La Sufisme : Ses Origines et Son Histoire
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Genres
انطوت عملية «الوسم» أو التمييز التخصيصي للطرق المميزة على مكونات عديدة؛ فأصبحت القواعد أكثر تفصيلا وتعقيدا، مما أدى إلى تكوين نوع جديد من الكتب، وهو «كتب آداب المريدين»، الذي لم يقتصر الهدف منه على ضمان التربية الصحيحة للملتحقين بالطرق، بل عمد أيضا من خلال تقديمه في صورة دليل تربوي إلى توحيد هذه التربية.
32
وتكونت ممارسات الطرق المختلفة عن طريقة اختيار وسائل معينة للذكر (بعضها جهري، والبعض الآخر سري)، وأساليب محددة للمراقبة، وطقوس محددة للانضمام إليها. ووضعت آليات جديدة لتمييز الهوية الجماعية للأعضاء من خلال تعديل المظهر الخارجي، سواء من خلال ارتداء رداء ملون يعرف باسم «الخرقة»، أو حلق الرأس، أو ارتداء أقراط، أو حمل أشياء مميزة. وهكذا، فإن غياب الوسائل غير الشخصية والرسمية للتنظيم الجماعي عوضته مظاهر التعريف الشخصي وغير الرسمي، التي كان يقوم بها أعضاء طريقة معينة. وفي مظاهر تعريف ذاتي مشابهة، أدرج المريدون أنفسهم في سلاسل البدء التي امتدت من شيوخهم وحتى الأجيال الموصوفة في كتب الطبقات؛ ومن ثم إلى النبي محمد نفسه. أما الحدود مع الطرق الصوفية الأخرى فلم يحددها المظهر الخارجي فحسب، بل حددتها أيضا التوجهات المختلفة تجاه المال أو الموسيقى أو حتى تعاطي المخدرات. وارتبطت الممتلكات المكتسبة من خلال الرعاية بطرق صوفية معينة، كونت أماكن إقامة أو اجتماع لمريديها، وأصبحت في المدن الكبرى تشمل مساكن خاصة بالصوفيات.
33
وبدأ الشيوخ في تعيين «خلفاء» (أي نواب) لهم لزيادة نشر طريقتهم الخاصة. ومع رأس المال الرمزي المتمثل في السلطة، ورأس المال المادي المتمثل في الممتلكات، بدأت أنظمة التوارث في الظهور أيضا، وفيها نافس حق الميلاد الانتساب كوسيلة مناسبة للإرث.
منحت هذه التطورات الصوفيين آليات التناسخ الأفقي والرأسي التي سمحت لهم بالتوسع في مناطق جغرافية جديدة، وسمحت أيضا بالاستمرار بعد وفاة شيوخ معينين. أما تكوين شبكات من النواب فقد مكن الطرق الصوفية من الانتشار في مناطق جديدة، في حين سمح التعرف على ورثتها بالاستمرارية من جيل إلى آخر. ومن الناحية النظرية - لكن ليس دائما من الناحية العملية - حقق أسلوب التعلم القائم على العلاقة بين الشيخ والمريد وقراءة ما يعرف بكتب آداب المريدين، قدرا من التوحيد في المعتقدات التي كان يعتنقها أعضاء الطريقة الواحدة، وكذلك الممارسات التي كانوا يمارسونها؛ وذلك عبر المسافة الفاصلة بين الأجيال والمناطق الجغرافية. مرة أخرى، إن ما نشهده في هذا الصدد هو التطور المستمر لتقليد يتسم بالوعي الذاتي، كان فيه اتباع الماضي والجماعة معيارا أكثر أهمية من الابتكار والفردية. وحتى عند السعي وراء التجربة التصوفية، كان السعي لها وفهمها يتمان داخل إطار ما فهم الصوفيون أنه يمثل الممارسات والأطر المفاهيمية الراسخة منذ زمن طويل. لم يحقق أي من هذه التطورات تأثيرا فوريا، ونظرا لكونها نشأت في أزمنة مختلفة بين طرق مختلفة، فلا يمكن تحديد تاريخ محدد لظهور أي منها. ونظرا لكون الطرق الصوفية آليات للتقليد في الأساس، فقد تطورت بالضرورة عبر الزمان؛ ومن ثم كان كل من ترسيخها وتوسعها عملية متعددة الأجيال بطبيعتها، اعتمدت فيها الأجيال المختلفة بعضها على بعض في لعب أدوار مميزة لكنها ضرورية، كمؤسسين ومحافظين وورثة وموزعين. وسيكون من السهل اعتبار الرجال الذين سميت كبرى الطرق الصوفية على أسمائهم المؤسسين الحقيقيين لتلك الطرق؛ ومن ثم تأريخ ظهورها وفقا لحياتهم الفعلية ، وهؤلاء الرجال هم: أبو نجيب السهروردي (المتوفى عام 1168)، وعبد القادر الجيلاني (المتوفى عام 1166)، وأحمد بن الرفاعي (المتوفى عام 1182)، وأحمد يسوي (المتوفى نحو عام 1166)، ونجم الدين الكبرى (المتوفى عام 1221)، ومعين الدين الجشتي (المتوفى عام 1236)، وأبو الحسن الشاذلي (المتوفى عام 1258)، وجلال الدين الرومي (المتوفى عام 1273)، وبهاء الدين نقشبند (المتوفى عام 1389). وفي حالة بعض هؤلاء الرجال، نمتلك أدلة على وجود أنواع جديدة من الأنشطة التنظيمية، لكننا في العموم نرى رجالا حققوا من خلال الكتابة أو الوعظ شهرة وتبعية في حياتهم ورثهما مريدوهم، وفي أغلب الأحيان عائلاتهم، وحافظوا عليهما بعد وفاتهم.
34
فهم ليسوا مجرد مؤسسين لطرق دام بعد ذلك وجودها المستمر عبر الزمان، بل من الأفضل رؤية هؤلاء «المؤسسين» باعتبارهم رجالا جمعوا المصادر - سواء الرعاة والممتلكات أو التعاليم والجاذبية - التي يمكن توارثها واستخدامها من قبل خلفائهم لتأسيس الطرق التي سميت على أسمائهم؛ ولذلك أصبحوا مؤسسين فقط عبر الزمن عندما حدث الربط بينهم وبين ما تكون من إرثهم، وما بقي بعد وفاتهم على يد الأجيال اللاحقة التي رأى أفرادها أنهم أتباع طريقة «الشيخ المؤسس».
35
على سبيل المثال: دعونا نلقي نظرة على إحدى أهم الطرق التي ظهرت في القرن الثاني عشر من التربة الخصبة في بغداد. هذه الطريقة هي الطريقة السهروردية، التي سميت على اسم أبي نجيب السهروردي (المتوفى عام 1168)، الذي يعد أحد الصوفيين المهمين العديدين، الذين نشئوا في بلدة سهرورد الإيرانية. الأمر المدهش على نحو مباشر في هذا الشيخ هو شبهه بالشيخ الغزالي الذي رأيناه في الفصل الأول يستفيد من رعاية السلاجقة للمدارس؛ ليروج علنا لنموذج ملتزم من الصوفية مكث بأريحية في إطار الأعراف الفكرية والمؤسسية لزمنه.
Page inconnue