ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم للأستاذ يحيى حقي
تعلمت الحب
لعله الحب
شيء جديد
نسيان
هذه المرة
المقامر
شيء آخر
ضعف
الماضي
تحت الملاءة
لن أكون رخيصة
أحلام
لست أنا
زوجي، لا أحبك!
كلنا حيارى
ثمن الكتابة
الإهداء
تقديم للأستاذ يحيى حقي
تعلمت الحب
لعله الحب
شيء جديد
نسيان
هذه المرة
المقامر
شيء آخر
ضعف
الماضي
تحت الملاءة
لن أكون رخيصة
أحلام
لست أنا
زوجي، لا أحبك!
كلنا حيارى
تعلمت الحب
تعلمت الحب
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم، في بداية الربيع يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
الإهداء
كلما أمعنت النظر في مشاكل حياتنا زدت اقتناعا بأننا في حاجة إلى مزيد من الحب والرحمة؛ فالحب يجعل الحياة مقبولة بما يثيره فينا من أحاسيس، والرحمة تلطف الحياة برقتها وخيرها.
والحب الذي أنشده ليس هو الحب العادي بين رجل وامرأة، أو أب وولده، فهذا حب لا فضل لنا فيه وكلنا فيه سواسية، ولكني أنشد الحب الذي نبذله لغيرنا دون أن نأخذ شيئا، اللهم إلا تلك السعادة النفسية التي تعلمنا كيف نقبل الحياة بما فيها من خير وشر، فنحب الأخيار، ونعطف على الأشرار حتى يتلمسوا السبيل إلى أن يكونوا أخيارا.
فإلى من يرى في كل صباح يشرق على العالم فرصة جديدة لمزيد من الحب والرحمة أهدي هذا الكتاب.
نوال السعداوي
تقديم للأستاذ يحيى حقي
قد لا يرضى علي أساتذة النقد حين يرونني وأنا أتناول بترحيب قصة بقلم واحدة من بنات حواء أجعل أول همي لا أن أتدبر شكلها ومضمونها والمذهب الذي تنتسب إليه، بل أن أعرف أكان حديثها حديث المرأة عن المرأة فأفرح به، أم حديثا يعتنق لغة الرجل ومنطقه فأقول علينا ضاعت الفرصة وعليها؟ فأنا وليد مدنية ألفت وهامت بأن تصف المرأة بأنها لغز، هيهات لذكاء الرجل الفطن أن يسبر غوره! كل ما يعرفه منها أو يكتبه عنها نوع من الرجم بالغيب، وضرب من الحدس والتخمين، قد يكون في هذا الوصف كثير من الوهم الغافل أو النصب المتعمد.
ولكنه هو هذا الذي استقر في الأذهان من فرط تردده على الألسن. وقد دارت حول هذا المعنى قصص كثيرة، فكيف لا أفرح حين تفتح لنا المرأة بيدها نافذة نطل منها على أسرارها، سنجد أكبر المتعة حين تحدثنا عن المرأة في نفسها وفي غيرها، بل سنجد متعة أيضا حين تتحدث المرأة عن الرجل، فنحن نحب أن نرى صورتنا في مرآتها، ولعل هذه الصورة هي التي تعنينا قبل الصورة التي نراها لنا في مرآة ترفعها يد الرجل أو يدنا نحن.
فلما فرزت مجموعة الدكتورة نوال - وهي من خمس عشرة قصة - وجدت هذا المطلب الذي أهيم به متوفرا لحسن الحظ في غالبيتها العظمى؛ إذ أقامت على حديث المرأة عن المرأة ثماني قصص، ووصفت المرأة مع الرجل في قصتين، ووصفت الرجل وحده في ثلاث قصص، فهي مجموعة نسائية دما ولحما. •••
وتنطق المجموعة بوضوح أن الدكتورة نوال حين اهتدت إلى طريقها الصحيح اعتزمت أن تنبري لتقدم لنا جوانب مختلفة من غريزة المرأة وطبعها، وعاهدت المؤلفة نفسها أن تقول الصدق بشجاعة قد يتهيبها كثيرات غيرها من بنات جنسها؛ فما تهربت أو لجأت إلى المواربة، ولا قصدت الدفاع أو الاتهام، فليست المرأة كما رسمتها ملاكا خالصا أو شيطانا خالصا، بل اكتفت بوصف إحساس المرأة بنفسها وبالرجال وبالعالم الذي تعيش فيه. كتبت كل هذا بأسلوب مهذب ليس فيه أقل دمامة أو خدش للحياء، فإذا بنا نجد المرأة عندها شديدة الانتباه لمعركة الجنس الدائرة بين الرجال والنساء، تقف المرأة في هذه المعركة في أغلب الأمر موقفا سلبيا وتحس أنها فريسة مطاردة، انظر بطلة «قصة تحت الملاءة» إنها تعد على أصابعها تحت الملاءة عدد الرجال الذين طاردوها فإذا بعددهم يبلغ عشرين رجلا (أرجو أن يكون هذا العدد رقما قياسيا!) وانظر كيف تصف صورة الرجال المتحككين بالمرأة في عين تلك المرأة، إنها ترى لهم صورة مقززة. وانظر إلى هذه الطبيبة الشابة التي تتنكر للطب لأنه عجز عن شفاء أمها وأبيها وترتد إلى معدنها الأصيل - معدن الفنانة الهائمة بمشاكل القلوب (قصة كلنا حيارى). ولكن المرأة في أحوال قليلة تملك نفسها وتحاول أن تكون هي التي تقبل وهي التي تختار، ولكنها تتقدم في حذر وتهيب.
وكذلك في بعض صور المرأة عند الدكتورة نوال نجدها مترددة بين الضعف والقوة، وبين الصدق والكذب، فهي ضعيفة في يد الرجل؛ يخونها فإما تتحمل وحدها عار الحمل سفاحا ولا ينقذها منه إلا الانتحار (قصة أحلام)، وإما تنحدر إلى مزالق الرذيلة، لا لعيب فيها بل بسبب هذه الخيانة (قصة هذه المرة)، وهي أحيانا قوية تطغى شخصيتها على شخصية الرجل بل ترسم للحب هدفا أسمى من هدفه (قصة لن أكون رخيصة)، سنجد شابا ضعيفا يهرب من فتاة لا لشيء إلا لأنها أقوى منه (قصة ضعف)، وفتى خجولا مضيعا في الحياة لا يجد نجاته إلا على يد امرأة قوية (قصة لعله الحب)، سنجد كاتبا مغرورا بنفسه وشهرته تقابله امرأة قوية فتكشف زيفه (قصة شيء جديد). المرأة أحيانا تجمع بين الضعف والقوة في وقت واحد؛ هذا هو حال بطلة قصة نسيان، وهي تصدق فتصارح زوجها بأنها أحبت رجلا غيره (قصة زوجي لا أحبك) وتكذب وهي تلفق لنفسها الأعذار وهي ذاهبة لموعد غرام (قصة نسيان).
وقد وصفت الدكتورة نوال كل واحدة من نسائها وصفا جميلا جعلنا نحس بهن وننفذ إلى ضمائرهن. •••
واللون الغالب على هذه المجموعة ليس هو التفاؤل أو التشاؤم، بل نوع من الإشفاق والحسرة (حتى حادثة الانتحار في قصة «أحلام» لا تكون إلا أضغاث أحلام)؛ فالدنيا عند الدكتورة نوال كحديقة الملاهي يركب الناس فيها مراجيح دائرة: موسيقى وأنوار وضجة وبهجة، ولكن ركاب هذه المراجيح أغلبهم فرادى يدورون ويدورون دون أن تتريث المرجيحة لحظة حتى يتم لقاء وتزدهر من بذرته زهرة جميلة؛ فالدكتورة نوال تلح على الناس إلحاحا شديدا أن يفيقوا لأنفسهم من هذا الدوران المدوخ فإنهم لو فعلوا لتكشف لهم في الدنيا والناس جوانب غير قليلة من الجمال والخير، حتى في نفوس ومواقع لا يظن فيها الجمال. هذا هو شأن الطبيبة الشابة التي تذهب للريف فلا تعمى عن طيبة بعض أهله (قصة تعلمت الحب)؛ فهذه القصص المتفرقة تصدر عن نظرة إنسانية شاملة. •••
هناك صفة إذا تحققت في القصة تضاءلت بعدها نداءات المطالب الأخرى، هي أن تكون مقروءة، أن يجوس القارئ خلالها فلا يشعر بتعب أو ملل أو نكد أو إرهاق، لا يكربه تعقيد والتواء وحشو ومبالغة. وأشهد أن هذه الصفة قد تحققت في أغلب قصص هذه المجموعة، ثم أعجبني فيها ما رأيته من محاولة رفع أسلوب السرد إلى مستوى المعالجة الفنية، يتجلى هذا في بدايات القصص، وهي دائما أحسن من خواتيمها؛ فالكلمات مختارة باقتصاد لا فضول فيه، ثم هناك محاولة طيبة أيضا لاصطناع تعبيرات خاصة غير منقولة ولا مقتبسة من مألوف الكلام، يدل على أن الدكتورة نوال تصوب للدنيا وللناس نظرة مستقلة غير مقلدة مما يبشر لها بمستقبل نير، إنها لا تهيم بالدمامة بل تتطلع إلى الجمال والخير.
وما السر في هذا كله إلا أنها صاحبة نفس معتدلة حساسة فنانة. ومما أعانها على الصدق أنها عرفت كيف تنتفع بتجربة تعيشها - وهي ممارسة تطبيب مرضى الصدور - شأنها في ذلك شأن الدكتور مصطفى محمود، فدخلنا معها العيادات، وعرفنا حكايات الأطباء والممرضات، وما أكثر وأسهل رواية حكاية الأطباء والممرضات. وذهبنا معها للريف إلى وحدة مجمعة، بل يخيل إلي أن المحامية في قصة تحت الملاءة قناع تختفي وراءه طبيبة، كأنما خشيت الدكتورة نوال من معرة التكرار، وما هو عيب إذا التزمت الصدق. •••
إذا جاريت النقاد قلت للدكتورة نوال بصراحة إن بعض قصصها قد خرج عن شكل القصة إلى شكل اللوحة، عمادها الوصف والتسجيل أو الاكتفاء بإيراد خبر؛ قد يكون رسما لذيذا ولكنه فاقد النمو والحركة. ولست أخاصم هذا النوع لو سمي باسمه خصاما شديدا، فإنني أجد بعضا منه في مؤلفات بعض كبار الأدباء السابقين - كديكنز وتشيكوف - ويكون عذر قبولها هو غناؤها بالأفكار وبراعتها في الصياغة والصنعة، لعلهم كانوا يلجئون إلى كتابة هذه اللوحات كلما أطبقت عليهم مطالب القصة وشروطها، ولكني أحب على كل حال لكل قصاص أن يفطن لما يكتب ويدرك الفرق بين اللوحة والقصة ويحاسب نفسه وهو يتلمس طريقه، فإذا كان هذا حاله فقد أمنا عليه ورجونا له أن يهتدي إلى نور أعم يكشف له طريقه في المستقبل، وإلا فلنا العذر أن نخشى عليه من أن تنزلق قدمه وهو غافل. ولا يظنن الكاتب أن النقاد لا يغفرون له ما يغفرونه للأدباء الكبار، وأحب له أن يفهم من هذا أن خير رد له على النقاد هو أن يملك أولا قدرته واعتدال صنعته، ثم له بعد ذلك أن يتبهنس كما يشاء.
تعلمت الحب
هبطت بي العربة السريعة في الطريق الزراعي المترب، واختفت العمارات العالية والمداخن السوداء وظهرت بشائر الريف، ورأيت حقول «الذرة» تقترب من جانبي الطريق، بعضها أخضر وبعضها أصفر، يتخللها النخيل الطويل الهزيل، وسحبت زجاج النافذة إلى أسفل لأشم رائحة الريف بما فيها من تراب وزرع وماء، تلك الرائحة العجيبة التي أعشقها، والتي أشمها أحيانا في القاهرة حينما أمر في ليالي الخريف بعربات «الذرة المشوي» أو عندما تأتي إحدى القريبات من الريف فأشم حولها رائحة الفطير، أو حينما تأتي عربة الرش في ليالي الصيف وتندي شارعنا بالماء.
وطلبت من السائق أن يتمهل، وجذبت أنفاسا طويلة فامتلأ صدري بهذه الرائحة الحبيبة، وانتشيت وذاب بعض الوحشة التي أحسستها وأنا أفارق القاهرة، وشعرت كأنني أعود إلى وطني، إلى أصلي، كأنما أزحف بجسمي على الأرض السوداء المبللة بالماء وأتحسسها بلساني لأرتوي منها وأغمس رأسي في شقوق الأرض أشم باطنها وأضع خدي الملتهب على سطحها الرطب.
وطافت برأسي فكرة أصل الإنسان: ماذا كان؟ حيوان من خلية واحدة يزحف على هذه الأرض! أو قطعة طين من هذا الطين الذي يغطي الأرض؟ وتنبهت فجأة وقد أحسست أن العربة وقفت، ورأيت عددا كبيرا من الفلاحين يحيط بالعربة، وسمعت أصواتا خشنة تقول: «الست الدكتورة وصلت.»
وهنا صحوت من غفوتي وتذكرت أنني الست الدكتورة التي وصلت، وأنني قدمت من القاهرة لأتسلم عملي اليوم بوحدة طحلة المجمعة.
ونزلت من العربة، وما إن استقرت قدماي على الأرض حتى رأيت رجالا بالجلاليب ونساء بالطرح ينحنون على يدي يقبلونها، وقادوني إلى البيت المخصص لي في مظاهرة حارة من آلاف التسليمات والترحيبات.
ودخلت البيت، ووجدتني داخل صالة كبيرة منسقة في وسطها منضدة كمائدة الطعام وضعوا عليها حقائبي! - ده بيت لطيف فعلا، مين اللي رتب الفرش ده؟
وسمعتهم يقولون في صوت واحد: «محمود.» - محمود مين؟
وأشاروا إليه، كان رجلا ريفيا جاوز الخمسين من عمره، قصير القامة يلبس جلبابا ليس له لون معين، وطاقية صفراء من الصوف، وكان شكل وجهه غريبا علي، فيه قبح شديد منفر، أنفه كبير على قمته شعر أسود قصير، وعيناه مدفونتان في حفرتين شديدتي الضيق، وأهدابه متلاصقة كأنها لزجة، وشفته العليا أعرض من السفلى على عكس الناس.
وأدرت وجهي عنه بسرعة، وطلبت منهم أن ينصرفوا لأستريح. وانصرفوا جميعا إلا هو ذلك المحمود، رأيته يأخذ حقائبي ويقول بلهجة ريفية: الشنط دي نطلعها فوق يا ست الدكتورة؟
وكدت أقول له دعها وانصرف، ولكني كنت متعبة فعلا وفي حاجة إلى بعض الملابس التي بداخل هذه الحقائب فقلت له: «أيوه، طلعها فوق.»
وأخذ الحقائب وصعد السلم، وكان البيت مكونا من طابقين: طابق علوي فيه حجرة النوم والحمام، وطابق سفلي فيه حجرة الطعام والمطبخ.
ووضع محمود الحقائب بجوار الدولاب وتراجع إلى الوراء وهو يقول: الست الدكتورة تطلب إيه للغدا؟
ونظرت إليه ورأيت وجهه، كان قبيحا، لكني لم أشمئز منه كالمرة الأولى، وكنت أريد أن ينصرف لأستريح فقلت: «لا أنا مش حاتغدى دلوقت، روح انت يا محمود.»
ولكنه لم ينصرف وقال لي كأنه يعزمني في بيته على الغداء: «لا مش ممكن إزاي سعادتك تقعدي من غير غدا والسفر متعب.»
كنت أسمعه وظهري له لأتفادى دمامة وجهه، لكني أحسست أن في صوته شيئا مألوفا لدي، كأنما سمعته قبل اليوم.
واستدرت إليه، ورأيت وجهه، واهتزت عيناي على ملامحه لا ترغبان في الاستقرار على شيء منها، وقلت له في عزم وغضب : «أنا مش حاكل دلوقت!»
وانصرف، وزحزحت السرير بجوار النافذة، وألقيت جسمي عليه، ومددت ساقي، وثنيت الوسادة تحت رأسي لأتمكن من رؤية المزارع من خلال النافذة وأنا نائمة، وأغمضت عيني وأنا أجذب نفسا عميقا هادئا.
آه! ما أجمل الاسترخاء! وما أشق أن أساق في تيار متدفق، لا أتوقف لأن كل ما حولي لا يتوقف: الساعة تدق دائما، والعربات والقطارات تجري بسرعة وتصفر، وحياة المدينة الجارفة - حياة القاهرة - بنهارها وليلها وعملها ولهوها تبتلع اليوم، وتجعلني أتلفت حولي في قلق وأقول: هل من مزيد، هل يصبح اليوم أربعين ساعة؟
ومددت ذراعي وساقي وتثاءبت في تراخ شديد.
آه! ما أحلى التوقف بلا ساعة وبلا زمن! اليوم أمامي طويل عريض، بلا مواعيد، والأرض الواسعة الخضراء حولي جميلة بلا مواصلات، والناس الطيبون قريبون مني في أية لحظة يلبون طلباتي.
ووضعت يدي تحت رأسي وتمطيت، أنا هنا ملكة، ملكة نفسي قبل كل شيء.
وسمعت طرقا على الباب فقمت من فراشي ونزلت وأنا أحس أنني خفيفة كالريشة، وفتحت الباب، ودخل محمود بوجهه القبيح، لو لم يكن له هذا الوجه المنفر؟! إنه الشيء الوحيد الذي يتلف مزاجي في هذا الهدوء.
وسمعته يقول: يا ست الدكتورة الغدا جهز. - غدا؟! هو أنا طلبت غدا؟ - أنا قلت مش معقول حضرتك تفضلي من غير غدا، ودي حاجة بسيطة مش قد المقام يا ست الدكتورة.
ودخلت امرأة ريفية تحمل على رأسها صينية كبيرة مغطاة بفوطة بيضاء نظيفة، ووضعت الصينية على المائدة وانصرفت، وأخذ محمود يرتب الأطباق، ويعد الأكواب، وما إن تأكد أن كل شيء في مكانه حتى تراجع نحو الباب في حركة خفيفة وقال: تطلبي حاجة تاني يا ست الدكتورة؟
ولا أدري بم ذكرتني لهجته، وكأنما سمعتها قبل اليوم، ورفعت عيني إليه ورأيت وجهه. ولأول مرة تبينت عينيه، كانتا سوداوين ضيقتين فيهما نظرة مألوفة لدي كأنما رأيتهما من قبل، من سنين بعيدة، ربما وأنا طفلة، وأحسست كأنه قريبي، وقلت له وأنا أبتسم: لا، كتر خيرك يا عم محمود.
ورن صدى «عم محمود» في نفسي ، لماذا قلت له عم محمود؟ لست أدري، لكني لم أستطع أن أقول له محمود «حاف» كالمرات السابقة.
وأكلت بشهية تشبه الشهية التي كنت آكل بها وأنا في العاشرة من عمري حينما كنت أعود من المدرسة وألقي حقيبتي وأجري لألحق بكرسي على المائدة، وما إن يمتلئ فمي بالطعام حتى أسمع أمي تهتف بي كعادتها من المطبخ: غسلتي إيديك يا آمال!
وتذكرت أنني لم أغسل يدي، فقمت وغسلتهما، والتهمت بقية الطعام ثم نمت، نمت أيضا بشهية تشبه شهيتي وأنا طفلة، ولم أستيقظ إلا في الصباح التالي لأجد كل شيء مشرقا متألقا.
الشمس الدافئة تدخل إلى نصف السرير وحقول الذرة تلمع وتهتز مع النسيم الوادع، ونظرت من النافذة التي تطل على الوحدة فوجدت المرضى الفلاحين يقفون أمام حجرة الكشف متجمعين، ولمحت التومرجية - النساء والرجال - بملابسهم البيضاء يروحون ويجيئون في مباني الوحدة، وأحسست بالنشاط والحماسة فلبست المعطف الأبيض ونزلت مسرعة.
وعلى باب حجرة الكشف وجدت عم محمود يلبس ملابسه البيضاء النظيفة ويبدو فيها «تومرجي» متمرنا قديما وليس الفلاح الذي رأيته أمس.
وبدأت الكشف، ودخل المرضى واحدا واحدا بنظام دقيق وعم محمود يروح ويجيء بينهم في حماس غريب، يحمل على الأم طفلها، ويحمل على الرجل ملابسه، وعيناه ببريقهما العجيب تتبعان كل شيء باهتمام شديد. وانتهى الكشف وذهبت إلى حجرة الغيار حيث وجدت كل شيء معدا، الحقن معقمة، والعمليات وغيرها جاهزة، وبعد حجرة الغيار صعدت إلى القسم الداخلي، فوجدت العنابر نظيفة تلمع، وأسرة المرضى مرتبة، والملاءات بيضاء، وكل شيء يدعو إلى السرور والدهشة.
واستدرت لمن حولي من التمورجية وسألت: «مين اللي نظف هنا؟»
فقالوا في صوت واحد: «عم محمود.»
إنه يفعل كل شيء، ويحب أن يفعل كل شيء.
ونزلت واتجهت إلى بيتي، وعند الباب سألني عم محمود بلهجته المألوفة: حضرتك تحبي تتغدي إيه؟!
ونظرت إليه، إنه أيضا لا ينسى شيئا، وأطلت النظر إلى عينيه، فرأيت فيهما شيئا عجيبا لم ألحظه من قبل، شيئا ربما رأيته من قبل، في عيني أبي أو أمي، حنان غريب.
وتذكرت لهجته ، وعرفت لماذا أحسست أنني سمعتها من قبل، إنها تشبه لهجة أمي، أو أبي.
وناولته جنيها وأنا أقول: فرخة سمينة يا عم محمود وعليها أي حاجة، كفاية شوية شوربة، واوع تنس تحط فيها «ضرس الساقية» وضحك، وضحكت.
وذات صباح نزلت إلى الوحدة كعادتي فوجدت المرضى غير منتظمين ككل يوم والوحدة مهملة، وصفقت وناديت عم محمود وجاءني تمورجي آخر يقول: عم محمود غايب النهاردة يا ست الدكتورة، يلزم خدمة؟
ونظرت إليه، أحسست بفرق هائل بينه وبين عم محمود. - نظم العيانين دول بسرعة، وخلي حد من التمورجية يكنس الطرقة، وواحد تاني يجهز الغيار وعمليات الفتح، يلله بسرعة دخل العيانين واحد واحد.
وكان يوما قاسيا علي، أحسست في كل لحظة من لحظاته أنني أفتقد شيئا ضخما، المرضى يدخلون بلا نظام، وحجرة الغيار لا تصلح لشيء، والتمورجية على كثرتهم يروحون ويجيئون بغباء شديد وبلا نتيجة.
وانتهى العمل بعد أن تعبت وبح صوتي، وذهبت إلى بيتي، وعند الباب تلفت كالتائهة حولي كأنما أبحث عن شيء مفقود، عن الحنان.
ووجدتني أسرع إلى العربة دون أن أدخل بيتي، وأركب فيها وأنا أقول للسائق: «اطلع يا أسطى محمد بسرعة، على بيت عم محمود!»
وأحسست بالفرح وأنا أراه، وكنت على وشك أن أرتمي على صدره وأقبل جبهته كما أفعل مع أبي أو أمي، لكني تراجعت وتذكرت أنني الست الدكتورة وهو عم محمود التمورجي. - ما لك يا عم محمود؟ انت عيان صحيح؟ - أبدا يا ست الدكتورة شوية حمى خفيفة، سعادتك تعبت نفسك وجيتي لغاية داري، ده شرف كبير، هو احنا قد المقام؟ - مقام إيه يا عم محمود، مفيش فرق بين الناس وبعض.
وخرجت هذه الكلمات من فمي وحدها دون مجهود، كلمات أحسست أنها صادقة وليست كتلك المجاملات الشاقة التي ألفتها في القاهرة، وشعرت أنني لا أجد فرقا بيني وبين عم محمود، بل أحسست أنني أحبه، ذلك التمورجي الفلاح الذي يلبس جلبابا ليس له لون وطاقية صفراء ويرقد على الحصيرة، وأحب أيضا زوجته الفلاحة التي تلبس ملابس سوداء وتجلس إلى جواره على الأرض، وأحب أيضا طفله الذي يسيل لعابه على ذقنه ويلعب في التراب بيديه.
وفي اليوم التالي، وجدتني أتفرس في وجوه المرضى وكأنني أراهم لأول مرة، وخيل إلي أنني أرى في كل رجل منهم عم محمود، وفي كل امرأة منهن زوجة عم محمود، وفي كل طفل منهم طفل عم محمود، ورأيت عيونهم جميعا مليئة بالحب والحنان، وأحسست أنه يربطني بهم عاطفة جديدة قوية، وسمعتني أقول للتمورجي الذي أمرته بتنظيمهم والشخط فيهم: حاسب يا حسنين شوية، بلاش شخط في العيانين، دول ناس زينا برضه.
وحينما عدت إلى فراشي في تلك الليلة أحسست براحة غريبة تسري في كياني، وسعادة دافئة تتمشى في جسمي، وأغمضت عيني ليستقبل قلبي حبا جديدا.
وتنفست بهدوء وأنا أحس أن متاعب الدنيا كلها تذهب عني شيئا فشيئا مع أنفاسي الهادئة، والقاهرة، بصخبها وضجيجها وبسكانها المتخشبين كأنهم الآلات أو التماثيل، تتلاشى من إحساسي، والمستشفى الكبير الذي كنت أعمل فيه هناك ذاب من ذاكرتي، حتى حبي، حبي الذي تركته خلفي في القاهرة أصبح الآن لا شيء في رحاب ذلك الهدوء القوي الذي يغمرني، وفي غمرة تلك العاطفة الجديدة التي عرفتها. آه، قلتها وأنا أمد ساقي، لقد وجدت سعادتي.
وجدت حبي، إنه هنا، في كل شبر من هذه الأرض الخضراء الوادعة، وفي كل عين من هذه العيون الحانية الدافئة، وفي كل قلب من هذه القلوب الطيبة البريئة.
