La Sufisme : Ses Origines et Son Histoire
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Genres
تمهيد وشكر وتقدير
مقدمة
1 - الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
2 - إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
3 - الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
4 - من الاستعمار إلى العولمة (1800-2000)
مسرد المصطلحات الصوفية
ملاحظات
قراءات إضافية
تمهيد وشكر وتقدير
Page inconnue
مقدمة
1 - الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
2 - إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
3 - الإمبراطوريات والحدود والمجددون (1400-1800)
4 - من الاستعمار إلى العولمة (1800-2000)
مسرد المصطلحات الصوفية
ملاحظات
قراءات إضافية
الصوفية
الصوفية
Page inconnue
نشأتها وتاريخها
تأليف
نايل جرين
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى كارين
أختي وصديقتي الأولى.
تمهيد وشكر وتقدير
Page inconnue
على الرغم من كثرة الكتب التمهيدية التي تتحدث عن الصوفية، والتي من بينها العديد من الكتب الرائعة التي تتناول فترات محددة أو معتقدات وممارسات معينة، والتي تجاوزت أخطاء نموذج التصوف القديم الذي تنتقده مقدمة هذا الكتاب؛ فإنه لا توجد دراسة شاملة عن الصوفية تخصص القدر نفسه من القيمة والتركيز لكل فترة من تاريخها. ونظرا لأن هذا الكتاب يستهدف طلبة التاريخ والدراسات الدينية، وكذلك القارئ العادي، فإنه عمل سردي عام ومفسر، يتتبع الصوفية منذ ظهورها وحتى العصر الحديث. وإلى حد كبير، إن النطاق العالمي المتزايد للسرد المقدم في هذا الكتاب يعكس وفرة المعرفة المتاحة حاليا في هذا المجال. ونظرا لأن هذا الكم المعرفي الهائل تتزايد صعوبة تناوله، فقد قدمت مراجع وافية في الملاحظات النهائية؛ كي تسمح للقراء الأكثر اهتماما بالحصول على مزيد من التفاصيل عن أي جزء يهمهم من التاريخ الصوفي. والأهم من ذلك أن محاولة إعادة توزيع الاهتمام على كل الفترات والمناطق تبرز رفضا لفكرة أن الصوفية استقرت في واقع الأمر في «موطن» واحد أو في عصر «كلاسيكي» واحد دون غيره. أوضح في المقدمة أنه من الأفضل فهم الصوفية في ضوء مظلة «التقليد» بدلا من «التصوف»؛ فنظرا لأن التقليد بطبيعته هو كل ما يتوارث عبر الزمان والمكان، فإن أي محاولة صادقة لتتبع تاريخ أي تقليد لا بد أن تقبل طبيعة الممارسة المتغيرة عبر الزمن، والموزعة مكانيا. وعلى الرغم من أن الأعمال السردية التزامنية أو المنزوعة من السياق التاريخي، التي تحدثت عن «جوهر» الصوفية، قدمت نفسها في الغالب على أنها أكثر اتساقا مع روح الصوفية؛ فقد توصلت إلى وجهة نظر، بعد عقدين من دراسة كتابات الصوفيين، تتمثل في أن مشكلة مرور الزمن وتغير المكان ليست محورية فحسب لاهتمامات الصوفيين، بل مكون أساسي في تكوينهم للتقليد الذي توارثوه أو نقل إليهم. فلم يسع الصوفيون إلى الاتحاد مع الله ونبيه محمد من خلال الخروج من دائرة الزمن، وإنما من خلال ربط أنفسهم بسلاسل المعرفة والبركة التي تنقلهم عبر القرون إلى لحظة نزول الوحي على النبي وترك آدم لمعية الله. وفي صراعاتهم الكثيرة مع المعضلات الوجودية للحياة البشرية، رجعوا مرارا وتكرارا إلى دروس الشيوخ الصوفيين الأحياء، وكتب الأولياء الأموات الذين أوضحت لهم تعاليمهم الطريق إلى الخلود.
