Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
وها أنا ذا أحمل طرفا من مشكلاتي الراهنة - وقد أشرت إلى بعضها في الفصل السابق - لأعود به إلى جماعات الأسلاف باحثا عن جماعة منها تصلح أن أنضوي تحت لوائها، لأجد عندها ما يرسم لي طريق الخلاص، فإذا وجدت تلك الجماعات كلها في واد غير الوادي الذي أجتازه بهمومي، وإذا وجدت أن مسائلهم الشاغلة أمور أستكثر عليها اليوم لحظة واحدة من وقتي وجهدي ودراستي؛ لأنها أمور لا تشغل من ذهني خلية واحدة من خلاياه، إذا وجدت ذلك، كانت النتيجة التي لا مناص من قبولها، هي أن التراث الباقي من تلك الجماعات، هو أقرب إلى الآثار المحفوظة في المتاحف، لا أفرط فيها، لكني كذلك لا أستخدمها في شئون الحياة الجارية.
وأرجع إلى مؤرخي «الفرق» الإسلامية لأطالع ما كان يشغل تلك الفرق من مسائل، فأجدني كالتائه الغريب في مدينة تشعبت طرقاتها، يتكلم أهلها لغة لا يفهمها، ويتكلم هو لغة لا يفهمونها، كأهل الكهف إذ دخلوا المدينة بعد نومهم الطويل، فإذا هم في مدينتهم غرباء، في أيديهم نقود لم تعد قادرة على شراء، وعلى ألسنتهم ألفاظ لم تعد مؤدية.
نعم، إني لأرجع إلى مؤرخي «الفرق»، فأجدهم يبدءون عادة بحديث يروى عن النبي عليه السلام بروايات تختلف قليلا في لفظها، لكنها تتفق جميعا على معنى واحد، مؤداه أن أمة الإسلام ستتفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها على ضلال إلا واحدة فقط، هي وحدها الفرقة الناجية، يصفها عبد القاهر البغدادي فيقول إنها: «أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشتري لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة، وفي أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين، وإنما يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق، وهم الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقدمه، وقدم صفاته الأزلية، وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل، مع الإقرار بكتب الله ورسله، وبتأييد شريعة الإسلام، وإباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرمه القرآن، مع قبول ما صح من سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد الحشر والنشر، وسؤال الملكين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان» (راجع «الفرق بين الفرق» ص26).
فواضح من ذلك أن البغدادي يفتح أبواب الجنة لأهل السنة والجماعة، ويوصدها دون سائر الفرق من خوارج، وروافض، وقدرية، وغيرها، مما يحاول أن يشققها ويفرعها حتى تبلغ اثنتين وسبعين فرقة، ليتم الصدق لحرفية الحديث النبوي السالف الذكر، ولو كان المؤرخ من الخوارج أو من الروافض أو من القدرية، لجعل فرقته التي ينتمي إليها هي الناجية وحدها، وأما سواها فصائرة إلى جحيم.
وواضح كذلك أننا منذ البداية واجدون أنفسنا بين جماعات تدير اهتماماتها على مشكلات دينية، مأخوذة من زاوية بعيدة بعدا شديدا عن المجال الفكري الذي يتحرك فيه هذا العصر ومن يريدون العيش فيه، فما الذي كان يشغل القوم مما استدعى بينهم ضروبا من الاتفاق والاختلاف؟
كان من أهم ما اهتموا به إمامة علي - رضي الله عنه - فهل كان أولى بالخلافة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان؟ وهل نص الرسول على إمامته؟ وإذا كان قد فعل، فهل كان هذا النص بالوصف أو بالاسم؟ وهل كفر الصحابة الذين اختاروا خلفاء غير علي، أو لم يكفروا؟ ... ولك أن تتصور تحت هذه المسائل وأشباهها فروعا، وفروعا للفروع، ثم لك أن تقرر بعد ذلك من ذا يكون على صواب ومن ذا يكون على خطأ، لكن هل تستطيع أن ترى على أي وجه يمكن لهذا الباب كله، بفروعه وفروع فروعه، أن يعيننا فيما نحن بصدده اليوم من معضلات؟
كان «الروافض» هم الذين أثاروا هذا الإشكال وجعلوه مدار اهتمامهم، وهم - فيما يذهب البغدادي - ثلاث فرق، تتفرع كل فرقة منها فروعا، فالزيدية منهم ثلاثة فروع، والكيسانية فرعان، والإمامية خمسة عشر فرعا، وكانت الأفكار الرئيسية التي يدور حولها البحث والحوار هي - كما أسلفنا - الطريقة التي نص بها الرسول على إمامة علي؛ فبعضهم يقول إنه نص بالوصف، وبعضهم الآخر يقول بل هو نص بالاسم؟ وتكفير الصحابة بتركهم بيعة علي؛ فبعضهم يقول إن الصحابة كفروا عندما اختاروا الأئمة الراشدين وتركوا عليا، وبعضهم الآخر يكتفي بالقول إنهم أخطئوا، لكنه خطأ لا يبلغ أن يكون كفرا. ثم مسألة الإمامة بعد ذلك لمن تكون؟ فبعضهم يجعلها لأي واحد من أولاد علي، ما دام قد خرج شاهرا سيفه، داعيا إلى دينه، وكان عالما عارفا، وبعضهم الآخر يقصر الإمامة على رجل بعينه، هو المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض، مع اختلافهم بعد ذلك حول هذا الإمام المنتظر من يكون؟
ولقد ذهب غلاة من الروافض إلى تكفير علي نفسه؛ لأنه إذا كان الصحابة قد كفروا - في رأيهم - لتركهم بيعة علي، فعلي كذلك قد كفر لتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم، كما لزمه قتال أصحاب صفين، ومن القائلين بهذا بشار بن برد الشاعر، على أن الروافض جميعا - على اختلافهم في المسائل التي ذكرناها - قد اجتمعوا فيما يظهر على رأي واحد بالنسبة لمرتكبي الكبائر، وهو أنهم مخلدون في النار.
وينقلنا هذا الرأي إلى جماعة أخرى، هي جماعة «الخوارج» التي تتشعب عشرين فرقة، تختلف فيما بينها على تفصيلات هنا وهناك، لكنها تجتمع كلها على تكفير علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل، وتكفير كل من رضي بتحكيم الحكمين، وتكفير مرتكبي الذنوب، ثم أوجبوا جميعا خروج الناس على الإمام الجائر.
Page inconnue