لعله الحب
منذ سنين طويلة، في كلية تجمع البنات والأولاد بعد فرقة عشرة أعوام أو أكثر في مدارس الابتدائي والثانوي، تجمعهم في تلك السن الحادة من عمر الإنسان، تلك الفترة الطائشة المعلقة بين الطفولة الساذجة والشباب الناضج - المراهقة - فترة قصيرة سريعة لاهثة تتأرجح من العمر في الهواء لا ترسو على قدمين.
وفي فناء هذه الكلية الواسع ترى أسراب البنات يمشين بعضهن وراء بعض في سرعة وخوف كأنما ستخطف الحدأة إحداهن!
وترى الولد منهم يبحلق حواليه كالمذهول، يكاد يلتهم بعينيه كل بنت يراها، ويهمس بصوت خافت وبلهجة ريفية خشنة في أذن زميله: «الله يا وله! ده بنات الجامعة حلوين قوي!»
ويظل الأمر في الشهور الأولى من الدراسة معلقا هكذا بين البنات والأولاد، يتباعدون عن عمد ويتقاربون عن عمد، ويتخابثون في اختلاس البسمات والتقطيبات، وينتهي النصف الأول من الدراسة، ويبدأ شهر أبريل، ويختفي الهواء البارد وتختفي معه المعاطف الواسعة والأكمام الطويلة.
وتسطع الشمس، وتسري حرارة الربيع في السماء والأرض فتظهر الفساتين الهفهافة بلا أكمام والصنادل المفتوحة، ويكون الثلج قد ذاب بين البنات والأولاد، وتبدأ تحيات الصباح والإيماءات والإشارات وتبادل البسمات، وكشاكيل المحاضرات!
ويتطور الأمر يوما بعد يوم، وتقل الكلفة بين الأولاد والبنات، وتبدأ مراحل الزمالة والصداقات، وتختفي أسراب البنات التي تمشي وحدها، ويختلط الأولاد والبنات، وتكتب مجلات الطلبة مقالات عن الروح الجامعية، وفوائد الاختلاط وتغيير التقاليد القديمة و... و...
كل شيء في الكلية يتطور ويتغير إلا «سعيد»، يجلس كعادته في أول مقعد في أول صف على اليمين، ونظارته البيضاء السميكة تهتز إلى اليمين وإلى الشمال مع حركات الأستاذ الكبير، والقلم الحبر في يده والكشكول مفتوح أمامه، ومن حين إلى حين ينكفئ برأسه حتى يكاد يلتصق أنفه بالورقة، ويكتب.
ولم يكن لسعيد صديق ولا صديقة، حتى في فترات الراحة بين المحاضرات كان يجلس على أريكة بعيدة في الفناء، وينكفئ على المحاضرات يراجعها، وتمر عليه زمر الطلبة تمطره بتعليقات ساخرة معظمها حقد على جده واستقامته، أكثر مما هي سخرية من انطوائه.
كانت كل الكلية ضده، تتهكم عليه، وتحكي عنه الأمثال والنوادر، إلا واحدة، فتاة طويلة نحيفة، لونها أصفر شاحب وعيناها السوداوان الواسعتان تنسحبان إلى أعلى كالصينيات، كانت هي الأخرى وحيدة، تدخل وتخرج مع الطلبة في صمت وهدوء لا يحس بها أحد.
وذات يوم كانت تجلس في قاعة المحاضرات حينما سمعت وراءها همسا عاليا، كان بعض الطلبة يتنافرون ويسخرون من سعيد، ووجدت نفسها تهمس في أذن سعيد: «ولا يهمك!»
ومن ذلك اليوم وإحسان تحرص على أن تجلس بجوار سعيد، تأتي كل صباح مبكرة وتحجز له مكانا بجوارها، وحينما يحضر سعيد ويجلس تبتسم له وتقول له في رقة: «صباح الخير يا سعيد.»
ويحمر وجه سعيد ويتلعثم ويفتح حقيبته ثم يغلقها ثم يفتحها ثم يقول بصوت منخفض: «صباح النور يا آنسة إحسان!»
وبعد أيام قليلة تعود سعيد على أن يرد تحية الصباح دون خجل شديد، وأصبح هو وإحسان حديث الكلية، يجلسان في المحاضرات معا ويخرجان إلى الفناء معا، وينفردان على الأريكة البعيدة ويراجعان المحاضرات، ويكملان ما فيها من نقص. وكان سعيد بطيئا في الكتابة، بطيئا في الفهم، وإحسان سريعة كالآلة الكاتبة، تختزل الكلمات وتفهم المحاضرات بمجرد سماعها؛ ولهذا ارتاح سعيد لهذه الصداقة. لم تعد الكلية شبحا مخيفا ثقيلا، ولا الطلبة «عفاريت» تلاحقه لتسخر منه وتشد منه حقيبته وتنفخ في قفاه. ولم تعد المحاضرات كالطلاسم في نظره، ولا الأساتذة عمالقة بالنسبة له أو جبابرة يركبون في حناجرهم أجهزة ذرية للكلام!
أصبحت علاقة سعيد بإحسان أكثر من صداقة، أصبحت حاجة ملحة لم يعرفها سعيد إلا حينما غابت إحسان عن الكلية ثلاثة أيام كاملة. نظر إلى جانبه في المدرج فلم يجدها، خيل إليه أن ليس مقعدا واحدا خاليا بجواره وإنما خرابة كبيرة إلى جواره، وشعر بالوحشة والخوف، وكأن الطلبة والأساتذة سينقضون عليه كالوحوش، وأخذ يفكر ماذا يفعل؟ هل يذهب إليها في بيتها؟ لقد أعطته العنوان على قصاصة ورق ذات يوم. وأخرج الورقة الصغيرة من جيبه يحملق فيها، كيف يقدم على عمل جريء كهذا، وجلس على الأريكة البعيدة وحده يشد شفته السفلى كعادته كلما تورط في أمر من الأمور.
وأخيرا وقف وتأبط حقيبته وقرر الذهاب إليها. إنه بدونها ضائع وحيد ضعيف أعزل، كأنما هي التي تحوطه وتكلؤه برعايتها وتحميه، وسار في الطريق يستمع إلى وقع حذائه على الأرض، ويرى المارة كأنهم أشباح متحركة.
وأحس في أعماقه بشعور قاتم غريب، يشبه نفس الشعور الذي أحسه حين مات أبوه وهو طفل صغير، شعور باليتم والضياع، رغم ما كانت تعوضه أمه من حنان ورعاية، وكانت لا تزال شابة في الخامسة والثلاثين. وتذكر دموعها ذات ليلة وهي تنام إلى جواره في السرير، ولم يكن قد رأى أمه تبكي من قبل ، حتى حينما مات أبوه لم ير لها دموعا، ولم يدهش «سعيد» لأنه هو نفسه لم يكن يحب أباه، كان يخافه ويرتجف كلما سمعه يرغي ويزبد في البيت، وتتكهرب معدته وتتقلص، ويشعر برغبة في القيء والبكاء معا.
بل إنه ليذكر أنه قال لأمه مرة بعد موت والده: «يعني أفرح يا ماما وأنت كمان تفرحي، فيه واحدة ست قالت إنك فرحانة عشان حتورثي سبعين فدان، فدان يعني إيه يا ماما؟»
ولم تقل أمه شيئا، أخذت تربت على ظهره حتى استغرق في النوم، ولم يفهم سعيد شيئا إلا بعد سنوات قليلة. وكانت الليلة التي رأى فيها دموع أمه لأول مرة، كانت تنام بجواره على السرير كعادتها تكلمه عن أشياء كثيرة وتحكي له القصص، ثم رآها تسكت وتمسح دموعها بمنديلها، ونظر إليها في دهشة وهو يقول: «إيه ده؟ إنت بتعيطي يا ماما؟»
وأفهمته أمه ليلتها وهي تبكي أن رجلا يريد أن يتزوجها، لكنها رفضته لأنها صممت على أن تكرس حياتها لابنها، وأفهمته أيضا أنهما ورثا عن أبيه سبعين فدانا وبيتا؛ ولذا فهي ليست في حاجة إلى الزواج، وأن كل من يتقدم لها لن يكون إلا طامعا في هذه الثروة.
واحتضن سعيد أمه بكل قوته، وأطبق عليها ذراعيه الصغيرتين وقال لها وهو يبكي: «أنا باحبك يا ماما، الناس كلهم وحشين، أنا مش بحب حد غيرك إنت بس.»
وسمع أمه تقول له وهو يغالب النوم: «خليك شاطر يا سعيد وخد بالك من المدرسة عشان ما حدش يسبقك.»
ومن يومها وسعيد يحس بالنفور من الناس والكراهية لهم، خيل إليه أنهم وحوش تريد أن تخطف منه أمه، وتستولي على بيتهما وأرضهما، حتى زملاؤه في المدرسة لم يحبهم، ولم يشاركهم اللعب والمرح، كان يجلس وحده ويضع حقيبة كتبه على ركبتيه، ويراقبهم وهم يمرحون. وأصبح يحب المذاكرة؛ فهي ليست إنسانا حتى يكرهه، وأصبحت هي عمله وهوايته وتسليته حتى وصل إلى الجامعة.
ولم يعرف سعيد كيف تسربت هذه الذكريات إلى نفسه وهو سائر في الشوارع يبحث عن بيت إحسان، وكانت أول مرة في حياته يغير الطريق الوحيد الذي يمشي فيه، الطريق من بيته إلى الجامعة وبالعكس. وأحس أنه تائه غريب وسط عالم واسع ليس له فيه أحد، لكن احتمال عثوره على بيت إحسان شجعه على المسير، وراح يدخل في شارع ويخرج من شارع ويسأل، وأخيرا وصل إلى بيتها، وأخذ يبحث عن جرس ولم يجد، فنقر بأصابعه في وجل على الباب، وخفق قلبه حين سمع صرير الباب وهو ينفتح، وتظهر طفلة صغيرة ووجهها نحيل وملابسها قذرة، رمقته بنظرة خائفة حادة من عينين واسعتين غائرتين وسألته بحدة: «عاوز مين؟»
فقال لها وهو يمسح جبهته وأنفه: «الآنسة إحسان موجودة؟»
وردت عليه الطفلة بسرعة: «أيوه.»
وجرت إلى الداخل وسمعها تقول بصوت رفيع: «أبله إحسان فيه واحد راجل عاوزك.»
ثم رأى «إحسان» نفسها أمامه في فتحة الباب، وكان يظن حتى هذه اللحظة أنه أخطأ العنوان، ورأى في عينيها مسحة غريبة من الحزن لم يرها من قبل في الكلية، كانت تلبس رداء واسعا أصفر، وشعرها ملموم داخل منديل أبيض، وبدت طويلة نحيلة شاحبة، بل أكثر طولا وشحوبا مما كانت في الكلية، وصافحته بيد باردة، ودخل وراءها إلى حجرة صغيرة فيها بعض الكراسي.
وجلس أمامها ينظر إلى أرض الحجرة ثم قال في تلعثم: «حبيت أطمن عليكي، قلت يمكن تكوني عيانة، قلت لازم برضه أسأل، قلت لازم ...»
كان مرتبكا، وكلماته متقطعة متكررة، كان خائفا كأنه أخطأ التصرف، وتهور في الاهتمام بها، ولم يعرف أتلومه أم تعنفه، أم تطلب منه الخروج، لكنه سمعها تقول في هدوء وعلى وجهها ابتسامة ضعيفة: «أشكرك يا سعيد، أنا توقعت برضه إنك ح تسأل عني.»
وأعاد صوتها إليه اطمئنانه، إنه نفس صوتها الممتلئ الحاني الذي يحتويه في الكلية ويحميه ويؤنسه ويشجعه، وقال يحاول أن يستعيد هدوءه: «أنا مش عارف، الحقيقة قلت لازم أشوف إنت غبت ليه، يمكن ...»
وبلع ريقه وسكت ونظر إليها، كانت تجلس بجواره وعيناها شاردتان تفكر في شيء بعيد، وأخذ يتأملها، رأى صدرها يعلو ويهبط، ولمح لها نهدين صغيرين بارزين يظهران ويختفيان تحت الرداء الواسع، وأحس بسخونة تلسع رأسه وصدره، وشعر برغبة في أن يقترب منها أكثر، ويحوطها بذراعيه، ويدفن رأسه في صدرها ويبكي، لكنه لم يتحرك من مكانه، وإنما اغرورقت عيناه بدمعة كبيرة ابتلعها بسرعة، وقال لإحسان وهو يحاول مداراة شعوره: «على فكرة أنا جبت لك محاضرات النهارده عشان تنقليها.»
وقالت في إعياء وعيناها منكسرتان: «أشكرك يا سعيد.» ورأى لأول مرة منذ عرفها أنها ضعيفة، وأنه يستطيع أن يساعدها. وشعر بفرحة جديدة تغزو قلبه كأنه بلغ سن الرشد وأصبح رجلا.
وقضى سعيد يومين آخرين في الكلية بلا إحسان، لكنهما لم يكونا كاليوم الأول، اطمأن عليها وتلاشى معظم ضعفه ويتمه، وقال لنفسه وهو عائد إلى بيته: «أنا رجل قوي مثل كل هؤلاء المتغطرسين.» وعادت إحسان إلى الكلية، واستقبلها بحرارة، وضغط على يدها، وسارا جنبا إلى جنب في فناء الكلية، حتى وصلا إلى مكانهما المعتاد وجلسا: إزيك النهاردة؟ - الحمد لله.
وسكتا طويلا، ثم قال سعيد وهو ينبش بحذائه في الأرض: مين اللي فتحت لي الباب؟ أختك؟ - أيوه.
وسكتت لحظة ثم قالت: «أظن ما كنتش تتصور إني فقيرة كده؟»
قال بسرعة: «أبدا، أبدا عمري ما فكرت في حاجة زي كده.»
وغابت عنه في شرود طويل، ثم قالت كأنها تكلم نفسها: «كان بابا موظف كويس، وبعدين فجأة جاله شلل ونام في السرير.»
ولمعت عيناها بدموع حبيسة ثم قالت: «مسكينة أمي، ليل نهار تعبانة، إحنا ثلاثة، أخويا الكبير وأنا واختي الصغيرة، أخويا في كلية الطب وبيشتغل بعد الضهر في شركة أدوية، وانا كمان باشتغل في شركة بعد الضهر.»
وكان سعيد يجلس ويستمع إلى صوتها وهي تتكلم في دهشة، ولم يستطع خياله الساذج الذي لا يعرف سوى بيته وكليته أن يتصور أن هناك أناسا يتألمون ويشقون من أجل رغيف العيش على هذه الصورة، وأن في الدنيا هموما وأعباء كثيرة. لقد كان يظن أن الاستذكار هو العبء الوحيد الموجود في هذا العالم، فإذا به يجد «إحسان» تحمل أعباء أخرى أخطر من الاستذكار بكثير. وكان يظن أن كل فرد من الناس يسكن فيلا أنيقة، مثل فيلته، ويطل على شارع نظيف مثل شارعه، ويجد في الصباح إفطارا، وفي الظهر غداء، وفي المساء عشاء، وله حجرة نظيفة وفراش مريح، وأم حنون ترعاه، وتعطيه من النقود ما يريد، وله خدم يغسلون ملابسه ويلبون طلباته.
كان يظن أن هذه أشياء عادية تخلق عند كل الناس كما تخلق لهم أذرع وأرجل. وتذكر منظر الحارة القذرة التي تسكن فيها إحسان، وبيتها الصغير المتهدم، وأختها المسكينة ذات النظرات الجائعة الخائفة. والتفت ناحية إحسان، ورآها تجلس شاحبة نحيلة شاردة، وشعر برغبة في أن يمسك يدها ويضغط عليها ويقول لها: «معلش يا إحسان، بلاش تزعلي نفسك، تعالي عيشي معايا، أنا عندي بيت وعندي سبعين فدان، وعندي فلوس كتيرة قوي.»
لكنه لم ينطق بحرف واحد، لم يتحرك لسانه في فمه، كان يريد منها أن تتكلم، أن تشجعه كما كانت تشجعه دائما، لكن إحسان ظلت صامتة. كانت تحس أنها بعد أن كشفت حالتها أمامه أصبحت ضعيفة عاجزة فقيرة، تحتاج إلى شفقته وعطفه. لم تعد إحسان القوية التي تدافع عنه وتساعده وتقويه، وسألت نفسها أتراها أحبته؟ ولم تعرف الجواب، كانت تشفق عليه من انطوائه، وتآمر الطلبة عليه، أرادت أن تساعده وتحميه، تماما كما تفعل مع أبيها المشلول المريض، لكنها الآن عاجزة عن أن تمنحه شيئا، لقد زال عنه انطواؤه وخجله وضعفه، وأصبح مثل باقي الرجال، وخيل إليها أنه بصمته هذا يعبر عن استيائه لفقرها، ربما كان يظن أنها غنية، ربما كان يطمع فيها، ربما، ربما.
ولم تطق إحسان مزيدا من الظنون؛ فوقفت وأمسكت حقيبتها، ونظرت إليه ثم قالت وهي تعطيه يدها: «طيب يا سعيد أنا مروحة البيت.»
وصافحته وانصرفت، ووقف ينظر إلى ظهرها، وشعر برغبة في أن يجري خلفها، ويمسكها من يدها ويقول لها: لا تذهبي، لا تتركيني، إني أحبك، تعالي نعش معا، لكنه تسمر في مكانه كالتمثال وظل يتابعها بنظراته حتى اختفت في الشارع الواسع.
وفي اليوم التالي غيرت إحسان مكانها في المدرج، بعيدا عن سعيد ولم تقل له صباح الخير ، ولم تحاول أن تسلم عليه بعد المحاضرة.
وكثر همس الطلبة: إحسان وسعيد اتخانقوا، زعلوا، يا عيني! شوفوا سعيد رجع غلبان تاني! لكن ليه؟ إيه السبب؟ لعلها لم تحبه، لعله لم يحبها، لعل ...
وكان سعيد يسأل نفسه: إيه السبب؟ ولا يجد لديه الجرأة ليذهب إلى إحسان ويسألها، إنها تتجاهله، لعلها كانت لا تحبه، لعلها أحبت شخصا آخر، لعل ... لعل ...
وتفككت علاقتهما، واتسعت الفرقة بينهما، وتراصت بينهما كالمتاريس كلمة «لعل»، هي تقول «لعل»، وهو يقول «لعل»، وطلبة الكلية يقولون «لعل». ولم يعرف أحد الحقيقة أبدا، حتى بعد أن تخرجوا واشتغلوا، وكبروا، وتزوجوا، وأنجبوا، لم يفهموا الحقيقة. وكلما جاءت سيرة الكلية وأيام زمان وسنين المراهقة والحب الأول، و... و... يبتسمون في سخرية ويقولون لأنفسهم: كانت أوهام، كلام فارغ، طيش.
وينظرون إلى أبنائهم في حذر ومكر ليكتشفوا مقدار ما ورثه أبناؤهم من هذه الأوهام، وهذا الطيش.
شيء جديد
في صباح كل يوم كان يسير في الشارع من بيته إلى مكتبه، وفي أول كل ليلة كان يسير في الشارع من بيته إلى حيث يغيب حتى منتصف الليل.
وكانت له شخصية كل شيء فيها يوحي بالإهمال والفتور؛ مشيته البطيئة، وخطواته الطويلة وهو يحرك ذراعيه وساقيه بلا اكتراث كأن الأرض من صنعه، وجفناه المتدليان على حافتي عينيه في تكاسل من لا يهمه أن يرى شيئا لأنه عرف كل شيء، وبذلته الرمادية البسيطة كأنها بلا خياطة، من تحتها ياقة قميصه مفتوحة بلا ربطة عنق، والسيجارة، أو نصف السيجارة، في فهمه دائما تحترق وحدها ببطء دون أن يدخنها، كأنه نسيها أو أشفق من أن يضغط عليها، فتركها تنهار وحدها بين شفتيه.
كل يوم وكل ليلة يسير في هذا الشارع أربع مرات، نصفها ذهاب ونصفها إياب، ولا شيء فيه يتغير، هو هو، بالأمس كاليوم كأول أمس، سائر كأنه نائم، سارح في ذهابه وإيابه، حتى تظن من فرط إهماله أنه لا ينظر أبدا إلى المرآة، لولا تلك الوسامة الغريبة التي يتميز بها قوامه وملامحه.
حتى كانت ليلة من ليالي الصيف، واللون الرمادي الذي يصحب أول الليل يغلف كل الأشياء بضوء خافت، لا هو نهار ولا هو ليل، ونوافذ البيوت والعمارات مغلقة «بالشيش» وقد لفظت من الحر كل سكانها إلى الشوارع والكباري والكازينوهات. الضجة كلها في الخارج، لكنه كان في بيته، لم يلبس بذلته ويخرج ككل ليلة.
كان بالبيجاما البيضاء الخفيفة، مستلقيا على أريكة بجوار السرير، ولأول مرة يبدو متحمسا رغم أنه لا يمشي ولا يتحرك، وكان حماسه في عينيه، ارتفع لأول مرة الجفنان المتدليان، وظهرت عيناه بنيتين قاتمتين تغرقان في بياض محمر، لهما نظرات متكبرة، فيها لمعة عميقة تروح وتجيء في ثبات وبطء تحت حاجبين كثيفين.
كل شيء فيه تغير، وكل ملامحه تحمست، إلا السيجارة التي احترق نصفها في فمه مهملة كما هي في مكانها، تلوذ متهالكة بطرف شفتيه، كأنه أراد أن يبقيها هكذا من فرط غروره ليتحدى بها ذلك الحادث الجديد الذي سلبه رغما عنه إهماله وفتوره.
ودارت عيناه الحمراوان في اهتمام حول محتويات الشقة، كأنه يتأملها لأول مرة، ولا يعجبه نظامها. وكان لشقته طابع خاص يشبه إلى حد كبير شخصية صاحبها، في نظامها المهمل طبيعته المغرورة، وفي ذوقها البسيط أناقته المتكبرة.
وقام عن الأريكة فجأة، جاءته فكرة نقل تمثال المرأة العارية من مكانه بجوار السرير، ووقف قليلا أمام التمثال يتأمله. كان هو أول شيء يسترعى انتباه أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فتقف أمامه تتأمل النهدين البارزين في صلابة، والخصر الضامر اليابس، وتنظر خلسة إلى نهديها وتتحسس خصرها. ويبتسم هو لنفسه في مكر خبيث؛ لقد تعمد أن يضع هذا التمثال الناعم الرشيق والمبدع في نعومته ورشاقته، ليطفئ غرور أية امرأة تدخل معه حجرة النوم فيستمتع بكل ضعفها وكل أنوثتها دون شوائب، لكنه الليلة تراوده فكرة نقل التمثال من جوار السرير، هذه المرأة الجديدة القادمة الليلة ربما لا تراه في مكانه هذا، يغلب على ظنه أنها لن تدخل معه حجرة النوم. ووضع يده على التمثال يتحسسه ثم بدأ يزحزحه وهو يتلفت حوله لا يعرف أي مكان يختاره له. وابتسم لنفسه في مكر شديد وهو يضعه برفق بجوار المكتبة الزجاجية في الصالة، وجلس على الكرسي الكبير المواجه لها وراح يتأمل منظر التمثال وهو يقف عاريا رشيقا بجوار صفوف الكتب المتراصة وراء الزجاج.
وابتسم، إنها ستجلس حتما على الكرسي، إنه يفهمها ويستطيع أن يخمن تصرفاتها.
ودارت عيناه الحمراوان مرة أخرى حول محتويات الشقة، وامتقع وجهه قليلا. إن الشقة تبدو منظمة ونظيفة أكثر من اللازم، ويظهر عليها واضحا الانتظار والاهتمام الساذج. وقام بسرعة على غير عادته وفتح أحد الأدراج وألقى منه بعض المجلات على الأرض، ودخل المطبخ وأحضر فنجان القهوة التي شربها في الصباح ووضعه دون أن يغسله على المنضدة في وسط الصالة، وفتح صفيحة القمامة، وجمع منها بعض أعقاب السجائر، ثم ملأ بها المطفأة ووضعها على يد الكرسي الخشبية.
وعاد وجلس على الكرسي الكبير يتأمل المنظر، وابتسم في مكر، إنه يفهم المرأة الجديدة، إنها تختلف عن كل النساء اللائي عرفهن. لقد أثارها منه شيء واحد فقط هو إهماله، مشيته المستهترة، ونظرته المتكبرة في إطراقها معرضة عن كل شيء، ونص السيجارة التي ينساها بين شفتيه كأنه تائه عن نفسه، أو ضائع عن وجوده.
لم تثرها جاذبيته التي فتن بها كل امرأة من قبل، وكانت جاذبيته كالصواريخ يطلقها على النساء الآمنات من بعيد، وهو مستلق على ظهره يتثاءب ويتمطى وفي يده ورقة وقلم. كان كاتبا وأديبا مشهورا، يكتب بطريقة ماكرة يثير بها النساء وكأنه لا يثيرهن، ويختار كلماته ومعانيه بذكاء غير مألوف، فتأتي كتاباته خليطا مقنعا من المثالية والإباحية، والطيش والعقل، والقوة والضعف. يكتب فيودع كلماته كل رجولته بتناقضها، ويترك سطوره على الورق لها وهج وفيها لهيب يقنعان الناس بأن الأبيض يمكن أن يكون أسود، والأرض يمكن أن تكون فوق، والسماء تحت، ولا شيء في ذلك يبدو غير طبيعي. كانت هذه هي جاذبيته، التي عرفها وصقلها.
وأصبحت لياليه محجوزة، ككراسي سينما مترو في أول عرض، في كل ليلة يعتصر بذراعيه العريضتين جسد امرأة، وشفتاها بين شفتيه ترددان عن ظهر قلب كتاباته، وفي بعض لياليه كان يحس أنه إله فعلا، وأحيانا يتواضع فيكتفي بأن يكون ملكا للأرض ويترك للسماء إلهها، لكنه الليلة لا يحس أنه إله أو حتى ملك، هذه المرأة الجديدة لها عينان سوداوان واسعتان كعدستي المنظار المكبر، تستقر نظراتهما اللامعة الكاشفة في جوفه كأنها سكين حاد يشطر داخله كالبطيخة شطرين، فيحس أنه ينزل عن عرشه، ويقف بجوار الناس الذين يسميهم عاديين.
