Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
هذه «عينات» موجزة مما يقوله مفكرو الغرب، لو طرحوا على أنفسهم مشكلة المواجهة التي يواجه بها الإنسان الطبيعة، ما عناصرها؟ وإنهم ليطرحون هذه المشكلة بالفعل، كما طرحها أسلافهم، لكنهم ربما ازدادوا بها اليوم عناية واهتماما، فماذا يقول مفكر عربي لو أراد المشاركة في البحث والرأي؟ هب جماعة من أولئك الفلاسفة جلست على مائدة للحوار، وأجلست معها مفكرا عربيا سمع ما دار بينهم من نقاش حول علاقة الإنسان بالطبيعة، ثم طلب منه أن يدلي هو الآخر برأيه، شريطة أن يصدر فيه عن ثقافة عربية أصيلة غير مجلوبة له من هنا أو هناك، فماذا تراه قائلا؟
أحسبه يبدأ الحديث باعتراض يتناول به الأسس والجذور، فزملاؤه من فلاسفة الغرب، لم يستوقف أنظارهم شيء في العلاقة بين الإنسان والطبيعة بمقدار ما استوقفتهم عملية «المعرفة» كيف تتم للإنسان حين يكتسب عن بيئته علما؟ فإذا اتسع معهم نطاق البحث، جاءت السعة بمثابة الفروع المشتقة من ذلك الأصل والأساس، الذي هو «المعرفة» كيف يرتبط بها الطرفان، الإنسان العارف والطبيعة التي هي موضوع معرفته؟ أقول إنني أظن أن صاحبنا العربي يبدأ حديثه باعتراض على أساس البحث والنظر؛ لأنه - على ضوء ثقافته التقليدية العريقة - يرى أن العلاقة الأساسية الأولى، التي يواجه الإنسان بها الطبيعة التي حوله، ليست هي علاقة العارف بموضوع معرفته بل هي علاقة الفاعل بما ينصب عليه فعله، أو قل إنها ليست علاقة العقل بالمعقول بل هي عنده أولا علاقة الإرادة بالفعل المراد.
الطبيعة في الثقافة العربية مسرح للحركة والنشاط والفاعلية، أكثر منها موضوعا للنظر المجرد، وحتى المعرفة العقلية النظرية إنما ينظر إليها على ضوء الثقافة العربية على أنها فاعلية أريدت، فالإرادة لها الأولوية المنطقية، عنها تتفرع سائر الجوانب. ويكفي أن نقول إن القرآن الكريم هو كتابنا الذي نهتدي به، لنقول بالتالي إنه مصدر التشريع، أي مصدر القوانين والأوامر والنواهي، وهي كلها من قبيل الفعل لا من قبيل الفكر المجرد. ولقد وردت في هذا الكتاب الكريم مجموعة من القيم - الأسماء الحسنى قد ينظر إليها على أنها دالات على قيم - المنظمة للسلوك: سلوك الإنسان مع أخيه الإنسان، وسلوكه مع سائر الكائنات. وكل هذا هو بالنسبة للسالك «طبيعة» تحيط به، ويراد له أن يتصرف إزاءها على خير الوجوه.
ولقد تبدو مجموعة القيم السلوكية هذه، منوعة مفرقة إلى درجة ربما غابت معها الوحدة التي تضمها جميعا في نسق واحد مرتب، فيه الأعلى وفيه الأدنى، بمعنى أن تكون هنالك قيمة - أي معيار أو مقياس للسلوك - أعم وأشمل من قيمة أخرى، وبحيث تأتي هذه الأخرى بمثابة النتيجة المتفرعة، وفي هذه الحالة تكون مهمة الفيلسوف العربي - بدل أن يتناول أفكارا عقلية ليرى كيف جاءت وعلى أي نحو تنساق في بناء واحد - أن يتناول قيما ليرى كيف يتصل بعضها ببعض اتصال الأعم بالأخص، لتكون في النهاية مرشدا عمليا لسلوك الإنسان في محيطه الاجتماعي والطبيعي على حد سواء. وإن وحدانية الله نفسها لا أظنها تفهم فهما جيدا إلا إذا استتبعت في ذهن من يفهمها وحدانية في مجموعة القيم، أعني تنسيقا لها، من شأنه أن يسدد السالك نحو الهدف، إذ لو كانت متنافرة متناقضة فيما بينها، لأدت بالسالك إلى تمزق وتشتت وضلال، بل إن كلمة «الإسلام» نفسها تتضمن تسليم الإنسان إرادته لإرادة الله، أي أن يجعل إرادته في خدمة ما أراده له الله من فعل يؤديه.