وبالرغم من أن هذا الكتاب يعد بأن يكون «سردا تاريخيا»، فقد اضطر في أحيان كثيرة إلى الاعتماد على معرفة غير تاريخية (هي مع ذلك ذات صلة كبيرة بالموضوع). وبالرغم من إدراك أن هذا قد يؤدي إلى تفاوت منهجي في أجزاء معينة في الكتاب، فإنه في الدراسة التمهيدية توجد فرصة قليلة لتناول المشاكل التأريخية المتضمنة؛ ومن ثم فإن تقييماتي كامنة في الأساس في استخدامي لبيانات أو حجج معينة. ففي عمل موجز نسبيا كهذا، كانت تأكيداتي على فهم الصوفية من منظور التقليد والمجتمع والسلطة تعني أيضا أنني أوليت اهتماما أقل - مقارنة بالأعمال التمهيدية الأخرى - بالعوالم الخاصة المتعلقة بالنشوة والحب والتجربة. بالرغم من ذلك، فإن هذا التحول للاهتمام من الخاص إلى العام قائم على الإيمان بالقيمة التفسيرية لهذه التأكيدات في فهم مكان الصوفية في السياقات المحيطة في التاريخ الإسلامي والعالمي. في هذا الصدد، فإن هدف هذا الكتاب هو معايرة تاريخ الصوفية، من خلال وضعه في سياق التاريخ الاجتماعي والسياسي والفكري للشعوب الإسلامية؛ ومن ثم إزالة الهالة التي يشوبها الغموض، والتي أحاطت بدراسة الصوفية منذ بدء محاولات التأريخ العلماني للعالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين. بهذه الطريقة، وبدلا من تقديم سرد تاريخي عن الصوفية منفصل على نحو ذاتي، فإن هدف السرد هنا في مجمله هو ربط التاريخ الصوفي بحدود التاريخ العالمي الأوسع نطاقا، من خلال الإشارة إلى رسوخ الصوفية في التجربة التاريخية الإسلامية الأشمل. •••
فيما يتعلق بكتابة هذه الدراسة، أدين بالشكر لعدد كبير من الباحثين، وأود أن أتوجه بالشكر هنا إلى أعمال هؤلاء الذين أثروا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على كتابة هذا العمل الذي يعد بطبيعته عملية تجميع. نشأت إمكانية تأليف هذا الكتاب من أعمال شبكة عالمية واسعة من الباحثين في الصوفية، يمكنها أن تنافس من حيث الحجم حتى أكبر الطرق الصوفية. وعلى الرغم من استحالة شكر كل مؤرخ، واختصاصي نصوص، وعالم أنثروبولوجيا على ما تعلمته منه، فإن وافر شكري وتقديري الحقيقيين يكمن، كالعادة، في الملاحظات والاقتباسات. على الرغم من ذلك، أود أن أشكر على وجه التحديد عدة باحثين أثروا أكبر الأثر على فهمي للصوفية على مدار سنوات الدراسة، وكذلك عدة زملاء تحلوا بكرم كبير لقراءة مسودة الكتاب والتعليق عليها. أتوجه بالشكر أولا إلى جوليان بالديك، وكارل دبليو إرنست، وأحمد تي قره مصطفى على تشكيل أفكاري حول الصوفية على نحو غير مباشر في مراحل مختلفة من حياتي المهنية؛ وإلى كريستوفر ميلكرت على كرمه الفكري المثالي. وفيما يتعلق بالتعليقات التفصيلية والمقترحات المقدمة لمسودة الكتاب، أقدم شكري الخاص إلى علي أنوشهر (جامعة كاليفورنيا، ديفيز)، وديفين دويز (جامعة إنديانا، بلومنجتون)، ومايكل كوبرسون (جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس)، وأحمد تي قره مصطفى (جامعة واشنطن بسانت لويس)، وكريستوفر ميلكرت (جامعة أكسفورد)، وأظفر موين (جامعة ساوثرن ميثوديست)، واثنين من القراء المجهولين لي. إن كل المبالغات وحالات إساءة الفهم والأخطاء مرجعها إلي. وأتوجه بالشكر أيضا إلى جيليان أندروز على تحرير النص، وإلى هيزيل هاريس لتولي عملية الإنتاج. وللسماح بنشر الصور، أدين بالامتنان إلى معرض سميثسونيان فرير للفنون، ومعرض آرثر إم ساكلر (الشكل
1-1
والشكل
3-3 )، وإلى مكتبة جامعة لايدن (الشكل
1-2 )، والمكتبة البريطانية (الشكل
3-2 )، ومتحف الإثنولوجيا الوطني في ميونيخ (الشكل
3-2 )، ومعرض بريدجمان للفنون (الشكل
4-1 )، وإلى ألين إف روبرتس وماري نوتر روبرتس (الشكل
Page inconnue
4-2 ). كل الصور الأخرى من تصويري أو من مقتنياتي الخاصة.
