يا جنّة الدنيا لقد ... هوّنتِ نارَ الآخرهْ
ومثل قوله:
حكى القمر المنير
ما أنشدته لبعض شعراء العصر في صبيّ مكاري، وقد أحسن ما شاء:
هويته مكاريًا ... شرّدَ عن جفني الكرى
قد أشبه البدرَ فما ... يملّ من طول السُّرى
وأنشدني آخر، وإن لم يكونا من هذا:
يا بدر أهلك جاروا ... وألزموك بهجري
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنّهم أهلُ بدرِ
وقال ابن غزي:
وأغنّ ما للكحل في أجفانه ... حظٌ وتحسب طرفَه مكحولا
حنق اللحاظ على القلوب كأنّما ... قتلت لعينيه القلوبُ قتيلا
في خصره معنى دقيق لم يزل ... خطب الغرام به عليّ جليلا
ووراءه ردف ثقيل زادني ... عبئًا على عبءِ الغرام ثقيلا
بأبي غزال لم يزل بجماله ... سمحًا عليّ وبالجميل بخيلا
وبروحي القمر الذي أمسيتُ في ... حبّي له أحكي الهلال نحولا
وقال في صبي معه خادم يحفظه:
زمن عجبٍ أنْ يحفظوك بخادمٍ ... وخدّام هذا الحسن من ذاك أكثرُ
عذارك ريحانٌ وخالك عنبرٌ ... وخدّك كافورٌ وثغرك جوهرُ
وقد أحسن في هذا الجمع وإن كان مسبوقًا إلى مثله.
أنشدني بعضهم ولم يسم قائلًا:
ما القلبُ مسرورًا ببعدكمُ ولا ... أنا بالرشيد ودمع عيني جعفرُ
الوجد يحيى والغرام فخالدٌ ... فلذا ربيع وصالكم لا يزهرُ
ومن شعري:
لو لم يكن سفّاح جفنك ناصرًا ... ما كنتُ للعشاق يومًا مقتفي
وأنشدني أمير الدين عبد الرحمن بن علي الموصلي لنفسه، وقد أجاد ما شاء أن يزيد ولم يبق زيادة لمستزيد:
هويتها طفلةً دقّت محاسنها ... فطرفها نرجس والخدّ تفّاحُ
يتيمة الدهر نثر الدرّ من فمها ... والعقد في جيدها والوجه مصباحُ
وأنشد بعضهم رباعي:
وجهٌ حسنٌ كأنه مصباحْ ... في تكملةِ الحسن له إيضاحْ
منصور حسام لحظه قال لمن ... يهواه رويدًا جاءك السفاحْ
ومثله للبغاددة مواليا:
لؤلؤْ أدمعي صارْ مذْ زمّت مطاياكم ... ياقوتْ والياسْ عندي من عطاياكم
وأنا طريدْ وغيري في وطاياكم ... مسرورْ دائمْ صوابْ اجعلْ خطاياكم
ولهم في هذا المواليا معان ترقص القلوب لها طربًا وإذا أُنشدت أوضحت إلى الظرف طريقًا مذهبًا ولا بد أن أفرد لها بابًا يكون إلى مناهج الحسن سببًا.
نجم الدين يحيى الشاعر الموصلي مولدًا، العنسفي أصلًا، شيخ حسن الأخلاق لطيفها، بديع الإشارات طريفها، له شعر أرق من دمع المهجور، وألفاظ أحسن من الروض الممطور، كأنما هي منى النفوس وطلعة البشر في الزمن العبوس، رأيته واجتمعت به وهو حي عند جمع هذا المجموع، كنت بالموصل في ذي القعدة سنة اثنتين وستين وستمائة ونحن في مجلس أنس قد واصل حبيبه وغاب رقيبه وشموس الكؤوس تدور وتطلع من أكف سقاة كالبدور وفي أفواه الندامى تغور، فجاء إلى الباب فأخبر بحالنا فكتب إلي بهذه الأبيات ومشى:
أتيتُ هذا الحرم المرتجى ... وهو مقرّ الحلم والعلمِ
فقيل مولاك على لذةٍ ... لا زال منها وافر القسمِ
فليس يدري العبد هل يمدحُ ال ... صهباءَ أو يشرع في الذمِّ
وما ظننت الشمس في كأسها ... أن تحجب البدرَ عن النجمِ
وجاء إلي في اليوم الثاني وقد عرضت لي حمى فيها نافض فأنشدني وما أعرف هي له أم لا:
لله حمّاكَ التي ... كست حشاي الولها
هل سألتكَ حاجةً ... فأنتَ تهتزّ لها
وهذا مليح في الغاية، ومن شعره:
بعدتمْ فذابتْ بعدكمْ مهجةُ الصبِّ ... وغادرتمُ الأجفانَ دائمة الصبِّ
وما زالَ يشكو القلبَ نظرةَ عينه ... إلى أنْ غدتْ عيناهُ تشكو من القلبِ
واصبحَ مقصوصَ الجناح من الأسى ... وإنْ كانَ من أشواقهِ طائرَ اللبِّ
أيا ساكني نجدٍ عليكم تحيةٌ ... دعاني هواكم وهو أول من لُبِّي
رفضتم ودادي ما كذا سنّة الهوى ... وحبكم ديني ورفعكم نَصبي
أيا جوهريّ الثغر ماليَ كلما ... تبسّمت عن حبٍّ تهتكت من حبِّي
أُعاملُ بالحسنى جمالك تاجرًا ... ومالي من كسبٍ سوى مدمع سكبِ
1 / 36