعمل بوجه ما في البرهان، ولاسيما في الأمور التي لا يمكن فيها غير ذلك، وهي الأشياء التي ليس بأيدينا فيها مبادئ إلا من هذا الجنس وان لم يفهم مذهب أرسطو حسب هذا القول تلحق شكوك ليس يخلو منها كما عرض لأبي نصر وغيره. ولما فرغ من هذا جعل يعدل آل فيتاغورش في معنين اثنين: أحدهما أنهم صيروا للسماء يمينا ويسارا لا غير ذلك من الجهات. ويقول أن وجود الفوق والأسفل والأمام والخلف في جميع ما له يمين ويسار أبين من وجود اليمين واليسار، وذلك أن الفوق والأسفل والأمام والخلف يتميز في الحيوان بالشكل والقوة، وأما اليمين واليسار فإنما يتميزان فيه بالقوة فقط. ويقول أنه واجب أيضا إذا وجد اليمين واليسار ان يوجد الفوق والأسفل، فإن الفوق والأسفل متقدمان بالطبع على سائر الجهات. وإذا وجد المتأخر وجد المتقدم بالطبع، فإن المتقدم والمتأخر يقالان على أصناف كثيرة. ومن الدليل على أن الفوق والأسفل متقدمان بالطبع على سائر الجهات انهما انما يوجدان للنبات دون سائر الجهات، والنبات يتقدم بالطبع على الحيوان. وأيضا فإن الفوق والأسفل طرفا الطول واليمين واليسار طرفا العرض. وإذا كان الطول متقدما على العرض فواجب أن تكون أطرافه متقدمة على أطراف العرض، وإذا كانت هذه الأطراف متقدمة بعضها على بعض فواجب أن تكون المبادئ التي فيها بهذه الصفة. وأيضا فإن الفوق والأسفل هما ابتداء الحركة الطبيعية التي هي حركة النشء والنمو، واليمين هو ابتداء الحركة في المكان، والحركة الطبيعية متقدمة على الحركة في المكان. وإذا كان هذا [18 و: ع] كله كما وصفنا فالفوق والأسفل متقدمان بالطبع على اليمين واليسار والأمام والخلف، وكذلك الأمام والخلف متقدمان بالطبع على اليمين واليسار، فإنه ليس كل حيوان حساسا متحركا في المكان، وكل حيوان حساس فله أمام وخلف. فهذا أحد المعنيين اللذين يلوم عليهما شيعة فيتاغورش. والمعنى الثاني تصييرهم اليمين واليسار لجميع الموجودات. وكذلك يلوم من يقول أن أهل الربع الشمالي يسكنون في الجهة / (18 و) [20 و] الفوقية من الفلك والجهة اليمنى من العالم ، والأمر بعكس ذلك على ما تبين، وإنما يمكن أن يكون سكانهم في الجهة الفوقية وفي جهة اليمين من سائر الأفلاك التي تتحرك من المغرب إلى المشرق، فإنه واجب أن يكون اليمين واليسار والفوق والأسفل والامام والخلف في هذه بخلافها في الحركة اليومية. فقد تبين من هذا القول المعنى الذي قصد أرسطو من أن للسماء يمينا ويسارا وأماما وخلفا وفوقا وأسفلا، و(هذا) هو المعنى الذي لا ينبغي أن يتوهم على أرسطو غيره. فإنه محال أن يريد أن لها هذه الجهات بالوضع والنسبة إلينا كحال تصورنا إياها في الجمادات، ومحال أن يريد أن هذه الجهات متميزة أيضا باجراء محدودة في السماء كالحال في الحيوان فإنه يظهر أنها متبدلة في السماء وأما الذي يمكن أن يتوهم أنه غير متبدل منها فهو الفوق والأسفل فقط. وإذا كان ذلك كذلك فلم يبق إلا الوجه الذي قلناه ، وذلك ما أردنا بيانه.
المطلب الثاني :
Page 198