يقول: شكا الذئب للذئاب عند اجتماعهم ما يجده من الجوع والخيبة في الطلب، وشكت هي له ذلك. ثم نزع عن ذلك بعد، وكفا وكفت هي أيضًا عن الشكوى، صابرة على تلك البلوى، وللصبر أكثر جمال من الشكوى إن لم يكن لها نفع. والمشاركة بين الصبر والشكوى في الجمال بحسب اعتقاد الشاكي على ما يقتضيه الطبع، وإلا فلا جمال للجزع والشكوى بالنسبة للصبر، حتى يكون الصبر زائدا عليه بعد المشاركة، نعم قد يكون الجزع في بعض المواطن هو الجميل دون الصبر كفقد الدين ومن جاء بالدين، خاتم النبيين، وإمام المرسلين ﷺ وعليهم أجمعين، فإنه كما قال شاعره حسان بن ثابت ﵁:
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وفاء وفاءت بادرات وكلها ... على نكظٍ مما يكاتم مجمل.
الفيئة: الرجوع. والبادر: الذي بدر غيره على الأمر: سبقه إليه وعاجله. والنكظ-بالنون والكاف والظاء المشالة محركة-الجهد والمشقة هنا والمكاتمة: الكتم والكتمان أي الإخفاء. والإجمال: التؤدة والاعتدال في الطلب من غير إفراط.
و"بادرات" منصوب على الحال من فاعل "فاءت". و"كلها" مبتدأ خبره "مجمل عليها" بسكون الجيم وكسر الميم. و"على نكظ" حال من الضمير المستتر في الخبر. و"على" فيه بمعنى "مع" و"ما" في "مما يكاتم" موصول إسمي و"يكاتم" صلته، والعائد محذوف لأنه منصوب بالفعل.
وتقدير البيت: ثم ارعوى وارعوت ورجع عوده على بدئه، ورجعت هي أيضًا في حال كونها سابقات إلى الفيئة، وكل واحد منها متئد في طلب القوت، معتدل فيه، ليس معه شيء من الإفراط المؤذن بشدة الحرص مع جهد ومشقة كائن من الذي يخفيه من الجوع الشديد الذي لا يشبه الجوع، وقد قدمنا المثل الذي يضرب به في جوع الذئب، وهو قولهم "رماه الله بداء الذئب" ويقولون أيضًا: "هو كالذئب يغبط بذي بطنه وهو جائع". وإذا كان الذئب-وهو حيوان أعجم من أحقر الحيوانات على ما يكابده من التعب المفرط من الجوع والحاجة الشديدة-ليس بشدد الحرص على القوت فينبغي للإنسان وهو فاهم عاقل إلا يكون شرا من الذئب في ذلك.
واشرب أسار القطا الكدر بعدما ... سرت قربا أحناؤها تتصلصل
الأسآر: البقايا، واحدها سور، والقطا، كالقطوات، جمع قطاة: وهي طائر معروف: وهي ثلاثة أنواع منها الكدر. والكدرة: غبرة في الألوان وقد ذكرنا أنواع القطا مفسرة في "شرح قلائد العقيان" عند قول المعتمد:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ...
والقرب بالتحريك: سير الليل لورد الغداة. والأحناء: الأضلاع، والتصلصل: التصويت.
قوله "أشرب" معطوف على قوله "أغدو إلى القوت" والتقدير: وأشرب بقايا الماء الفاضل عن القطا الكدر بعد ورودها، وهو أسبق الطير ورودا. فشربه أسآرها: المراد منه سبقه إليه وتبكيره، وسرعته في السير إليه بحيث لا يسبقه إليه إلا القطا الذي هو أسرع الطير ورودا؛إذ لو سبق غير القطا لكان ما يشربه أسآر الغير، لأن السؤر يضاف إلى الشارب الأخير.
فتبين مما قررنا به شرب أسآر القطا أنه كناية، أريد بها لازم معناه منا لسرعة والسبق إليه مع المعنى أيضًا، وهو سبق القطا إياه إلى الورود، أي يشرب بعد شرب القطا، بعد سراها-أي القطا-قربا: أي سيرها الليل لتصبح الماء في حالة تصويت أحنائها في طيرانها إلى الماء، فقوله: "بعدما سرت" ظرف لما دل عليها القطا من شربها.
والتقدير: ويشرب الفاضل عن شرب القطا الكائن ذلك الشرب بعد سرى القطا قربا، أي سراها سرى قرب.
فقوله "قربا منصوب على المفعولية المطلقة، لأن القرب نوع من السرى باعتبار الحامل عليه. ووقع في هذا البيت تصحيف فيما بيدي من نسخ القصيدة، فكتب:" وتشرب بالتاء الموهمة أن الفعل للذئاب، مع أنه له، وذلك يقتضي أن يكتب بالهمزة، ويدل لها قوله:
هممت وهمت وابتدرنا فأسدلت ... وشمر مني فارطٌ متمهل.
فإنه صريح في أنه أدركها عند المنهل قبل ورودها، فابتدر كل منهما إليه، أي عاجل كل منهما الآخر إلى الورود بعد الهم به الكائن من كل منهما.
1 / 9