قال ابن فورجة: قال ابن جني أي كان ما في وجهي من الشيب نابت في سواد عيني تكرها له. هذا كما قال الشيخ أبو الفتح، وعبارة أحسن من هذه أولى، وذلك أن العين لا ينبت فيها الشعر الأبيض ولا الأسود، ولو كانت العين من العضاء التي ينبت فيها الشعر لما ضرها بياض الشعر النابت فيها، ولو ضرها ذلك لما بلغ التكره له حيث يضرب به المثل. والأولى أن يقال إذا نظرت عيني إلى الشيب فكأنها عاينت فيها بياضا ينزل في سوادها من البياض المكره الذي ينزل فيه من العلة. وتأويل بياض الشيب في العين زائد في معناه وحسن، وذلك أنه يزيد بياضا مستهجنا مستقبحا كبياض الشيب كما قال البحتري:
ودَدتُ بياضَ السَّيفِ يوم لَقينَني ... مكانَ بَياضِ الشَّيب حَلَّ بمَفرقي
وبياض السيف لا يحل بالمفرق، وإنما السيف يحل به فأراد التسوية بين البياضين.
مَتى ما ازدَدتُ مِن بَعدِ التَّناهي ... فَقد وَقَعَ انتِقاصِي في ازديادِي
قال ابن فورجة: المعنى أن الازدياد بعد التناهي نقصان، كأنه يريد أن التناهي هو بلوغ الأشد واستيفاء أربعين سنة، فإذا ازددت بعدها نقصت القوى، وعدت أنتقص، بعدما كنت أزداد، وكأنه من المعنى الذي له:
فَبعَثنا بأربعينَ مِهارًا ... كُلُّ مُهرٍ مَيدانُهُ إنشادُهُ
عَدَدٌ عِشتَهُ يَرَى الجِسمُ فِيهِ ... أرَبا لا يَرَاهُ فِيما يُزَادُهْ
وقوله: فقد وقع انتقاصي في ازديادي يريد فقد ابتدأ نقصاني يزيد وهذا المعنى من قوله:
وَلُجدْتَ حتى كِدتَ تَبخَلُ حائِلًا ... للمُنتَهَى وَمِن السُّرُورِ بُكاءُمأخوذ من قول القائل:
وأُسَرُّ في الدُّنيَا بكُلّ زِيادةٍ ... وزِيادَتي فيها هو النَّقصُ
والأول فيهما جميعا قول حميد: وحَسبُكَ دَاءً أَنّ تَصِحَّ وتَسلَمَا
وأبعَدَ بُعدَنا بُعدَ التَّدَانِي ... وَقَرَّبَ قُربَنا قُربَ البِعادِ
قال أبو العلاء: في أبعد وقرب ضمير عائد على المسير، والمعنى أنه دعا للمسير بأن يجزي خيرا، لأنه قرب الأمد الذي كان بينه وبين الممدوح، فيصير مقداره كعرض النجاد، وهو ما يقع على الكتف من حمائل السيف. يقول كان تدانينا بعيدا، فابعد المسير بعدنا فصبره في النأي بمنزلة ما كان عليه التداني من قبل، وجعل قربنا قريبا منا كما كان البعاد في الدهر الأول مقاربا لنا. ومن التي أولها:
أقَلُّ فَعالي بَلهَ أكثَرَهُ مَجدُ ... وَذَا الجِدُّ فيهِ نِلتُ أم لم أنَلْ جَدُّ
قال ابن جني: أكثره بالنصب والجر، والنصب أجود، لأنه بله أسم مسمى به الفعل مثل) رويد وحيهل (وبله في معنى دع أكثره، وهي اسم دع، كما أن صه اسم أسكت. والجر في أكثره على أنه جعل بله مصدرا وأضافه إلى أكثره كقوله تعالى) فضرب الرقاب (والنصب بع دبله أقوى، لأنه لو كان بله مصدرا لوجد فعله، ولا نعرف له تصرفا، فينبغي أن يكون غير مشتق منه بمنزلة صه. ومه وإنما جوزنا الجر على أن يكون بله مصدرا، لأنا قد وجدنا مصادر لا أفعال لها) نحو ويل وويح وويس (وقالوا) الابن: الإعياء (ولا فعل له) والإد للعجب (والمراد الفعل يقول: وذا الجد الذي أنا عليه في أمري فيه حظ، نلت ما أطلبه أو لم أنله، فلو لم يكن عندي غير هذا الجد في أمري وترك التواني لقد كان لي جدا، وهذا قريب من قول البصري:
فأن لَم تَنَلْ مَطلبًا رُمَتهُ ... فليسَ عليكَ عدا الاجتهادِ
سأطلُبُ حَقِّي بالقَنا وَمَشايخٍ ... كأنَّهُمُ من طُولِ ما التَثَموا مُردُ
قال أبو العلاء: المشايخ جمع مشيخة، وهي جماعة الشيوخ وكأن المشيخة في الأصل مصدر، كأن المراد قوم ذو مشيخة أي شيخوخة، أو يكونون جعلوا كالموضع لتلك الحال، وكان ابن دريد يذهب إلى أن المشيخة كلمة ليست بفصيحة، وجاء في كلام الفراء: سمعنا المشيخة وحدثتنا المشيخة. والفراء أقرب إلى زمان الفصاحة من ابن دريد، ولا يجوز همز مشايخ لأن الياء أصلية وهي متحركة في الواحد، وبعض الناس يذهب إلى أن المعنى أن هؤلاء المشايخ كأنهم من طول تلثمهم مرد لا لحى لهم لأن لحاهم مستورة باللثم، فهذا قول حسن، ويجوز أن يذهب ذاهب إلى أن طول التلثم قد حص شعر لحاهم، كما قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حَصَّتِ البَيضَةُ رَأسي فَما ... أطعَمُ نَومًَا غيرَ تَهجَاعِ
1 / 28