وحينما دقق إليها النظر لأول مرة، من حيث لا تراه، رآها تجلس بشعرها الأسود الناعم يميل إلى الوراء قليلا، تضع ساقا على ساق وتنقر بأناملها المسحوبة على حافة الكرسي.
ولم يدر لماذا بدت كل الوجوه حولها باهتة كأنها مرسومة بالقلم الرصاص أو ممسوحة بالأستيكة وملامحها هي مرسومة بالحبر! كانت تمتد عند أنفها العالي الدقيق وتستدير عند شفتيها الممتلئتين، وكانت في جلستها تبدو ذات قوام ممشوق، كتفاها العاريتان من الأمام والخلف، وصدرها المحبوس داخل فستان السهرة الضيق، وخصرها النحيل، وساقاها الممتلئتان تحت ذيل الفستان الخفيف، وكل ما في جسمها يميل إلى استدارة جذابة مثيرة، وعيناها السوداوان اللامعتان بنظراتهما القوية المتوهجة التي تعيد أجرأ المفتونين إلى رشده.
ورآها بعد ذلك كثيرا، وحينما سمعها تتكلم لأول مرة بهت. كان صوتها يجمع بين الضدين العنيفين في شخصيتها، منتهى الرقة والضعف، ومنتهى المنطق والعقل. وهو لا يحب المرأة التي تتكلم، ويكون كلامها معقولا، إنه يريدها بلا منطق، بلا عقل، المرأة في رأيه لم تخلق لها شفتان لتقول شيئا سليما، وإنما لتهذي، لتهرف، لتفتح فمها وتقول أي شيء، أو لا تقول شيئا، وعليه هو أن يقفل فمها بشفتيه.
ورغم ذلك كان يحب أن يسمعها وهي تتكلم، ويتحرق شوقا إلى شيء فيها لا يدريه، لكن منطقها العنيد كان يقف دائما بينه وبينها.
لهذا كان حضورها إليه الليلة مثيرا، مع أنه تعود ألا يثيره شيء، وملامحه المتكبرة الزاهدة في كل شيء مشتاقة ومتلهفة إليها، وعيناه الحمراوان تدوران على محتويات نفسه من الداخل والخارج في قلق تشوبه لذة جديدة منعشة.
وأخيرا دق جرس الباب ودخلت هي، كانت تلبس ثوبا رماديا بسيطا ، وتضع على رقبتها «إيشارب» خفيفا أحمر يلهب لونها الأسمر المحروق وخديها البارزين. وخطت إلى داخل الصالة، في رشاقة طبيعية، وجلست على الكرسي الكبير المجاور لمكتبه في بساطة كأنها تجلس على مقعد في الأتوبيس.
وكانت عيناها تبتسمان في كبرياء عنيد، وفي نظراتها رغم ذلك سحر غريب جامع للسذاجة والذكاء معا، وابتسم في حذر، وهو يثبت عينيه في عينيها ويقول لها بصوت جعله متزنا: «أهلا وسهلا.»
وابتسمت ابتسامة جريئة، وقالت وهي تنظر إلى جبهته العريضة: «أهلا بك.»
ولم يقل شيئا بعد ذلك، أحس من لهجتها الجادة ونظرتها الجريئة أنها مسلحة أكثر من اللازم.
وسمعها بعد دقائق تقول: «فين الحاجات اللي عندك وعاوز تفرجني عليها؟»
وخيل إليه أنه ارتبك أوتلعثم، لكنه أجاب بسرعة: «حاضر، حالا أجيبها.»
وقام واختفى في حجرة النوم، وفتح الدولاب ونظر إلى وجهه في المرآة، لقد كذب عليها، وأوهمها أن لديه أشياء فنية تستحق أن تراها، وكان يريد أن يحضرها إلى بيته فحسب، كان يظن أنها بمجرد أن تضمها الشقة معه وحده ستنسى هذه الأشياء ولا تسأله عنها.
وتذكر جاذبيته التي تعشقها النساء فأغلق الدولاب، وأخذ من أحد الأدراج مجلة صغيرة، ثم عاد إليها وقال وهو يناولها المجلة: «قرأت العدد ده؟»
ونظرت إلى غلاف المجلة ثم قالت: «أيوه.»
وسألها: «وإيه رأيك في المقال بتاعي؟»
وقالت في بساطة: «كله كدب.»
وخيل إليه أنه أهين، لكنه سألها في اهتمام: «كدب ازاي؟»
وابتسمت في ذكاء وهي تقول: «معرفش ازاي؟ لكن على العموم كتاباتك مش إنت، أو إنت مش كتاباتك.»
وأحس من هذه الكلمات القليلة أنها نفذت إلى شيء في أعماقه، إلى النبع العميق في نفسه الذي يغمس فيه قلمه ويكتب عكس ما يحس، لكنه قال في حماس من يدافع عن تهمة حقيقية: «بالعكس، أنا عمري ما اكتب غير ما احس.»
وابتسمت في عدم مبالاة وكأنها تنهي المناقشة: «جايز.»
وأحس بالغيظ منها، أو على الأصح من نفسه، ما هذه المناقشة السخيفة التي تدور بينه وبينها، وهي الآن في بيته بلحمها ودمها؟ كيف يضيع الوقت في كلام كأنه في الأتوبيس!
وصمت قليلا وتغيرت ملامحه وارتسمت عليها ابتسامة عريضة، وقام وهو يتجه إليها قائلا: تعالي افرجك على شقتي.
وقامت معه، ودار بها في أنحاء الشقة، وعند مدخل حجرة النوم توقف قليلا وهو ينظر في عينيها: «ودي أودة نومي.»
ودخلت أمامه بجرأة بلا ارتباك، ونظرت بعينين ثابتتين إلى السرير والدولاب والشماعة، ثم تعلقت عيناها بالحائط، كانت صورته داخل إطار أنيق، وأطالت النظر في الصورة، وكان هو يقف وراءها يرى شعرها الأسود الناعم من الخلف، ويرى ظهرها وخصرها، وتملكته رغبة جارفة في أن يلف ذراعيه حول ذلك الخصر النحيل، لكن إحساسا غريبا جعله يدلي ذراعيه إلى جانبيه في تأدب وتعفف، وسمعها تقول: «الصورة حلوة بس ناقصة حاجة.»
وسألها بلهجة متأدبة: «ناقصة إيه؟»
قالت: «النظرة الطبيعية بتاعتك.»
ولم يدر لماذا تغير شكل عينيها وهي تنظر إليه، واختفت منها النظرة القوية المتحدية، وأحس كأنما شحن جسمه فجأة بسخونة لاسعة، وسمع دقات قلبه، وأنفاسه تتلاحق، ورأى ذراعيه غير الواعيتين تتحركان ناحية خصرها وجذبها إليه، ومال بشفتيه عليها وهو يضغط على كلمات خافتة غير مسموعة، ولم تصل شفتيه إلى شيء، وأفلتت منه وخرجت إلى الصالة.
وخرج وراءها، وجلسا متقابلين كل منهما مطرق كأنه يفكر، وأخيرا رفعت إليه نظرة جادة وقالت بلهجتها القوية: «أنا كنت عارفة إنت عاوزني آجي ليه!»
وتظاهر بالدهشة: «ليه؟»
وتأججت عيناها ببريق جديد وقالت: «أنا كنت متأكدة إنك بتكدب علي، وانت بتقول عندي حاجات لازم أفرجها لك، لكن جيت عشان أفهمك.» - يا ترى «فهمتيني»؟
وأجابت بسرعة: «طبعا.»
وسألها: «فهمتي إيه؟»
وقامت واقفة كأنها تهم بالخروج وقالت: «لا ده موضوع طويل وأنا اتأخرت، بعدين نتكلم فيه.»
ولم يستطع أن يصبر عليها بعد ذلك، إنها تستخف به أكثر من اللازم، كأنه حشرة أو حيوان صغير تجري عليه تجربة ما، وأحس بالغيظ؛ لأول مرة في حياته تستخف به امرأة، ولأول مرة يفقد ثقته بنفسه، وحينما رآها تقف لتخرج كان لا بد أن يقف هو الآخر، لكنه كان يعرف أنه لن يدعها تخرج بهذه السهولة بعد أن أصابت كبرياءه فقال لها: وأنا كمان كنت عاوز أفهمك.
وابتسمت في سخرية: «وعشان كده جبتني هنا!»
ونظر في عينيها بمثل نظرتها الجريئة الساخرة: «فعلا.»
وسألته: «ويا ترى فهمتني؟»
ورد بسرعة: «طبعا.»
وهزت كتفيها في عدم اكتراث، وقالت وهي تنظر إلى الباب ليفتحه لها: «الحمد لله.»
ووضع يده على مقبض الباب ليفتحه، لكن إحساسا في أعماقه جعله يستدير إليها، إحساسا بأن زيارتها لم تنته بعد، وأن شيئا ضخما لا يزال ناقصا بينه وبينها، ورآها وهي تربط «إيشاربها» الخفيف حول عنقها، ولم يعرف كيف اقترب منها، وكيف التفت ذراعاه العريضتان حول خصرها، وكيف انتزع شفتيها من تحت يديها وأهوى عليها بشفتيه، لم يعرف كيف فعل ذلك، لكن حدث هذا في لحظة خاطفة، كان يحس أنه لا بد أن ينتصر عليها بأي شكل ولو بالقوة.
وبعد أن أغلق خلفها الباب ألقى بنفسه على الأريكة وأخذ يتحسس بيديه شعره وجبهته، وخيل إليه أنه يحاول أن يمسك بأصابعه شيئا في رأسه أو في عقله أو في إحساسه؛ إنها أول مرة في حياته يغتصب قبلة من امرأة.
لقد تصرف الليلة بطيش غريب عنه، بعيد كل البعد عن شخصيته المتكبرة المهملة لكل شيء، لكنه يحس أنه يقترب من نفسه، من حقيقته، من النبع العميق الذي يغمس فيه قلمه ويكتب عكس ما يحس.
وقام بسرعة إلى مكتبه، وأمسك بالورقة والقلم، وأخذ يرسم بعض الخطوط والمثلثات كعادته عند بداية الكتابة.
ثم كتب، كتب شيئا جديدا.
نسيان
«مستحيل، مستحيل!»
خرجت هذه الكلمة من فمي، وخرجت معها أنفاسي لاهثة متقطعة.
كنت أجلس ورأسي على كفي، وعيناي مليئتان بالدموع.
حزينة، تعسة، لا أرى شيئا أمامي سوى ظلام يتراكم كأنما فقدت بصري.
فقدت كل الأشياء ألوانها، واصطبغت بلون واحد، السواد!
وأحسست أني أختنق.
هل نفد الهواء من حولي؟ هل انطبقت أضلاعي بعضها على بعض؟ مستحيل، إني لا أطيق، لا أحتمل.
وقمت من مكاني ونظرت إلى النافذة، كانت الشمس تهبط منكسرة وراء الأهرام الثلاثة، والسحب الرمادية تغشى الفضاء، والنخل الطويل الهزيل يمتد متهالكا بين الأشجار، لا نسمة تهب، ولا شيء يتحرك، الطبيعة كلها ساكتة كأنها ميتة.
وأغلقت النافذة، وألقيت بجسدي المتداعي على السرير دون أن أغير ملابسي أو حتى أخلع حذائي.
وتقلبت على جنبي في ضعف يائس.
أود لو أخلص نفسي من تلك الستارة الحديدية التي تحول بيني وبين الهواء.
ونظرت إلى السقف بعينين ذابلتين، ولمحت الدائرة الصفراء الصغيرة وسط السقف يتدلى منها سلك النور. وتعلقت عيناي بالدائرة التي أخذت تتسع شيئا فشيئا، وظهرت داخلها عينان واسعتان سوداوان وأنف مستقيم وشفتان رقيقتان.
واقترب الوجه قليلا، قليلا، وانتفضت واقفة أخفي وجهي بكلتا يدي، وندت مني صرخة مكتومة.
آه، مستحيل، لا أحتمل!
أريد أن أنساه، أريد أن أنسى وجهه، لماذا يطاردني؟ لماذا لا يفارقني؟
إني أحبه، نعم أحبه!
كنت أسمع صوته في التليفون كل يوم: هدى حبيبتي، أنت لي، أنت حياتي، أنت سعادتي، أنا أحبك، أحبك.
وذهبت إليه خائفة مترددة.
لماذا كنت خائفة؟ لا أدري، لعلي كنت أفكر في مدى ما يحدث بيننا إذا خلا كل منا بالآخر.
لكني كنت مشتاقة إليه، أردت أن أجرب ولو مرة واحدة وجودي معه على انفراد، كنت أتخيل ذلك كثيرا، وأرى نفسي بين يديه وفي أحضانه، وأحس بشفتيه وهما تضغطان على شفتي، وأحس بصدري وهو يلامس صدره، وأسمع همه الهادئ «أحبك، أحبك» فأغيب في سعادة غامرة حتى أفيق أخيرا على واقعي، فأشعر بالضيق وأحاول أن أعود مرة أخرى إلى أحلامي، فأعود ثم أفيق، حتى مللت هذه الأحلام التي لم تعد تعطيني أكثر مما أعطتني من سعادة.
وتعودت هذه السعادة حتى فقدت لذتها، وأحسست أني أشتاق إليه، إليه هو، بلحمه ودمه، فذهبت إليه، قدماي تتعثران، وقلبي يصعد ويهبط.
كنت أريد أن يمنحني الواقع سعادة جديدة، أو لعلي كنت أريد أن أعرف مكان الخيال من الحقيقة، أو مكان الحقيقة من الخيال.
ووصلت إليه وأنا ألهث وأرتعد، فأخذني بين ذراعيه، وظللت في أحضانه، وبعد مدة لا أدري مداها، أرخى ذراعيه من حولي وتباعدنا قليلا.
وخرجت من عنده وفي نفسي أحزان غريبة غامضة لا أدري ما هي، هل كانت الحقيقة أقل من الخيال؟ أم هو إحساس بضعفي وقد استرددت قوتي الضائعة؟ أم هو فتوره وهو يودعني، وقد غاب الوجد القديم الذي فتنني؟
وسرت أتخبط في ظلام وقد سيطر على نفسي شعور واحد، إنني لن أعود إليه.
وفي اليوم التالي استيقظت من نومي وأنا أحس بانتعاش، وعاد إلي حماسي القديم للسعادة، ولكني تذكرت الأمس، لا، لن أعود إليه، وقلت لنفسي: حينما يكلمني في التليفون سأرد عليه في فتور.
وشعرت براحة لهذه الأفكار، تلك الراحة التي تعقب الأخذ بالثأر.
وجاء ميعاده، ولم يدق جرس التليفون، وأحسست ببوادر قلق تحوم في خجل حول نفسي.
لماذا قلقت؟ ألم أقل إني لن أعود إليه؟ ولكن ماذا لو تكلم؟ حسبي أن أرد عليه في فتور!
وأحسست بالقلق فعلا، فأخذت أقوم وأجلس، وأتمشى وأذهب إلى التليفون، وألقي عليه نظرة فاحصة، ثم أعود فأنظر من النافذة.
وأحسست بثورة عليه تملأ نفسي، ثورة غريبة لا تعرف حدودا.
وذهبت إلى التليفون مرة أخرى، وأحسست أن هذه الثورة تستحيل شعورا غامضا يشبه التمني.
كنت أتمنى أن تبعث الحياة في هذه الكتلة السوداء، فيخرج منها صوت، لكنها ظلت جامدة ميتة!
وكانت لحظات قاتلة رحت أضيعها في جولات مضطربة في أنحاء البيت.
ورأيت أمي تصنع كعكة بالبيض، وحاولت أن أملأ فراغي بشيء، فأخذت مضرب البيض ورحت أضرب الخليط بشدة، ووضعت يدي في الدقيق وأخذت أخض وأحرك ذراعي بقوة وعنف، كأني أود أن أستنفد كل قوتي، قوتي التي أفكر بها فيه.
وأخذت أغني وأنا أعمل، أغني بصوت عال جدا، كأني أحيي حفلة كبيرة مليئة بالناس، وأحرك رأسي وذراعي في الهواء، وأرقص وأهتز إلى اليمين وإلى الشمال على نغمات الأغنية المرحة الصاخبة.
وعانقت أمي وقبلتها وأنا أقول لها: «يا سلام عليكي يا ماما، الكعكة حاتطلع جنان!»
كنت أصيح من أعماق نفسي، وأحرك الجو حولي في اهتزازات عنيفة.
لكن في اللحظة التي كنت أسكت فيها قليلا لأستريح، كانت صورته تتجسم أمامي وصوته يهمس في أذني، فأسد أذني وأشيح بوجهي وأنغمس في لهوي وصخبي.
وأحسست أن البيت ضيق لا يتسع لحركاتي وانطلاقاتي، ولم أستطع الخروج وحدي.
كنت أريد أن أجمع أكبر عدد من الناس حولي لنتكلم في صوت واحد، ونضحك بفم واحد، ثم يعلو صوتي وضحكي عليهم جميعا.
وخرجت معي جماعة كبيرة من إخوتي وأصدقائي، وذهبنا إلى الهرم.
وهناك، في الفضاء الواسع، وعلى الرمال الدافئة، خلعت حذائي وطوحت به في ذلك الفضاء الهائل الذي يفصل بين الأرض والسماء، ونسيت نفسي.
أحسست أن جسمي لم يعد لحما، وإنما أصبح مادة غريبة مثل الريش وأني أستطيع أن أبقى معلقة في الهواء دون أن تمس قدمي الرمال!
وانعدمت فجأة كل الصلات التي تربطني بالبشر، ونظرت حولي، وأخذت ألف وأدور حول نفسي، وتنبهت إلى صوت يرتطم في جدار الهرم الأكبر، وتفقدته، فعرفت فيه صوتي.
كنت أضحك وأقهقه، فأحس أن الهواء الذي يملأ هذا الفضاء العريض يدخل كله إلى صدري.
وأحسست أني أخف وأعلو، حتى أصبح رأسي في مستوى لا يبعد كثيرا عن قمة الهرم، ونظرت تحت قدمي، فرأيت القاهرة نائمة متكورة مثل بقعة من السواد!
القاهرة، المدينة الباهرة الصاخبة، ترقد على الأرض وفوقها ملاءة سوداء رقيقة، كشحاذ معدم يبيت على الرصيف! مسكينة ضعيفة، فاقدة الوعي.
وأحسست بقوى غريبة تجتاح نفسي.
كل شيء في هذه المدينة تافه، صغير، حقير، إنه لا يزيد على أن يكون جزءا من هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق، كل شيء فيها تافه، صغير، حتى عمري الذي قضيته في جوفها، ماضي وحاضري، ومستقبلي، وكل شيء، كل شيء لا يزيد عن ذرة في هذه الكتلة السوداء، حتى هو: هو الذي كان يمنحني السعادة والشقاء، هو الذي أعيش على فرحة لقائه، وأحيا بخفقات أنفاسه.
هو الذي كنت أضيع يومي وأمسي وغدي وأنا أفكر فيه، هو، من يكون؟ لا شيء سوى ذرة في هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق.
واحد من هذه الأجسام المسترخية في غيبوبة تشبه الموت، في مربع صغير من هذه المربعات التي يتساند بعضها على بعض ! إنه نائم الآن لا يحس بشيء، ذراعاه متراخيتان إلى جوار جسده، ذراعاه اللتان التفتا حولي ذات يوم، وأفاضتا علي اللذة والسعادة.
كم كانت لذتي صغيرة، وسعادتي ضئيلة، تنبع من ذراعين عاجزتين!
وعدت إلى بيتي وصدري مليء بالهواء، ورأسي ممتلئ بالأفكار، ولمحت التليفون قابعا في ركنه كحشرة سوداء صغيرة، فرشقت بطنه المنقطة بنظرة احتقار بالغة، وذهبت إلى فراشي، وأغمضت عيني ثم فتحتهما، ورشقت الحشرة السوداء بسهم آخر مسموم، ثم أغمضت عيني وفتحتهما.
كانت الحشرة لا تزال أمامي.
وجمعت قواي وأنفاسي وقذفتها بسهم آخر، وأغمضت عيني ونمت، وقد نسيت كل شيء.
وأشرق الصبح، وكان كل شيء حولي متألقا، الأثاث، والسقف، والجدار، ونفسي.
ما كان أشبهني بآنية من الفضة، نظيفة مجلوة، ليست فيها بقعة واحدة من الصدأ!
وكنت أشعر بصوتي طلقا مثل رنين الفضة.
واسترخيت في فراشي، وقد غمرتني السعادة، سعادة الخلاص من ذلك الكابوس الذي اسمه الحب.
لم يعد لأحد سلطان على قلبي، لقد تحررت.
ما أجمل القلب الخالي، وما أمتع الحياة حرة طليقة خالية من القيود والأغلال.
يا إلهي! ما أحلى الحرية.
وأغمضت عيني في راحة.
ودق جرس التليفون، فانتفضت، وشملتني رجفة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، وامتدت يدي بلا وعي لتلتقط المسماع، وجاءني صوته يقول لي: يا حبيبتي!
وسمعت لساني يجيب في غيبوبة: يا حبيبي، يا حياتي!
وسمعت صدري يلهث، وصوتي يفتر ويتهدج، وتدركه بحة!
وتقلبت في فراشي في ذعر، وأنا أتشبث بالغطاء، كأنما أخشى على شيء غال في نفسي، شيء عزيز أخشى عليه الهوان.
آه، يا لضعفي!
هذه المرة
خرجت نفيسة من المستشفى تحمل حقيبة ملابس صغيرة في يدها، وعلى وجهها وعينيها علامات إجهاد وإرهاق، وسارت محنية إلى الأمام بعض الشيء، مطرقة رأسها تفكر في أشياء كثيرة حتى وقفت قدماها أمام محطة الأتوبيس.
ووضعت الحقيبة على الأرض بين ساقيها، وشبكت ذراعيها حول صدرها، ووقفت تنظر إلى شارع الهرم العريض، وترقب بنظرات فاترة سيل العربات وهي تنحدر بسرعة آخذة في الهبوط مع الطريق الأملس الذي يهبط تدريجا إلى نفق قطار الصعيد.
وكان قرص الشمس يميل على مهل بعيدا جدا عند رأس شارع الهرم ويصبغ باللون الأحمر كل الأشياء، السماء والأرض والبيوت وأعمدة النور، ومقدمات العربات الصاعدة نحو الهرم، ومؤخرات العربات الهابطة إلى النفق، كل شيء كان أحمر بلون الخدود!
وسقطت الأشعة الحمراء على وجه نفيسة وهي تقف وقفتها الحائرة: فزادت عيناها السوداوان حزنا وعمقا، وبدت شفتاها المطبقتان كأنهما قد انطوتا على جرح ينزف دما أحمر خفيفا.
وفكت ذارعيها بسرعة من حول صدرها لتطرد «بعوضة» لدغت ساقها فلمست يدها الجورب الجديد الذي تلبسه، ومالت برأسها إلى الأمام قليلا لتنظر كيف يبدو الجورب على ساقيها، فوجدت أن لونه لا يناسب بشرتها السمراء، ولكن ماذا تفعل؟ إن الدكتور رشيد هو الذي اختاره لها!
وصعد الدم إلى وجهها بمجرد أن تذكرت هذا الاسم، وأحست بانقباض شديد، وتمنت لو فقدت ذاكرتها، أو فقدت خيالها، حتى تنسى هذا الاسم.
الدكتور رشيد، الذي كانت له معها قصة حب لم تدم سوى ثلاثة أشهر، ابتدأت بنظرات طويلة منه إليها، فحديث طويل في حجرة العمليات، فحديث قصير في كشك الغيار، ثم نزهة طويلة في عربته الصغيرة في شارع الكورنيش، آه، ثم ...
وصعد الدم مرة أخرى إلى وجهها، لكنه ما لبث أن هرب وترك عليه صفرة بائسة حزينة.
إنها لا تعرف ما الذي دفعها إلى كل ما حدث، كانت تسمع أحاديث زميلاتها الممرضات فيقشعر بدنها، وخصوصا حينما تحكي فاطمة عن علاقتها بالدكتور فتحي، وكيف أنه يحبها ويطلبها كل ليلة في المستشفى ويظل يحدثها مدة طويلة. وكان التمورجي، في وقت معين من كل ليلة، يطرق باب بيت الممرضات ويقول بصوت عال لا يخلو من الضجر والضيق: الست فاطمة، تليفون.
وتقفز فاطمة من على سريرها وهي تطرقع باللبان كعادتها، وتضع على قميص النوم الرخيص مريلتها البيضاء، وتسمع نفيسة صوت حذائها المفكوك وهو يطرقع على درجات السلم في سرعة هوجاء، وبعد ساعة أو أكثر يعود صوت الحذاء المفكوك وهو يرتقي السلم في تثاقل وبطء شديدين، ثم تدخل فاطمة بخدين محمرين وعينين براقتين ، وتلقي جسمها على السرير وهي تتأوه في حنين وميوعة: «يا ختي عليه الدكتور فتحي، تصوري يا نفيسة بيقولي عنده مفاجأة لي بكرة!»
وتستلقي فاطمة على ظهرها وتبدأ تحكي في تراخ وصوت ناعس ما يفعله معها الدكتور فتحي حينما يركن العربة على جانب شارع النيل، ويقترب منها، ثم ...
وتحس نفيسة، وهي تسمع، بقشعريرة عنيفة تسري سريعا في بدنها، وتحس معها إحساسا جديدا بلذة جديدة، وتبيت تحلم أحلاما غريبة منها أنها ترى شبحين في الظلام يتعانقان وتتبين في ملامحهما وجهي الدكتور فتحي وفاطمة، وأحيانا ترى نفسها مع رجل غريب لا تعرف ملامحه.