فإذا كان محور المواجهة بين الإنسان وما يحيط به عند مفكري الغرب هو «العلم»، فمحور المواجهة عند المفكر العربي هو «الأخلاق»، وأنا أستعمل هذه الكلمة هنا «لتعني مبادئ السلوك الصحيح تجاه مختلف المواقف، على أن المواقف «الاجتماعية» أولى عنده بالنظر والتقنين، فمن أهم الإضافات التي أضافتها الثقافة العربية - صادرة في ذلك عن العقيدة الإسلامية - تنظيمها لأخلاقية الفعل، بعد أن كانت الأخلاقية قبل ذلك مقصورة على النية والضمير. ولنلاحظ هنا أن أخلاقية الفعل لا تنفي أخلاقية الضمير، بل تضاف إليها لتزيد عليها، فبدل أن تصفو النية ثم يقف الإنسان عند هذا الحد، تطالب أخلاقية الفعل بنقل النية إلى فعل يؤدى. أخلاقية النية تجعل من الفرد الإنساني فردا ممتازا في فرديته، وأما أخلاقية الفعل فتخرج الفرد من فرديته لتجعله مواطنا صالحا، أي لتجعله عضوا نافعا في جماعة. في أخلاقية الضمير ليس هنالك من حكم إلا الضمير نفسه، إذا استراح ورضي عن صاحبه كان صاحبه سعيدا راضيا، وحسبه جزاء أن يرضى عن نفسه لأنه أرضى ضميره، ولا عبرة عندئذ لوقعه على الناس الآخرين، وأما في أخلاقية الفعل فلا يكفي أن يستريح الضمير ويرضى ليكون الفرد ساميا، بل لا بد أن توضع النية الحسنة على محك الفعل، ومحك الفعل عادة هو الآخرون، هو المجتمع، هو الإنسانية، وبغير هذا الطرف الخارج لا تتم للموقف أخلاقيته.
وإذا أنت أمعنت النظر قليلا في ذلك، ألفيت نتيجة هامة تلزم عنه، هي ضرورة الوجود الاجتماعي ليكمل الفرد؛ وبذلك تكون الثقافة العربية الأصيلة قد أضافت هذا البعد الاجتماعي إلى حياة الأفراد، لا ليكون عرضا من أعراضها، بل ليكون ضرورة للوجود الإنساني المتكامل. ومن هنا كانت عزلة الزاهد أو المتصوف شيئا لا ينسجم مع الروح العربية، انسجامه في الثقافات الأخرى. ولما كان تنظيم الفعل في مجتمع يحتاج إلى «قانون» يضع له الحدود، كان التشريع، أو كان «الفقه» ورسم الحدود لما يجوز وما لا يجوز للإنسان أن يفعله، من أهم وأعظم نتاج الثقافة العربية. وأكرر مرة أخرى، أن احتكام الفاعل إلى قانون أو شرع، لا ينفي احتكامه إلى ضميره بل يضيف إليه، فالاكتفاء بمحكمة الضمير وحدها، قد لا يلزم الإنسان بالانغماس في حياة العمل. إن العلاقة بين الحالتين هي كالعلاقة بين آلة ننظر إليها وهي ساكنة، ثم نختبر صلاحيتها وهي تعمل، فلا تتحقق الحالة الثانية إلا إذا تحققت قبلها الحالة الأولى. لكن العكس غير صحيح، أي إنه قد يكتفى في الآلة بحالة سكونها، فلا ندري ماذا تكون في دنيا العمل، وهكذا قل في أخلاقية الضمير وحده، ثم أخلاقية الفعل المبنية على موافقة الضمير. •••
الفعل وديناميته، لا العلم المجرد في ثباته وسكونه، هو حجر الزاوية من البناء الإنساني من وجهة النظر العربية. وأحسب أن ذلك قد انعكس في اللغة العربية وطرائق بنائها، فهي تبدأ الجملة ب «الفعل» وتعقب عليه بالفاعل، على خلاف اللغات الأوروبية التي تبدأ جملتها بالفاعل، ثم تلحقه بالفعل. نحن نقول «جاء» زيد أكثر مما نقول «زيد» جاء ، وهم يعكسون، ولما كان الفعل ينم في الأغلب عن إرادة، ثم لما كانت الإرادة توشك أن تنحصر في الإنسان دون سائر الكائنات في العالم المخلوق، كانت المواجهة التي تشغل الثقافة العربية، ليست هي مواجهة الإنسان بعقله للطبيعة بخصائصها ابتغاء الوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية، وإنما هي مواجهة الإنسان بإرادته للمجتمع الإنساني في فاعليته، وأوجه نشاطه، ابتغاء المشاركة في فعل موحد يوصل إلى أهداف ترضى عنها القيم العليا. فقطب الرحى عند فلاسفة الغرب هو إحكام للعقل، وقطب الرحى عند المفكر العربي هو قيم السلوك، والخير كل الخير في أن تضم هذه إلى تلك، فإذا كان الغرب ينقصه ما يكمله فنقصه في القيم التي تدمج الفرد في جماعة الإنسانية دمج التعاطف والتعاون، وإذا كان العربي ينقصه ما يكمله، فنقصه في قضايا العلوم التي هو الوسيلة للسيطرة والإمساك بزمامها. ولا عجب أن شهد التاريخ الفكري حركتين سارتا في اتجاهين متضادين، فمن إقليمنا سارت ديانات إلى الغرب وانتشرت، بما تحمله تلك الديانات من رسالة القيم، ومن إقليمهم سارت إلينا علوم، بما تحمله تلك العلوم من وسائل التصرف في ظواهر الطبيعة.