إذا كنت قد تعلمت الكثير من أساتذتي الأكاديميين ورفقاء الدرب، فإن تصوري الشامل عن الصوفية ومكانتها في الحياة الاجتماعية لممارسيها ليس إلا نتاج تفاعلاتي مع التراث الحي للتقليد الصوفي في أشكاله المتعددة التي اكتسبها في مناطق كثيرة مختلفة. وعلى مدار العشرين سنة التي اخترت فيها دراسة تقليد الصوفيين، قابلت بعضهم وألقيت نظرة على تراثهم في أماكن بعيدة مثل المغرب، وإسبانيا، ومصر، وسوريا، واليمن، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، والهند، وباكستان، وسنغافورة، وماليزيا، وجنوب أفريقيا، وأوروبا. إن التصور المقدم في هذا الكتاب للصوفية باعتبارها «تقليدا» مأخوذ في الأساس مما رأيته عمليا بين هؤلاء الصوفيين، الذين يزعمون أنهم ورثة النبي محمد.
شكر أخير أوجهه إلى والدي ووالدتي، جيفري وأوليفيا جرين، على تشجيعهما لي على مدار حياتي، وعلى إيصالي إلى «الرباط» الموجود في جواردامار، وذلك في المحطة الأخيرة من رحلات هذا الكتاب.
نايل جرين
لوس أنجلوس، يوليو 2011
والآن وصلوا أخيرا إلى فارس،
داخل حدود بلد الصوفي العظيم.
مسرحية «رحلات الإخوة الإنجليز الثلاثة» (1607)
مقدمة
(1) من التصوف إلى التقليد: وضع تصور للصوفية
Page inconnue
عادة ما تعرف الصوفية بأنها «تصوف» إسلامي يضم مجموعة أساليب يسعى من خلالها المسلمون إلى التواصل الشخصي المباشر مع الله. وعلى الرغم من صحة أن الصوفية تتضمن كثيرا من عناصر التصوف، فإن المدى الاجتماعي الواسع الذي وصلت إليه على مدار قرون توسعها جعلها أكثر من مجرد طريق لنخبة باطنية. أدرك إيه جيه آربري، أستاذ الاستشراق في جامعة كامبريدج، هذه المشكلة في مقدمته للصوفية التي كانت ذات أثر كبير، ورأى أن الصوفية تضمنت طريقا دينيا لكل من جمهور المسلمين من العوام وعدد أصغر من المتصوفين المتسامين.
1
ويرى آربري وكثير من المعلقين المتأخرين أن التوتر فيما بين الصوفية «التصوفية» والصوفية «الشعبية» تكشف من خلال سرد تدهورها؛ فما بدأ كحركة «تصوف» حقيقية لأفراد يسعون إلى الاتحاد الشخصي مع الله، فسد في فترة العصور الوسطى، وتحول إلى تقديس لأولياء أصحاب معجزات لا يمت بصلة للتصوف الصوفي «الحقيقي». وفي هذا الشأن، كتب آربري بنبرة مزدرية فقال: «بمجرد أن أصبحت أساطير المعجزات مرتبطة بأسماء الصوفيين العظماء، كان حتميا أن يستحسن العوام السذج الدجل أكثر من التعبد الحقيقي.»
2
وبالنسبة إلى آربري وكثير ممن كتبوا من بعده، فإن نتيجة هذا النموذج المتدهور أنه بداية من أواخر فترة العصور الوسطى وما بعدها أصبحت الصوفية غير جديرة بالدراسة. وهذا لم يكن على الأرجح إلا مفارقة؛ ففترة العصور الوسطى وفترة أوائل العصر الحديث اللتان شهدتا بلوغ الصوفية أوج التأثير والنجاح، هما بالضبط الفترتان اللتان كانتا موضع تجاهل بوصفهما عصري تدهور ما بعد الفترة الكلاسيكية.
على مدار الثلاثين سنة الماضية، تعرض نموذج الكلاسيكية والتدهور هذا إلى الرفض الكامل، وأسهمت الدراسات الحديثة عن الصوفية إلى حد كبير في الإطاحة بالسرد الكبير الذي قدمه آربري ومنظرو التدهور اللاحقون من أمثال جيه إس تريمينجهام.