وكان يدور برأسها سؤال واحد كلما جلست إليها فاطمة، وراحت تحدثها عن حب الدكتور لها، ولكنها كانت تخجل من أن توجه إليها هذا السؤال، حتى انتهزت فرصة استخف فيها الفرح فاطمة، فأخذت تقفز حافية على قدميها ويديها، وقد كادت تطير من السعادة: «شوفي يا نفيسة الدكتور فتحي جاب لي إيه؟»
وتناولت نفيسة هدية الدكتور فتحي، كانت حقيبة لا يقل ثمنها عن جنيهين، ونفيسة لا تحمل حقيبة يد، وتكتفي بكيس النقود النايلون، وأحست نفيسة بالغيظ، إنها لا تحقد على فاطمة ولا يهمها أن تحمل حقيبة يد؛ لأن كيس النقود يكفيها، ولكنها لا تملك الجرأة لتسأل فاطمة السؤال الذي يلح عليها دائما. وأعادت الحقيبة إلى فاطمة وهي تمتدح ذوق الدكتور فتحي، ثم سألتها فجأة: «هو الدكتور فتحي بيحبك يا فاطمة؟»
وأدارت فاطمة رأسها بسرعة إليها ونظرت في عينيها نظرة غريبة بلهاء، ثم أطلقت ضحكة ساخرة متصلة: «أمال بيحبك انتي يا اختي؟!»
واحمر وجه نفيسة من الغيظ وسألتها دون خجل: «طيب ليه مش بيجوزك؟»
وتأودت فاطمة ولوت خصرها ورفعت حاجبها الأيمن، وخرج من فمها صوت يشبه الشهقة، وقالت وهي تتثنى: ليه مش بيجوزني يا روحي! دا انت لسه خام قوي، خام قوي!
وراحت تتثنى في طول الحجرة وعرضها وهي تردد بصوت مخمور قبيح: خام، خام قوي! خام قوي!
وبعد هذه الليلة بدأت نفيسة تفهم من فاطمة أشياء لم تكن تعرفها من قبل، فهمت أن الحب شيء والزواج شيء آخر، وأنها ما دامت تسكن في حارة «شق التعبان» وأبوها المعلم حنفي المنجد، وأمها أم إبراهيم بنت الفران، فلن يتزوجها سوى ابن عمها علي الجزماتي، أو جارهم متولي المكوجي الذي يغازلها من الشباك، ولكنها تستطيع أن تحب الدكتور رشيد طبيب القسم الذي تعمل فيه، وتستطيع أن تركب عربته، وترى الدنيا، وتحس لمسات يديه النظيفتين، وتكسب هداياه الثمينة، من حين إلى حين، كما تفعل فاطمة مع الدكتور فتحي.
ودخلت رأس نفيسة الصغير مفاهيم كثيرة لم تكن تعرفها، واتسعت مساحة الأرض في عينيها، وتعدت حارة شق التعبان وعنابر المستشفى.
وروضت أفكارها، وأصبحت المبادئ والفضيلة في تفكيرها الجديد شيئا مطاطا يمتد مسافات بعيدة.
وذات يوم، لاحظت نفيسة أن الدكتور رشيد يصوب لها نظراته الطويلة، فسألت نفسها هل كان ينظر إليها هكذا من قبل حين كانت لا تزال «خام قوي» كما قالت فاطمة، أم أنها بدأت تطبق مفاهيمها الجديدة بطريقة عملية!
وانتبهت نفيسة فجأة إلى نفسها، وتذكرت أنها تقف على محطة الأتوبيس، فضمت ساقيها قليلا لتتأكد من أن حقيبة الملابس لا تزال موجودة، وكانت الظلمة قد أوغلت، فرفعت نفيسة ذراعها اليسرى إلى عينيها لترى الوقت في ساعتها الرجالي الكبيرة، وكانت هذه الساعة أيضا هدية من الدكتور رشيد، وإنها لتذكر كلماته حين قدمها لها: «أنا جايبها كبيرة مخصوص علشان تشوفي بيها سرعة نبض القلوب!» ثم نظر إليها نظرته المتلهفة دائما.
واسترجعت نفيسة في ذاكرتها هذه الكلمات وهي تنظر إلى رأس الشارع كأنما تتلهف على قدوم الأتوبيس، وهي في الحقيقة لا تتعجل الأتوبيس، ولا تشعر برغبة في العودة إلى حارة شق التعبان لتقضي فيها إجازة الخميس والجمعة، ولا تريد أن تدخل بيتها المظلم وتصعد السلالم المتهدمة، وتقابل وجه أمها بعظامه البارزة وفمها المدبب كفم الفأر، وتشم الرائحة الكريهة المنبعثة من حجرة «الكرار» ممتزجة برائحة الطبيخ البايت وهو يغلي على وابور الجاز. إنها تحس بغليان في دمها كلما دخلت هذا البيت، وخصوصا حجرة نومها المظلمة الرطبة، والسرير القذر والسقف «بعيدانه» الخشبية المتوارية التي عشش عليها العنكبوت، ثم اصطادت خيوطه الماهرة البعوض، والفراش، والصراصير، وحشرات أخرى لا تعرف أسماءها! فرق كبير بين حجرة نومها هذه وحجرة الدكتور رشيد، سرير نظيف وسقف أملس ناعم ليس فيه عنكبوت وهواء طلق ليس فيه أثر لرائحة الطبيخ.
وأحست أنها تشمئز من بيتها وبيئتها، وأنها تفضل البقاء في الشارع على أن تعود إليهما. ورفعت عينين فاترتين فيهما دموع كثيرة، وراحت تحملق في العربات المارة أمامها كالسهام، كل عربة فيها رجل وامرأة يضحكان في سعادة، لقد مرت هي مرة، بل مرات، مع الدكتور رشيد في عربته، وكانت تضحك في سعادة، لكنها الليلة حزينة باكية. لقد أحبها الدكتور رشيد ثلاثة أشهر فحسب، مارس وأبريل ومايو، ثم بدأ يتهرب منها، بعد أن منحته كل شيء لديها، وكانت تحس أنها لا تعطيه شيئا، كانت تحس أنها ضئيلة فقيرة بالنسبة له، فكانت تبذل أحسن ما عندها في خزي، ونسيت نفسها في حرارة الحب، ونسيت أباها المعلم حنفي المنجد وأمها و... و... ونسيت كل المفاهيم التي تلقتها من زميلتها فاطمة، وانطلقت منها دون وعي طبيعتها الطيبة الساذجة شديدة الصدق والإخلاص.
أحبت نفيسة الدكتور رشيد، أحبته بقوة، وتغلغل حبه في أعماقها، واحتل أمكنة كثيرة من نفسها وحياتها حتى أحست أنه كل شيء في دنياها، وأنه لو غاب عنها لما ترددت في الانتحار دون تفكير، وصدقت في غمرة نسيان نفسها كل ما كان يقوله لها من كلمات الحب والهيام.
وتساقطت حبات العرق من جبهتها على أنفها وخديها وذقنها، وتساقطت معها دموع من عينيها وانحدرت إلى رقبتها، فأخرجت من جيب فستانها منديلا وجففت أنفها، إنها لا تعرف لماذا تركها الدكتور رشيد دون أن يبدي لها أعذارا مفهومة، وإنما ألقى بها فجأة بعيدا عنه كما تلفظ مصاصة القصب بعد مصها في عرض الطريق.
وانتبهت وهي تدخل منديلها في جيبها إلى صوت بالقرب منها، فرفعت رأسها لترى سيارة طويلة تقف أمامها، وبداخلها رجل يشير لها بيده أن تدخل، ونظرت إليه بقوة وجرأة تتأمله ثم رشقته بنظرة احتقار بالغة، أودعتها كل ما كانت تشعر به في تلك اللحظة من احتقار لنفسها وللدكتور رشيد ولأمها ولأبيها وكل سكان هذه الأرض. ونظرت بين ساقيها لتطمئن على الحقيبة ثم رفعت عينيها فلم تجد العربة، ورأت سيلا من العربات ينثال في سكون الليل كرذاذ المطر، وفي كل عربة رجل وامرأة يضحكان في سعادة.
ولم يأت الأتوبيس الذي سيحملها كالذبيحة إلى حارة شق التعبان، ومدخل البيت المظلم، والسلالم المتهدمة، ورائحة حجرة الكرار والطبيخ البايت، والسقف والعنكبوت والصراصير، وابن عمها الجزماتي والأسطى متولي المكوجي، وأحست أن قلبها يخفق ويديها ترتعشان، لا يمكن أن تعيش في هذه البيئة يوما واحدا، لا تستطيع أن تنظر إلى أصابع ابن عمها الغليظة المشققة بعد أن أحسست لمسات الدكتور رشيد الرقيقة الحنون، ولن تطيق رائحة ملابس «الجزماتي» بعد أن خدرتها أنفاس الدكتور المعطرة، لا، لن تطيق شيئا من هذا!
ورفعت رأسها إلى السماء في تحد، أحست أنها يجب أن تتحدى هذه الظروف السيئة التي تحيط بها، وأن تختار لنفسها حياة أخرى، فيها نظافة، وليس فيها حرمان ولا هموم، وهزت كتفيها مستخفة بحزنها ودموعها، وأطلقت ضحكة قصيرة ساخرة فيها شيء من الهستريا، وأخذت تدندن أغنية مرحة كان يغنيها الدكتور رشيد معها.
وأحست كأن كابوسا ثقيلا ينزاح عن صدرها فجأة، وأن السحابة القاتمة التي كانت تغشي عينيها اختفت تماما، وأحست براحة، راحة عجيبة تصحب دائما الشعور بفقدان الضمير.
وابتسمت لنفسها ابتسامة جديدة وقالت بصوت عال: «يا سلام! ده أنا كنت عبيطة!» •••
بعد أيام قليلة وعلى نفس محطة الأتوبيس كانت تقف ممرضة جديدة من نوع خام قوي! وبين ساقيها حقيبة ملابس صغيرة، يداها مضمومتان إلى صدرها، ونظراتها التائهة الدامعة تعلو وتهبط مع الطريق الأملس، الذي تنزلق عليه العربات الأنيقة مارقة كالسهام، وفي كل منها رجل وامرأة يضحكان في سعادة.
وداخل إحدى هذه العربات كانت «نفيسة» تجلس وبجوارها رجل تضحك له، وكانت ضحكتها طلقة مجلوة تخرج من بين أسنانها البيضاء رنانة كرنين صندوق فارغ، يبدو أنها لم تنس نفسها هذه المرة في غمار الحب.
المقامر
في إحدى ليالي يناير الباردة، والبيوت كلها مغلقة النوافذ والأبواب تحمي سكانها من هواء الليل البارد، والملاهي خالية من الناس تبدو بمناضدها وكراسيها الشاغرة كشجرة عجوز تساقطت عنها أوراقها، وشارع النيل الواسع يلمع نظيفا وقد غسله ماء المطر، والكون كله ساكن إلا من صرير عربات الليل وهي تنزلق على الكوبري القريب.
وبدا القمر هلالا رفيعا، يضفي على الأرض ضوءا باهتا، لا يخفف شيئا من ظلمة الليل، بل لعله ينشر على الأرض ظلالا خافتة تبدو كالأشباح وتزيد من روعة الليل ورهبته.
وكان عباس ينقل خطاه بطيئة على أرض الشارع، ويضع يديه في جيبي معطفه، ويرفع وجهه إلى السماء؛ حتى يؤنس وحدته ذلك الهلال اليتيم الهائم في خضم السواد، وتلفح وجهه نسمة الليل الباردة، فتخفف من لفح اللهيب الذي يجري تحت بشرته.
ودارت عيناه تنتقلان من السماء إلى الماء، ومن الماء إلى السماء، ورأى الهلال الهزيل في قاع النيل يتهالك في اهتزازات عنيفة، تنكسر عليها أشعته الخافتة، وأشفق على الهلال أن يختنق، فاقترب من صفحة الماء ونظر فيها، واقشعر بدنه، وسرت في أوصاله رجفة؛ لقد رأى وجهه، لكن ملامحه لم تكن هي ملامحه، انقلبت عيناه إلى بؤرتين عميقتين تشعان مرارة وأسى، وأصبحت شفتاه شريطين من الجلد المشدود تقطران هما وكآبة، وانقبض قلبه، ورفع رأسه فرأى شبح الموت يجثم على الأرض والسماء، الهلال يحتضر والبيوت قبور، وهو ... هو يشم رائحة الموت في كل نفس من أنفاسه.
وانكمش عباس في معطفه السميك، وأخذ يجر هيكله الطويل النحيل، ويستمع إلى وقع قدميه، وهو يفكر في أمر نفسه، ما الذي يدفعه إلى كل هذا؟ ولم يعرف بماذا يجيب، واكتفى بأن واصل سيره، وهو يمصمص شفتيه ازدراء، وشعر في هذه اللحظة أنه يحتقر كل شيء، نفسه، والناس، والدنيا، والليل، حتى ذلك الهلال الهزيل الذي يحتضر يحتقره، لأنه ضعيف عاجز.
وانحرف إلى يسار شارع النيل، ودخل في شارع ضيق، سار فيه بضع خطوات، ثم توقف أمام بيت صغير، وقبل أن يضع يده على الجرس نظر إلى ساعته، كانت الواحدة، وتردد قليلا، هل يضع إصبعه على الجرس، أو يستدير عائدا من حيث أتى، ووقف أمام الباب المغلق يتساءل عن هذه الأحاسيس الغريبة التي سرت إلى نفسه، وهذه الكلمات الجديدة التي ترن في أذنيه، احتقار، كراهية، ضعف، تردد، لم يسبق له أن احتقر أحدا طوال حياته، ولا حتى نفسه، كان يجد مبررا لكل شيء يفعله، ويلتمس الأعذار لكل الناس.
ولم يكن يشعر بشيء اسمه الكراهية لأي شيء، ولا حتى للقضاء والقدر، بل لعله كان يجد فيهما ملاذا لكل أخطائه، إذا كانت هناك أشياء يمكن أن يسميها أخطاء.
ولم يكن يشعر بالضعف أبدا، وكيف يشعر بالضعف وهو يترك نفسه للقدر، يحركه ولا يكاد يستعمل قوته؟
ولم يكن يعرف التردد، وكيف يعرفه، وهو لا يذكر أنه احتاج مرة إلى ما يسميه «إرادته»؟
وقد كان يعيش رغم ذلك كله، يعيش حياته، ويعتبر نفسه ظاهرة طبيعية كالشمس، والقمر، والهواء، كلها تعيش حياتها، ولا تعرف ما يعرفه الناس عن تلك الأشياء التي يسمونها الإرادة، أو القوة، أو الضعف، أو التردد، أو الاحتقار، الشمس تدور حول الأرض اليوم، كالأمس، كالغد، بلا تفكير ولا إرادة، وهو أيضا يدور على الأرض اليوم، كالأمس، كالغد بلا تفكير ولا إرادة.
ونظر إلى جرس الباب في تردد، هل يضع إصبعه أو يعود من حيث أتى، ولكن من أين أتى، إنه لا يكاد يذكر تماما أين قضى الوقت من الظهر حتى الآن، لكنه يعرف أين قضى فترة الصباح من الثامنة حتى الثانية بعد الظهر، وكيف ينسى حجرة مكتبه الضيقة الرطبة في «وزارة المالية» التي يذهب إليها كل صباح، منذ عشرين سنة؟
وتراءت له صورته وهو بعد شاب في العشرين، طويل نحيل، جبهته عريضة أكثر من اللازم، وعيناه غائرتان أكثر من اللازم، وظهره مقوس أكثر من اللازم، لكن كل ذلك لم يكن مشكلة بالنسبة له، بل كانت المدرسة هي مشكلة حياته، لا يرى داعيا لها، ولا يطيق أن يجلس حصة واحدة، دون أن يفرك يديه وقدميه، ويتلفت حوله، ويفتح درجه ويغلقه عشرات المرات ، وقضى بالمدرسة ثماني سنوات، ثم فصل، وبعد أيام قليلة سمع صوت أبيه الثائر يقول: هو أنا حاصرف على بغال؟ كفاية بقى كفرتني، سيبني أربي دستة العيال اللي ورايا!
ووجد نفسه في الطريق يتسكع بين المحلات، يلتهم بنظراته الجائعة أسياخ اللحم على النار، ويجذب أنفاسا عميقة من بخار الشواء اللذيذ، ولا يذكر عباس كيف وصل إلى وزارة المالية، وكيف حصل على وظيفة كاتب هناك، ربما كان خاله «عبد الله بك» هو الذي توسط له، أو لعله أبوه هو الذي دبر له ذلك، ومع ذلك فإنه لم يرفض العمل ما دام سيقبض آخر الشهر سبعة جنيهات كاملة يستطيع أن يدخن بها، ويأكل، وبالطبع لن يكون هناك مذاكرة، ولا حصص، ولا جرس، ولا امتحانات، ولا رسوب!
وأشعل عباس سيجارة أخرى، ونظر إلى جرس الباب، لماذا يتردد الليلة في الدخول؟ ألم يواظب على الحضور كل ليلة إلى هذا البيت، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يواجه العينين الحانقتين اللتين ترقبانه وهو يدخل في كل مرة، وشعر بالخجل منهما، لأول مرة، يحس شعور الخجل، لقد عاش حياته بلا خجل، وقلب كلمة الخجل في رأسه، ومصمص شفتيه وهو يقول لنفسه: خجل!
غريبة، لم تخطر هذه الكلمة بباله قط، حتى حينما كان يزجره أبوه، ويتهمه بأنه ما بيحسش وماعندوش دم، ولا خجل! بخلاف أخيه الأصغر، كان يسمع كلام أبيه، ولا يحس شيئا، ويتساءل بينه وبين نفسه عما يكون الخجل، وهل المفروض أن يخجل؟ وما الذي يضيره لو سبقه أخوه أو لم يسبقه، إنه يأكل، ويشرب، ويلبس، وفي النهاية يجد سجائر يدخنها.
ونفث الدخان من أنفه، وألقى عقب السيجارة على الأرض، وقال لنفسه: لماذا لا أدخل الليلة؟ ما الذي تغير حتى لا أدخل؟ وكيف أقضي الليل إذا لم أدخل؟
ورفع يدا نحيلة معروقة، وضغط على الجرس، وتجاهل العينين الحانقتين الناعستين، ودخل بقامته الطويلة، المنحنية، النحيلة، كالمارد المسلول، واخترق الصالة الواسعة إلى باب الحجرة المعهودة، ودفع الباب فانفتح ودخل، وارتد الباب خلفه.
ووجد جو الحجرة مليئا برائحة يعرفها جيدا ، فهي مزيج من رائحة الدخان، والويسكي، والجبن الرومي، والزيتون المخلل، رأى الخمسة جالسين حول المائدة، هم الخمسة أنفسهم لا يتغيرون، كانوا يلعبون، ودعاه أحدهم إلى مشاركتهم كعادته، ولكنه اعتذر بأنه «مالوش مزاج»!
ونبهته تلك الكلمة الجديدة التي استعملها دون أن يحس، مزاج! ماذا يعني بتلك الكلمة؟ وهل اختار أي شيء في حياته بمزاج؟ حتى البوكر، تلك اللعبة السحرية، التي تلتهم ساعات ليله التهاما، هل اختارها بمزاج ما؟
وسمع صوتا مبحوحا يصيح: فلوس!
وتبعته شهقة ثم زفرة، وامتدت يدان معروقتان على المائدة، وسحبت أوراق البنكنوت إلى جانب، وابتدأت يدان نحيلتان تفرقان الورق مقلوبا على المائدة، وامتدت عشر أياد تلتقط الورق بخفة الحواة، وعادت الهمهمة، وتتابعت الأصوات المبحوحة المختلفة: جوزين آس، كرت، اثنين كرت، كنت رويال و... و... و...
وجلس عباس يراقب بنظراته الفاترة سيل الورق، وهو يدور من يد إلى يد، ويسأل نفسه كيف بدأ هذه اللعبة، ولم يذكر بالضبط متى بدأ، إذ كان ذلك منذ عشرين سنة، في السنة نفسها التي تسلم فيها وظيفته، وتعرف على «عبد السميع أفندي» باشكاتب المصلحة، وكانت تبدو على عبد السميع أمارات الثراء، فقد كان يمتلك ثلاث بدل، أو أربع، ويدخن بكثرة، ويعزم بالسجائر على الكتبة، ولا يركب إلا الدرجة الأولى في الأتوبيس، وشعر «عباس» بالغبطة حينما اختاره عبد السميع صديقا له من دون الكتبة الآخرين، وفي مرة قال له عبد السميع: تعرف أنا باصرف كام في الشهر؟ وحياتك ستين جنيه.
وفتح عباس فمه مندهشا وصاح: ستين جنيه؟ ليه؟ بتسرق؟ ولا وارث؟
وقال عبد السميع: لا باسرق، ولا وارث، إنما حظ!
وسحبه عبد السميع من يده ليطلعه على الحظ، ودخل عباس الحجرة المليئة بالدخان، لأول مرة، ورأى العيون المحمرة، والأيادي المعروقة وأرواق البنكنوت وهي تدور وتدور، ودار رأس عباس، ولم يعد إلى بيته إلا مع الصباح، عاد معجبا بما قاده إليه «عبد السميع أفندي».
وكان عبد السميع يكسب على طول الخط، وهو يخسر على طول الخط، تماما كما كان ينجح أخوه كل عام، ويرسب هو كل عام.
ولكن ما السبب؟ هل لعبد السميع حظ؟ ولأخيه حظ، وهو بلا حظ؟ وهل المسألة حظ فقط؟
وأحس بالاختناق في جو الحجرة المشحون بالدخان، فقام وخرج إلى الصالة وفتح الباب الخارجي، ونزل إلى الشارع، ومشى بضع خطوات قليلة حتى وصل إلى شارع النيل الواسع، ورأى الهلال الهزيل كما تركه، وحيدا وسط الظلام، وحيدا مثله تماما؛ فهو ليس له أحد، مات أبوه من سنين كثيرة، وتزوج أخوه، وبقي هو بلا أحد؛ حتى أصدقاؤه الخمسة يجلسون الآن حول المائدة، ولا يعرفون أين هو، هل يجلس معهم على المائدة، أو يهيم على وجهه في الشوارع، أو يرقد تحت عجلات قطار.
وارتجف عباس، لو أدركه الموت الآن لما افتقده أحد، سيموت على قارعة الطريق كالجراء الجرباء، وتلفت حوله في ذعر، ورأى البيوت مظلمة ساكنة، والحوانيت مغلقة، والشوارع خالية، إن الحياة نائمة، كل الناس في بيوتهم وسط أهليهم ينامون بعضهم بجوار بعض، حتى أخوه الصغير الذي كان يعلمه المشي في يوم ما، ينام الآن بجوار زوجته.
وازدرد عباس لعابه وهو يشعر بمرارة، لماذا نجح أخوه في المدرسة وفشل هو؟ وتذكر كلام أبيه وهو يقول إن المسألة «ليست إلا إحساسا، أخوه يحس وهو لا يحس، أخوه يخجل، وهو لا يخجل.»
ولكن، لماذا لم يكتشف أبوه مسألة الحظ، وهل المسألة حظ أو خجل؟ أو أنها ليست هذا ولا ذاك؟ وإذا لم تكن هذا ولا ذاك فماذا تكون؟
وأشعل سيجارة أخرى، وهو يبحث في رأسه عما تكون المسألة، ولم يعرف شيئا، لكنه أحس أنه يريد أن يكون له شيء، يريد أن يكون له أحد، يريد.
وكأنما أفاق على شعور جديد، وكأنما عثر على جزء ضائع من نفسه أو قلبه، أو رأسه، ولم يشعر إلا وهو يلقي السيجارة من فمه، ويشد عضلات جسمه، ويعدل قامته المقوسة، وهرش رأسه، أخيرا قال، قال وهو في الأربعين ما كان يقول أخوه الصغير وهو في العاشرة.
شيء آخر
خرج الدكتور رجب من باب شقته، وأغلق الباب وراءه، وتقدم بخطوات ثقيلة إلى المصعد ، ثم هبط إلى الدور الأرضي، ووقف له عم عثمان البواب، وحياه تحية الصباح، ورد عليه الدكتور برأسه في حركة كسول. وعند باب العمارة رأى العربة «الكاديلاك» الفاخرة تنتظر كعادتها كل صباح، عربة «سيد بك الحناوي»، ورأى هو الفيات الصغيرة تقف خلفها في خجل، إنه يرى هذا المنظر المؤلم كل يوم كأنه لوحة ثابتة لا تتغير. وفتح الدكتور سيارته وحنى قامته الطويلة ليدخل من الباب الصغير، وسارت السيارة ببطء ليس فيه حماس، ودخلت من شارع جانبي ثم خرجت إلى شارع آخر، ثم دخلت في حارة ضيقة، ثم خرجت إلى خرابة كبيرة، وانحرفت إلى اليسار، وأخرج الدكتور رأسه من النافذة وبصق على الأرض.
كل يوم يمشي في هذا الطريق السخيف ويشم رائحة الخرابة العفنة، ويرى أولاد الحارة بأثوابهم القذرة، يتشاجرون بألفاظ قبيحة، وحينما يرون عربته يجرون خلفها ويقذفونها بالطوب ويصنعون خلفها قطارا يصفر ويهلل: «الدكتور أهه أهه»، ولا ينقذه منهم إلا توفيق عبده «التمورجي» الذي يلمح عربة الدكتور من بعيد وحولها العيال، فيشمر جلبابه، ويمسك طرفه بأسنانه ويجري نحوه، ويهب في الأولاد كالكلب المسعور، وينزل عليهم ضربا بالعصا، ويتفكك قطارهم نصف العاري، ويختبئون في شقوق على الأرض كالأرانب. ويسترد توفيق أنفاسه، ويبلع ريقه في زهو، ويقترب من عربة الدكتور، ويحييه بيده، ويبتسم ويقول: «صباح الخير يا سعادة البيه، أصلهم كلهم ولاد حرام.»
ويبصق الدكتور على الأرض، وينظر إلى توفيق في غيظ: «صباح الزفت والقطران إنت لسه عايش، طول ما بصطبح بوشك العكر ده طول ما ربنا مش حيتوب علي من القرف بتاعكم.»
ويبتسم توفيق ويقول: «ليه يا بيه، ده انت الخير والبركة، ربنا يخليك لنا.»
ويرد الدكتور بسرعة: «ربنا يخرب بيتك، امشي انجر، اسبقني على المستوصف، وزيح البلاوي من سكتي.» - حاضر يا بيه.
