Le renouveau de la pensée arabe
تجديد الفكر العربي
Genres
الفصل الرابع
غربة الروح بين أهلها
يخيل إلي أن الكاتب العربي المعاصر - وسنفترض فيه أمانة الأداء وصدق العبارة - محتوم عليه أن يقع بين نارين، لا يدري كيف ينجو بنفسه منهما؛ فهو إذا ما نظر إلى أمام، وجد ثقافة تعصف عليها أعاصيرها من الغرب، بكل ما تحمله من علوم وفنون وآداب ونظم سياسية وتيارات فلسفية، فيحس وكأنه الغريب الذي يبسط الفكين ابتغاء الصدقة؛ لأنه لا يملك من ذاته شيئا يتبلغ به - ذلك إن قبلها - فإن أخذته الكبرياء الرافضة، وأشاح بوجهه عن زاد لم يكن له فضل في إنباته وإنضاجه وإعداده، لم يجد أمامه عندئذ إلا أن يلوي عنقه إلى الوراء ليأخذ زاده من مخلاة آبائه، فمثل هذا الزاد - مهما يكن فيه من شظف - فهو نبات أرضه وعبير زهره، يكفيه ذل الصغار الذي يعانيه حين يتسول في أسواق الآخرين، لكن الكاتب العربي المعاصر، لا يكاد يفتح خزانات آبائه، راجيا أن يجد فيها مراده، حتى يأخذ منه القلق مأخذا لا أظنه يصبر عليه طويلا؛ لأنه إنما فتح تلك الخزانات وبين يديه مشكلات يعانيها ويريد لها الحلول، ولم يفتحها ليجعل من رفوفها متاحف يملأ بمرأى نفائسها المعروضة ناظريه، فكيف يطول به المقام عندها وهي لا تقدم له حلا واحدا لمشكلة واحدة؟ أم ترانا ناصحيه بأن ينفض يديه من عصره ومن حياته ومن مشكلات العصر والحياة، ليطيب له العيش بين نفائس القديم بكل ما تعرضه عليه من أزمات ليست أزماته، بل كانت أزمات أصحابها، ومن معالجات لا يدري ماذا يصنع بها، إلا أن يعلقها على جدرانه للزينة؟
وهكذا يجد الكاتب العربي المعاصر نفسه بين هاتين النارين، فإما أن يختار حياة فكرية حقيقية تنبض بمشكلاته وأزماته وما يقترح لها من منافذ للنجاة، لكنه في هذه الحالة يكون في حياته الفكرية متسولا - كما هو بالفعل متسول في حياته المادية بأنظمتها وأجهزتها - وإما أن يلوذ بأصالة آبائه فيما خلفوه من إرث عظيم، لكنه في هذه الحالة الثانية مضطر أن يقضي حياته في متحف الآثار النفيسة، فلا تعود له صلة حيوية مع دنيا الفاعلية والنشاط؛ لأنه عندئذ يكون قد بتر شرايين الحياة الفاعلة النشيطة التي تصله بدنياه، وفي كلتا الحالين يحس الكاتب مرارة الغربة، فلا هو بين أهله إذا شرب من ينابيع الثقافة الأوروبية، ولا هو غني بنبض حياته إذا قفل راجعا إلى ثقافة آبائه.
وأستعير من أبي حيان التوحيدي بعض عباراته التي بث فيها شعورا منه بالغربة في عصره - القرن العاشر الميلادي - برغم اختلاف الطرفين اللذين كان عليه أن يختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمه، عن الطرفين اللذين علينا نحن الكتاب المعاصرين أن نختار أحدهما، وكلاهما لا يلائمنا تمام الملاءمة. قال أبو حيان - وذلك في كتابه «الإشارات الإلهية»: «أما حالي فسيئة كيفما قلبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب علي فأكون من العاملين لها» ... «فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حمر أو نعم (= أنعام)؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندعي الصدق، والكذب شعارنا ودثارنا؟ ... إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»
ويوجه أبو حيان شواظا من نار الغيظ إلى علماء عصره، ما أحرانا أن نوجه مثلها إلى طائفة منا تسد علينا منافذ الهواء، فيقول: «... والعجب أنك - أيها العالم الفقيه، والأديب النحوي - تتكلم في إعرابه وغريبه (يقصد القرآن الكريم)، وتأويله وتنزيله، ... وكيف ورد، وبأي شيء تعلق، وكيف حكمه فيما خص وعم، ودل وشمل، وكيف وجهه، وكيف ظاهره وباطنه، ومشتمله ورمزه، وماذا أوله وآخره، وأين صدره وعجزه، وكنايته وإفصاحه، وكيف حلاله وحرامه، وبلاغته ونظامه، وغايته ودرجته ومقامه، ومن قرأ بحرف كذا وبحرف كذا؛ ثم لا تجد في شيء مما ذكرتك به، ووصفتك فيه، ذرة تدل على صفائك في حالك وإدراكك ما لك، بل لا تعرف حلاوة حرف منها ... فعلمك كله لفظ، وروايتك حفظ، وعملك كله رفض ...»
