61

Expériences philosophiques

تجارب فلسفية

Genres

اعتذرت عن التعب الذي سببته له، وأبديت أسفي من أن أكون قد جرت على الموعد الذي يخلد فيه إلى الراحة، لكنه نهض قائما من مقعده كالعملاق المهيب، ومد يده فلمس كتفي، وربت عليه وهزه في حنان وكأنه يقول: وهل يتعب الأب من الحديث مع أبنائه؟ الأسئلة الحبيسة تتلاطم في رأسي وأنا أتجه نحو الباب الخارجي. رجوته بصوت مرتعش بالخجل والندم أن نستأنف الحديث مرة خرى، فلم يضن كعادته بالترحيب والتشجيع. وزرته بعد ذلك مرات، وخرجت وكأسي مملوءة بالشهد والرحيق. لكنني لم أكن أحمل قلما، ولم أحاول أن أدون حديثا، واكتفيت باختزان كلماته وأفكاره وتجارب حياته وحكمته ورحلته الطويلة مع الكتب والناس، تاركا إياها تهبط مع رنات صوته المميز الخارج من أعمق أعماقه؛ لتستقر في الطبقات التحتية للشعور، وتبقى زادا مذخورا للبقية الباقية من العمر. ألم أظلم نفسي بالتقصير في تسجيل الأحاديث التالية في جلسات لا أحصي عددها؟ ما من شك في ذلك، لكن عزائي أن صوت المعلم القدوة وصورته وحضوره القوي، ستظل ماثلة في كياني وأمام عيني وعيون أبناء جيلي والأجيال السابقة واللاحقة التي سعدت بسماع صوته والتعلم منه. ويقيني الذي يملأ نفسي أنه الآن في رحاب الملأ الأعلى يواصل الحوار - الذي تنبأ به سقراط في خطبة دفاعه - مع الحكماء الخالدين من كل العصور، وأنني ربما يسمح لي أيضا بالاشتراك في الحوار ومواصلة الحديث.

جلجاميش وجذور الطغيان

قراءة في نص قديم، وأسئلة تفرضها المحنة

موضوع هذا المقال هو «جلجاميش»، بطل الملحمة البابلية المشهورة باسمه، وطاغية مدينة أوروك (الوركاء) السومرية، الذي يرجح العلماء أنه عاش وحكم حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد (بين سنتي 2370 و2600ق.م). ولا بد منذ البداية من القول بأن أفكار هذا المقال لا تتحرك في دائرة اليقين العلمي أو ما يشبه اليقين، ولا تدعي القدرة على التوصل إلى نتائج قاطعة أو شبه قاطعة، وإنما تدور في مجال الإمكان والافتراض والتساؤل، وتتوسل بالرؤية الحدسية القائمة على التفهم والتعاطف والاستشعار، في محاولة لقراءة ذلك النص الجميل الجليل الموغل في القدم، وتفسيره من منظور ذاتي وتاريخي، وتجربته قبل كل شيء تجربة باطنة، وبذل الجهد للانصهار أو الالتحام معه، بحيث يتفاعل أفق الذات القارئة مع أفق الشاعر البابلي الذي حفظ لنا التاريخ اسمه (وهو «سين-ليكي-أونيني»، ويقال إنه عاش حوالي سنة 1200ق.م)، أو مع «آفاق» الكتاب والشعراء والنساخ المجهولين الذين بدءوا في تسجيل أجزاء ذلك النص مع العصر البابلي القديم (من 1984 إلى 1595ق.م)، قبل أن يعثر في منتصف القرن الماضي على نسخته الآشورية شبه المكتملة في أطلال مكتبة قصر الملك آشور-أنيبال (من 668 إلى 627ق.م)، في العاصمة الآشورية القديمة «نينوى». ولا مفر لمثل هذه القراءة أو هذا التفسير من توخي الدقة التامة في مراعاة «الشروط» التي أحاطت تدوين النص في صوره وصيغه العديدة، منذ أن تردد على شفاه الناس وفي أغانيهم وأمثالهم وحكاياتهم الشعبية، قبل تسجيله في صورته الأولية على شكل قصص سومرية خمس عن الملك الوسيم الحكيم والطاغية الجبار المخيف، وهي القصص التي اعتمد عليها البابليون في نسج خيوط الملحمة الرائعة.

1

ولا مناص كذلك من الوعي بالفروق الأساسية في الرؤية والأزمنة والتراكيب والسياقات التاريخية والحضارية والسياسية والاجتماعية واللغوية والدلالية ... إلخ، بين الذات الكاتبة والذات القارئة، مع التزام الحذر في كل الأحوال من التعميم والإسقاط وتحميل الملحمة وبطلها فوق ما تحتمل من همومنا وشجوننا، عند استكناه «الرسالة» التي أراد الكاتب القديم توصيلها إلى القارئ المعاصر له، ولم تزل قادرة على مخاطبة القارئ المعاصر في أيامنا، واستخلاص العنصر أو العناصر الثابتة في هذه «الرسالة» على الرغم من المحاذير والأخطاء التي يمكن أن يقع فيها القارئ والمفسر الحديث وهو يحاول أن ينطق بلسان الكاتب القديم، أو ينطقه بما سكت عنه، وعلى الرغم كذلك من الهوة الزمنية التي تفصل بين الاثنين - وتقدر بنحو أربعة آلاف سنة بالنسبة للنص البابلي القديم، وبما يقرب من ثلاثة آلاف سنة للنص الآشوري الأخير! - فضلا عن الانقطاع المعرفي والشعوري والحضاري الذي يباعد بينهما، وتراكم طبقات وطبقات من «البنى» و«النظم» العقلية والدينية والاجتماعية والفنية ... إلخ، فوق وعي المتلقين من ورثة حضارة وادي الرافدين القديم، وأبناء حضارة الشرق الأدنى بوجه عام. ومع أن المحاولة في ذاتها مغامرة غير مأمونة العواقب، وبخاصة حين يعترف القائم بها بمدى قصوره وجهله بعلم الآشوريات، وباللغة الأكدية التي كتب بها النص الأصلي للملحمة، وبأنه ليس من «أهل الاختصاص» ولا من المشتغلين بعلم التاريخ وعلم الآثار وفقه اللغات السامية القديمة، فقد يكون هناك ما يبررها من الناحية الفكرية الخالصة، التي تسمح للإنسان - بل تفرض عليه فرضا! - أن يتصل بتراثه القديم، ويعود إلى جذوره وينابيعه الأولى، ويتجه إليه بالسؤال - ولا أقول بالمحاكمة! - في أوقات المحن والشدائد.

وربما استأذنت القارئ أيضا في أن أضيف مبررا آخر قد يسوغ المحاولة، وهو أنني قمت بترجمة الملحمة العريقة عن الترجمة الألمانية، التي لمست تميزها من وجوه كثيرة من غيرها من الترجمات الإنجليزية والعربية التي تيسر لي الاطلاع عليها،

2

كما استوحيت الملحمة كذلك مسرحية طويلة في عشر لوحات درامية، جعلت عنوانها: «هو الذي طغى، محكمة جلجاميش»،

3

Page inconnue