ويجري توفيق وطرف جلبابه في فمه، إن البيه الدكتور مبسوط النهاردة هكذا يقول له «الترمومتر»، والترمومتر هو كلمة صباح الخير يا سعادة البيه، فإذا لم يرد عليه البيه بتاتا فكأنه لم يسمع، ومعنى ذلك أن الحالة «ج» ومزاج البيه كالقنبلة المضغوطة التي ستفرقع بعد قليل، على دماغه طبعا ودماغ كل هيئة المستوصف بما فيهم الحكيمة ست عنايات، وإذا قال له صباح الزفت والقطران وسكت فإن مزاجه نص نص، وإذا كمل الزفت والقطران بوشك العكر والقرف بتاعكم وربنا يخرب بيتك فمعنى ذلك كله أن البيه «مبسوط» وآخر مزاج.
ووصل الدكتور إلى المستوصف، وركن سيارته بجوار الرصيف أمام الباب بعد أن أحكم إغلاقها بالزجاج والمفتاح، والتفت حوله ونادى بصوت عال: يا فيشاوي. - أيوه يا سعادة البيه. - انت فين يا حمار، خليك واقف جنب العربية اوع تنتقل، أحسن ولاد أخوك وولاد اختك وولاد المحروسة خالتك يركبوها حمار، فاهم يا حمار؟! - حاضر يا سعادة البيه.
ويبتسم فيشاوي لنفسه في سعادة، هذه هي تحية البيه الدكتور له كل صباح.
وقف الدكتور رجب على باب المستوصف، وفي عينيه نظرة اشمئزاز وقرف، ورأى «توفيق» وهو يخترق كوم اللحم البشري المتجمع أمام الباب: وسع السكة للبيه، وسع يا جدع انت خلي عندك دم، لمي يا ولية ولادك من السكة، اتلحلح يا أخي اتلحلح، البيه واقف مش عارف يفوت، اتفضل يا بيه، وسع يا جدع، اوعي يا ولية، ابعد شوية يا راجل، اتفضل يا بيه.
وينشق الكوم البشري الملتصق بالأرض عن شق ضيق يفوت منه الدكتور رجب وهو يكتم أنفاسه حتى لا يشم رائحة الجراثيم الملوثة بالتراب، ورائحة العرق المريض والأنفاس العفنة.
ووصل الدكتور إلى حجرة مكتبه، واستقبلته ست عنايات بابتسامة عريضة: صباح الخير يا بيه. - صباح الزفت يا ولية.
ونظر إليها شزرا ثم قال: «انت مالك يا بت بتسمني كده؟! يظهر انكم بتيجو على العيا، جاتكم عيا.» - اسكت والنبي يا بيه أحسن طول الليل عندي كحة وعاوزة أعمل أشعة عشان اطمن. - تطمني على إيه يا ولية؟ هي الجتة دي كلها يجيلها سل؟ امشي غوري من قدامي، سل لما يلهفك.
وابتسمت ست عنايات وخرجت، لقد تعودت على هذه الشتيمة اللذيذة من البيه الدكتور، بل إنها حينما ينسى الدكتور رجب وسط شغله الكثير أن يشتمها تحاول أن تجر شكله بطريقة خفية فتدخل إليه تمشي في دلال كأنها مكسوفة وتقول بصوت ناعم فاتر: تسمح لي والنبي يا بيه آخد أجازة بكرة.
وتسكت وتنظر إليه وهي تعرف أنه سيبدأ بالشتيمة، وفعلا ينظر إليها في عجب، ويهز رأسه في سخرية: ليه عاوزة أجازة بكره؟ ناوية تموتي بكره؟ إلهي ربنا ياخدك ويريحنا منك.
وتبتسم ست عنايات، ولا تكتفي بهذا النصيب الضئيل من الشتيمة فتقول في دلال: والنبي يا بيه ربنا يخليك أصل كل سنة وانت طيب حاعمل الكحك بكره. - كحك؟ الناس مش لاقية العيش وانت بتعملي كحك؟ وكمان لك عين تطلبي أجازة، غوري، غوري من قدامي، آل كحك آل! انزاحي يا ولية شوفي لك شغلة.
وتخرج عنايات، ويجلس الدكتور إلى مكتبه، ويخرج المفاتيح من جيبه ويفتح ثلاثة أدراج من المكتب، ويخرج رزمة من الورق ورزمة من الدوسيهات والأشعات وثلاثة أقلام حبر ودباسة وعلبة سجائر وعلبة كبريت، ثم يقوم ويفتح دولاب صغير، في الحائط، ويخرج منه بالطو أبيض، ويضع جاكتته وينحني بقامته الطويلة إلى رف سفلي ويخرج منه فوطة وصابونة وكوب زجاج فارغ، ثم يعود إلى المكتب ويجلس ويضغط على زر بجواره فيضيء فانوس الأشعة، ويفتح أول «دوسيه» أمامه وينظر فيه، ثم يفتح الباب ويدخل توفيق عبده: «سعادة البيه فيه واحد عاوز يقابل سعادتك.» - والله سعادتي مش فاضي يقابل حد، مش شايف يا أعمى أنا قدامي إيه؟ مش شايف يا بهيم أنا مش باين من الدوسيهات؟ - حاضر يا سعادة البيه.
ويخرج توفيق ويغلق الباب، ويضع الدكتور صورة أشعة على الفانوس وينظر فيها بدقة، ثم يقلب في أوراق الدوسيه، ويكتب في إحدى الصفحات: «درن رئوي مزدوج - حالة سيئة - لا يقدر على العمل، يستحق إعانة.»
ويفتح الباب ويدخل توفيق: يا سعادة البيه فيه واحدة بره عاوزة تقابل سعادتك ومعاها جوزها مريض عندنا. - خليها تدخل.
وتدخل امرأة في الثلاثين تقريبا ناشفة كعود الذرة المقطوع، وثيابها مهلهلة، ويستند على ذراعها الطويل الرفيع هيكل رجل عيناه غائرتان في رأسه وفمه مفتوح على آخره يلهث: والنبي يا بيه الرجل ده وراني المر، ومعايا منه ست عيال، إلهي يكفيك شر العيا تدخله المصحة. - اسمه إيه؟ - عباس عبد الله محمد.
ويفتش الدكتور في الدوسيهات أمامه، ثم يخرج من بينها دوسيه بنفس الاسم، وينظر فيه بضع دقائق، ثم يقول: يا ستي ده كان في المصحة! - أيوه يا بيه قعد في المصحة كام شهر وبعدين خرج. - طيب يا ستي وأنا أعمل إيه، مفيش سراير فاضية دلوقت، خليه في البيت لغاية ما سرير يفضى، والمصحة تبعت له يبقى يروح. - والنبي يا بيه ربنا يخليك، أنا باشتغل وبأكل العيال الستة واحنا غلابة قوي و... - مش في إيدي يا ستي، لما المصحة تبعت تقول فيه سراير فاضية حابعت لك، ده كل اللي عندي! - ربنا يخليك يا بيه. - ربنا ياخدني أحسن، قلت لك مش في إيدي! - يا سعادة البيه إحنا فقرا و... - أيوه، حكاية فقرا دي مش شغلتي يا ستي، أنا شغلتي دكتور، طبيب، حكيم صدر، أفهم في السل بس! - ربنا يخليك يا بيه. - أوه! مش عاوز دعاوي، يا توفيق، يا هباب! يا زفت الطين، خد الست دي من هنا، خليني أعرف أشتغل.
ويأخذها توفيق خارج الحجرة، وفي ذراعها الرجل اللاهث، ويغلق الباب وراءه، ويشعل الدكتور سيجارة، ويفتح «دوسيه» آخر، وينظر في الأشعة، ثم يكتب تقريره، وينتقل إلى دوسيه ثان، وثالث، ويدق جرس التليفون بجواره على المكتب: آلو. - الست عنايات موجودة؟ - مين عاوزها؟ - حسين. - يا سي حسين اطلبها والنبي بعد الساعة اتنين، أصل ده تليفون حكومة، تليفون مستوصف يا خويا، ويقفل السكة.
وتدخل عنايات ومعها طفلة: والنبي يا بيه، بنت أختي بقالها يومين بتكح، وفي النازل، والنبي تشوفها بالأشعة عشان أمها تطمن. - شافك ربنا بدري! مين يا ولية اللي اسمه حسين اللي بيطلبك في التليفون ده؟ مش عيب عليك وانت كركوبة وشعرك شايب تدي مواعيد في التليفون؟
وتبتسم عنايات في سعادة، ثم تضحك ضحكة قصيرة رنانة، وتقول وهي تنظر إليه في دلال: كركوبة إيه يا بيه، ده أنا من مواليد واحد وتلاتين! - يا بت بلاش كدب، بقى ما حضرتيش ثورة 19؟ بس بلاش كدب، مين الواد اللي اسمه حسين ده؟ - ده جوز اختي كان عاوز يطمن على بنته. - غوري، خليهم يحضروا حجرة الأشعة. - حاضر يا بيه.
وتخرج عنايات ومعها الطفلة، ويعود الدكتور إلى الدوسيهات والأشعات، ثم يفتح الباب وتدخل تمورجية بملابس زرقاء وتقول بصوت خائف: خلاص يا سعادة البيه أودة الأشعة جهزت.
وتدخل عنايات، وتقترب من المكتب وتقول له: «أودة الأشعة جهزت اتفضل يا بيه.»
ويقف الدكتور، ويلبس النظارة السوداء، ثم يقول في حدة: خليكي هنا جنب المكتب، مش عاوز ورقة تضيع هنا ولا هنا، المحفظة في الجاكتة في الدولاب، الكباية قدام عنيك أهه على المكتب، عاوز الثلج يتغسل بالصابونة، مفهوم؟ - حاضر يا بيه.
ويدخل الدكتور إلى حجرة ضيقة، متر ونصف في مترين ونصف، لها شباك واحد، عليه ستارة سوداء، وجهاز الأشعة يبتلع نصف مساحة الحجرة، والنصف الآخر يشغله عشرة من المرضى متلاصقين كأنهم مربوطين بحبال، ويرن صوت نفيسة الرفيع، وهي تقول للمرضى: الزقوا في بعض شوية كمان، خلي الدكتور يعرف يمر.
ويمر الدكتور بصعوبة، كأنه يفلت من خرم إبرة، ويقف أمام جهاز الأشعة، وينادي على أول مريض، ويضغط على زر فينطفئ النور، ثم يضغط على زر آخر فيضيء الجهاز، وينظر إلى صدر المريض من خلال الجهاز في دقة، ويقول له: خذ نفس.
لكن المريض يكتم نفسه، فيقترب منه الدكتور ويقول له: مش بتفهم عربي، خذ نفس يعني تعمل كده.
وفتح الدكتور فمه على آخره، وجذب من هواء الحجرة نفسا، وقبل أن يخرجه إذا بالمريض الواقف أمامه يكح في فمه، ويتراجع الدكتور إلى الوراء في غيظ شديد، ويخرج منديله ويمسح رذاذ اللعاب الذي تناثر على وجهه، ويبصق في الحوض المجاور له: الله يقرفك يا شيخ! بقى مالقتش حتة تكح فيها غير زوري؟ تعالى اقف تاني ورا الجهاز، اقف كده وقفت عليك حيطة!
وانتهى الدكتور من الكشف على المرضى العشرة، وفتحت الممرضة الباب، ودخل عشرة آخرون وقالت له: تاني دفعة يا بيه.
وانتهى الكشف على ثاني دفعة، ثم ثالث دفعة ، ثم الحريم، ثم المخالطين، والدكتور يجفف عرقه، ويبصق من حين إلى حين في الحوض. وأخيرا انتهى الكشف، وأقفل الدكتور الجهاز، وخرج من الزنزانة مسرعا. - أف، الله يلعن أبو ده شغل!
كانت أول كلمات ينطق بها الدكتور، وهو يجلس على مكتبه، ويجفف عرقه.
وفتح الباب، ودخل توفيق: فيه واحد مريض عاوز يقابل سعادتك.
وانفجر فيه الدكتور صائحا: يا حمار! يا مغفل! مش شايف أنا شكلي إيه، مش شايف أنا لسه يدوبك طالع من إيه؟ خلي عندك دم! سيبني شوية آخد نفسي، أشم شوية هوا من غير سل! اقفل الباب يا حمار لغاية ما عرقي ينشف.
ثم نظر إلى عنايات في غضب: فين يا ولية المية الساقعة؟ غسلت التلج بالصابونة؟! اعملي فنجان قهوة مظبوط.
ويذهب الدكتور إلى حوض صغير بجواره، ويغسل يديه ويجففهما، ويدخل توفيق عبده في حماس، ويقول: فيه واحد بيه عايز يقابل سعادتك، بيقول إنه ...
وقبل أن يكمل توفيق كلامه، دخل من الباب رجل طويل أنيق، وصافح الدكتور رجب في حرارة، والدكتور ينظر إليه كأنه لا يعرفه، وجلس الضيف بجوار الدكتور، وقال وهو يفرك يديه: أهلا أهلا، إزي الدكتور؟
ووضع الدكتور رجب القلم من يده على المكتب، وقال في برود: رضا، أدحنا عايشين.
ورد الضيف بسرعة: الحمد لله، طبعا سيادتك متعرفنيش؟ - لا والله مش متذكر. - أنا علي الدهان. - أهلا وسهلا. - أهلا بك. - علي الدهان مين يا فندم؟ - أنا من أعيان الحي ده! - أيوه أهلا وسهلا. - برضه ما سمعتش عني؟ - لا والله ما حصليش الشرف. - إزاي ده؟ ده مصطفى أمين كتب عني كذا مرة في الأخبار. - أصلي والله مش بشوف الأخبار. - أمال بتقرا إيه؟ - المساء. - يا خبر؟ وجرائد الصباح؟ - أصلي والله ما عنديش صباح، أقصد وقت الصباح زي ما انت شايف شغل مالوش آخر! - ربنا يكون في العون، ده الطب مهنة إنسانية نبيلة، يا سلام ده أنت بتخدم الناس المرضى والفقراء، يا سلام ده ربنا حايجازيك أحسن جزاء، ده ربنا. - ربنا ياخدني أحسن، سيادتك عاوز خدمة؟ - أيوه فكرتني، أنا جاي عشان البنت الخدامة بقى لها يومين بتكح، وخايف يكون عندها حاجة تعدي الأولاد بتوعي، قلت أجيبها لك تشوفها. - قوي قوي أي خدمة، هاتها أي يوم يعجبك. - متشكر قوي يا دكتور، على فكرة هو المستوصف ده تبع الصحة ولا الأوقاف؟ - الصحة! - كده! كويس خالص، أنا أعرف ناس كتير في الصحة، لو عزت أي خدمة يا دكتور بس قوللي. - متشكر قوي. - فرصة سعيدة يا دكتور. - مع السلامة.
ودخلت عنايات ومعها القهوة ووضعت الفنجان أمام الدكتور على المكتب: إنت رحت فين؟! تجيبي المية من الترعة، غطي الفنجان بالطبق ورشي شوية «فليت» أحسن الدبان بيزن في ودني زي الضبابير.
وخرجت عنايات وجلس الدكتور يفكر، وينظر إلى الدوسيهات المتراكمة على المكتب، ويسمع ضجة مئات المرضى الذين يطلبون مقابلته خارج الباب، وكل واحد منهم له طلب، وكل طلب عبارة عن مستحيل رابع.
أسرة المصحات لا تكفي المرضى، آلاف من مرضى السل يتجولون في الشوارع بلا عمل، بعد أن فصلوا من أعمالهم، ولا يجدون مكانا مناسبا يجتذبهم سوى مستوصف الصدر، يتكومون فيه كما تتكون الصراصير في صفيحة الزبالة، ولكن ماذا يفعل هو لهم؟ إنه بائس مثلهم، وشعر الدكتور رجب بانقباض شديد، كل يوم يرى هذه المناظر البشعة، بقايا هياكل بشرية يابسة كالخشب، لاهثة دائما، بلا توقف، ونظر الدكتور حوله في يأس وملل، لقد مل عمله، مل الطريق الذي تسير فيه حياته، بل مل حياته كلها، ماذا فيها من جديد؟ كل يوم مثل سابقه ومثل لاحقه، الحياة كلها يوم واحد طويل، روتين يتنقل فيه بلا وعي، ليس هناك تغيير حقيقي وإنما تغيير مزيف، تغيير في الأسماء فقط لا غير، السبت، الأحد، الإثنين، إلخ، أسماء متعددة لشيء واحد هو اليوم، سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر، إلخ، أسماء مختلفة لشيء واحد هو الشهر، سعاد، وفتحية، وخديجة، وسهير، كلها فساتين مزركشة ملونة من تحتها شيء واحد ثابت هو جسم امرأة، حتى الكوسة، والملوخية، والباميا، والبطاطس أسماء متعددة، لشيء واحد اسمه الأكل!
وشعر الدكتور رجب بصداع شديد، يكاد يفلق رأسه نصفين، فأمسك رأسه بيديه، وقال لنفسه بصوت ملول مكتئب: آه يا دماغي!
ونظر إلى ساعته، ووجدها الثانية والربع، فقام، وغسل يديه، وخلع المعطف ولبس الجاكتة، ووضع الكوب، والفوطة والصابونة، داخل الدولاب، وأغلقه، ثم وضع أدوات المكتب والدوسيهات في الأدراج، وأغلقها، وخرج من المستوصف يحف به بعض التمورجية وكثير من المرضى، وأصواتهم تختلط بعضها ببعض، والنبي يا بيه كلمة واحدة أنا راجل غلبان، وسع يا جدع خلي البيه يفوت، ربنا يخليك يا بيه شوفلي سرير عندكم، يا راجل اوع من السكة خلي البيه يمر، و... ويركب الدكتور رجب عربته، ويأخذ نفسا طويلا عميقا، من هذا الشارع العريض بعد أن يخرج من «الخرابة» والحفرات.
ودخل إلى باب العمارة، ووقف، ورأى العربة الكاديلاك تقف في اعتزاز كعادتها، والسائق يمسح عليها كأنه يدللها، وتنهد الدكتور في حسرة وقال لنفسه: سيد بك الحناوي، المقاول، ساقط توجيهي!! يا خسارة السبع سنين طب!
وصعد إلى شقته يجر جسمه الطويل في ملل، كأنه يود لو تخلص منه هو الآخر، ودخل شقته، وقابله خادمه محمد النوبي بابتسامة بيضاء ناصعة: أهلا سي رجب! - عملت أكل إيه؟ - كوسة يا سي رجب!
وقال له في غيظ: كوسة؟ كل يوم كوسة كوسة، مفيش حاجة تانية في السوق؟ انت امبارح عامل كوسة!
قال الخادم: أبدا يا سي رجب، امبارح عامل بطاطس، وأول امبارح فاصوليا، وأول أول بسلة وقبلها كانت كوسة.
ولم يرد عليه الدكتور، بل دخل إلى حجرة نومه، وهو يفكر في هذه الأيام التي تمر متشابهة، فلا يفرق بين أمس وأول أمس، هل أصبح إلى هذا الحد لا يشعر بمرور الزمن؟
وأخذ يخلع ملابسه في تثاقل وبلادة، لا شيء في الدنيا يثير الحماس.
ولم يدر ما حدث، فقد أخذ يتلفت حوله ويأخذ نفسا عميقا، وهو يقول: الله! ريحة إيه؟
ورأى خادمه، واقفا على الباب، يقول: خلاص يا سي رجب الأكل على السفرة، وعرف الدكتور أن الرائحة التي هبت فجأة وأنعشت رئتيه لم تكن إلا رائحة اللحم المحمر في السمن البلدي.
وبخطوات سريعة نشطة قفز الدكتور إلى حجرة المائدة ، وقد ذاب كل شعوره السابق بالملل والكآبة، ولم يشعر إلا وهو جالس أمام أطباق الأكل يشم كل طبق على حدة، وفي عينيه لمعان جديد.
وانطلق صوته في نشوة مجلجلا: يا محمد! يا محمد، جبت فلفل أخضر؟
وجاء صوت محمد من المطبخ يقول: أيوه حاضر جاي أهه.
وفاضت سعادة جديدة في أعماق الدكتور رجب لمجرد أنه علم أن هناك فلفا أخضر، والتهم الأكل في لذة، وشرب كوب الماء المثلج، ثم قام وغسل يديه، وأسرع إلى السرير، وتمدد في سعادة، وهو يفكر في سهرة الليلة، كيف وأين يمضيها؟! وهرش رأسه، وهمس في نفسه: النهاردة إيه؟ النهاردة إيه؟ آه! النهاردة الخميس، أيوه الخميس، يا خبر! ده أنا عندي ميعاد الليلة مع سهير، أنا مغفل صحيح، كنت حانسى سهير!
وانفرجت شفتاه قليلا عن ابتسامة هانئة، واقتربت جفونه في تراخ شديد، وراح في سبات عميق.
ضعف
حبيبتي سعاد.
كم كنت قاسيا معك آخر مرة، وكم قضيت أياما حزينة بسببي يا حبيبتي وأنت بريئة طاهرة تستحقين كل سعادة الدنيا، لكن شيئا واحدا يطمئنني عليك، هو قوتك، كنت أقول دائما سعاد لا يهزمها شيء.
أذكر يا حبيبتي كلامك آخر لقاء، واتهامك لي بالكذب والخداع، وأذكر عينيك الجميلتين وهما ترفضان في كبرياء وقوة أن تفرجا عن دمعات حبيسة ظلت تترقرق وتتوسل ثم اختفت تدريجا لا أدري كيف، أنت «إنسانة» قوية يا سعاد، لا تخافين شيئا، الحياة بالنسبة لك بكل مصاعبها ومشاكلها لعبة صغيرة كالشطرنج، تنقلين قطعها بهدوء وثقة، فإذا انتصرت لم تفرحي كأنما الانتصار عادتك، وإذا فشلت بدأت من جديد مرة أخرى بهدوء وثقة وكأن شيئا لم يحدث.
حتى الحب، ذلك السر الضخم الذي ترتعد له الفرائص، الحب، تلك الكلمة الرهيبة التي تطوي في أعماقها عالما كله ألغاز، الحب أنت تمارسينه ببساطة وسهولة كما تنقلين قطعة الشطرنج من مربع إلى مربع.
لا أقول إنك مخادعة، لكنك أقوى من الحياة التي حولك حتى إن أصعب ما فيها لا يخرجك عن وعيك.
كنت أتمنى أن أرى في عينيك يوما خوفا مني، لا أدري لماذا؟ لعلي كنت أريد منك تأكيدا لقوتي، لكني كنت ألمح فيهما شيئا آخر، يجعلني أرهب ما ينطوي في أعماقك، أرهب شيئا خيل إلي أنه أقوى مني وأنني سأظل أبدا ضعيفا أمامه، وكنت أهرب دائما من هذا الشيء، وأطلق ساقاي للريح بعيدا عنه.
لا تدهشي يا سعاد، كنت تتهمينني دائما بالقسوة معك، وقسوتي لم تكن إلا ستارا لضعفي أمامك.
كنت أعلم أنك تحبينني وأحس كأنما نظراتك الرقيقة تضمني إلى صدرك، لكنني أيضا كنت أحس في عينيك قوة تصلين بها إلى أعماق نفسي من خلال جلدي ولحمي، وكأنما نظراتك اللامعة تجردني حتى من ملابسي الداخلية وتنظر إلي وأنا عار! وأحسست أنني أخجل من منظر جسمي أمامك وخصوصا ساقاي الرفيعتين!
هل تذكرين يا حبيبتي حينما التقينا أول مرة وقدم كلا منا إلى الآخر زميلي فريد، ووقفنا نتكلم أكثر من ساعة تحت ظل شجرة الكافور بجوار محطة الأتوبيس؟ رأيت يومها في عينيك عاطفة ضخمة مكبوتة، وتملكني شغف كبير بعد أن تركتك، وتمنيت أن تكون هذه العاطفة كلها لي، وسيطر علي شوق غريب دفعني إلى أن أجرب لحظة سعادة نفسي وهي تتلقى منك كل هذا الحب الكامن في عينيك.
لا تسيئي فهمي يا سعاد، لم أكن إنسانا أنانيا إلى هذا الحد، ولم أقصد أبدا أن أمر معك بتجربة حب ثم تنتهي، أقسم لك أنني إنسان غير ما تتصورين؛ أنا مسلوب القوى، مسكين، في نفسي صدع كبير من حب قديم فشلت فيه. لست - كما قلت - قادرا على نسيان كل شيء، أنا لا أملك هذه القوة التي تستطيع أن تقامر بنفسها على موائد الحب، وتنتقل من مائدة إلى أخرى تخسر وتكسب، وتكسب وتخسر، إنما أنا إنسان ظامئ إلى الحب فقط لم أرتو منه أبدا، إلا معك، وكلما كنت أنظر إلى عينيك أرى فيهما تلك العاطفة الآسرة الحبيسة.
لقد كنت قادرة على إرواء كل ظمئي، وإشباع مختلف رغباتي، دون أن تنقصي شيئا ودون أن تفرغ كأس واحدة من كئوس نفسك، كأن فما واحدا لم يخطف منها جرعة واحدة.
وخجلت من نفسي يا سعاد، أحسست كأني كائن صغير يقف على حافة بحر ليشرب منه، وثرت على نفسي، وعليك، وكنت قاسيا غريبا في قسوتي، لكني لم أتحمل إحساسي القاهر بأنني أضعف منك، ولقد عرفت قبلك عددا كبيرا من النساء، فلم أحس مرة واحدة بهذا الإحساس البغيض القاتل، كانت كل واحدة منهن كأسا واحدة أفرغها في جوفي وأستريح، وحينما يعاودني الظمأ أبحث عن كأس أخرى.
لم أك خائنا، لا تظلميني يا سعادة، ولكن أي منطق وأي عدل يقيدان الظمآن أمام كأس فارغة وبجواره كئوس أخرى مليئة؟
ليتك كنت أقل قوة وأكثر ضعفا فأكون أنا إلى جانبك نصفك الآخر القوي، وتصورت كيف أعيش معك وإحساسي بضعفي يزيد ويتأكد يوما بعد يوم، وكلما تفانيت أنت في حبي ومنحتني مما عندك شعرت أنا بأن زادك أغزر من زادي ونفسك أعمق من نفسي.
