Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
ليتمم هذه العملية - عملية تعقيل الطبيعة إلى آخر شوطها - فهو يتفق مع سالفه «كانط» في أن مهمة الفلسفة الأولى هي أن تجعل العالم معقولا - أي جاريا مجرى القوانين العقلية - لأن ذلك يجعل العالم والذات العاقلة التي تدركه حقيقة واحدة متجانسة، لكنه يختلف عن سالفه في رفضه أن يفرق بين الحقيقي والظاهر، بأن يقول - كما قال كانط - إن الأشياء في ذواتها ممتنعة على إدراكنا، وإننا لا ندرك بالحواس والعقل إلا ظواهرها. يرفض هيجل هذه التثنية التي تجعل المعرفة العقلية مقتصرة على وجه من الكون دون وجه قائلا إن الكون كله «معقول» لا فرق بين باطن وظاهر، بل إن العالم الواقعي والفكر العقلي المنطقي اسمان على مدلول واحد، فالواقعة هي فكرتها، والفكرة هي واقعها، كل ما هنالك من فرق هو أن الجانب الواقعي بمثابة التعبير الذي يفصح عن فكرته العقلية. •••
ونسرع الخطى حتى لا يطول بنا الطريق، لنصل إلى فلاسفة العلوم في عصرنا هذا، وفي مقدمتهم «وايتهد»
Whitehead
و«رسل»
Brtrand Russel ، فتراهم - على ضوء الفيزياء الحديثة وما تقتضيه - يرفضون الازدواجية التي تشق الطبيعة نصفين، نصف قائم في الواقع، ونصف آخر ماثل في أذهاننا عن النصف الأول، وليس النصفان متشابهين، فكأننا إذ نزعم معرفة الطبيعة الخارجية لا نزيد على كوننا نتلقى مؤثرات منها، لنطهوها «معرفة» في أذهاننا طهوا يجيء في نهاية الأمر وفق مزاج الطاهي، بغض النظر عن حقيقة المؤثرات الأولى التي جاءت إلينا عن طريق حواسنا. يرفض فلاسفة العلم المعاصرون هذه الازدواجية، ويضعون «المعرفة» في صورة أخرى تجعل الخط موصولا بين الشيء الخارجي وبين فكرتنا الداخلية عنه، ويسمون هذا الخط الموصول «خطا نسبيا» حيث لا يكون في هذا الخط الموصول فاصل يفصل الأصل الذي بعث مؤثراته فينا، عن الصورة التي تكونت عنه في عقولنا. وبذلك تنسد الفجوة الفاصلة بين الطبيعة الخارجية وبين الذات العارفة، فافرض - مثلا - أنك تبصر ضوءا آتيا إلى عينيك من مصباح، فليس تحليل الموقف هنا هو أن «شيئا» قائما في الخارج هو الذي نعرفه، وأن ذاتا في الداخل هي التي تؤدي عملية المعرفة، بحيث يكون هنالك فاصل بين الشيء من جهة وفكرتنا عنه من جهة أخرى، بل إن أشعة الضوء تنبعث في موجات تعرفها الفيزياء، حتى تصل إلى العين، وهنا يواصل خط الأحداث سيره بغير قطيعة فاصلة بين خارج وداخل، كل ما في الأمر أن نوع الأحداث يتغير حين يسير خط الأحداث في طريقه من جهازنا العصبي وإلى الدماغ. الأمر كله أحداث تعقبها أحداث، وهذه بدورها تتلوها أحداث، حتى تنتهي العملية التي نقول عنها إنها «معرفة»، مع ملاحظة هامة وخطيرة، لعلها من أبرز ما يميز الفلسفة المعاصرة كلها، وهي أنه لم يعد أمامنا «طبيعة» هناك و«عقل» هنا، يختلفان جوهرا، بل أصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من جنس واحد، هو «الأحداث» - أو قل هو الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا - والقسمة بينهما هي قسمة في التخصصات العلمية وحدها، فالفيزيائي يختص بالأحداث التي تقع في مسار الضوء بادئا من المصباح واصلا إلى العين، والفسيولوجي (عالم وظائف الأعضاء) يختص بالأحداث التي تقع على طريق الأسلاك العصبية، وعالم النفس يختص بآخر الطريق، حين يقال عن تلك المرحلة من مراحل السير، إنه «فكرة» الإنسان عن شيء رآه.
