العربية، فكان كلما رأى لأحمد فارس جملة شم منها رائحة الفصاحة مسخها، واستبدل بها جملة ركيكة، فكان الشدياق يعجب من أمره، وقد نقل عنه من هذا النسق جملًا يستغرب لها الإنسان من الضحك، إذ يرى كيف كان ذلك القسيس يتعمد قلب العالي بالساقط، والجيد بالرذل تعمدًا، وتهافت على الركيك تهافت الذباب على الحلواء، ويصرح بأنه إنما يتوخى بذلك إبعاد الكلام عن شبه القرآن.
كلا يا أيها الأخ، إن هذه الفئة لا تمج الفصاحة من حيث هي، ولا تدين
بالركاكة التي كان يدين بها قسوس أحمد فارس فيسخر بهم ما يسخر ولا
تحارب اللغة العربية نفسها ولكنها تحارب مها القرآن. . . القرآن. . .
إن هذه الفئة تحارب القرآن والحديث وجميع الآثار الإسلامية، وتريد أن
تتبدل بها من كلام الجاهلية وكلام فصحاء العرب حتى من المخضرَمين
والمولدين، وكل كلام لا يكون عليه مسحة دينية، وهذه الفئة قد تعددت غاياتها في هذا المنزع، ولكن قد اتفقت في الوسائل، فمنها من لا يجهل بلاغة القرآن وجزالته، وكونه من العربية بمنزلة القطب من الرحى، ولكنه يدس الدسائس من طرف خفي لإقصائه عن دائرة الأدب العربي وتزهيد النشءِ فيه، بحجة كونه قديمًا وأن كل قديم هو بال، حتى إذا تم لهم ما يبتغون من غض مكانة القرآن في صدور الناس يكونون قد طعنوا الإسلام طعنة سياسية في أحشائه. . . على حين هم يزعمون أن الموضوع موضوع لغوي لا مدخل للسياسة فيه فيُزلقون بهذه الدعوى المدحاض كثيرين ممن لو تفطنوا لما وراء الدعاية البارزة في زي لغوي أدبي من المآرب السياسية الخبيثة لكانوا منها على حذر، بل لانقلبوا عليها وصاروا قرآنيين، ولكن مع الأسف نقول إن الحوادث الأخيرة، لا سيما ما جرى قبيل الحرب الكبرى إلى ما بعدها قد أثبتت أنه ما زالت هناك فئة تلعب
بفئة وتسوقها إلى حيث تريد، فلا تستفيق هذه من سكرتها إلا وقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وهذه الدسيسة التي ظهر لكم مكنونها من جملة واحدة، إن هي إلا حلقة لغوية من سلسلة دسائس مقصود منها الإسلام لا القرآن من حيث كونه قرآنًا، ولا الفصاحة من حيث كونها فصاحة. . .
ولقد أشرتم إلى ذلك في مقالكم الجليل فقلتم: "لا أعرف من السبب في
ضعف الأساليب الكتابية، والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحدًا من ثلاثة. فأما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به وإما النشأة في الأدب على مثل نهج الترجمة في
1 / 29