كنت أود أن أظلك بجناحي، وأحميك بنفسي وحياتي، وأحس أنك خائفة فأطمئنك، وأنك ضعيفة فأظاهرك وأسندك. كنت أريد أن أحس أنني أنا الذي أعطيك، وأغدق عليك.
لكني كنت غير قادر على منحك أي شيء.
وبدأت أحس بالخوف، بدأت أخاف من نفسي ومنك، وخشيت أن ينقلب إحساسي الخفي بضعفي أمامك إلى حقيقة تحسينها أنت أيضا، وتصورت هذا اليوم، اليوم الذي أنظر فيه إلى عينيك فأكتشف أنك لمست ضعفي، وأحس حنانا جديدا يتدفق منك إلي، ويزيد قلقي كما زاد حنانك؛ لأنني أعرف أن الماء لا يزيد تدفقه إلا إذا فاض وعلا، وأحس بذراعيك الحانيتين وهما تطوقانني وشفتيك على شفتي، وأتوهم أنك تهمسين لي في حنان قوي متدفق: إنني أحبك رغم كل شيء.
ويزيد قلقي، وأحس بغيظ منك، وثورة عليك، فكأنك تخدعينني، وأدفعك بعيدا عني، لكنك لا تبكين، ولا تتوسلين وإنما تعودين إلي وفي عينيك ذلك الحنان القاتل، وتزحفين نحوي وتمسكين بي، وتحيطينني بكل جسدك الدافئ، وتقسمين إنك تحبينني، وأقف حانقا عليك، وأدفعك بعيدا عني في قسوة، وألطمك على عينيك اللامعتين الصغيرتين وأركل حنانك في إباء وشمم، اغفري لي يا حبيبتي كل هذه الأوهام فأنا لا أطيق الحنان، لأن في نفسي كبرياء، كبرياء الضعفاء.
لا أدري لماذا أعبر عن كل هذه الأشياء الغريبة، إنني لم أشك في قوتي قبل أن أعرفك.
كنت دائما واثقا منها إلى درجة الغرور، وكنت في كل مرة أهرب من الحب لأنه لا يكفيني، أما هذه المرة فإنني أهرب منه لأنني لا أكفيه، كنت أود يا حبيبتي أن أحتضنك وأهصر عودك بين ذراعي، وأحس أنك تذوبين في كياني فيتلاشى كيانك، وأن أكون أنا، أنا الأقوى، أنا البحر الواسع وأنت الكائن الصغير الذي يغيب في أعماقه ولججه، هل فهمت؟
وداعا يا حبيبتي، وداعا إلى الأبد.
الماضي
حجرة النوم الأنيقة مضاءة بنور خافت من شمعة صغيرة تداعبها نسمة الليل الحار، والنافذة المفتوحة عليها ستائر شفافة بلون السماء تهتز مع الهواء في خفة بالغة، وعلى الحائط صورة مكبرة لوجه طفل لا يزيد عمره عن العام، وبجوار السرير في جوف كرسي كبير يغطس جسم مصطفى الطويل الذي كانوا يسمونه منذ دقائق بالعريس، ينظر أمامه في مرآة الدولاب حيث يرى جزءا من وجه «إلهام» وهي جالسة على طرف السرير، ويتأمل أنفها من جانب وهو ثابت في المرآة لا يتحرك كأنه خط مستقيم في وجه تمثال.
وابتسم مصطفى لنفسه وهو ينظر إليها، لأول مرة يرى على ملامحها علامات خجل وارتباك، كانت دائما جريئة وكان يحب جرأتها.
وضغط بيده على يد الكرسي ليهم بالوقوف، لكنه تراجع وأسند ظهره إلى الكرسي.
لماذا يتردد؟ ألم يقبل في حياته العريضة الواسعة مئات الفتيات؟
ألم يدبر الحيل، وهو طالب بالجامعة ليقنع أباه بأن جو البيت لا يشجعه على المذاكرة، وأنه - كي ينجح - يجب أن يؤجر شقة مستقلة ليذاكر فيها مع صديقه فتحي؟ وفعلا ظل يسعى حتى تحققت أمانيه، وأصبحت له شقة خاصة، وأصبحت له صديقات وعشيقات، وشهدت الشقة الصغيرة بطولته معهن جميعا بلا استثناء!
ولكنه الليلة يتردد كأنه يخاف، هذه إلهام حبيبته منذ عشرة أعوام أصبحت زوجته وحلالا له كما قال الشرع، فما باله متردد خائف؟ أم أن حماسه لا يثيره إلا الحرام؟ لا، ليست هذه شخصيته، إنه يكره الحرام وما حوله من تلصص وكذب واختفاء، لكنه الآن وبالنسبة لإلهام لا يعتبرها مثل أي امرأة أخرى، إنه يحبها، هي حب حياته الضخم الكبير، ولكن هل كونه يحبها يجعله مترددا خائفا كما هو الآن؟
والتفت إليها وأخذ يتأملها، عينيها، أنفها، شفتيها، ذراعيها، ساقيها، إنها مثل سائر النساء لا تختلف عنهن في شيء.
وضغط بيده على يد الكرسي ليقف لكنه تردد وبقي مكانه، لماذا فارقته شجاعته التي اشتهر بها؟ لماذا هو جبان الآن؟ هي مثل سائر النساء، ولكن عينيها تختلفان عن كل النساء، فيهما أشياء تجعله يتردد ويخاف، كانت عيناها كذلك بالنسبة له دائما، وفي الكلية كان يرفع الكلفة سريعا بينه وبين زميلاته، ويتحدث معهن بطلاقة وفصاحة إلا هي، بمجرد أن يرى عينيها كانت الكلمات تقف في حلقه كأن كلامه لم يعجبها أو كأنها ستصدر عليه حكما قاسيا، وماذا كان يهمه منها أو من رأيها، لم يكن يدري.
كانت نظرتها قوية ثابتة، والطالبات بجوارها كالأفراخ الصغيرة يذعرها أي شيء فتجري وتتجمع وتختفي بعضها في بعض كأنما ستخطف الحدأة إحداها.
أما هي فكانت دائما نافرة، تمشي وحدها رافعة رأسها في كبرياء طبيعي، ملابسها بسيطة لا تفترق كثيرا عن ملابس الرجال، وشعرها قصير يشبه شعر الطلبة، ومشيتها الخالية من التكلف ومن الرشاقة أيضا تجعل لها شخصية متميزة جذابة، ورغم قوة مظهرها وهيبته، إلا أنها حينما تبتسم - ودائما ما تفعل - تحس كأنما خلقت شفتاها لتبتسم فحسب، والغمازتان في خديها، تظهران بسرعة، وتختفيان بسرعة، حتى حينما لا تبتسم تظن أنها تبتسم، من فرط البريق اللامع في عينيها كأنهما يدمعان من الضحك أو السعادة.
والتفت نحوها، وأحس بشيء في أعماقه يخفق ويرتعد، ورآها تجلس وسط فستانها الأبيض المنفوش تنظر أمامها كأنها نائمة تحلم، وشعر بأنه يريد أن يندفع نحوها، ويأخذها بين ذراعيه، وينظر في عينيها بجرأة ويضغط على شفتيها بجرأة، إنها زوجته ولن تصفعه إذا فعل ذلك.
ولكنه لم يتحرك من داخل الكرسي.
ماذا فيها يجعله مترددا ضعيفا، كما هو الآن؟!
ماذا فيها؟ وضغط بأسنانه على شفته وهو يقول لنفسه في غيظ: ماذا فيها؟
وأفلتت أسنانه شفته، وجفف جبهته، إنها مثل كل الفتيات، ليس فيها شيء زائد عنهن، بل ربما يكون فيها شيء ناقص عنهن، كما قالت له أمه: إلهام؟ لا يا ابني إلا إلهام، دي اتجوزت مرة ولها ولد وإنت لا اتجوزت ولا خلفت عيال، دي البنات كتير يا ابني، يا خبر اسود تاخد واحدة اتجوزت قبل كده، ليه؟ ده جوازها يبقى زي أكل الطبيخ البايت!
إلهام إذن في نظر أمه أقل من البنات، وأقل أيضا من النساء اللائي بلا أطفال، إنها أقل في نظرها من أن تتزوج ابنها الشاب الناجح الوسيم الذي لم يتزوج أبدا، وتغازله كل بنات الجيران!
وابتسم مصطفى لنفسه، كل أم تظن أن ابنها لم تنجبه امرأة من قبل، والحقيقة قد تكون عكس ذلك؛ لأن مصطفى لم يظن في نفسه يوما أنه ناجح أو وسيم أو مستقيم، لقد تخرج معه في الجامعة آلاف مثله، وسبقه في الترتيب آلاف، وسبقه في الوظيفة آلاف، وهو ليس وسيما كما تقول أمه لأنه يرى وجهه في المرآة طويلا نحيفا، وأنفه كبيرا جدا، والدنيا فيها ملايين من الرجال أكثر منه وسامة ورشاقة، وهو ليس مستقيما كما تؤمن أمه لأنه تمرن على الزواج، وتزوج مئات المرات بلا عقود!
لكنه الليلة، ليلة زواجه الرسمي المسجل في دفتر مأذون الحي، يخيل إليه أن كلام أمه صحيح، وأنه لم يقرب النساء!
هل لأنه يحبها؟ لقد أحبها منذ عشرة أعوام حينما رآها لأول مرة ذات ليلة تمشي مشيتها الخالية من التكلف والرشاقة! تلبس ملابسها التي تشبه ملابس الرجال وتقص شعرها مثل الطلبة، وتبتسم دائما كأنما خلقت شفتاها للابتسام، والغمازتان في خديها تظهران بسرعة وتختفيان بسرعة، وعيناها بنظرتهما اللامعة كأنما تضحكان من فرط السعادة.
أحبها في كل وقت، وكل ظرف، حتى حينما خطبت كان يحبها، وحينما تزوجت كان يحبها، وحينما طلقت كان يحبها، ظل يحبها من قريب ومن بعيد، وهي تكاد لا تعرفه، وكل ما تذكره أنه كان يوما زميلا لها بالكلية، إلهام التي أحبها كل هذا الحب تجلس بجواره الآن لا يفصلها عنه سوى عرض ذلك السرير! ما أغباه أن يضيع كل هذا الوقت بعيدا عنها، ألم يكفه ما ضاع من أعوام وأيام؟
ووقف على قدميه، وتحرك نحوها في خطوات بطيئة يحاول ألا تلتقي عيناه بعينيها، واقترب منها، وجلس إلى جوارها على طرف السرير، ومد يده على رأسها يتحسس شعرها الأسود الناعم، وانتقلت يده من شعرها إلى جبهتها، إلى خديها، إلى ذقنها، ورفع وجهها إليه ليرى عينيها، وأحس بقوة جارفة تجتاح كيانه حينما رأى لأول مرة جفنيها مسدلين على عينيها تخفيانهما تماما. •••
وفي الصباح فتح مصطفى عينيه وهو يتمطى ويتثاءب كأنه يفيق من حلم سعيد، ونظر حوله في دهشة، كانت الشمس تدخل من النافذة، وكل ما في الحجرة يتألق بضوء مشرق جميل، ونظر إلى جواره فرأى «إلهام» نائمة، ومد يده بسرعة ولمس يدها ليتأكد أنها هي بلحمها ودمها، وأن ليلة أمس لم تكن حلما، وإنما كانت واقعا حيا يعيش فيه.
وتثاءب وتمطى في سعادة ولذة، آه، كم هي رائعة، هذا ما أحسه نحوها منذ رآها لأول مرة، حتى في أشد ملابسها شبها بالرجال، وفي أشد مواقفها الجدية التي تماثل جد الرجال كان يحس أنها امرأة، امرأة تفيض بالأنوثة.
ووضع يده على جبهته وانقبضت ملامح وجهه، تذكر زوجها الأول، الرجل الذي قالوا إنها أحبته، ماذا فعل معها؟ وماذا فعلت معه؟ وقد عاشت معه عشرين شهرا لم تنقص ليلة واحدة.
وجلس في السرير وهو يمسك جبهته بيديه، ألم يقل إنه لا يغار وإن ما مضى قد انتهى؟ ما باله الآن يكاد يجن كلما تصور أنها أخذته الليلة الماضية بين أحضانها الدافئة الحانية كما فعلت مع زوجها السابق، أجل فعلت ذلك عشرين شهرا لم تنقص ليلة واحدة؟ وأنجبت، آه، أنجبت هذا الطفل.
ورفع عينين محمرتين زائغتين إلى الحائط، فرأى وجه الطفل المكبر يبتسم له، وخيل إليه أنه يبتسم له في سخرية، كأنه يسخر منه ومن سذاجته ويقول له في تهكم: ألا تراني؟ ألا تحس بوجودي؟ أنا حبها الأكبر، أنا قطعة منها، بل أنا نفسها التي تعيش بها.
وأحس بالدم يصعد إلى رأسه ويغلي فيه، فقذف الغطاء بقدميه، وانتقلت ارتجاجته العصبية إلى السرير فأخذ يهتز.
ونظر إلى ناحية إلهام دون أن يشعر، فرآها تهتز على السرير وتحرك ذراعيها ثم تفتح عينيها.
وحينما رأته ابتسمت شفتاها التي كأنما خلقتا للابتسام فحسب، وظهرت الغمازتان في خديها بسرعة، ولمعت عيناها بالبريق كأنهما يدمعان من فرط السعادة.
إنها هي، إلهام نفسها، ذاتها، لم تتغير، لم تفقد شيئا، هي التي أحبها منذ عشرة أعوام.
أخيرا أصبحت له؟ إنه لا يصدق.
وزحف إليها، واحتواها بين ذراعيه، وحينما أحس بدفئها وحرارتها أمسك وجهها بيديه وابتعد عنها قليلا وهو ينظر في عينيها بجرأة لأول مرة في حياته ويقول لها: «إلهام، أحبك.»
والتفت - بغير إرادته - ناحية الوجه المكبر على الحائط، ورآه وهو يبتسم في براءة الملاك، وضعف الطفل، واحتياج الوليد، والتفت إليها وهو يقول: «وأحبه أيضا لأنه قطعة منك.»
وضمها إليه، ثم نظر إلى عينيها المليئتين بالبريق الدامع، نفس البريق، لكن الدموع كانت حقيقية هذه المرة، ولم يعرف هل هي تبكي أو تبتسم؛ لأن كل ملامحها - رغم دموعها - كانت تبتسم في سعادة وفي صدق، لقد خلقت لتكون سعيدة.
تحت الملاءة
كان ذلك في فصل الصيف، والدنيا ليل، أول ليل، والناس في كل مكان إلا في السرير.
لكن «هيام» كانت في السرير وحدها، تخفي وجهها وجسمها تحت الملاءة البيضاء الرقيقة، وتخرج أنفاسها في هدوء واطمئنان، وتحرك ذراعيها وساقيها، وتتمطى في رضا عن نفسها، إنها اليوم ليست على ميعاد مع أحد، تستطيع أن تغمض عينيها وترخي بدنها هكذا تحت الملاءة دون أن يزعجها شيء.
وبدأت تعد على أصابعها الرقيقة: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة، وتوقفت عن العد بعد برهة وصلت فيها إلى رقم يقرب من العشرين، ووضعت يدها تحت رأسها الصغير وابتسمت لنفسها وهي تتثاءب: لماذا أحبني كل هؤلاء الرجال؟
سألت نفسها وهي تراجع صورهم الباهتة في ذاكراتهم، فقد انقطعت صلتها بهم وانقطعت صلتهم بها، لكنها لا تزال تذكر أن أحدهم كان غريب الأطوار غليظ الشفتين اسمه فتحي، كان إذا تكلم انقلبت شفتاه وانطلق كلامه مبللا بلعابه، وكان فيما عدا هذا رجلا وسيما، غاية في الأناقة.
كان كثير الكلام، رغم أنه يتكلم بصدق ودقة، ويميل إلى التحليل والشرح، لكنه، كان إذا ذكر الحب احمر وجهه النضر الناصع البياض، وحاول أن يلتقط شفته السفلى بأسنانه كأنما يخشى أن تقع منه، وتدمع عيناه عندما يتأثر، فيبدو في جثته الضخمة وشفتيه الحمراوين أقرب إلى السرور منه إلى الحزن. وكانت هيام تشفق عليه، وتحتمل في صمت ثرثرته، وتمسح خلسة بمنديلها ما يصيب وجهها من رذاذ كلماته وشفتيه.
وتنفست هيام في استرخاء تحت الملاءة؛ إن في ذاكرتها صورة أخرى لرجل كان زوجا ذا أولاد، لكنه أحبها وظل يطاردها عاما كاملا، ويسافر إليها ويبثها غرامه.
وكان قصيرا بدينا، له نظرة حادة، وأنف مقوس حتى ليشبه وجهه وجه الحدأة.
وكان ذا سلطان وجاه، يزورها في مكتبها ومعه حرس من رجاله المقربين الذين يتعاونون معه على حل مشاكل قلبه، وهو يبدو بينهم قويا عنيفا، وسرعان ما يتسللون الواحد تلو الآخر بطريقة غبية، ويبقى هو وحده معها، وهنا تحس أن قوته تسربت هي الأخرى مع من تسربوا، وتركته لاهثا صامتا، لكنه يهدأ بعد قليل ويختلس نظرة إليها ثم يرتد إلى الوراء، فيسند ظهره إلى الكرسي ويقول لها كلمته المأثورة في كل زيارة: «إنك جميلة يا هيام، لكنك قوية، وأنا أحب الضعف.»
وتبتسم هيام ابتسامة عنيدة أكثر منها قوة وهيبة.
وظل هكذا عاما كاملا يذهب ثم يعود.
وتصادف ذات يوم أن أتى لزيارتها كعادته فوجد عندها رجلا آخر، وكان ضابطا، وأحست «هيام» أنه يصوب نظراته النارية إلى الضابط الشاب الذي كان يبدو في قوامه الفارع وملابسه الرسمية رجلا مكتملا يملأ العين، وحينما خرج الضابط سألها مستطلعا فردت عليه «هيام» في غيظ قائلة: «إنه صديق عزيز.» - وما سبب زيارته لك؟ - وما سبب زيارتك أنت؟
وتقلبت هيام تحت الملاءة، ولفحت أنفاسها الساخنة خديها الملتهبين، وابتسمت لنفسها، لقد تخلصت من واحد، وبقي آخرون، منهم ذلك الضابط الشاب الذي أصبح يتردد عليها لأسباب تافهة غريبة، وكان رغم ردائه العسكري وشاربه الأسود يبدو كغلام صغير لا يفتأ يسأل ويستفهم!
وفي كل مرة يسألها عن شيء جديد، حتى الملوخية سألها هل تعرف طريقة طهوها. وابتسمت هيام وهي تسأله: «ولماذا تريد أن تعرف؟» - لأني أحبك، وأحب الملوخية أيضا! - ولكني لا أحب الملوخية، ولا أحبك أيضا!
وضحك من النكتة، لكنه سرعان ما فهمها فاختطف الكاب من على المكتب ووضعه على رأسه ثم اختفى.
وتمطت هيام، وفردت جسمها تحت الملاءة وهي تستعرض أصناف الرجال الذين مروا بمكتبها، وهي محامية ناشئة في السادسة والعشرين، شديدة الجاذبية. ومن العجيب أنك لا تستطيع أن تحدد مركز الجاذبية فيها، هل هو في عينيها السوداوين اللامعتين؟ أم في صوتها العميق الدافئ كأنها تتكلم من أعماقها، وليس من حبالها الصوتية؟ أم في قوامها الفارع وخصرها النحيل، وهي تمشي مشيتها الخفيفة كأنها لا تلمس بقدميها الأرض؟
ولم تكن هيام ترى شيئا من جمالها أو جاذبيتها في المرآة، وإنما ترى صورة مشوشة هي صورة نفسها من الأعماق، وكانت هذه الأعماق مضطربة، ونفسها ضائعة في التيه الواسع الذي يمتد في أعماقها. أشياء كثيرة تدركها بإحساسها ولا تفهمها بعقلها، أشياء كثيرة تراها هامة جدا، وهي في نظر الناس تافهة، وكانت تسأل نفسها كثيرا لماذا لم تحب واحدا من هؤلاء الرجال؟ لقد كانت صديقتها سميرة تصفها دائما بالعبط إذ تراها تتخلص من رجل بعد آخر، وخصوصا حينما رأت عندها «حافظ» ذلك المهندس الطويل العريض الذي أعجبت به سميرة!
لماذا لم تحبه؟ أليست كباقي النساء؟ ألا يعجبها في الرجل ما يعجبهن؟
ولم تشك هيام في قلبها؛ إذ كانت تعرف أي قلب يغفو في أعماقها مستسلما إلى نعاس خفيف، يتثائب كالعملاق الكسول من وقت إلى آخر، ويرفع رأسه من نعاسه أحيانا كأنما يتشمم شيئا ما، لعله رائحة حب انتشرت بالقرب منه، ويزم شفتيه ويمط عنقه ويجذب نفسا طويلا ثم يخرجه زفيرا طويلا، ويضيع حماسه، وينحني رأسه على صدره ويعود إلى نعاسه.
لهذا لم تشك أبدا في قلبها، كانت تحس به وتعرف ما يريد، وأي نوع من الرجال يخرجه من غفوته، ولم تهتم بكلام سميرة: «أليس لك قلب؟!»
وتخلصت هيام أيضا من المهندس الطويل العريض الذي أعجبت به سميرة، كان يدعوها للعشاء في نادي الصيد، وحينما كانا يأكلان اللحم البارد ويشربان الجعة، كانت هيام تختلس إليه النظرات فترى يديه البيضاوين الناعمتين بأظافرهما التي شذبها بعناية فائقة، وتراه وهو يأكل برقة وأناقة ويمضغ بخفة ولين، ويجتهد ألا يبلل شفتيه، وإذا ابتلت شفته السفلى مسحها بالشفة العليا في دقة وبلا صوت. وكان فيه شيئان يلمعان دائما بشدة، الخاتم في إصبع يده اليمنى الصغيرة، ودبوس ربطة العنق، ويلفت نظرها شكل رقبته وهو يبلع، كانت سميكة، محاطة قبل نهايتها بياقة منشاة، يرسم طرفها المنشى مع لحمه النظيف دائرة حمراء خفيفة. - مش بتاكلي ليه يا هيام؟ - أبدا، أنا باكل. - إنت سرحانة خالص. - لا أبدا. - لا أبدا، إيه يا أمورة؟
وتحس هيام أنه يقول «أمورة» بطريقة مائعة غاية في الميوعة، لا تلبث أن تتميع معها أمعاؤها ويدركها الغثيان. - ليه بتتكلم كده؟ - عشان باحبك يا أمورة! - لكن إنت مش على طبيعتك. - إزاي؟ - بتغير حاجة في نفسك، في صوتك، في شكلك، فيك إنت، من بره أو جوه، مش عارفة!
والغريب أنه كان يضحك من هذه الكلمات، ويدعوها دائما إلى صحبته، وفي بعض الأحيان كانت تمتنع، منتحلة أسبابا متعددة، كقضية مستعجلة، أو كتاب تريد أن تقرأه، أو راحة تنشدها في النوم، أو أنها على موعد آخر.
وأحست هيام أن أنفاسها الساخنة تحت الملاءة قد ألهبت جسدها فأخرجت رأسها خارج الملاءة في حذر، لكن سرعان ما أعادتها داخل الملاءة ثانية، إن سلسلة الذكريات تنقطع من ذاكرتها بمجرد أن يضيع الجو الحار تحت الملاءة. وودت أن تنهض لتذهب إلى صديقتها سميرة في مجلة «عالم الفن» ذلك أن الدكتور عبد العظيم كان قد وعد بزيارة أسرتها اليوم.
والدكتور عبد العظيم صديق حميم لأبيها رغم أنه في الخامسة والثلاثين، إن ابنة خالته تزوجت من شهور بابن عم زوجة خالها؛ لهذا يعده أهلها من الأسرة، فضلا عن أنه يحتل مركزا مرموقا، فهو أستاذ مساعد في الجامعة، وقد سافر إلى أمريكا منذ عامين، ولم يكن يسعد «هيام» بزيارة الدكتور عبد العظيم سوى تلك الفرحة التي تبدو في عيني أبيها وهو يجلس معه ويناقشه في العلم والسياسة والدين، في الوقت الذي تسمع فيه كركبة في المطبخ، وصينية تلمع بالفيم وأكوابا تغسل بالليفة والصابون مرة ومرتين وثلاثا، وفي كل مرة تشمها الأم وتعيدها إلى الخادمة الصغيرة مع سبة أو سبتين توزعهما بالعدل بين أبي الفتاة وأمها!
وتسمع هيام صوت أبيها: «يا أستاذة هيام تعالي سلمي.»
وتدخل هيام وتسلم وتجلس، وتستمع إلى حديث الدكتور عن أمريكا ومصر، وترى أسنانه الصفراء المشرشرة عندما يضحك، ويقفز لحم وجهه حول عينيه الضيقتين فيسدهما تماما، وتمتلئ صلعته وخداه بخطوط كثيرة.
كان الدكتور عبد العظيم رجلا مثاليا في نظر أبيها، والرجل الوحيد في العالم بعد أبيها في نظر أمها، فهو قريب الأسرة، وهو حائز على جميع شهادات مصر، ومعظم شهادات «بلاد برة» وهو يملك عربة «ستروين» سوداء.
وكان الدكتور عبد العظيم فصيحا جدا وواثقا من كل شيء فيه، إلا شكله! وكانت «هيام» تحس أنه يخجل حينما يسير منفردا أمام مجموعة من الناس، وظل الدكتور عبد العظيم يتردد عليهم حتى أحست هيام أن شيئا جديدا حدث، فقد زادت الفرحة يوما في عيني أبيها، وزادت كركبة المطبخ، وأخذ الحماس أمها، وهي تشم رائحة الأكواب وتعيدها إلى الخادمة بقدر سخي من السب تعدى أباها وأمها وشمل أسرة الخادمة جميعا، وهمست أمها في أذنها وهي فرحة: «الدكتور عبد العظيم خطبك من بابا، ده عريس أد الدنيا! قومي البسي الفستان الوردي وحطي شوية بودرة واحمر، ياللا قومي!»
