عز الدين أبو الحسن بن شيخنا الرضي رضي الدين أبي الهيجا علي بن حسن بن منصور بن موسى الإربلي الأنصاري الأوسي، شاب يستوقف العيون حسنه، وشاعر أجاد وما بلغت الثلاثين سنه، له أشعار كالروضة تمج الندى، وقصائد أشهى إلى الأسماع من نغم الحدا، ومقاصد طابت جنًى وعذبت موردًا، رقيق حواشي الكلام، سهل العبارة، سلس النظام، لهج بالهوى فعذب شعره، وفارق حبيبه فرق نظمه ونثره، كان والده رضي الدين شيخنا، رحمه الله تعالى، أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه، شيخ الأدب وفارسه، وموري زناد الفضل وقابسه، ومنشئ دوح العلم وغارسه، قد أتقن علم النحو والتصريف وعرف بهما معرفة لا يدخلها التنكير فيفتقر إلى التعريف، لحق جماعة من العلماء وقرأ عليهم وروى عليهم منهم: مجد الدين عمر العنسفي ومحب الدين أبو البقاء العكبري وزين الدين يحيى بن معط المغربي وتاج الدين أبو اليمن زيد ابن الحسن الكندي وعلم الدين أبو القاسم بن الموفق الأندلسي وموفق الدين يعيش بن علي بن يعيش الحلبي وغيرهم، ﵏، وكان على ذهنه، ﵀، نحو كثير في الغاية، وكان شديد العناية بالإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي، وحفظ المفصل للزمخشري وكرر عليه وقد نيف على الستين، وكانت رتبته في التصريف عالية في الغاية بحيث أني ما رأيت أحدًا من النحاة الذين ترددوا إلى إربل حاوروه وبحثوا معه إلاّ ألقاهم إلى التصريف، وتوفي، ﵀، في شوال سنة تسع وأربعين وستمائة.
قال لي: يا فلان في هذه السنة أموت، فقلت: يعيذك الله ما أوجب هذا؟ قال: منذ عرفت نفسي كنت أشتغل بالأدب في السنة تسعة أشهر وأتفرغ في شهر رجب وشعبان ورمضان للتكرار على الكتاب العزيز وهذه السنة ما لي همة إلاّ في القرآن المجيد، وكان يعمر دارًا فقلت: هذا القول مناقض لهذا الفعل، فقال: هذه تربة أُدفن فيها، فقلت: هلا تقفها، فقال: أضيّق على أولادي بل يدفنوني فيها فإذا ضجروا مني أخرجوني وانتفعوا بها فجرى الأمر على ما قال، ﵀، لم يخرم حرفًا واحدًا، ويوم موته كان في داره طير راعبي فلما غُسل ألقى الطير نفسه في ماء الغسل وما زال يضرب بنفسه ورأسه في الماء إلى أن مات وشاهده جماعة. قرأت عليه اللمع لابن جنّي وقطعة صالحة في الإيضاح، وأجاز لي أن أروي عنه مشايخه كلما قرأته عليهم ورواه عنهم بشروطه.
الحديث ذو شجون. نعود إلى شعر ولده عز الدين فمن ذلك قوله:
كم قد بعثتُ رسولًا ... فخانَ فيكَ الرسولُ
عندي إذا ما التقينا ... حديثُ وجدٍ يطولُ
من منصفي من عزيزٍ ... ما لي إليه وصولُ
القدُّ منه رشيقٌ ... والطرفُ منه كحيلُ
منه تعلّم غصن الأ ... راك كيف يميلُ
شمائل مائسات ... تميلهن الشمولُ
يسلُّ من مقلتيه ... ماضي الغرار صقيلُ
الصبر عنه قبيح ... والوجه منه جميلُ
ليلي وقد صدّ عني ... كالفرع منه طويلُ
أقول: إن للشعراء في طول الليل معاني لطيفة ومقاصد شريفة وشكاوى من طوله وقصره وتظلمات من امتداد أمده ومن عثرة عشائه بسحره، وها أنا أذكر ما يخطر من ذلك منفردًا وما يجيء في أثناء المجموع فله سبيل آخر. قال امرؤ القيس:
وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سدولهُ ... عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
فيا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجومهُ ... بكلِّ مغارِ الفتلِ شدتْ بيذبلِ
فقلتُ له لمَّا تمطَّى بصلبهِ ... وأردفَ أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
فهذه الأبيات في غاية الحسن والمبالغة في طول الليل ولولا الاكتفاء بما قاله الأوائل في تقرير معانيها لأطلت في ذكرها ولكن الغرض في هذا المختصر لا يتعلق بهذا.
وقال النابغة:
كليني لهمٍّ يا أميمةُ ناصبِ ... وليلٍ أُعانيهِ بطيء الكواكبِ
وقال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كلّما قلتُ ظلامٌ قد مضى ... عطفَ الأولُ منه فرجعْ
وأخذ بعض العرب قول امرئ القيس، فقال:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبحٍ وما الإصباح منك بأروحِ
على أنّ للمعيين في الصبح راحةً ... بطرحهما طرفيهما كلّ مطرحِ
وقال آخر:
1 / 42