وتنطق المجموعة بوضوح أن الدكتورة نوال حين اهتدت إلى طريقها الصحيح اعتزمت أن تنبري لتقدم لنا جوانب مختلفة من غريزة المرأة وطبعها، وعاهدت المؤلفة نفسها أن تقول الصدق بشجاعة قد يتهيبها كثيرات غيرها من بنات جنسها؛ فما تهربت أو لجأت إلى المواربة، ولا قصدت الدفاع أو الاتهام، فليست المرأة كما رسمتها ملاكا خالصا أو شيطانا خالصا، بل اكتفت بوصف إحساس المرأة بنفسها وبالرجال وبالعالم الذي تعيش فيه. كتبت كل هذا بأسلوب مهذب ليس فيه أقل دمامة أو خدش للحياء، فإذا بنا نجد المرأة عندها شديدة الانتباه لمعركة الجنس الدائرة بين الرجال والنساء، تقف المرأة في هذه المعركة في أغلب الأمر موقفا سلبيا وتحس أنها فريسة مطاردة، انظر بطلة «قصة تحت الملاءة» إنها تعد على أصابعها تحت الملاءة عدد الرجال الذين طاردوها فإذا بعددهم يبلغ عشرين رجلا (أرجو أن يكون هذا العدد رقما قياسيا!) وانظر كيف تصف صورة الرجال المتحككين بالمرأة في عين تلك المرأة، إنها ترى لهم صورة مقززة. وانظر إلى هذه الطبيبة الشابة التي تتنكر للطب لأنه عجز عن شفاء أمها وأبيها وترتد إلى معدنها الأصيل - معدن الفنانة الهائمة بمشاكل القلوب (قصة كلنا حيارى). ولكن المرأة في أحوال قليلة تملك نفسها وتحاول أن تكون هي التي تقبل وهي التي تختار، ولكنها تتقدم في حذر وتهيب.
وكذلك في بعض صور المرأة عند الدكتورة نوال نجدها مترددة بين الضعف والقوة، وبين الصدق والكذب، فهي ضعيفة في يد الرجل؛ يخونها فإما تتحمل وحدها عار الحمل سفاحا ولا ينقذها منه إلا الانتحار (قصة أحلام)، وإما تنحدر إلى مزالق الرذيلة، لا لعيب فيها بل بسبب هذه الخيانة (قصة هذه المرة)، وهي أحيانا قوية تطغى شخصيتها على شخصية الرجل بل ترسم للحب هدفا أسمى من هدفه (قصة لن أكون رخيصة)، سنجد شابا ضعيفا يهرب من فتاة لا لشيء إلا لأنها أقوى منه (قصة ضعف)، وفتى خجولا مضيعا في الحياة لا يجد نجاته إلا على يد امرأة قوية (قصة لعله الحب)، سنجد كاتبا مغرورا بنفسه وشهرته تقابله امرأة قوية فتكشف زيفه (قصة شيء جديد). المرأة أحيانا تجمع بين الضعف والقوة في وقت واحد؛ هذا هو حال بطلة قصة نسيان، وهي تصدق فتصارح زوجها بأنها أحبت رجلا غيره (قصة زوجي لا أحبك) وتكذب وهي تلفق لنفسها الأعذار وهي ذاهبة لموعد غرام (قصة نسيان).
وقد وصفت الدكتورة نوال كل واحدة من نسائها وصفا جميلا جعلنا نحس بهن وننفذ إلى ضمائرهن. •••
واللون الغالب على هذه المجموعة ليس هو التفاؤل أو التشاؤم، بل نوع من الإشفاق والحسرة (حتى حادثة الانتحار في قصة «أحلام» لا تكون إلا أضغاث أحلام)؛ فالدنيا عند الدكتورة نوال كحديقة الملاهي يركب الناس فيها مراجيح دائرة: موسيقى وأنوار وضجة وبهجة، ولكن ركاب هذه المراجيح أغلبهم فرادى يدورون ويدورون دون أن تتريث المرجيحة لحظة حتى يتم لقاء وتزدهر من بذرته زهرة جميلة؛ فالدكتورة نوال تلح على الناس إلحاحا شديدا أن يفيقوا لأنفسهم من هذا الدوران المدوخ فإنهم لو فعلوا لتكشف لهم في الدنيا والناس جوانب غير قليلة من الجمال والخير، حتى في نفوس ومواقع لا يظن فيها الجمال. هذا هو شأن الطبيبة الشابة التي تذهب للريف فلا تعمى عن طيبة بعض أهله (قصة تعلمت الحب)؛ فهذه القصص المتفرقة تصدر عن نظرة إنسانية شاملة. •••
هناك صفة إذا تحققت في القصة تضاءلت بعدها نداءات المطالب الأخرى، هي أن تكون مقروءة، أن يجوس القارئ خلالها فلا يشعر بتعب أو ملل أو نكد أو إرهاق، لا يكربه تعقيد والتواء وحشو ومبالغة. وأشهد أن هذه الصفة قد تحققت في أغلب قصص هذه المجموعة، ثم أعجبني فيها ما رأيته من محاولة رفع أسلوب السرد إلى مستوى المعالجة الفنية، يتجلى هذا في بدايات القصص، وهي دائما أحسن من خواتيمها؛ فالكلمات مختارة باقتصاد لا فضول فيه، ثم هناك محاولة طيبة أيضا لاصطناع تعبيرات خاصة غير منقولة ولا مقتبسة من مألوف الكلام، يدل على أن الدكتورة نوال تصوب للدنيا وللناس نظرة مستقلة غير مقلدة مما يبشر لها بمستقبل نير، إنها لا تهيم بالدمامة بل تتطلع إلى الجمال والخير.