وقامت العاصفة في البيت بعد هذا اليوم، عاصفة شديدة، تشنجت الأم، وارتعش الأب، وصممت هيام على الرفض، وهدأت العاصفة شيئا فشيئا، وتركت خلفها آثارها، البيت صامت مكتئب، والأب عاكف على كتاب، والأم حزينة لا ترمش لها عين من على مفرش تطرزه، وهيام هاربة من هذا البيت إلى مكتبها، أو إلى مجلة «عالم الفن».
ومددت هيام ساقيها تحت الملاءة، وتثاءبت في خمول، لقد رفضت الدكتور عبد العظيم، لم تكن تتصور كيف ترى منظره يلبس «البيجاما» بجوارها على السرير؟!
وفي مجلة «عالم الفن» كانت صديقتها سميرة تعمل محررة، ولم تكن سميرة حائزة على شهادة في الأدب أو الفن، لكنها كانت حائزة على أنف جميل، وعينين خضراوين ناعستين، وقوام ملفوف رشيق.
وكانت، فوق جمالها ورشاقتها، تعرف كيف تستغل أنوثتها وتصوب سهامها، ولا بد لها أن تصيب هدفا.
وكان رئيس التحرير معجبا بها، أو محبا لها، فما من أحد كان يعرف الحقيقة.
وكانت سميرة تحب المرح، وتضحك ضحكة ناعمة تنتشي لها الأجسام وتتحمس للاستهتار بكل شيء، وللاستمتاع بأي شيء، وإذا وجدت امرأة بهذه الصورة، وسط مجموعة من الرجال، فلا بد أن يكون الجو مسليا!
وذات يوم كانت شلة سميرة تجلس كالمعتاد، بين سخرية ولهو وتهكم، وهيام بينهم واجمة تحس أنها تضيع عمرها في قضايا تافهة وتسلية فارغة.
وفجأة خرج من الحجرة المجاورة شاب طويل يلبس قميصا وبنطلونا، ويمسك في يده لوحة، واتجه إلى أحد المحررين وجلس إلى جواره، وأخذا يتفرجان معا على اللوحة ويتحدثان بصوت خفيض.
وأحست هيام أن شيئا ما أو حادثا ما، يحيط بهذا الشاب، ورأت في عينيه وملامحه شبها كبيرا بفكرة في رأسها، كأنما هو يعبر عنها بحركاته ونظراته.
واستعرضت هيام المحررين أمامها، كانوا يتكلمون ويحركون شفاههم، ولفت نظرها أشكال آذانهم، ووجدت شبها كبيرا بينهم وبين الأرانب، والتفتت نحو الشاب الجديد، كانت لا ترى منه سوى ظهره، لكنها أحست أنه بسيط، واثق من نفسه، طبيعي جدا، لا يلقي بالا شديدا لمن حوله، وأحست هيام أنها تريد أن تكلمه وأن تسمع صوته، وأن تعرف آراءه.
وحينما وقفت لتودع سميرة صافحت زملاءها، وصافحته هو أيضا، وهي تنظر في أعماق عينيه لترى شيئا تبحث عنه.
وتقلبت هيام تحت الملاءة وتثاءبت وتمطت، إنها الليلة ليست على ميعاد مع أحد، ويمكنها أن تظل تحت الملاءة كما تريد، لكنها شبعت من النوم، والجو حار لا يغري بالبقاء في السرير.
ولكن إلى أين تذهب؟
وطافت برأسها فكرة، ليست جديدة، ولكنها بدت جديدة: أروح لسميرة، لمجلة عالم الفن.
وخيل إليها أنها تتردد، وعرفت هيام لماذا تتردد، لقد أحست أن ذهابها هذه المرة لن يكون من أجل سميرة، ولا من أجل فراغ تريد أن تقضيه بأي شكل.
وتثاءبت هيام في تراخ وكسل: آه يا تعبي!
وأغمضت عينيها كأنما ستنام، ولكنها لم تنم، كانت تنظر في أعماقها وتختلس نظرة حذرة إلى العملاق الناعس في هذه الأعماق.
ترى كيف حاله؟ هل آن له أن يستيقظ؟
وتشبثت أصابعها الرفيعة بالملاءة لا تدري أهي تدفعها عنها أم تحكم أطرافها حول رأسها، لكنها أحست كأنها تتمنى شيئا.
ورفعت بقدميها الملاءة عن جسدها، ووقفت حافية على الأرض، تفرك عينيها وتهذب شعرها بأصابعها، ومشت تترنح حتى وصلت إلى المرآة فألقت نظرة على أعماقها، نظرة سريعة، وهمست للراقد الناعس في هذه الأعماق متسائلة مشفقة: ترى هل سنستريح معا من النوم؟
وارتدت ملابسها، وذهبت إلى مجلة «عالم الفن»!
لن أكون رخيصة
- هل تؤمنين بالحب؟ - الحب؟ - نعم الحب! - وهل أومن بشيء آخر؟ - ماذا تعرفين إذن عنه؟ - كل شيء! - لا، أريد شيئا واحدا. - إنه عين أرى فيها نفسي. - أنت تحبين نفسك! - إذا لم أحب نفسي فلن أحب! - بل لأنك تحبين نفسك فلن تحبي! - وهل تفهمين نفسك؟ - إلى حد كبير. - إذن ماذا تريدين مني؟ - أريد أن أراك دائما، أن أنظر في عينيك كثيرا. - وهل هذا يكفيك مني؟ - كل الكفاية. - أنت طفلة، أنت مراهقة. - لا، لست طفلة ولا مراهقة. - أنت لا تحبينني إذن. - بل أحبك كما لم أحب من قبل. - أنت إذن تكذبين! - أنا لا أعرف الكذب. - إن عينيك تكذبانك، أرى فيهما كل ما تريدين. - وماذا أريد؟ - تريدين أن أترك مكاني البعيد هذا وآتي إلى جوارك، وآخذ رأسك الصغير على صدري، وأتحسس شعرك ووجهك، وأهمس في أذنك: «إنني أحبك، إنني أريدك بكل كياني ووجودي!» - أنت تحبني لأنك تريدني. - وهل تريدين أن أحبك لأنني لا أريدك. - أنت تحبني بحواسك. - وهل أستطيع أن أحبك بغير حواس؟ - أنت لا تحب ذاتي، أنت لا تحب روحي الكامنة في أعماقي. - هذه الروح هي أنت، هي شعرك، ووجهك، وعيناك، وشفتاك، وذراعاك، وكل خلية فيك، كيف كنت أراك إذا لم تكوني جسدا؟ وكيف كنت أحبك إذا كنت خيالا هائما لا يرى ولا يحس؟ - أود أن تحب عقلي، وتفكيري، وصوتي، وكلامي، إنك لا تستمع إلي، إنك لم تستمع إلي أبدا. - أنت لست رجلا، وأنا لست مراهقا، لقد عشت أربعين عاما يوما بيوم، لم أضيع من عمري ساعة واحدة أعرف فيها نفسي إلا وعرفتها، إنني أحبك بكل تجاربي، ونضوجي، ووعيي. إن حبي لا يمكن إلا أن يكون كاملا. - وماذا تريد مني؟ - أريدك بكل ما فيك، أريد شعرك، وعينيك، وشفتك، وصوتك، وكلامك، وذراعيك، أريد روحك، وجسدك معا. - وإذا لم تنل جسدي، هل تكرهني؟ - لا أستطيع أن أهجرك. - هل تهجرني؟ - لا أستطيع أن أهجرك. - هل ستبقى على حبك لي؟ - الحب كالزهرة لا تحيا إلا إذا رواها قلبان. - سوف يموت حبك إذن؟ - الحب لا يعيش في الحرمان! - ولكنهم يقولون: الحرمان أجمل ما في الحب. - هذا صحيح، الحرمان أجمل ما في الحب؛ لأن الحب الكامل الصادق يظل في حرمان دائم، يظل دائما ظمآن، متلهفا إلى متعة جديدة. - إلى امرأة جديدة؟ - لا، إلى متعة جديدة في الحبيبة نفسها. - وحينما ينضب معين اللذات. - معين اللذات لا ينضب في الحب. - لكل شيء نهاية! - أنت لا تثقين في نفسك. - الرجل يعاف المرأة بعد أن ينالها. - إذا لم يكن يحبها. - وإذا كان يحبها؟ - يحبها أكثر وأكثر. - أنت رجل مادي. - أنا من لحم ودم. - أنت رجل وجودي. - ما معنى «وجودي»؟ أنا أعيش حياتي، أنا رجل طبيعي، أمارس طبيعتي بلا عقد، لماذا أقيدها؟ لماذا أعقدها؟ لماذا؟! - هل تسمي العفة قيدا؟ - ما معنى العفة؟ - هي الترفع عن الابتذال. - وما هو الابتذال؟ - هو الرخص، هو الاستسلام للشهوة. - وما شأن ذلك بالحب؟ الحب لا يعرف الابتذال ، ليس فيه شيء رخيص، الحب هو الشرف، الابتذال في الحب هو الخيانة، والعفة في الحب هي البذل الصادق، والأخذ الصادق، أي التبادل الصادق. - إن لك في الإقناع أسلوبا غريبا. - لأنني أقول الصدق. - أعرف أنك صادق. - اقتنعت إذن؟ - عقلي هو الذي اقتنع. - وشعورك؟ - وشعوري اقتنع ولكن. - ولكن ماذا؟ كوني طبيعية، كوني صادقة، كوني نفسك! - ولكن، لن أكون رخيصة!
أحلام
كانت سهير تريد أن تختفي، على الأقل من مكتبها، لتفكر بعيدا عن ضجة البيت، وما فيه من أم وأب وإخوة وأخوات.
وأخذت كتابا تحت إبطها، وقامت في تثاقل تجر جسدا منهكا لم ينم ليالي كاملة. وأغلقت باب حجرة المكتب بالمفتاح إشارة لمن في البيت إلى أنها ستراجع دروسها، ولا تريد أية مشاغل خارجية. وما إن اطمأنت إلى أنها وحدها حتى ألقت بالكتاب على المكتب في ضجر، وتمددت في إعياء على الأريكة القصيرة التي لا تسمح لها بأن تمدد جسمها الطويل عليها، إلا إذا أطلت قدماها من نهايتها، وتعلقتا في الهواء.
وبين سهير وبين هذه الأريكة عداء شديد، لا تدري له سببا، ولعل طول قامتها أيام المدرسة الثانوية كان مساويا لطول الأريكة فلم تكن قدماها حين ذاك تتعلقان في الهواء، أو لعل الأريكة كانت أحسن حالا منها الآن، فلم تكن أسلاك التنجيد تبرز من بطنها وتشك ظهرها وهي نائمة، ورغم كل ما تعرفه سهير عن هذه الأريكة فإنها لم تفكر فيها حينما ألقت جسدها المتعب عليها، كانت في رأسها الصغير معركة حامية يكاد لهبها يذيب مادة مخها ويفتتها، كما فتت الأرق جسمها النحيل أربع ليال كاملة.
وأخفت سهير وجهها بكفيها وخرجت رغما عنها كلمة أصبحت تلازمها في خطواتها: يا رب.
ورفعت كفيها عن وجهها وعينيها نحو السقف وشفتاها ترددان كأنها في غيبوبة: يا رب.
وأخذت تفكر، هل يمكن أن يصنع ربنا من أجلها شيئا؟ هل يستطيع أن يمحو من الوجود ما حدث لها، وهو على كل شيء قدير؟ - أستغفر الله العظيم.
نطقت بها سهير في وجل كأنها تخاف أن تكفر بالله فلا يبقى أمامها أمل، وأملها الوحيد الباقي هو الله، أن يصنع من أجلها معجزة ليقتل هذا المخلوق الثقيل الذي يتمسك بالحياة كأنها قطعة من الحلوى، والذي رغم ما فعلته من قفز وجري وخبط على بطنها، يصر على أن يظل متشبثا بأحشائها ملتصقا بكيانها لا يتزحزح أبدا.
ورفعت سهير جفنين متورمين من السهر والبكاء، ونظرت حولها في دهشة، كيف حدث لها ذلك؟ إنه لم يخطر ببالها قط أن تقع في مشكلة كهذه، خصوصا هي، هي التي لم ترسب في المدرسة أبدا، هي التي يقول عنها أبوها إنها أحسن البنات، كيف تصبح سهير بعد هذا كله أما بلا زواج لجنين غريب لا تعرف شكله ولا تعرف حتى كيف جاء؟! فهي لم تكن تحب، ولم تكن تفكر في الحب.
وحينما كانت تخلو إلى نفسها لم تكن تفكر في الرجال مثل فتحية وزينب وإلهام، وإنما كانت تفكر في نفسها بعد أن تتم علومها وتتخرج.
ولم تدر كيف تسلل إليها ذلك الولد، أجل ذلك الولد! كان زميلا لها في الدراسة واشتهر بسلوكه المستهتر، تساعده عليه عربته الزرقاء الصغيرة التي يملكها، وإن سهير لتعرف جيدا أنه لم يلفت نظرها، لا هو ولا عربته، رغم أن فتحية وزينب وإلهام كن دائما يغمزنها كلما أقبل بعربته الزرقاء، ويشهقن جماعة قائلات: ياختي عليه، شكله حلو، شوفي يا سهير العربية بتاعته، مش الفقر بتاعنا وركوب الأتوبيسات!
وتعرف حق المعرفة أنها لم تكن تتأثر بكلامهن ولا بشهقاتهن، بل كانت تلقي عليهن دائما نصائح في المبادئ والمثل، وأن الفقر ليس عيبا، وأن الأتوبيس ليس متعبا، وأن الحياة لذتها الكفاح، وأن الرجل لا يقاس بشكله الحلو، أو عربته الزرقاء وإنما بشخصيته.
شخصيته! هذه الكلمة التي كانت تسمعها من أبيها أحيانا، وتقرؤها في الروايات، وهذه المبادئ التي كانت تلقنها لزميلاتها، كانت فعلا تؤمن بها في قرارة نفسها، ولا تمثل دور القديسة أو النبيلة، كانت هي كذلك! ولكن كيف حدث لها ما حدث؟!
ورغم المخلوق الصغير، الذي لم يكتمل، والذي يعيش في أعماقها منذ شهور، ورغم أنها تعرف أن هذا المخلوق لا يأتي هكذا من عند الله، لأنها ليست مريم العذراء، ورغم أنها تخاذلت فعلا في لحظة ضعف قصيرة مرت كالبرق، رغم كل هذا فهي تحس أنها بريئة، وأنها وإن أخطأت دقيقة فيكفي عذابها وأرقها ليالي طويلة ليكفرا عن هذا الخطأ، ولا داعي أبدا لأن تعيش في مشكلة لا حل لها إلا أن تشرب سما وتموت ويموت معها هذا المخلوق الغريب، أو تعيش، ولكن كيف تعيش؟ لا تدري! وماذا يقول أبوها الذي يؤمن بها وباستقامتها كما يؤمن بالله، وماذا تقول أمها، وأقاربها، والجيران، والناس، و... و...
وأخفت سهير وجهها بين كفيها وأجهشت بالبكاء.
ومرة أخرى تقول يا رب، الأمل الوحيد في أن يصنع معجزة، أي معجزة، أن يأخذها إليه أو يتصرف في ذلك المخلوق ويأخذه قبل أن تنتهي من عد عشرين، وأخذت تعد على أصابعها قائلة بصوت عال: واحد، اتنين، تلاتة، يا رب، أربعة، خمسة، ستة، يا رب، سبعة، يا رب، تمانية، يا رب، لا يمكن أن تنتهي سهير هذه النهاية، وما من أحد يتصور ذلك، فتحية ممكن أو زينب أو إلهام، فهن معروفات بالعفرتة والضحك الكثير، والنكات والحديث عن الرجال، ولكن «سهير» سهير؟! يا سلام! نحس! نحس!
صحيح نحس، حظها نحس، وظروفها نحس، ومعرفتها بهذا الولد، كما تسميه، نحس، ما الذي ساقه إليها؟ وفي أي ظرف نحس تعرف إليها؟ لم تكن تذكر، كان في نظرها مجرد ولد غني مهرج يتسكع بعربته الزرقاء ويستعرض قمصانه الحريرية وبدله الغالية أمام البنات، وليس في رأسه عقل ولا ينتظر أن يتابع دراسته أبدا.
ما الذي غير هذه الفكرة؟ وما الذي جعله يتقرب إليها؟ وما الذي جعله يحدثها عن المبادئ وعن المثل العليا، إن المظلوم يجب ألا يظلم، يجب أن يكون له من يدافع عنه، وإن الحق يجب أن يسود دائما، كان يكلمها وكانت تستمع إليه وهي مشدوهة، أيمكن أن يخرج هذا الكلام الجميل من ذلك الولد؟ صحيح أنها خدعت، لقد ظلمته في فكرتها عنه، ليست العربة الزرقاء ولا البدل الغالية دليلا على الاستهتار والفساد، وبدأت تقترب منه، وبدأت تحس أنه رجل، رجل قوي، جريء، غني، ليس فيه عيب، أي عيب!
لم تدر متى بدأت تحبه لكنها تذكر أنه غاب ذات يوم فأحست أنها لم تستطع أن تركز انتباهها في الدرس، وظلت قلقة حائرة حتى قابلته في اليوم التالي وقلبها يقفز من الفرح، لم تعرف أن هذا هو الحب الذي يكتبون عنه، ويهمسون به، وإن كانت تسأل نفسها حينما تخلو إلى حجرتها: هل هذا هو الحب؟
ولم تعرف أنه الحب إلا بعد ذلك اليوم، كان يوم جمعة وشمس الشتاء تشيع الدفء في الأجسام وتشجع على الخروج، أول موعد في حياتها، وأول مرة تكذب على والدها، وخرجت متعللة بزيارة صديقة لها، وقابلته، كان ينتظرها بجوار الرصيف داخل عربته الزرقاء، ودخلت بسرعة، وجلست إلى جواره، ولأول مرة يمسك يدها فترتجف، ولأول مرة في حياتها يقبلها رجل.
كانت تنتفض ومناظر الطريق خارج العربة تتراقص أمام عينيها كأنها ذاهبة في غيبوبة.
ولم تفق إلا حينما عادت إلى بيتها ودخلت في السرير وشدت على رأسها الغطاء، أفاقت من غيبوبتها وسألت نفسها بعنف كيف سمحت له بأن يقبلها؟ إنها إذن مثل الفتيات اللائي يقبلهن الرجال وتروى عنهن الشائعات، وتنظر إليهن باحتقار حينا وبإشفاق أحيانا. وأغمضت عينيها، وقرأت سورة «يس» كعادتها وقالت لنفسها في عنف إنها لن تسمح له بأن يقبلها مرة أخرى.
وفي اليوم التالي لم تدر لماذا نسيت هذا العزم، وكيف ضغطت بإصبع الروج على شفتيها رغم أنها لم تكن تحب الأحمر الثقيل وتكتفي بأحمر خفيف، وكيف كانت سعيدة وهي تمشي في الشارع، وكيف كانت تحرك رأسها هنا وهناك طول الصباح تبحث عنه.
وطبيعي أنها لم تستطع بعد كل هذا أن تقول له لا، حينما طلب منها نزهة ثانية في العربة، وطبيعي أيضا أنها لم تستطع أن تقول له لا، حينما طلب منها قبلة ثانية.
ولكن غير الطبيعي أنها قالت له نعم، حينما طلب منها أن تأتي معه إلى بيته، ولم يكن طبيعيا أيضا أنها لم تعرف بالضبط ماذا حدث هناك، كان أول رجل يعانقها، وكانت أول مرة تحس فيها أنها أنثى، ومضت اللحظة سريعة كالبرق لم تحس بها تماما.
وعادت إلى بيتها ووضعت رأسها تحت الغطاء وفكرت، وتساءلت، كيف حدث هذا؟ كانت خائفة، تحس أنها تدخل حياة أخرى غير التي كانت تعيشها، كانت مبهورة، مذهولة، لكنها لم تفكر أبدا أن شيئا كهذا سيحدث، وأن مخلوقا جديدا سيبدأ الحياة في أعماقها بعد هذه اللحظة، لم تكن تتصور أن الناس يخلقون بهذه السهولة، وبهذه السرعة.
ولكن ماذا تفعل الآن وقد حدث ما حدث، وتكون مخلوق جديد سخيف؟ لا شيء أمامها سوى أن تنتهي، تموت، ويموت معها ما بداخلها وما بخارجها.
وقامت عن «الأريكة» وظهرها يؤلمها من السلك البارز، وفتحت الباب وتسللت إلى غرفة النوم، ولبست فستانا قديما لا تلبسه إلا في البيت، ونظرت إلى فستانها الجديد المعلق في الدولاب والدموع في عينيها وقالت لنفسها: خسارة! خسارة الفستان الجديد في الموت، خليه لوفاء تلبسه.
إنها تفكر في أختها وفاء وهي في طريقها إلى الموت، هذا دليل على أنها طيبة وأنها بريئة، وأنها قديسة!
وتسللت إلى الخارج دون أن يحس بها أحد، ودون أن تستأذن أباها، إنها أول مرة في حياتها تخرج من البيت بدون إذن، ولكن هل يجب أن تستأذن قبل الموت؟ ومشت في الطريق كالتائهة، ووصلت إلى كوبري الجامعة، وألقت على من حولها نظرة وداع حزينة، وسارت في خطى بطيئة على الكوبري وهي تحاول ألا تفكر في شيء، إنها ستموت، ويجب أن تموت، لا لتعاقب نفسها، ولكن لأن الحياة سخيفة، ليس لها معنى، والناس أيضا كلهم سخفاء؛ فهم يخلقون بطريقة سخيفة، وفي لحظة تافهة سريعة، والموت بالطبع أحسن من الحياة، وأحسن من الناس، والآخرة لا بد جميلة، والله يعرفها جيدا ويعرف أنها بريئة، ولا شك في أنه سيدخلها الجنة، لأنها ليست ساقطة، لقد عاشت متدينة دائما.
وعند منتصف الكوبري وقفت، ونظرت إلى الماء بقوة غريبة كأنها تتحدى الحياة، وصعدت على سور الكوبري، ثم ألقت بنفسها في الماء .
آه، تحركت سهير، استيقظت من نومها عندما صاحت، وفتحت عينيها: ما هذا؟ أين أنا؟ ونظرت حولها، ورأت المكتب وساعة المنبه عليه تشير إلى الثامنة، كيف؟ لقد قضت الليل كله على الأريكة، ورفعت جسمها عن الأريكة وهي تدلك ظهرها من وجع السلك، ورأت الكتاب بجوارها ما يزال مفتوحا عند آخر صفحة وقفت عندها قبل أن يغلبها النوم، وتأملت الصفحة، ثم ابتسمت لنفسها وهي تغلق الكتاب بهدوء.
لست أنا
كان الحفل صاخبا زاخرا بالضجيج، ناس يروحون، وناس يجيئون، ناس يتكلمون، وناس لا يسمعون، راقصة ترقص، ومطربة تغني، رجال يصفقون ويقهقهون ويترنحون، ونساء يتبخترن في ملابسهن البراقة الهفهافة، وكل منهن تنظر إلى فستان الأخرى من طرف خفي.
الكل مشغول، الكل منهمك، الموسيقى تصدح، والفرح يبدو على الجميع، إلا أنا.
كنت أجلس كالعجائز في ركن غير بعيد، أحاول أن أخفي حذائي القديم تحت الكرسي الذي أجلس عليه، وأجتهد ألا تصدر مني حركة قد تلتفت إليها «سنية» زميلتي في المدرسة منذ عشرة أعوام، وأخذت ألوم نفسي، وأعنفها، لماذا حضرت هذا الحفل؟ كان يمكن أن أعتذر، أو لا أعتذر، فمان كان أحد سيذكر هذا أو ذاك، لكني جئت لأسري عن نفسي بالنظر إلى الناس والأنوار والطرب، وكنت قبل أن أرى «سنية» سعيدة بما أرى، أجلس وسط جمع من الناس لا يعرفونني ولا يدقق أحد منهم في منظري، وكدت أنسجم تماما مع هذا الجو المرح لولا وقوع نظري بغتة على سنية تسير مع بعض صديقاتها، كانت تلبس ثوبا أنيقا للسهرة وترفع شعرها إلى أعلى في تسريحة جذابة.
كانت تلمع وتبرق، وكل ما فيها يلمع ويبرق.
وأخفيت رأسي بين رءوس المدعوين أتظاهر بأنني أفتح حقيبتي وأخرج المنديل وأدخله، ثم أخرجه وأدخله عشرات المرات وأنا أضيع الوقت بإطراقي حتى تمر «سنية» بجواري.
ومرت سنية ولم ترني، كانت مشغولة بالحديث مع صديقاتها، وتنهدت بارتياح، فكم يكون خجلي لو رأتني ورأت فستاني الأجرب الذي أخرج به في الصباح والظهر والمساء، ووجهي الكالح الباهت الذي بقعته طبقة من المساحيق الرخيصة؟
وجلست سنية وصديقاتها - لسوء الحظ - في مكان قريب مني، بحيث أسمع منه حديثهن وضحكاتهن.
وسمعت صوت سنية ينطلق عذبا رنانا، فيه جرس السعادة والنعيم، فذكرني بصوتها منذ عشرة أعوام حينما كنا ندخل السرير لننام، وكان سريرها إلى جوار سريري، ودولابها جزء من دولابي، وكانت ضابطة الداخلية صارمة قاسية تحتم علينا أن ننام حينما يدق جرس النوم، لكن النوم كان يطير بمجرد سماع هذا الجرس، وتطل كل واحدة منا برأسها من تحت الأغطية، ونواصل الهمس والضحك المكتوم ساعات طوالا، وحينما تمر علينا الضابطة تسترق السمع لتفتش على نومنا وأحلامنا نخفي رءوسنا في الأغطية بسرعة البرق، كما تفعل السلحفاة حينما تحس بالخطر.