لكن عصرنا في الوقت نفسه، يشهد ضربا آخر من الفلسفة يقر هذا الاتصال الملتحم بين الذات العارفة والشيء الذي تعرفه، ويرفض أن يكون بين الطرفين فاصل يضيق أو يتسع، لكنه يتصور هذا الاتصال على صورة أخرى، أخذ بها «هوسرل»
Husserl
في فلسفته التي يطلق عليها اسم «الفينومينولوجيا» - أو تحليل الظواهر - فلقد ثار هوسرل هذا وأتباعه - ولنلحظ هنا أن الوجوديين المعاصرين جميعا من أتباعه بطريق مباشر أو غير مباشر - ثار على التقليد القديم الذي كان يقتضي الفصل بين ذات الإنسان العارفة والأشياء التي تعرفها، فهو تقليد نشأ عن فهم خاطئ لطبيعة العقل؛ إذ صوروه وكأنه صندوق يحتوي على صور ذهنية وأفكار، ومن هنا أخذوا يسألون: من أين لهذا الصندوق محتواه ؟ وما العلاقة - من تشابه أو تباين - بين ذلك المحتوى وبين العالم الواقع؟ وحقيقة الأمر عند هوسرل هي أن العقل ما هو إلا «مشير إلى كذا ...» أو «قاصد نحو كذا ...» أو «ملتفت إلى ...» ولأضرب لك مثلا موضحا، فأقول: افرض أنك رأيت رجلا سائرا متجها إلى ...» إلى مكان لا تدريه، فتسأله: إلى أين؟ فهل أنت في هذه الحالة تفرق بين سير الرجل واتجاهه؟ أم إنهما عندك شيء واحد؟ إن سيره هو اتجاهه، إنه إذا أجابك عن سؤالك إلى أين؟ بقوله لست أدري، ضحكت منه؛ لأنه لا يعقل أن «يتجه إلى ...» ثم لا شيء! وهكذا «العقل» في فاعليته، هو «اتجاه نحو ...» هو «وعي ب ...» فإذا وجدت إنسانا يدعي أنه «يفكر» لكن أفكاره لا تنتهي إلى «شيء» فاعلم أنه كان حالما أو عابثا. ومن هنا تأتي الركيزة الأولى في فلسفة هوسرل - اصطلح بعض كتابنا على تسميتها بالظواهرية أو الظاهراتية، ولكن أخشى استخدام أي من هاتين الكلمتين مخافة أن يختلط الأمر باتجاه فلسفي آخر وهو أيضا معاصر، واسمه الإفرنجي فينومينالزم؛ أي الرأي بأن الإنسان لا يدرك من الأشياء إلا مجموعة ظاهرات تظهر للحواس ولا شيء وراء ذلك. أقول إنه من هنا تأتي الركيزة الأولى في فلسفة هوسرل، وهي «القصدية»، ويعني بها أن كل وعي هو وعي بشيء، كل فكرة هي فكرة عن شيء، وهكذا. لقد أخذ هوسرل على ديكارت قولته: «أنا أفكر ...» دون أن يذكر لنا في أي شيء يفكر؛ لأن الفكر بغير شيء يتعلق به ضرب من المحال.
ونحن إذا ربطنا الأواصر بين الوعي وما يعيه، بطل السؤال القديم: هل أفكارنا تطابق الواقع أو لا تطابقه؟ وذلك لأنني إذ أكون على وعي بهذا القلم الذي في يدي بصرا ولمسا، فقد أصبحت أنا والقلم حقيقة واحدة إبان لحظة الوعي به، فإذا سألني سائل: ما الذي يدلك على أن القلم موجود فعلا؟ أجبته: لأني أراه وألمسه. وفي هذا الجواب ما ينبغي أن يقطع كل شك بعد ذلك، فليس عالمي منفصلا عن وعيي به؛ لأني طالما أعيه فأنا أعيشه. إن التحليل النظري وحده هو الذي يفتت الحقيقة؛ إذ الحقيقة كما نعيها أمر آخر غير تحليلها، فربما نظرت إلى وردة حمراء، فيقول لي التحليل إن هذا الذي تراه وردة واحمرار أضيف إليها. لكن الذي أراه في الحقيقة ليس حاصل جمع الوردة على لونها مع التفرقة بين المفردات التي جمعت، بل هو وردة حمراء دفعة واحدة، وفي لحظة وعيي بالوردة الحمراء، لا نكون اثنين، بل نكون كيانا واحدا.
ومن هنا تبطل التفرقة القديمة بين صفات أولية كائنة في الأشياء نفسها، وصفات ثانوية هي من صنع عقولنا - تلك التفرقة التي سادت القرن السابع عشر بصفة خاصة، وكان لها أثرها البعيد في دنيا الفيزياء عندئذ - إذ قصر العلم نفسه على الصفات الأولية وحدها، ولم يكن له شأن بالصفات الثانوية، على اعتبار أنها جانب ذاتي يدل على صاحبه ولا يدل على العالم الموضوعي. أما على يدي هوسرل فهذه التفرقة غير مفهومة ولا مقبولة، فإدراكي للوردة الحمراء، وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة الوعي بها، ليس فيه ما هو أولي وما هو ثانوي، ليس فيه ما هو موضوعي وما هو ذاتي، هو لحظة حية لا تقبل التحليل؟ ليس في العالم الخارجي وردة تبعث موجات ضوئية، وفي الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية إلى لون أحمر. لا ليس الأمر هكذا، بل إن وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالأشياء حقائقها هي ظواهرها في وعينا، وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه «عقل». واختصارا فقد ضمت فلسفة تحليل الظواهر عند هوسرل، ما كانت الفلسفة عند سواه قد بعثرته أشتاتا بعضها خارج وبعضها داخل. •••
Page inconnue