3
وعلى الرغم من ذلك، ففي كثير من المناقشات المتعلقة بالصوفية، تظل السمات الأساسية للتوجهات القديمة حاضرة، لا سيما المشكلة المحورية المتعلقة بمدرسة التفسير القديمة المتمثلة في نموذج «التصوف» نفسه. فوفقا لفهم الباحثين الأوروبيين والأمريكيين في أوائل القرن العشرين، اعتمدت فكرة التصوف على تصور للدين؛ عالمي من الناحية الفكرية، وحداثي من الناحية الزمنية، وبروتستانتي من الناحية الثقافية. كانت سلطة التجربة المباشرة التي لا وسيط فيها للفرد المنعزل تعتبر منبع التدين الحقيقي في كل الثقافات وكل الفترات الزمنية.
4
وعلى نسق بروتستانتي مشابه، كان «الدين» نفسه يعتبر فئة منفصلة على نحو صائب (أو على نحو مفضل على أقل تقدير) عن عالم «السياسة» الفاسد. وعندما طبق هذان النموذجان على دراسة الإسلام، كان الصوفي النموذجي في رأي كثير من الباحثين هو النقيض التام للمؤسسة الحاكمة الإسلامية الملتزمة بالشريعة، سواء أكان يعيش في عزلة هادئة بعيدا عن شئون الدنيا، أم كان يقود ثورات تنتهي باستشهاد حماسي.
Page inconnue
5
إن نموذج التصوف هذا - التوجيهي وليس الوصفي - مثل في بعض الأحيان معتقدا في حد ذاته. وعند تطبيق ذلك النموذج على سياقات ثقافية أو زمنية أكثر بعدا عن مكان نشوئه، فإنه يميل إلى انتقاد أو استبعاد كثير من الأمور المفترض أن يفسرها. وفي حالة الصوفية، طال هذا الاستبعاد أو الانتقاد أبعادا كثيرة مهمة في التاريخ الصوفي لم تلائم نموذج السالك المنفرد الذي يسعى إلى الله؛ مثل الطرق الصوفية الهرمية، والطقوس المعقدة المتعلقة بالتوسل بالأولياء للتأثير على قرارات السلاطين.
إلا أنه على النقيض من فكرة الغرب عن التصوف، فقد كانت جوانب كثيرة من الصوفية جماعية وعلنية، وليست فردية وخاصة. فتوضح محورية العلاقة بين الشيخ أو المرشد (المعلم) والمريد (التابع)، التي بدت أنها حجر الأساس في الممارسة الصوفية، أن الممارسات «التصوفية» مثل تدمير الأنا لم تكن نتيجة تجارب خاصة من الاتصال المباشر مع الله، بل كانت عمليات اجتماعية قائمة على علاقة توجيهية مع طرف ثالث بشري. ومع نمو حجم الطرق الصوفية، أصبحت هذه العلاقات (والتحولات الاجتماعية والنفسية المشتركة التي تدعمها) أكثر شيوعا؛ بحيث أصبحت آثارها أكثر انتشارا وجماعية. وفي كثير من المناطق حول العالم، أسفر ذلك عن تحويل الصوفية نظم السلطة الاجتماعية إلى نماذج سلطوية، تناولها بالدراسة عبد الله حمودي، عالم الأنثروبولوجيا المولود في شمال أفريقيا.
6
وبالإضافة إلى إهمال مفهوم التصوف للجانب الاجتماعي، فقد قلل أيضا من الجانب المادي، واضعا الصوفية على نحو صارم في نطاقات الروحانية، في حين أن الصوفيين كانوا منغمسين في نطاقات المادية الملموسة بالقدر نفسه، بداية من طقوسهم الجسدية وتقديسهم لآثار الأولياء، وحتى مباني الأضرحة خاصتهم، والقدرات المباركة التي يعتقدون أنها موجودة فيهم. وإلى حد كبير، لم تكن الصوفية «تصوفا» عاما قائما على التجارب الدينية المتاحة على نحو ديمقراطي للجميع، بل كانت في كثير من الأماكن تجسيدا للإسلام السلطوي القائم على القدرات المباركة المتوارثة من خلال أنساب مرموقة؛ ولهذا السبب، عرف أحد علماء الأنثروبولوجيا شيوخ الصوفية بأنهم: «الأشخاص الذين يتدفق في دمهم (المدون في سجل أنسابهم) بركة النبي محمد.»
