62

Expériences philosophiques

تجارب فلسفية

Genres

بالإضافة إلى كتاب كبير نقلت فيه - عن اللغات الحديثة بطبيعة الحال! - نصوص الحكمة البابلية، التي تعد الإطار الفكري والديني المحيط بجلجاميش، مع الاجتهاد في تفسيرها من خلال المنظور الذاتي والتاريخي (أو الهيرومينويطيقي) الذي أشرت إليه.

4

ليس الهدف من هذا المقال هو دراسة «جلجاميش» في ذاتها، وإن كان هذا لا يمنع من التعريف بهذا الأثر الأدبي والحضاري الخالدي، وبتأثيره على التراث الأدبي والفني القديم والحديث باختصار شديد بعد قليل. إن الهدف منه هو طرح بعض الأسئلة عليه، من خلال المحنة الأخيرة التي كانت صاعقة ارتجت لها سماء العرب ، وزلزالا ارتجفت منه أرض وجودهم الحاضر والمستقبل. وهذه الأسئلة التي تثيرها الملحمة والمحنة معا في وعي الذات الحريصة على استحضار تراثها ومعايشته حرصها على تجديده وتجاوزه، تنحصر في الأسئلة التالية: (أ)

هل كان جلجاميش مستبدا طاغية؟ وبأي مفهوم من مفاهيم الطغيان أو الاستبداد أو التسلط أو غيرها من المفاهيم التي تدور في دائرة هذه العائلة الجهنمية المشئومة؟ وإذا كانت الملحمة منذ العمود الأول من اللوح الأول تؤكد طغيانه وعسفه وجبروته، كما تشيد بجماله وحكمته وبطولته، فما هي طبيعة العلاقة بين الطغيان والبطولة في الإطار الأسطوري والديني الذي وضعت فيه الملحمة؟ (ب)

هل يمكن القول بأن جلجاميش قد تحول عن طغيانه بشعبه وحرصه الأناني على الشهرة والمجد والخلود، أو تطهر منهما بعد إخفاقه في التوصل إلى الخلود الإلهي، واقتناعه مع نهاية الملحمة بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين هو العمل والبناء الحضاري والاجتماعي؟ وإلى أي حد يمكن تأييد هذا التفسير الذي أخذ به بعض الدارسين ولا فضل لي فيه؟ وهل نستطيع القول بأن الملحمة بمثابة «أمثولة» عن الطغيان وطرق التحرر منه في آن واحد؟ (ج)

هل يمكن القول - على لسان عالم النفس التحليلي «يونج» - بأن جلجاميش يعد «نموذجا أوليا» أو نمطا أصليا للطاغية الشرقي، وأنه قد تسرب في أعماق اللاوعي الجمعي وطفق يظهر بعد ذلك في صور وتعابير وممارسات مختلفة باختلاف النظم والعصور والسياقات؟ وما الذي يترتب على هذا الفرض أو الاحتمال من مهام البحث النفسي والاجتماعي والتاريخي للشخصية الطاغية في تاريخنا القديم والوسيط والحديث، وفي نصوصنا التراثية على اختلافها؟ (د)

إذا صح القول بأن تراثنا - على الأقل في الجانب السياسي و«السلطوي» منه أو من معظمه منذ عصور الانحطاط - هو تراث القهر والقمع، فكيف تتجاوز هذا التراث بتأسيس تراث التحرر والتقدم والعقل والاستنارة؟ ومن أين تبدأ البداية بعد محنة شاملة تفترض التصميم على المراجعة الجذرية والبداية من البدايات؟ وما دور العلم الإنساني في تحقيق هذه البداية التي لم تعد تحتمل التهاون أو التأجيل؟ (ه)

وإذا صح - أخيرا - أن كل فعل وراءه فكر، وأن الفعل العشوائي والهمجي اللاعقلي وراءه فكر عشوائي وهمجي ولا عقلي مثله، فما هي عناصر الأزمة أو الأزمات الفكرية التي كانت وراء العدوان، وكشفت عنها المحنة في أبشع صورها؟ وكيف السبيل إلى تكوين العقل العربي - إن صح هذا التعميم - وتربيته تربية علمية ومنهجية وعقلانية، تعصمه من السقوط في هاوية اللاعقلي واللاإنساني وجنونهما المدمر؟

يحسن بنا - قبل التصدي لهذه الأسئلة - تقديم تعريف شديد الإيجاز بالملحمة ومكانتها في التراث الإنساني، وتأثيراتها المؤكدة أو المحتملة على الوعي القديم والحديث. ولا مفر مع هذا الإيجاز الشديد من إسقاط حقائق وتفصيلات هامة يمكن أن يرجع إليها القارئ في مصادر و«أدبيات» عديدة تشكل مكتبة كاملة عن جلجاميش.

جلجاميش هي درة الأدب والحضارة البابلية، وأقدم ملحمة عرفها التاريخ (إذ سبقت الإلياذة والأوديسة، بما يزيد على ألف عام)، وهي جزء لا يتجزأ من الأدب العالمي. وضعت عنها، كما سبق القول، مكتبة من الدراسات، ومن أجلها عقدت مؤتمرات،

Page inconnue