فنقول: ان كل شيء فيه قوة على أن يفعل أو ينفعل، فان قوته انما تحد بغاية ما يمكن فيها أن تفعل أو تنفعل، وبالشيء الذي هو في النهاية من ذلك الفعل أو الانفعال، وما كان بهذه الصفة، فقوته محدودة، على ما وضع قبل. وما هو بهذه الحال وفيه قوة أن يقبل الكون والفساد، فالزمان الذي يقبل فيه الكون محدود، وكذلك الزمان الذي يقبل فيه الفساد، ولذلك كانت قوى الأشياء التي تقبل الكون والفساد متناهية. وليس هاهنا في الوجود الا أحد أمرين: اما قوة متناهية، واما قوة غير متناهية. فأما المتناهية فمحدودة، لأن لها مبدأ ونهاية. وأما غير المتناهية فغير محدودة إلا أن يقول قائل انها أيضا محدودة، من جهة انه لا يوجد أعظم منها، فان وجد شيء أزلي كائنا، فقد وجدت قوة غير متناهية لها مبدأ. وكذلك ان وجد شيء أزلي فاسدا، فقد وجدت قوة غير متناهية لها نهاية وما لا نهاية له لا يبعض حت ي تكون لبعض الأشياء قوة لا نهاية لها في الماضي، ولبعضها قوة لا نهاية لها في المستقبل، ولبعضها قوة لا نهاية لها في الأمرين جميعا، فإنه يلزم عن ذلك أمر شنيع، وهو أن يكون مالا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، لأنه لما كان مجموع القوتين لا نهاية له، وكان كل واحد من القوتين أيضا لا نهاية له، كان واجبا أن يكون مالا نهاية له جزءا لما لا نهاية له، وذلك شنيع مستحيل. فلذلك ما يجب أن تكون القوي اما محدودة ذوات نهاية ومبدأ، واما غير محدودة بأن تكون غير ذوات مبدأ ولا نهاية. لكن ان كان من البين بنفسه ان الآن الذي فيه يتكون المتكون هو محدود بالطبع: وانه لا يصدق عليه في ذلك الآن انه غير متكرن، وان الآن الذي يصدق فيه عليه أنه فاسد محدود بالطبع أيضا، فطبيعة الآنين مختلفة ضرورة. والآن الذي هو مبدأ الكون أو فيه الكون هو نهاية فوة العدم الذي به تحد، والآن الذي هو مبدأ الفساد هو نهاية قوة الوجود التي بها تحد. ولذلك كانت هذه الفوى محدودة بالطبع ذوات مبدأ ونهاية في أنفسها وفي الأزمنة المساوقة لها. فان أنزلنا شيئا لا يفسد، وأزليا يفسد، فمن البين أنه ليس يكون هنالك آن يختص بالطبع بوجود الكون له أو الفساد دون سائر الآنات التي لا نهاية لها. وإذا لم يكن هنالك آن يختص بكون الكائن وفساد الفاسد فليس هنالك قوة محدودة أصلا، وإذا لم تكن هنالك قوة محدودة فلا كون هنالك ولا فساد. فنرجع ونعمل من هذه المقدمات قياسا فنقول: ان كل ما يكون ويفسد فله قوة محدودة، ولا شيء مما يكون ويبقى أزليا، أو شيء أزلي يفسد، له قوة محدودة، فينتج عن ذلك في الشكل الثاني انه ولا شيء مما يكون ويفسد يوجد أزليا. فان قال قائل: انه قد يمكن أن يوجد في الكائن والفاسد قوى غير متناهية، قلنا: انه يلزم عن ذلك المحال الذي فرغنا منه، وهو أن يعود الممكن مستحيلا، أو يوجد الضدان معا. وذلك أنه [14 و: ع] إذا تشابهت الآنات في نسبتها إلى العدم والوجود، لزم أحد أمرين: اما أن ترتفع المتقابلات معا، واما أن يوجدا >المتقابلان< معا، ولذلك من يضع أن (في) كل آن يفرض فيه الشيء موجودا، يمكن أن يفرض فيه معدوما، فيلزم عنه أن يكون الشيء موجودا معدوما معا أو لا موجودا ولا معدوما، (17 ظ) [28 ظ] وذلك مستحيل. وليس لقائل أن يقول ان الآنات المختصة بكون الكائن وفساده ليست متميزة بأنفسها بالطبع، وانما يكون التمييز والتخصيص من قبل الفاعل، كما يمكن أن يتوهم ذلك متوهم، فإنه لو كان ذلك كذلك، لم يكن هنالك امكان طبيعي لوجود الكائن و>لا< فساده، لأنه كان يكون كل آن صالحا للوجود والفساد، وذلك خلاف ما يعقل من أمر الموجودات. فإنه واجب أن يكون امكان الموجودات المتضادة متضادا. وهذا كله بين لمن زاول هذا العلم الطباعي.
البرهان الثاني:
Page 173