7
كذلك، يميل مفهوم التصوف إلى الارتباط بالأمور العفوية وغير المتدرب عليها، بدلا من الأمور المنهجية والسياسية. غير أن الكتب القديمة عن الممارسة الصوفية أظهرت اهتماما كبيرا بمسائل آداب السلوك والطقوس التعبدية. والصوفيون ليسوا على الإطلاق روادا «طليعيين» روحانيين زاهدين؛ فقد كانوا في كثير من المناطق أطرافا سياسية أساسية استمتعت بأسباب الراحة المكتسبة من الأراضي الشاسعة المملوكة لهم، ودعم جيوش أتباعهم المخلصين. ومن خلال سلسلة من التطورات التي يتتبعها هذا الكتاب، أصبحت الصوفية سلطوية ومعادية للفردية على نحو كاف، لدرجة أنه في العصر الحديث أدت النزعات الداعية إلى الديمقراطية والفردية بين المسلمين إلى هجر ملايين منهم لتعاليم الصوفيين.
بالإضافة إلى ميل نموذج التصوف إلى تضييق النطاق والتوجيه، فإنه يثير أيضا تحديات معينة عند كتابة التاريخ؛ فلو كان جوهر الصوفية - كما هو الحال بالنسبة إلى التصوف - يكمن في التجربة الخاصة المتسامية، لاضطر المؤرخون حتما إلى تسجيل قشورها الخارجية التافهة فقط من خلال النصوص والمؤسسات والأفعال. توجد بالتأكيد طرق مختلفة للتعامل مع هذه المعضلة؛ تتمثل إحدى هذه الطرق (والتي اتبعها على نحو بالغ الدقة الباحث الفرنسي هنري كوربين) في الحفاظ على نموذج التصوف من خلال استخدام منهج ظواهري (فينومينولوجي) في التعامل مع الوثائق التاريخية، في محاولة ل «إعادة تقديم» الشخصية الداخلية للتجارب التصوفية الماضية على نحو مفسر.
8
طبق هذا المنهج الظواهري بدرجات وأساليب متعددة في عدد من الكتب التمهيدية الناجحة للصوفية.
Page inconnue
9
هناك طريقة أخرى تتمثل في الابتعاد عن نموذج التصوف، وتصور الصوفية بطريقة تتناسب على نحو أفضل مع مجموعة خصائصها المعقدة، وتجعلها أيضا أكثر قابلية للوصف التاريخي. فبالتقليل من فكرة الصوفية باعتبارها تصوفا لجماعة هامشية من السالكين، يرى المنهج المتبع في هذا الكتاب الصوفية باعتبارها «تقليدا» في المقام الأول من المعرفة القوية، والممارسات القوية، والأشخاص الأقوياء.
10
وكما ستوضح الفصول التالية، فإن الصوفية منذ لحظة ظهورها كانت متجذرة في نموذج إسلامي أوسع قائم على المعرفة الموثوق فيها، التي كانت تحظى فيها موافقة السلطة القديمة (سواء أكانت سلطة النبي محمد أم أولياء الله) بأهمية بالغة. وهذه الحساسية التاريخية شكلت جزءا كبيرا من التجارب التصوفية الصوفية من خلال المقابلات الرؤيوية التي لا تعد ولا تحصى، التي دونها الصوفيون مع الأولياء السابقين والأنبياء؛ تلك المقابلات التي أشبعت رغبتهم في ربط أنفسهم برواد تقليدهم السابقين.
11
يحظى هذا الارتباط بممثلي التقليد القدوة المحبوبين بأهمية كبيرة؛ فهو لا يوضح فحسب الاستراتيجية التي من خلالها تمكن الصوفيون من تقديم أنفسهم على نحو مقنع باعتبارهم الورثة الأحياء للنبي محمد، بل يوضح أيضا الطبيعة «الناظرة إلى الماضي»، الواضحة جليا لتعاليمهم التي ظهرت نتيجة لتلك الحاجة إلى موافقة السلطة القديمة والرغبة الوجودية في العودة إلى حالة الوجود البشري، التي كان يتمتع بها آدم والنبي محمد. وكما بين ستيفن تي كاتس على نحو فطن، فإن التجارب التصوفية ليست عفوية ومبتكرة، بل هي غالبا أفعال محافظة، ويمكننا أن نضيف أنها أفعال ساعية إلى الحفظ.
