{ في قلوبهم مرض } غطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف إلا بكتاب الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا إليه بل كذبوا رسوله المنزل عليهم { فزادهم الله مرضا } إحكاما لختمه وتأكيدا لحكمه { ولهم } في يوم الجزاء { عذاب } هو إبعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور { أليم } مؤلم بسبب تقريب المؤمنين إلى دار السرور جزاء { بما كانوا يكذبون } [البقرة: 10] ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم خداعا.
[2.11-16]
{ و } مع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { لا تفسدوا في الأرض } بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا يخرجوا من مرتبة الخلافة؛ لأن خلافة البشر إنما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات، والتوحيد إنما يحصل بالله وبكتابه ورسوله { قالوا } في الجواب على سبيل الحصر: { إنما نحن مصلحون } [البقرة: 11] لا نتجاوز من الصلاح أصلا تتميما لخداعهم الفاسد، وترويجا له على المؤمنين وتلبيسا.
{ ألا } أيها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله { إنهم هم المفسدون } المقصرون على الفساد، لا يرجى صلاحهم أصلا؛ لكونهم مجبولين على الفساد { ولكن لا يشعرون } [البقرة: 12] بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
{ و } إذا لطف معهم ونصح كما هو دأب الأنبياء والمرسلين و { إذا قيل لهم آمنوا } بالله وبكتابه ورسوله { كمآ آمن الناس } الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله، وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب الإيمان { قالوا } في الجواب توبيخا وتقريعا: { أنؤمن } بهذا الرجل الحقير الساقط، وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا { كمآ آمن السفهآء } التاركون دين آبائهم لغرور هذا المدعي المفتري؟ { ألا } أيها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على الهداية في أصل فطرتهم { إنهم هم السفهآء } المجبولون على الغوية في بدء الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا؛ لعدم قابليتهم واستعدادهم للإيمان { و } إن ظنوا في زعمهم من العقلاء { لكن لا يعلمون } [البقرة: 13] أصلا لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم، فيسلب قابليتهم للإيمان.
{ و } علامة نفاق هؤلاء المضلين وخداعهم أنهم { إذا لقوا الذين آمنوا } بالله وكتابه ورسوله { قالوا } على طريق الإخبار عن الأمور المحققة تروجيا وتغريرا على المؤمنين { آمنا } بالجملة الفعلية الماضية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم سفاهة المؤمنين، بأن السفيه يقبل الأخبار بلا تأكيد؛ لعدم تفطنه على إنكار المتكلم، فنزلوهم - وإن كان من حقهم الإنكار حقيقة - منزلة خالي الذهن؛ لسفاهتهم { وإذا خلوا } نفوا خالين { إلى شياطينهم } أي: مع أصحابهم المستمرين على الكفر، الظاهرين بالمخالفة بلا خداع ولا نفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال { قالوا } على طريق المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم وموافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا، وتحقيقا لمؤاخذتهم معهم { إنا } وإن كنا في الظاهر مداهنين معهم لمصلحة دنيوية، متفقون { معكم } لفائدة دينية، أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بأن؛ تحقيقا واهتماما، وقولنا: آمنا، استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم، وبالجملة ما نحن مؤمنون بمجرد هذا القول بل { إنما نحن مستهزءون } [البقرة: 14] مستخفون تجهيلا وتسفيها واعتذارا على مجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع. وهم في غاية انهماكهم في الغي والضلال، وهم مقرون جازمون بأنهم يستهزئون، بل هم في الحقيقة مستهزئون إذ: { الله } المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة { يستهزئ بهم } في كل لحظة وطرفة آنا فآنا { و } لم يشعرهم باستهزائه بل { يمدهم } يمهلهم ويسوفهم { في طغيانهم } المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين { يعمهون } [البقرة: 15] يترددون إقداما وإحجاما.
{ أولئك } البعداء عن طريق الهداية هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الضللة } المعززة في نفوسهم بتقليد آبائهم { بالهدى } المتفرعة على الإيمان بالله وبرسوله { فما ربحت } بهذا الاستبدال والاختيار { تجارتهم } أي: ما يتجرون به { وما كانوا مهتدين } [البقرة: 16] رابحين بسبب الاستبدال، وخاسرين ضالين به. أو يقال: فما يتم الربح { تجارتهم } اتجارهم { وما كانوا مهتدين } بسبب هذا الاتجار.
[2.17-19]
بل { مثلهم } أي: شأنهم وحالهم بهذا الاستبدال، والاختيار في يوم الجزاء { كمثل } كحال الشخص { الذي } طلب شيئا في الظلمة وترقبه، ولم يهتد إليه و { استوقد نارا } ليستضيء بها، وفاز بمبتغاه { فلمآ } استوقده { أضآءت } النار { ما حوله } أي: حول المستوقد، وترقب وجدان مطلوبه { ذهب } ضوؤها، وسكن لهبها فضل عن مطلوبه، وخسر خسرانا عظيما، كما ذهب { الله بنورهم } أطفأ الله نيران المنافقين وسرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم، وأفسد إظاءتهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم ولم يهتدوا بها، بل عذبهم الله بسببها { وتركهم } لأجلها { في ظلمت } ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم، المنتجة للكفر والنفاق، وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعهمم مع ترقبهم، والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم، وبسبب هذه الظلمات { لا يبصرون } [البقرة: 17] ولا يرجى نجاتهم عن عذاب الله بل يبقون فيه أبدا وهم:
{ صم } لعدم إصغائهم لقول الحق عن ألسنة الرسل صلوات الله عليهم { بكم } لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق { عمي } لعدم التفاتهم إلى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة، وبالجملة: { فهم } في هذه الحالة { لا يرجعون } [البقرة: 18] ولا يطمعون الرجوع إلى الهداية لتذكيرهم الإفراط والتفريط الذي صدر عنهم في النشأة الأولى المستتبع لهذا العذاب.
Page inconnue