مال بأغصانِ النقا نسيمها ... فغار من قوامها قويمها
رخيمةُ الدَّلِّ إذا ما نطقتْ ... سباكَ من ألفاظها رخيمها
ما خطرتْ برامةٍ ولا رنتْ ... إلاّ وغارَ غصنها وريمها
لو عُلَّ من رضابها عليلها ... أبلَّ من سقامه سقيمها
غانيةٌ في ثغرها جواهرٌ ... منثورها أشبههُ منظومها
لم أنسَ إذ جلتْ على عشاقها ... مدامةً تجلى بها همومها
في روضةٍ ألبسها صوبُ الحيا ... مطارفًا موشيّةً رقومها
بساحةِ الموصلِ لا بحاجرٍ ... إذا سواي شاقه صريمها
بأربع حاليةٍ رياضها ... لا أربعٍ خاليةٍ رسومها
حبيبةٌ لو صحَّ لي ودادها ... وجنةٌ لو دام لي نعيمها
وقال أيضًا:
حاشاكَ تصبح بعد وصلك هاجري ... أفما لصدّك والقلى من آخرِ
يا غادرًا فضح الهلال بوجهه ... لما تبدّى في ظلامِ غدائرِ
وكلتَ جفني بالسُّهادِ صبابةً ... ورقدتَ عن ليل الكئيب الساهر
لا نلتُ ما أرجوه منك من المنى ... إنْ كانَ غيركَ خاطرًا في خاطري
أو كنت أستحلي القضيب وإن بدا ... من بعد قدك ناضرًا في ناظري
أتظن أني رابحٌ وأنا الذي ... أنسيتُ فيك حديثَ سلم الخاسر
لا تعجبوا لتجلدي وتبسمي ... في باطني بخلاف ما في الظاهر
كفّوا الملامَ فما فؤادي حاضرٌ ... من بعده بل غائب في حاضر
ولئن بقيتُ على هواه فنادرٌ ... لا حكمَ في شرع الهوى للنادر
ما قلتُ إلاّ ما وجدتُ حقيقة ... قولُ المتيم غيرُ قول الشاعر
وقال أيضًا:
حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقهُ
هلالٌ ولكن أفقُ قلبي محلُّه ... غزالٌ ولكن سفحُ عيني عقيقهُ
أقرَّ له كلِ حسنٍ جليلهُ ... ووافقه من كلّ معنىً دقيقهُ
على خدِّه جمرٌ من الحسنِ مضرمٌ ... يشبّ ولكن في فؤادي حريقهُ
على سالفيه للعذار جديدهُ ... في شفتيهِ للسُّلاف عتيقهُ
حكى وجههُ بدرَ السماء فلو بدا ... مع البدرِ قال الناسُ هذا شقيقهُ
البيت الخامس مأخوذ من قول القائل وإن لم يذكر العذار والرضاب وهي طريق جيدة في الأخذ:
وإنيِ من لذاتِ دهري لقانعٌ ... بحلوِ حديثٍ أو بمرِّ عتيق
ومن مليح الأخذ ما أخذه أبو تمام من أبي نواس في قوله:
إذا نزلتْ دونَ اللهاةِ من الفتى ... دعا همّهُ من صدرهِ برحيلِ
أخذه أبو تمام ونقله إلى المدح وغرّبه، فقال:
مشتِ الخطوبُ القهقرى لما رأتْ ... خببي إليكَ موكلًا برسيمِ
فزعتْ إلى التوديعِ غيرَ لوابثٍ ... لما فزعتُ إليكَ بالتسليمِ
وقال تأبط شرًا:
فصادفَ سهلَ الأرضِ لم يكدحِ الصفا ... به كدحةً والموتُ خزيانُ ينظرُ
أخذه أبو تمام وغرب:
فردّتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ ... بشمسٍ لهم من جانب الخدرِ تطلعُ
فالليل راغم: هو قوله: الموت خزيان، فهذا وأمثاله من السرقات الخفية تحتاج إلى قوة فكر وشدة تأمل ونقد صحيح وخاطر وقاد.
وكنت أنشد دائمًا قول كثيِّر بن عبد الرحمن، وهما من شعر الحماسة:
وأدنيتني حتى إذا ما ملكتني ... بقول يحلّ العصم سهل الأباطح
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وغادرت ما غادرت بين الجوانح
فتتبعت البيت الأول فوجدت جماعة من الشعراء قد تداولوه، قال النابغة الذبياني:
بتكلُّمٍ لو يستطيعُ حوارهُ ... لدنتْ له أروى الجبالِ الصخّدِ
وقال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
ودعتني برقاها إنها ... تُنزلُ الأعصمَ من رأسِ اليفعْ
وقال آخر:
بوحي لو أنَّ العصم تسمع رجعه ... تضعضعن من أعلى إبان عواقله
آخر، أنشده ابن جنّي قال: أنشده أبو علي الفارسي:
لو أنَّ عصْمَ عمايتين ويذبل ... سمعا حديثك أنزلا الأوعالا
وقال العديل بن الفرخ:
ضحكتْ فقلتُ غمامة برقت لنا ... بشعاب مكة برقها لا يبرحُ
وتحدثت فتنزلت بحديثها ... أروى الشعاب فهنّ منها جنّحُ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
طالَ ليلي واعتادني اليومَ سقمُ ... وأصابتْ مقاتلَ القلبِ نعمُ
1 / 25