لقد تميزت ثقافة العربي - أبرز ما تميزت به - بالشعر وغيره من فنون الأدب التي تستطيع أن تدرجها مع الشعر في مقولة فنية واحدة، وما الشعر؟ إنه - في صميمه - تعاطف مع كائنات الدنيا، ومعايشة لها. إن الشاعر لا يقف - كما يقف العالم - من الأشياء على مبعدة لينظر إليها في ذواتها دون أن يسقط ذاته هو عليها. كلا، بل الشاعر يتعمد أن يرى نفسه في ماء البحر وفي نجوم السماء وفي زرع الأرض، وكأنما هي جميعا أفراد معه في أسرة واحدة. فتأمل معي هذه المفارقة العجيبة: إذا نظر العلماء إلى الإنسان حولوه إلى شيء ليبحثوه بحثا علميا موضوعيا، وإذا نظر الشعراء إلى الأشياء حولوها إلى أناسي يتبادلون معها الحديث! وذلكم هو نحن في نظرتنا ... الطبيعة بغير ناس لا تكاد تشغلنا، والناس عند المفكر الغربي يكادون يتحولون إلى طبيعة.
وأستطيع أن أستثني من تيارات الفلسفة المعاصرة تيارا واحدا، بين نظرته ونظرتنا وشائج قربى، هو تيار الفلسفة الوجودية في شعبتها المؤمنة - فللوجودية شعبتان: مؤمنة وملحدة - لأنها فلسفة (بشعبتيها معا) تركز على أن يكون الإنسان فاعلا حرا مسئولا عن فعله، فلا تغني نفس عن نفس في مسئولية الفعل شيئا. وأما التيارات الأخرى جميعا، يقرأ عنها العربي المنقوع في ثقافة عربية أصيلة، فيحس كأنه في جو غريب عنه، يحس كأنه يتنفس دخانا لا هواء طلقا. ولكاتب هذه السطور تجربة حية في ذلك، فقد انتهت به ثقافته «الإنجليزية» في ميدان الفلسفة إلى اختيار أحد التيارات العقلية العلمية، واعتقد في صلاحيته، هو تيار التجريبية العلمية - أو الوضعية المنطقية - وكتب في شرحه الكتب والفصول، لكنه لحظ عن كثب كيف كانت تصادف تلك النزعة التحليلية العقلية غير أهلها، فإذا تحدث في الوجودية أو في فلسفة برجسون مثلا، فهنا ترهف الآذان لتسمع.
لقد رأى إمام من أئمة الفقهاء المسلمين - هو ابن تيمية - أن معرفة الله من حيث هو ماهية، مستحيلة على الإنسان، وأنه لا سبيل أمام الإنسان لمعرفة الله إلا بمعرفة إرادته التي كشف عنها لأنبيائه، والتي ينحصر واجب العباد في طاعتها، وما إرادة الله إلا مجال القيم التي يراد لسلوك الإنسان أن يسير على مقتضاها. ولما كان هذا السلوك المراد يغلب أن يكون ذا صلة بحياة الآخرين في المجتمع، كانت فكرة «الأمة» ذات أهمية بالغة، والذي يجعل من مجموعة الناس أمة واحدة، ليس هو أنهم يعيشون على رقعة جغرافية واحدة، ولا أنهم يستدبرون تاريخا مشتركا، ولا أنهم يتكلمون لغة واحدة، بل هو - عند ابن تيمية - المشاركة في «فعل»، وبهذه المشاركة، يجاوز كل فرد حدود نفسه، لينفتح على الآخرين الذي هم شركاؤه في فعل واحد. وليس بي حاجة إلى ذكر الموقف الراهن ل «الأمة العربية» إزاء الوجود الإسرائيلي، تأييدا لرأي ابن تيمية، فالأمة العربية في هذه الحالة لا تتوافر لها صفة «الأمة» إلا وهي في حالة فعل مشترك.
Page inconnue