وقد آمن المصريون بأن تكوين مصر على النحو الذي به تكونت، وتوحيدها على النحو الذي به توحدت، لأعظم من أن يكون أثرا من آثار عبقرية فرد أو طائفة، بل هما أجل قدرا من أن يتما إلا على أيدي الآلهة؛ فالآلهة هي التي عملت بالفعل، ولم تكتف - كما يصح أن نتصور - بإلهام البشر أو هدايتهم، وما الملوك البشريون إلا سلالتهم.
ومما ينبغي ألا نغفل عنه، أن وحدة مصر اتخذت مظهر التركيب أو المزاوجة، فالتاج تركيب من تاجين، ومن الآلهة تتركب تراكيب ثنائية أو ثلاثية أو تساعية، وما إلى ذلك، وهذا كله له دلالته، وله أيضا آفته؛ فإن ما تركب يجوز أن يتفرق ويتحلل، فكان لا بد من خلق أدوات تصون المجتمع، ومن أهمها إنشاء الخدمات العامة التي تدعو إلى العجب والإعجاب.
واختراع الكتابة، ومحاولة بلوغ الوحدانية على نحو يجمع - في مهارة وحذق، وفي سذاجة وطيبة أيضا - بين الولاء المحلي، والولاء القومي الدينيين.
وقد قارن «المسيو رينان» بأسلوب لا يخلو من الفكاهة، حكومة مصر الفرعونية بحكم تمارسه أكاديمية العلوم السياسية والخلقية، والأصح أن نقول: إنها كانت حكومة الفنيين، والفنيون يكونون إذن أول طوائف مجتمعنا المصري.
ولكن يجب أن نلاحظ أن هؤلاء الفنيين لم يقتصروا على ممارسة فنون المادة، بل مارسوا أيضا فنون الروح - إن صح التعبير - وهم جميعا كهنة؛ فلم يكن الكاهن رجل دين فقط بالمعنى الذي نعرفه، بل كان كل ذي شأن كاهنا من نوع ما: من الملك إلى من هو أدنى؛ ولذا فإن لي أن أقسم المجتمع المصري بين قلة من الحكام الكهنة الفنيين، ورعية تعمل في الإنتاج، كما أن لي أن أسمي حكم مصر بحكم الملك الإله، يمارس حكمه بواسطة فنية.
ومما لا شك فيه أنه كان من الطبيعي أن يحاول أولئك الفنيون أن يتألهوا وأن يؤبدوا نفوذهم في ذريتهم، وأن يوصدوا الأبواب دون الدخلاء، إلا أن ثمة عاملين حالا دون ذلك:
أولها:
عامل الاختيار والفناء الطبيعيين، وهو يحول دائما دون إيصاد الأبواب في وجه الدخلاء من الخارج.
والعامل الثاني:
هو أن «فرعون» كان يعمل دائما على أن يبقى هو وحده «منبع التشريعات كلها، ومنبع الهبات كلها»، وعلى هذا الأساس كان جد حريص على أن يرفع حديثي النعمة - كما نقول اليوم - كلما أمكن له ذلك.
Page inconnue