ومما هو جدير بالنظر أن هؤلاء الفنيين عملوا على ألا يسمحوا لأنفسهم بحرية استخدام مواهبهم - طبيعية كانت أو مكتسبة - للتجديد أو الابتكار المطلق إلا في فترات الثورات، كما لم يكن لهم أن يخرجوا عن ممارسة الوظائف المخصصة لهم وفقا للقواعد «السائدة».
هذا شأن القلة، أما الرعية من المنتجين، فخير ما نفعل لمعرفة شأنهم، هو أن نتصورهم جماعات منظمة من الفلاحين والصناع يعملون في ضياع التاج، أو المعابد أو ما إلى ذلك.
وقد عنيت الحكومة أدق عناية بحاجاتهم الروحية؛ فنظمت شئون العبادات العامة، ووضعت القوانين الخلقية المستفيضة؛ لكفالة حسن السلوك والسيرة القويم، ولم يترك لهم - في الواقع - إلا متاع الحياة العائلية، وكانوا في فترات اليسر والرخاء راضين قانعين، وأظن أن هذا كان كل ما هنالك.
ولقد كان في وسع مجتمع مشيد على هذا النحو أن يشهد أيام عظمة ومجد ورخاء، وأن يخلف ميراثا من جليل الأعمال، ولكنه كان في معظم الأحايين، كما لو ذاق الموت.
ولما اعتلى البطالمة والقياصرة الرومان عرش «فرعون» تفككت عرى المجتمع المصري كما وصفناه؛ فالمجتمع في الظاهر هو هو، وفي الباطن شيء آخر، فقد استقر الأغراب من الإغريق واليهود في القرى والمدائن هنا وهناك، ومارسوا شئون تجارة السلع وتجارة الفكر، ومبادلتها مع البلدان الأخرى وفقا لمبادئ غير مصرية، واستنزفت دماء الأهلين إلى آخر قطرة، وهذا كله بالإضافة إلى عوامل أخرى جعل من المحال استمرار النظام القديم، وسلبت السلطة من يد الملك الإله، أو من يد الإله القيصر الغائب عن البلاد، ونشأ عهد إقطاع، وتكونت الضياع الكبيرة، وقويت نقابات أرباب الحرف، وعلا شأنها في المدن، ولم يبق في الأسر التليدة إلا أهل الريف، وهكذا ظل الريف يأكل ويهضم الغذاء الإنساني الذي يقدم إليه، ولا يشبع نهمه.
وجاءت المسيحية بشيرة بالخلاص، بشيرة - على الأقل - برفع نير اليأس، ودان لها الحاكمون البيزنطيون، والمحكومون المصريون على السواء، ولكن الفرج لم يأت بعد؛ فالحكام أجانب، وأجانب لا يستغلون الموارد فحسب، ولكن يعملون أيضا على فرض مذهب ديني معين، ونظام كنسي معين على الرعية، وانتصر المصريون فاحتفظوا بشخصيتهم، وشادوا بأنفسهم - ولأنفسهم فقط - صروح الفن واللغة والآداب والكنيسة، ولكن مجتمعهم انتقل من النظام الموحد - الذي عرفه آباؤهم - إلى مجتمع يقوم على الطوائف والهيئات: سكان القرى، وسكان المدن، والطبقة الوسطى، والقساوسة والرهبان، تربطهم جميعا رابطة من الدين والتقاليد.
وفي سطوع نور الإسلام نصل إلى العصر الثاني من عصري الحكم، الذي يسوده قانون مستمد من شريعة سماوية، وقد ظل المجتمع قائما على تنوع الطوائف والهيئات - كما كان من قبل - إلا أن ما بين تلك الطوائف والهيئات من فوارق وفواصل أوهنه وأضعفه إحساس قوي بالانتماء إلى «الأمة»، الأمة الواحدة، وهو أحساس سرى حقا في كل فرد وفي كل جماعة، أما في دائرة الحكم فقد كانت مصر الإسلامية - شأنها في ذلك شأن غيرها من البلاد الإسلامية - تعترف بالحقيقة القائمة على التمييز بين الحكومة الشرعية حقا وحكومة الواقع.
وبهذا كانت تخضع عن طواعية إلى انتقال السلطة من أسرة حاكمة إلى أخرى، أو من عصبية إلى أخرى، بيد أن الاعتراف بسيادة «الشريعة» كفل للعدالة وجودا، كما أن الإحساس القوي - الذي أشرنا إليه - بالانتماء للأمة، ويقظة الهيئة الدينية الشرعية أوجدا أداة عملية ناجزة لإحقاق الحق.
وبالإضافة إلى هذا كله كان للمجتمع الإسلامي أن يعتز بأنه هيأ لغير المسلمين مكانا منه، يتبوءونه عن حق ومشاركة جدية في نواحي الحكم والاقتصاد والثقافة.
وأخيرا نصل إلى طور «الحكم وفقا لأحكام العقل»، وسنتناول ذلك في الفصل الأخير الخاص بمصر والغرب، ونكتفي الآن بأن نذكر أن الظروف، التي أوجدت ذلك الطور من أطوار الحكم، أدت إلى الانتقاض على المجتمع الإسلامي كما ورثناه، وإلى محاولة بناء مجتمع مصري جديد عن طريق التجريب، وعن طريق الارتجال، وأحيانا تحت حكم الأهواء، وهذا ما يجب أن يكون، ما دمنا قد نصبنا العقل الإنساني على عرش السلطان.
Page inconnue