قال أبو العلاء: البيت الأول قد كمل معناه، وهو غير محتاج إلى ما بعده، وقوله إلى الهام يفتقر إلى فعل مضمر يكون راجعا إلى السيوف، كأنه لما جرى في البيت الأول ذكر الهجر أضمر) بهجر (في البيت الثاني، يريد تهجر سيوفك أغمادها إلى الهام، كما قال: هجرت إليه الغيث أي تركت الغيث ليتصل به، وكذلك سيوفه تهجر الأغماد لتقع في الهام.
ومن التي أولها: ما الشَّوقُ مُقتَنعًا مِني بذَا الكَمَدِ
ولا الدّيارُ التي كانَ الحَبيبُ بِها ... تشكُو إليَّ ولا أشكُو إلى أحَدِ
قال أبو علي: قال الشيخ أبو الفتح: أي لم يبق في فضل للشكوى ولا في الدار أيضا فضل لها لأن الزمان أبلاها. هذا على ما قاله أبو الفتح. وغير هذا التفسير أولى لما أنا ذاكره، وهو أن هذا التفسير يوجب أن يكون المراد لا أنا أشكو إلى أحد، ولا الديار تشكو إلي لجفاها ودروسها، فكأنه قدم آخر الكلام قبل أوله، فصار مضطربا من المحتمل السائغ لا من الظاهر البارز، والأجود أن يكون قوله ولا الديار عطفا على قوله) ما الشوق مقتنعا مني بذا الكمد (كأنه يقول ولا الديار تقنع مني به، ثم فسر لأي حال لا تقنع به منه، فقال تشك إلي أي شكواها سائغ، وهي مما لا يعقل، كأنها تشكو إلي بدروسها وزوال جمالها، وأنا لا تحسن بي الشكوى إلى أحد، لأنني ممن يعقل جمالها، وأنا لا يحسن بي إظهار الحب وإفشاء السر. فيكون عطف نفيا على نفي تقدمه، لا عطف جملة على جملة لم تأت بعدن ومما يزيد المعنى الذي ذكره ترذيلا قوله لا تشكو إلي الديار لأنه لم يبق فيها فضل للشكوى، فإذا لم يبق فيها فضل فكيف عرفها، وإذا بلغ الحال إلى هذا في دروسها فلا سبيل إلى معرفتها.
ومن التي أولها:
أحادٌ أم سُداسٌ في أُحادِ ... لُيَيلَتُنا المَنُوطَةُ بالتَّنادِ
قال ابو العلاء: يجب أن يكون هذا الكلام على تقدير ألف الاستفهام، ويدل على ذلك مجيء) أم (في أوله، كأنه قال: أواحدة أم ست هذه الليلة؟.
وحكي عن ابن جني أنه كان يحتج لتخصيص أبي الطيب سداس عن غيره بما هو أكثر. بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، يردي أن هذه الليلة طويلة كأنها الأيام الستة التي خلقت فيها السموات والأرض. إذ كل يوم من أيام الله سبحانه كألف سنة مما يعده بنو آدم، بدليل قوله:) وأن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (وهو قول حسن، ومما يجوز أن يقال في هذا المعنى أن الحديث جاء فيه أنه إذا جاءت القيامة وقضى الله أن تطلع الشمس من مغربها تأخر طلوعها ثلاثة أيام. فينكر الناس ذلك ويفزعون إلى المساجد، ثم تطلع بعد ثلاث سوداء، والثلاثة الأيام التي لم تطلع فيها الشمس صارت كثلاث ليال فهي حينئذ ست. ويوقي هذا القول قوله) لييلتنا المنوطة بالتناد (لأن طلوع الشمس من مغربها يتصل بالقيامة، وصغر الليلة على معنى التعظيم، كما قال لبيد:
وكلُّ أُناسٍ سَوفَ تَدخُلُ بَينَهُم ... دُوَيهِيَةٌ تَصفَرُّ منها الأنامِلُ
والبصريون المتقدمون لا يرون تصغير الشيء على معنى التعظيم، ويرون أن قول لبيد) دويهية (وهو يريد الموت فصغرها، إذ كان الموت لا يرى، فكأنه خفي إذ كان العيان لايدركه.
وقال الأحسائي: ليالي الزمان سبع ليال، يقال هذه الليلة الطويلة واحدة وهي ست ليال في ليلة، فكأنه ضرب واحدة من السبع في البقية وهي الست.
متى لَحَظَتْ بَياضَ الشَّيبِ عَينٌ ... فقَد وَجَدَتْهُ مِنها في السَّوَادِ
قال أبو العلاء: أي أني إذا لحظت بياض الشيب فكأني لحظت به بياضا في سواد عيني. ولا يمكنه أن يلحظ سواد عينه إلا في المرآة، ولولا أنه بين سواد العين في هذا البيت لجاز أن يحمل على سواد القلب، فيكون نحوا من قول الطائي:
شَابَ رَأسِي ومَا عَهدتُ مَشِيبَ الرأسِ ... إلا من فَضلِ شَيبِ الفُؤادِ
إلا أن الطائي جعل مشيب فؤاده متقدما شيب رأسه، وأبو الطيب جعل البياض في سواد عينه من أجل حزنه لبياض الشيب.
1 / 27