فأسدلت هي: أي أرخت أجنحتها لترد الماء بعد الابتدار، وشمر منه هو أي جد فارط: أي سابق متقدم على الواردين إلى الماء، وهو نفس ذلك الفارط، انتزع من نفسه فارطا مبالغة في كونه هو فارطًا تنبيهًا على كمال صفة الفروط فيه، وبلوغها الغاية، حتى ساغ له أن ينتزع منه شخصا موصوفا. بمثل تلك الصفة، وهذا الانتزاع يسمى "تجريدا" في عرف أهل البديع، والمفيد له هنا "من" فهي تجريدية، ولا ينحصر ذلك فيها، بل قد يكون بالباء التجريدية كقولهم: "لقيت فلانا أسدًا وبحرًا" مثلا، وقد يكون بغير ما ذكر وهو كثير. والمتمهل: المتئد الذي يمشي على مهل، وهذا يدل على تشاركهما في الشرب، واتحادهما في زمانه، فلم تسبقه، فلم يرد سؤرها حينئذ إلا أنيقال: شرب السؤر لا يدل على تقدم المسئر، فإنه قد يتحقق مع الاصطحاب، فإن كلا من المصطحبين في الشرب مبق سؤرا: أي بقية، فعودهما للشرب بعد عود للسؤر، أي: عود كل منهما عود لسؤر الآخر، فهو شارب سؤرها، وهي شاربة سؤره.
وقد يقال: يتمخض له شرب السؤر في زمان الاصطحاب أيضًا لقصر زمان شربها، وطول زمان شربه، فيتأخر عنها وإن لم تتقدم عليه.
على أن قوله-بعد-صريح في تقدمه عليها وهو قوله:
فوليت عنها وهي تكبو لعقره ... تباشره منها ذقون حوصل
إلا أن يريد بقوله: "فوليت عنها" لتشرب قبله، ويريد بذلك أنه لم يزاحمها ولم ينفرها مع قدرته على ذلك عملا على ما تقتضيه مكارم الأخلاق، وهو الأليق بالمقام، لأنه في سياق الافتخار، والتمدح بمحاسن الخلال.
وهذا كله بناء على ما سبق إلى الوهم أن اللفظ "أشرب" بصيغة مضارع المتكلم. وبعد كتبي ما تقدم تبين لي أن اللفظ "وتشرب" "أسآري" بالتاء في "تشرب" وفاعله القطا، و"أسارية" مفعول به، وعليه فلا يحتاج إلى تآويل والله أعلم.
قوله: "تكبو لعقره أي تنكب على وجهها في عقر البئر، أي مقام الشاربة من الحوض، أو مؤخره. ومصدر تكبو: الكبو بالفتح والسكون، والكبو بالضمات وتشديد الواو. والذقون، جمع ذقن بالتحريك: وهو مجتمع اللحيين من أسفلهما، وقد تكسر قافه. وباعتبار ذلك، جمعه على "فعول" وجمعه باعتبار التحريك "أذقان". والحوصل، كالحوصل والحوصلاء.
قال في القاموس: "أسفل البطن إلى العانة من كل شيء" انتهى. وحوصلة الطائر معلومة تجمع على حواصل.
والمعنى أنه أدبر عنها وتركها منكبة على أذقانها في محل قيام الشاربة من الحوض، أو في مؤخره، ومباشرة له بأذقانها وحواصلها.
وجملتا قوله: "تكبو لعقرها" وتباشره منصوبان على الحال من الضمير المجرور ب "عن" أو الثانية حال من فاعل "تكبو" وعلى كل من التقديرين: فالجملة الثانية مفسرة للأولى، لأن الكبو: الإنكباب على الوجه، ولا يتصور بدون مباشرة الأذقان والحواصل الأرض.
كأن وغاها حجرتيه وجاله ... أضاميم من سفر القبائل نزل.
الوغى: الصوت. والحجرة-بضم الحاء وسكون الجيم-ما يمسك الماء من شفة الحوض هنا. والجال بالجيم-جانب البئر، وناحيتها، كالجول بالضم. والأضاميم جمع إضمامة-بكسر الهمزة-وهي الجماعة من الناس. فوزن أضاميم إذا "فعاليل". والسفر: جماعة المسافرين.
يقول: كأن أصوات القطا الواردة الكائنة في الموضعين اللذين يمسكان ماءه المخرج من قعره، وفي جانبه وناحيته، لفظ جماعات كائنات من مسافري قبائل شتى في وقت النزول. ووجه الشبه: الاختلاط، والاختلاف، وعدم التبين مع التواتر.
قوله: "حجرتيه" منصوب على الظرفية المكانية. و"جاله" معطوفة عليه، و"أضاميم" على حذف مضاف أي: "صوت أضاميم" و"نزل" كمن سفر القبائل نعت للأضاميم وفي اعتبار وصف الدال على الحدث، اعتبار لزمان حدوثه، فلذلك ما قلت في التقدير وقت النزول.
توافين من شتى إليه فضمها ... كما ضم أذواد الأصاريم منهل.
توافوا: تتاموا. والأذواد -بإعجام الأولى وإهمال الثانية- جمع ذود بالفتح، وفي كونه جمعًا لا واحدة له، أو واحدا خلاف. والذود: ثلاثة أبعرة إلى العشرة، أو إلى خمسة عشر، أو عشرين، أو ثلاثين، أو ما بين الثنتين والتسع، أولا يكون إلا من الإناث، أقوال. والأصاريم جمع أصرام، جمع صرم بالكسر: وهو الجماعة، والمنهل: الغدير.
يقول: انتهى -يعني القطى- إلى البئر مجتمعين عنده، فحازها كما حاز منهل إبلا كثيرة لأحياء كثيرة.
1 / 10