وكانت الضابطة بالنسبة لي شيئا مرعبا، ولقد دهشت كثيرا عندما علمت أن لها زوجا وأولادا، فقد خيل إلي أنها ليست مثل سائر الناس، وكنت أقضي وقتا طويلا وأنا أفكر ماذا تفعل في بيتها، وأتخيلها وهي تأكل، وهي تستحم، وهي تلاعب أولادها، وهي تنظر إلى زوجها، وكنت أسائل نفسي كثيرا، هل هي تحب زوجها؟ وهل تقبله أحيانا؟ هذا ما لم أتخيله أبدا، حتى رأيتها في يوم تقبل علي وتمسك في يدها بخطاب، وكان وجهها غريبا علي، إذ شاعت في عينيها تلك النظرة الجامدة، واختفى من جبينها ذلك الخط الرأسي العميق، وانفرج فمها الرفيع كأنه بلا شفتين، وظهرت أسنانها في ابتسامة، وناولتني الخطاب وهي تربت على كتفي: والدك باعت يقول إن مامتك تعبانة شوية، وحضرة الناظرة صرحت لك بالسفر النهاردة. - السفر؟ النهاردة؟
وتسمرت أمامها لحظة من الفرح، ثم أطلقت ساقاي للريح فوصلت في لمح البصر إلى حقيبتي ودسست فيها بعض الملابس، وعانقت ثلاثا من صديقاتي دفعة واحدة وأنا أصيح: سعاد، آمال، فتحية، تصوروا، أنا مسافرة دلوقت.
وانفتح باب سجن الداخلية أمامي، وقفزت إلى الطريق، وأخذت أحرك ساقي وذراعي وأنا أسير لأتحقق من أنني أسير، وأحملق في وجوه الناس في الطريق لأتأكد أنني فعلا خارج من المدرسة، وركبت القطار، وجلست بجوار النافذة لأطل منها وأسرح كيفما أشاء في أبي وأمي وإخوتي، وتذكرت الخطاب وأمي المريضة ، وقلت لنفسي: لا بد أنها متعبة قليلا فهي أحيانا تشكو من ركبتيها ومفاصلها.
ووصلت البيت، وصافحت إخوتي، ولاحظت أنهم لا يبتسمون كعادتهم، وأحسست أن تغييرا كبيرا قد طرأ على بيتنا، وخفق قلبي، ولم أستطع أن أفكر في ذلك الذي وقع، فأحدث كل هذا التغيير، وبادرت إلى أختي أسألها في جزع ولهفة: «نجوى، جرى إيه؟!»
ونظرت إلي نظرة حزينة غريبة، وارتمت علي وهي تجهش بالبكاء، ولا أدري لماذا لم أفهم، أهو الغباء أم أنني لم أكن أتخيل أبدا أن ماما تموت.
وأخذت أدور في حجرات البيت أبحث عن أمي، وأحسست أنها في مكان ما في البيت كما عهدتها دائما، وكان كل شيء من البيت يؤكد لي أنها موجودة.
ولم أفق إلا في اليوم التالي، على صوت أبي وهو يضمني إليه ويقول: أنا فكرت أنك تسيبي المدرسة يا عفت وتقعدي في البيت، إخواتك عاوزين رعايتك دلوقت وإنت الكبيرة، واللا إيه؟
وكانت كارثة أخرى بالنسبة لي تماما كموت أمي، فقد كنت أحب المدرسة رغم ضابطة الداخلية، وأشعر أنها الفرجة الوحيدة في حياتي التي أخرج منها رأسي وأطل على الدنيا وأشم عبير الحياة، وبقيت في المنزل رغم أنفي أربي أخوتي، وأحضر لهم الطعام وأغسل ملابسهم، وأصبر على متاعبهم، وأتحمل قسوة أخي المغرور الذي كان يتدرب على رجولته معي، فيفرض علي أحكاما غريبة حمقاء كنت أعرف أنهم يلقنونها له في جمعية دينية، وكان عمري تسعة عشر عاما، لكني كنت أشعر أنني امرأة في الثلاثين أو الأربعين تحمل هم بيت كبير بأولاده وبناته.
وجاءني أبي يوما وهو يبتسم، ويربت علي وفي عينيه بريق جديد: أنا حاسس يا بنتي إنك تعبانة قوي في البيت وإنت عارفة إن الماهية ما تستحملش خدامة.
وضمني إليه في حنان وعطف، وقد رأى دموعي، ثم اغتصب كلماته قائلا: عشان كده فكرت إني أتجوز، واحدة ست كبيرة عندها حوالي أربعين سنة وطيبة جدا وحتساعدك كتير.
وتزوج أبي هذه المرأة، وبعد زواجه زاد من أخدمهم وأعد لهم الطعام، وزاد عدد الأطباق والملاعق التي أغسلها كل يوم ثلاث مرات، وبعد أن كنت المتصرفة في شئون البيت أصبحت الخادمة التي تتلقى الأوامر فتطيع، وإذا لم أطع جاءني أبي متأثرا يقول لي: دي ست كبيرة، وإنت زي بنتها لازم تسمعي كلامها يا عفت.
وكان لا بد أن أصبر وأصبر حتى اعتدت هذه الحياة وأصبحت لا أحس بالتعاسة والذلة اللتين كنت أحس بهما، ولم أعد أنظر إلى سقف المطبخ وأنا أغسل الأطباق والملاعق وأشكو لربي وأنا أبكي في صوت مكتوم وأمسح دموعي قبل أن تراني واحدة من أخواتي.
ولم تعد مناظر البنات في الشارع بملابسهن الأنيقة تثير في مشاعر الحرمان والشقاء، وعرفت أن الذل لا يولد مع المرء، بل يتسرب إليه شيئا فشيئا حتى يصل إلى درك لا يليق به، لكنه لا يحس بشيء لأن التغير يكون بطيئا، فإذا صادفه شيء يذكره بما كان عليه قبل هذا الانحدار تجلت أمام عينيه الهوة التي فصلته عن مستوى حياته الأولى.
هذا ما حدث لي، حينما رأيت سنية زميلة الدراسة، تذكرت نفسي الحقيقية فيها، وأحسست أنني لا يمكن أن أكون هذه الفتاة التي تنزوي في ركنها الخفي، وكعب حذائها قد تآكل واعوج، وشاب فستانها هذه البقع السوداء والصفراء.
وأحسست أن الجو يخنقني وأن وخزا كوخز الإبر ينخس قلبي، من أنا؟ لا أكاد أعرف من أنا.
لست أبدا أنا، أبدا.
وتحركت من مكاني دون أن أشعر فلمحتني سنية والتفتت نحوي، وأسبلت جفنيها قليلا لتتأكد مني.
وخفق قلبي وارتعشت أحشائي، وتقابلت عيناها اللامعتان بعيني المهزوزتين، ثم استدارت نحو صديقاتها وانهمكت معهن في الحديث كأن شيئا لم يحدث.
وبلعت ريقي، وهدأت دقات قلبي وأنفاسي، وقمت وخرجت من الحفل وسرت في الطريق المظلم الموصل إلى بيتنا، ولفحت وجهي نسمة باردة فأحسست بشعور غامض غريب عرفت بعد ذلك أنه الحزن.
زوجي، لا أحبك!
أتخيلك الآن يا زوجي العزيز، وأنت جالس على حافة السرير، وعلى وجهك تلك الابتسامة البلهاء الغريبة التي لا تعبر عن شيء.
آه، كم كرهت ابتسامتك! لم أر فيها شيئا، لا الرضا، ولا الضيق ، ولا الفهم، لم أر لها لونا، فلا هي صفراء، ولا حمراء ولا خضراء!
لماذا؟ لماذا تعجز شفتاك الرقيقتان عن التعبير؟
أتخيلك وأنت جالس تقرأ اعترافي هذا، وتتسع عيناك الزرقاوان الواسعتان، وتمتلئان سذاجة شديدة وتصرخ بعبارتك المألوفة: «مش معقول!»
كم كرهت نظرتك الزرقاء الضحلة، كأنها حفنة ماء في قاع بركة كبيرة.
أتخيلك يا عزيزي وأنت جالس وساقاك تتدليان على حافة السرير، وقدماك الصغيرتان الناعمتان تقززان عيني وتهتزان وحدهما، بلا سبب، وحينما تصل إلى نهاية اعترافي تهزهما أكثر وأكثر.
لماذا تنزعج يا صديقي لصراحتي؟ ألم تتخيل أن توجد امرأة بهذه الصراحة؟ ولكن لماذا أكذب؟ من أجل الزواج؟ ولكن ما هو الزواج؟ رجل يشتري امرأة! امرأة تبيع نفسها لرجل! في سبيل أي شيء، المؤانسة، ملء الفراغ؟
هل تذكر حينما لقيتك لأول مرة؟ كان ذلك منذ عشر سنوات، عدت من المدرسة يومها فوجدت أمي تنتظرني، وفي عينيها نظرة قلقة، وقالت لي في همس: «مع أبيك في حجرة الاستقبال ضيف.»
وفهمتها رغم أنني كنت في السادسة عشرة، إن ضيوفا كثيرين يزورون أبي، ولا تهمس لي كما تهمس الآن.
وقلت: «لا! لا أريد أن أتزوج، أريد أن أتعلم، أريد أن أدخل الجامعة، أريد أن أصبح شيئا!» «إنني لا أعرفه، إن ملامحه غريبة، غريبة جدا، لا أستطيع أن أعيش معه، سأقتل نفسي، ارحموني!»
وبكيت، وصرخت، وضربت الأرض بقدمي، وأضربت عن الطعام، وطفت بالصيدليات أبحث عن سم قاتل، ولكنهم كانوا أكثر قوة مني، أخرجوني من المدرسة وساقوني إليك، كما تساق البهيمة إلى الجزار.
جزاري العزيز، لماذا عجزت عن أن تفهمني؟! لماذا قلت لي في أول ليلة وأنا أبكي: «كل البنات يبكين، كل البنات يتمنعن، ثم ذبحتني!»
آه يا رأسي! أريد أن أنسى! أريد أن أنسى منظر جثتك الضخمة وهي غارقة في بحر من العرق، وعلى فمك تلك الابتسامة البلهاء، وفي عينيك نفس النظرات الخاوية، وقدماك الصغيرتان الناعمتان تهتزان وحدهما، وتبعثان في نفسي شعورا بالتقزز والغثيان.
ثم نمت، نمت وأنت راقد على ظهرك، وتوقفت قدماك عن الاهتزاز، وبدأت شفتاك ترتعشان، وقلت لنفسي وأنا أرتعد من الخوف: «يا إلهي! لماذا ترتعش شفتاه؟ هل هو مصاب بداء ما؟ آه يا ربي! لماذا تركني أهلي مع هذا الرجل الغريب؟»
واهتزت شفتاك أكثر وأكثر، وانخلع قلبي من الخوف، وخيل إلي أنك مصاب بداء المشي أثناء النوم، والانقضاض على الناس وذبحهم، وتلفت حولي في ذعر، أين أختبئ منك قبل أن تقوم وتنقض علي! وفجأة سمعتك تقول شيئا، وقفزت مذعورة من السرير إلى الأرض، كيف هذا؟ إنه يتكلم وعيناه مغمضتان؟ هل يكلم الشياطين والجان؟ وظلت عيناي مثبتتين على يديك وشفتيك ترقبان أي حركة.
حتى رأيتك تتقلب وتتمطى وتتثاءب، ثم تفتح عينيك، وسمعتك تقول لي: «صباح الخير»، وزال عني خوف الليل حينما رأيت نور الصباح يملأ الحجرة.
جاء أبي وأمي وأقاربي، وسمعتهم يقولون لي مبروك، مبروك علي أي شيء؟! من هؤلاء القوم؟ هل هم أبي وأمي وأقاربي حقا؟ أم هم غرباء جاءوا ليطمأنوا على سلامة الذبيحة؟
وبكيت في حجر أمي، وتشبثت بملابسها، وتوسلت إليها: لا تتركيني، لا تتركيني هنا، خذيني معكم، لا أحبه، لا أتصوره، سأموت! وتركوني، تركوني لك، لم أمت كما ترى، فأنا ما زلت أتنفس، وما زلت قادرة على أن آكل وأشرب وأنام، وأنت تسمي هذه حياة، وتتعجب حينما ترى دموعي تسح من عيني، وتسألني وفي عينيك تلك النظرة الباهتة الضحلة: ماذا يحزنك؟ إنني أوفر لك كل شيء، تأكلين أجود طعام، وتلبسين أغلى ملابس، وتسكنين أرقى حي، عندك الخدم، وبيتك كامل من كل شيء، ماذا يمكن أن ينقصك بعد ذلك؟
لماذا تبكين؟ هل أنت مريضة؟
ولم أقل لك شيئا، وماذا أقول وأنت لا تعرف شيئا عن الحياة سوى أنها أكل جيد، وملابس ثمينة، وبيت لا ينقصه شيء، ولا تتصور أن شيئا ما يمكن أن ينغص علي حياتي إلا أن أكون مريضة، آه، ليتني كنت مريضة، فلا آكل ولا أشرب حتى أموت، ليتني كنت مريضة بعقلي، وقلبي، لا أبكي، ولا أفهم، ولا أحس، ولكن ماذا أفعل، وفي أعماق قلب سليم عنيد يريد أن يعيش، وأن يعيش بعنف، لماذا إذن أقتله؟ لماذا؟ دعني، دعني يا صديقي أعش حياتي أنا، لا حياتك أنت، دعني وشأني، فأنا لا أحبك، أنا لست زوجتك! لست قريبتك، لست من فصيلتك، أنا من جنس وأنت من جنس!
زوجي العزيز، هل تريد الصراحة المطلقة؟ إنني أحببت، نعم، أحببت رجلا، ماذا تقول؟ أنا خائنة؟ لماذا؟ لأنني صادقة لا أكذب، ولكن ماذا تسمي زواجنا؟ إنه خيانة، أكبر خيانة، لنفسي، ولك، وللحياة، ولكل شيء، أتسمي هذه الورقة التي كتبها بخطه الرديء، ذلك الرجل المعمم، زواجا؟ هل استطعت بها أن تمتلك نفسي وروحي وعقلي وقلبي؟ بل جسدي، جسدي هذا الذي تظن أنك امتلكته؟ إنك لم تمتلكه! لم تحركه! لم تمسه!
إنه يعيش في عذرية دائمة لم تفقده منها شيئا، لأنها عميقة بعيدة، في أعماقي، ليس في مقدورك أن تصل إليها.
هل كان زواجنا بعد ذلك شريفا؟ وكيف يكون وهو عقد بيع وشراء بين طرف أول قوي مستكبر، وطرف ثان، ليس له إلا أن يبصم؟
أيها الشريف الغالي، ما هو الشرف؟ أن تبيع المرأة نفسها للرجل في طيات ورقة الزواج، ووجبات الطعام الثلاث؟ وما الفرق بينها وبين تلك التي تسميها ساقطة؟ كل منهما تبيع نفسها، ولكن الثمن فحسب هو الذي يختلف.
لا يا سيدي! لست ساقطة! أنا لا أبيع نفسي!
لست رخيصة! هل تعرف ما هو الرخص؟! إنه حياتنا معا، إنه زواجنا، إنه رجل وامرأة يجتمعان بلا حب، بلا عواطف، بلا قلب، وماذا يبقى لنا بعد ذلك؟
جسد الحيوان؟
لا، لا تغضب يا عزيزي، ولا تثر، لم هذا الغضب؟ ولم هذه الثورة؟ من أجل كرامتك وكبريائك؟ من أجل عرضك واسمك؟ من أجل الناس الذين سيتكلمون ويتكلمون، ولكن ما شأن ذلك كله بي أنا، بما أحسه وبما أفعله؟ ألست «إنسانة» مثلك لي اسمي وكرامتي وكبريائي؟ لماذا لا ينسبون أعمالي إلي أنا؟ لا أريد أحد يحمل عني أخطائي، أو فضائلي.
أتخيلك الآن يا صديقي وقد استبد بك الغضب تهز قدميك الصغيرتين الناعمتين في عصبية وتقول لنفسك: ولكنها لا تملك شيئا ، حتى حريتها لا تملكها، إن كل شيء في يدي، أنا الرجل! أعرف ذلك، أعرف أن القانون معك، والناس يقفون في صفك، لأنك الرجل، ولكني أنا لست معك، حتى لو أوثقت قيدي ووضعتني في بيتك وغلقت دوني الأبواب لن أكون معك، لأنني سأجلس في سجني أفكر فيه، وأعيش له، وأحبه أكثر وأكثر، حتى أموت.
لا تسخر يا صديقي، أعرف أنك لا تعترف بشيء اسمه الحب، وكيف تعترف بشيء لا تحسه ولا تفهمه؟ لكني أعترف به، بل لا أومن بشيء آخر في الحياة.
كان ذلك منذ ثلاثة شهور في حفل رأس السنة الجديدة، وحينما رفع رأسه وثبت عينيه في عيني دارت الدنيا من حولي بكل ما تحتويها، رأيت الرجال والنساء يرقصون وينسابون بعضهم وراء بعض كالأشباح الخافتة، وسمعت أصواتهم وضحكاتهم تصل إلى أذني كأنها آتية من عالم بعيد جدا.
أما أنت فقد نسيتك تماما، نسيت ملامحك، نسيت أنني رأيتك من قبل، نسيت وجودك إلى جانبي، ونسيت أنني تزوجتك وعشت معك في بيت واحد ثمانية أعوام كاملة!
يا إلهي! أهكذا يضيع الزمن بحوادثه وأيامه ولياليه؟! أهكذا يفقد العقل ذاكرته ووعيه؟! أهكذا يفقد الحس ماضيه؟ كيف؟ كيف تتلاشى ثمانية أعوام كاملة من حياتي أمام لحظة قصيرة عابرة؟
ولكن كان هناك بحر، بحر في عينيه عميق، عميق ليس له قرار، وعالم في نظراته واسع، واسع ليس له مدى، رأيت الدنيا حوله تافهة باهتة ضيقة.
وعرفني، كأنما التقطت نظراته نظراتي كالمغناطيس، عرفني، وفهمني، وأحس بس وأنا أدخل عالمه وأغرق في بحره، وانتشلني في رفق، وضمني في حنان، وتركت له نفسي يحميها، يرعاها، يربت عليها، وأحسست بدموع حارة في عيني، دموع غريبة، ليست كتلك الدموع التي بللت وسادتنا.
ووضعت رأسي على صدره وبكيت، وبكيت بفرح، ورفع رأسي إليه ونظر في عيني وابتسم، وحلقت بي ابتسامته في أجواء غريبة، إنها تحكي له قصصا وقصصا، وتروي لي تجارب وتجارب، وأخذني بين ذراعيه وقبلني فضاع وجودي في وجوده، وتلاشى كياني في كيانه.
ثم أفقت، فتحت عيني فوجدتني أعود إلى حفل رأس السنة الجديدة كأنما بعد غيبة طويلة، ورأيت الرجال والنساء يرقصون ويمرحون، ورأيتك تملأ الكرسي الكبير وتنام وأنت جالس، وذراعاك متراخيتان إلى جوارك وقدماك الصغيرتان الدقيقتان تهتزان.
اغفر لي يا صديقي العزيز، اغفر لي صراحتي وصدقي، أنا لا ألومك ولا أعاتبك، فأنت ضحية مثلي، ضحية وهم كبير يعيش فيه الناس ويعيشون فيه بإصرار وعناد.
لماذا؟ لماذا لا يكف الناس عن الأوهام؟ لماذا يغمضون أعينهم عن الحقيقة؟
ولكني لن أدعهم يصنعون حياتي، سأصنع أنا حياتي، سأرسم مستقبلي، لن أكون عجيبة في أيديهم، لن أعيش حياة مزيفة، وداعا يا صديقي، وداعا إلى الأبد.
كلنا حيارى
أنا حائرة دائما، حائرة مع العذاب، وحائرة مع الهوى، وحائرة مع الألم، وحائرة مع المرض.
لا أدري لماذا اخترت هذا اللون من الحياة، اللون القاتم الحزين والجانب المليء بالألم والدمع والدم، منذ سنين كثيرة عندما كنت على أبواب الجامعة فكرت فيما أكون، وكنت أحب الأدب، والرسم، والموسيقى، والغناء، والتمثيل، لكني وجدت نفسي أختار كلية الطب كلية المرض، والأنين، والموت!
وأثناء دراستي للطب جاءتني أمي تسألني في بساطة عن ورم صغير ظهر في ثديها، وتجمد الدم في رأسي، وبردت أطرافي، وقلت لها وأنا أخفي انزعاجي: لا شيء، مجرد كيس دهني.
وعاشت أمي بعد هذا اليوم عشرين شهرا كاملة في ألم مبرح أشد عذابا وقسوة من الموت، ثم، ماتت، عجز الطب عن شفائها.
وراجعت نفسي، وهوايتي للطب، وثقتي في الطب، وبعد شهور قليلة، وفي يوم نسيت فيه الألم والموت والطب، وجلست مع أبي نتحدث في السياسة، وقمت لأفتح الباب، وعدت لأجد أبي راقدا على الأرض ميتا.
ولم أبك، ومضيت إلى حقنتي فكسرتها، وألقيت سماعتي من النافذة، ومزقت كتب الطب، وأغلقت عيادتي بالشمع الأحمر، وجلست في البيت أفكر.
وعرفت بعد تفكير طويل أن هوايتي للطب والمرض والألم هواية مزيفة، وتذكرت هواياتي القديمة للأدب والتمثيل والموسيقى والغناء، وتأكدت أنني أخطأت عندما اتجهت إلى الطب، كان يجب أن أكون فنانة أو شاعرة أو كاتبة.
وابتسمت ثم ضحكت، وشر البلية ما يضحك، ثم أمسكت بالقلم وكتبت قصة وقصتين وثلاثا، ووجدت أن كتابة القصص ألذ من مجرد التفكير والتأمل وأمتع من الكشف على المرضى، فهي تتيح لي أن أصور الحياة، والموت، والفرح، والحزن، والسعادة، والألم.
وعدت إلى عيادتي، وفتحتها مرة أخرى، ومارست كتابة القصص والطب جميعا، ولا أدري ما هي الظروف التي عادت وألقت علي بنوع جديد من الألم، إذ أصبحت مسئولة عن حل مشاكل القلوب الحائرة المعذبة في «مجلة الحب»، وتلقيت خطابات الحائرين والحائرات، وتكومت على مكتبي بالعيادة، وشرعت أقرأ، شاب يحب فتاة لا تبادله الحب، ويستحلفني أن أدله على طريقة للانتحار تميته دون أن يشعر بالألم، ويسأل أيهما أفضل: حامض الفينيك أم سطح المجمع؟! وفتاة خدعها ذئب وسلبها أعز ما تملك، وتريد مني أن أساعدها، وزوجة تقول: أختي سرقت مني زوجي، ماذا أفعل؟ وشاب يحب خالته! ويسألني عن اسم الرجل الذي منع زواج الخالات، ولماذا؟ ألوان عدة من المشاكل.
وأمسك بالخطابات وأحبسها في درج المكتب وأقفله بالمفتاح، وأفكر في حل يخلصني من هذه المشاكل، وليتها كانت جميعا مشاكل على الورق أو على هيئة خطابات، ولكنها كانت أحيانا تتجسد متخذة صورة رجل أو امرأة، وأعيش أنا في مشاكل غريبة لا تخطر ببال، منها مشكلة عيادتي؛ إذ أصبحت عيادة من نوع خاص، فيها صنوف عجيبة من الزبائن، واحدة تشكو ألما في أمعائها، وأخرى تقول: يا حر قلبي! وشاب يقول: يا لعذاب روحي! وكثر عدد مرضى القلوب والأرواح، وغلب مرضى الأرواح على مرضى الأجسام. وضربت كفا بكف، وأنا أشكو ضياع نقودي! بل إن بعض المشاكل كانت تضعني في مأزق حرج، وتعرض حياتي للخطر أحيانا؛ فقد فوجئت يوما بسيدة أنيقة تقتحم علي العيادة، وتقف أمامي، وترفع حاجبا وتخفض آخر، وتنظر إلي من فوق لتحت! وتقذف شعرها المصبوغ إلى الخلف بحركة تشنجية، وتقول كأنها تتشاجر معي: حضرتك تبقي اللي بيقولوا عليها الدكتور هدى؟
وكنت على وشك أن أتلقى علقة ساخنة لولا ستر ربنا، وفهمت بصعوبة أن زوجها لجأ إلي منذ أيام وشكا لي من أنها تترك بيتها وأولادها، لتتسكع طول النهار في الشارع، وأنها تسرف وتبالغ في الإنفاق على ملابسها وشعرها وأحذيتها، وقالت إنني حرضت زوجها عليها إذ نصحته بأن يكون شديدا وحازما ولا مانع من علقة إذا لزم الأمر، وقالت وهي تنتفض في عصبية إن زوجها عمل بنصيحتي كلها.
والغريب أن هذه الزوجة هدأت بعد قليل، وراحت تعترف لي بأنها لا تحب زوجها، وأن أهلها أرغموها على الزواج منه وهي في سن السابعة عشرة، وأنها تحب رجلا آخر متزوجا أيضا، وفي النهاية سألتني ماذا تفعل؟! ووجدتني إزاء مشكلة جديدة!
ولعل أغرب ما حدث لي، كان مع أحد الشبان، جاءني العيادة ذات يوم، وجلس يتكلم عن نفسه، وحياته، وآلامه، وأنه يبحث من سنين عن الفتاة التي ينشدها، وتستطيع أن تشاركه حياته، فلا يجدها. ونصحته بأن يوسع دائرة أصدقائه ويدخل المجتمعات المختلطة وسوف يلتقي بفتاته يوما. وبعد أيام قليلة عاد الشاب وجلس يحدثني، وعلى شفتيه ابتسامة فيها سعادة وقال لي: أشكرك، أخيرا وجدتها. وقمت وأنا أصافحه قائلة: مبروك، أهنئك.
ونظر إلي نظرة غريبة كأنني صدمته، وقال وهو مطرق: ألا تعرفينها؟
وقلت: بالطبع لا، وكيف أعرفها وأنت لم تعرفني بها؟
وأطرق إلى الأرض أكثر وأكثر وقال: إنها، أنت!
ولم أدر ماذا أفعل أو ماذا أقول؟ فسكت واكتفيت بأن أشير له في هدوء إلى الدبلة التي في إصبعي، فقام مسرعا وهو يعتذر، وخرج ولم يعد.
Page inconnue