وما السر في هذا كله إلا أنها صاحبة نفس معتدلة حساسة فنانة. ومما أعانها على الصدق أنها عرفت كيف تنتفع بتجربة تعيشها - وهي ممارسة تطبيب مرضى الصدور - شأنها في ذلك شأن الدكتور مصطفى محمود، فدخلنا معها العيادات، وعرفنا حكايات الأطباء والممرضات، وما أكثر وأسهل رواية حكاية الأطباء والممرضات. وذهبنا معها للريف إلى وحدة مجمعة، بل يخيل إلي أن المحامية في قصة تحت الملاءة قناع تختفي وراءه طبيبة، كأنما خشيت الدكتورة نوال من معرة التكرار، وما هو عيب إذا التزمت الصدق. •••
إذا جاريت النقاد قلت للدكتورة نوال بصراحة إن بعض قصصها قد خرج عن شكل القصة إلى شكل اللوحة، عمادها الوصف والتسجيل أو الاكتفاء بإيراد خبر؛ قد يكون رسما لذيذا ولكنه فاقد النمو والحركة. ولست أخاصم هذا النوع لو سمي باسمه خصاما شديدا، فإنني أجد بعضا منه في مؤلفات بعض كبار الأدباء السابقين - كديكنز وتشيكوف - ويكون عذر قبولها هو غناؤها بالأفكار وبراعتها في الصياغة والصنعة، لعلهم كانوا يلجئون إلى كتابة هذه اللوحات كلما أطبقت عليهم مطالب القصة وشروطها، ولكني أحب على كل حال لكل قصاص أن يفطن لما يكتب ويدرك الفرق بين اللوحة والقصة ويحاسب نفسه وهو يتلمس طريقه، فإذا كان هذا حاله فقد أمنا عليه ورجونا له أن يهتدي إلى نور أعم يكشف له طريقه في المستقبل، وإلا فلنا العذر أن نخشى عليه من أن تنزلق قدمه وهو غافل. ولا يظنن الكاتب أن النقاد لا يغفرون له ما يغفرونه للأدباء الكبار، وأحب له أن يفهم من هذا أن خير رد له على النقاد هو أن يملك أولا قدرته واعتدال صنعته، ثم له بعد ذلك أن يتبهنس كما يشاء.
تعلمت الحب
هبطت بي العربة السريعة في الطريق الزراعي المترب، واختفت العمارات العالية والمداخن السوداء وظهرت بشائر الريف، ورأيت حقول «الذرة» تقترب من جانبي الطريق، بعضها أخضر وبعضها أصفر، يتخللها النخيل الطويل الهزيل، وسحبت زجاج النافذة إلى أسفل لأشم رائحة الريف بما فيها من تراب وزرع وماء، تلك الرائحة العجيبة التي أعشقها، والتي أشمها أحيانا في القاهرة حينما أمر في ليالي الخريف بعربات «الذرة المشوي» أو عندما تأتي إحدى القريبات من الريف فأشم حولها رائحة الفطير، أو حينما تأتي عربة الرش في ليالي الصيف وتندي شارعنا بالماء.
وطلبت من السائق أن يتمهل، وجذبت أنفاسا طويلة فامتلأ صدري بهذه الرائحة الحبيبة، وانتشيت وذاب بعض الوحشة التي أحسستها وأنا أفارق القاهرة، وشعرت كأنني أعود إلى وطني، إلى أصلي، كأنما أزحف بجسمي على الأرض السوداء المبللة بالماء وأتحسسها بلساني لأرتوي منها وأغمس رأسي في شقوق الأرض أشم باطنها وأضع خدي الملتهب على سطحها الرطب.
Page inconnue