فإذا كان أبو حيان التوحيدي، إبان القرن العاشر، قد نظر إلى العلماء الفقهاء من حوله، الذين جعلوا دراسة الكتاب الكريم شغلهم الشاغل، فلم ير فيهم إلا قوما يلوكون بألسنتهم لفظا، ويعيدون الرواية حفظا، دون أن يسري شيء مما قالوه وحفظوه في حياتهم العملية، فالقول في واد والعمل في واد آخر، فماذا نقول نحن في علمائنا وفقهائنا الذين يظنون أنهم قد وقعوا على المعين الفكري الثر إذ وقعوا على دراسات من التراث، والله وحده أعلم كم من علمهم يتسرب إلى حياتهم الفعلية في مواقفهم التي يقفونها إزاء المجتمع بنظمه وأفراده، وإزاء العالم كله بمسائله ومشكلاته، بل إزاء أنفسهم وما تضطرب به من هموم ... إلا أن علمهم كله حفظ ، وروايتهم كلها حفظ - كما قال التوحيدي في علماء عصره، مضروبا في ألف - وأما عملهم ففي عالم آخر يقيس الأشياء بقيم أخرى، ولعلهم بهذه الازدواجية العجيبة بين العلم والعمل لا يشعرون، كالمصاب بداء «الفصام» عند علماء النفس المعاصرين، يقولون لنا عنه إن أوهامه في ناحية ووقائع دنياه في ناحية، ولكنه لا يصبر على من يصف له حقيقته تلك، وربما فتك به من شدة الحنق والغيظ.
ألا ما أشدها غربة، تلك التي يحسها الكاتب العربي المعاصر بين معاصريه، الأبعدين منهم والأقربين على حد سواء، فلا هو من أولئك بحكم مولده وعشيرته، ولا هو من هؤلاء بطريقة نظره وفكره. وأستطرد في استعارة العبارة من التوحيدي، وهو يصف غربة كهذه أحسها هو بين أهله وفي عصره: «قد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب (= النديم)، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له في الحق نصيب ... يا هذا! ... الغريب الذي لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشهر، ولا طي له فينشر، ولا عذر له فيعذر، ولا ذنب له فيغفر، ولا عيب عنده فيستر. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه؛ لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود، ويغمض عن المشهود، ويقصى عن المعهود ... يا هذا! الغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر ... يا رحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب، واشتد ضرره من غير تقصير، وعظم عناؤه من غير جدوى.»
ولقد أطلنا الأخذ عن التوحيدي، ليتعزى الكاتب العربي المعاصر إذا هو أحس الغربة حين يذكر الحق فيهجر، أو يدعو إلى الحق فيزجر، وحين يعظم عناؤه بغير جدوى. •••
إن استعارتنا لما استعرناه من أبي حيان التوحيدي، للتشابه الذي رأيناه بين وقفته في زمنه والوقفة التي نظن أن الكاتب العربي المعاصر يقفها من معاصريه، لتصلح دليلا على ما يؤخذ من التراث وما لا يؤخذ. وأستطيع أن ألخص رأيي في ذلك بعبارة واحدة قصيرة - تفصيلها وارد في سائر فصول هذا الكتاب - وهي أن ما نأخذه من تراثنا هو الشكل دون مضمونه؛ فقد نجد الأسلاف ذوي وقفة يغلب عليها النظر العقلي، فنأخذ منهم هذه العقلانية في النظر، وأما موضوعاتهم التي صبوا عليها الفكر المنطقي، فلم تعد أغلب الحالات هي موضوعاتنا. وها هو ذا أبو حيان التوحيدي يضيق بنفسه، وتأخذه الحيرة؛ إذ يجد نفسه لا هو من أهل الدنيا الناجحين في أمورها، ولا هو من أهل الآخرة الذين يتجردون لها. وقد نضيق نحن بأنفسنا وتأخذنا الحيرة كذلك، لكن قلما يكون هذان هما الطرفان اللذان نتردد بينهما: الدنيا والآخرة، بل قد يكون الطرفان أمامنا هما: حياة معاصرة بكل أجهزة العصر وأدواته الفكرية، أو حياة تقليدية. وهكذا يكون التشابه في بنية الإطار، لا يتعداه إلى حشوه وفحواه.
Page inconnue