12
إن هذا الإدراك بأن كلمات وأفعال الصوفية متجذرة على نحو متعمد في تراث المسلمين الأوائل، ساعد أيضا في معرفة الطابع الإسلامي المتغلغل في الصوفية الذي ميزها - باستثناء حالات عالمية معينة - عن «التصوف» العالمي الذي صنفت ضمن فئاته في بعض الأحيان. وكما أوضح الباحث الفرنسي ماريجان مول ذات مرة، فحتى إذا تبنى الصوفيون دون علم، أو عن علم، مقومات من جماعات دينية أخرى، فإنهم «لم يأملوا مطلقا في أن يكونوا إلا مسلمين؛ فكل المعتقدات التي يؤمنون بها، وكل أفعالهم وعاداتهم وأعرافهم، قائمة على تفسير للقرآن والسنة النبوية».
13
هذه نقطة رئيسية؛ فلقد تطورت الصوفية كمجموعة تعاليم وممارسات ومؤسسات نشأت مع تفكر المسلمين - من القرن التاسع فصاعدا - في تراث حياة النبي محمد، التي تمثل القدوة الأولى، ولحظة نزول الوحي بالقرآن. وفي محاولات نقل الصوفيين لمعرفة وراحة وسلطة الله (وأنبيائه وأوليائه) إلى حياتهم الخاصة والعامة، بنوا تقليدهم أولا من خلال تأمل حياة النبي، وفترة نزول الوحي عليه، ثم تأمل تعاليم وأفعال من رأوا أنهم أولياء الله، والذين بدورهم أعادوا ربطهم باتحاد النبي مع الله. إن «أولياء الله» الصالحين الكثيرين، الذين ظهروا في كل قرن، هم من أنشئوا التقليد الذي نطلق عليه الصوفية، سواء أكان من ناحية النصوص التي كتبوها، أم الطقوس التي وضعوها، أم الطرق التي أسسوها. وباستثناء بعض الصياغات الحداثية للصوفية، فمن دون هؤلاء الأولياء لا توجد صوفية.
Page inconnue
بناء على زعم الصوفيين بأنهم ورثة النبي محمد، وبمرور الوقت، طوروا تدريجيا أسس تقليدهم من خلال أنساب الأولياء والشيوخ الذين كانت لموافقتهم سلطة تكميلية في حد ذاتها. وكما سنرى في الفصل الأول؛ ففي القرون الأولى من التاريخ الصوفي، تضمن هذا التطوير للتقليد في بعض الحالات زعما بأثر رجعي يقول إن الأسلاف الصالحين الذين عاشوا قبل استخدام مصطلح «صوفي» كانوا صوفيين. إن التركيز في هذا الكتاب على كون الصوفية تقليدا أكثر منها تصوفا، لا يعني إنكار أن كثيرا من الصوفيين مروا بتجارب تصوفية أولوها قيمة بالغة فيما بعد، بل إن الهدف هو توضيح أن هذه التجارب الخاصة اكتسبت معنى ومصداقية فقط من خلال استيعابها في السعي الجمعي والتعاوني لأجيال مختلفة من المسلمين، الذين كان كل منهم - على مر الزمان - على وعي كبير بالطبيعة النموذجية لأفعال وتعاليم غيره من الصوفيين. إن هذا الإدراك التاريخي للتجربة التصوفية لا يهدف إلى التقليل منها، بل يهدف إلى وضعها في إطار الطبيعة الزمنية للوجود البشري. في هذا الصدد، أتفق بوجه عام مع ستيفن تي كاتس الذي كتب يقول: «الروايات التصوفية لا توضح فحسب الوصف ما بعد الحضوري لتجربة غير قابلة للرواية باللغة المتاحة، بل إن هذه التجارب نفسها صاغتها على نحو لا مفر منه تأثيرات لغوية سابقة، لدرجة أن التجربة المعاشة تتفق مع نسق سابق الوجود تم تعلمه، ثم قصده، ثم تحققه في الواقع التجريبي للمتصوف.»
14
وكما توضح مئات الكتابات الصوفية، وبالرغم من التركيز الكبير على التجربة الفردية العفوية في نموذج تصوف القرن العشرين، فإن الصوفيين لطالما كانوا على قدر بالغ من الوعي بالروابط الخطابية التي تربطهم بأسلافهم، وهذا الوعي بالتقليد هو الذي جعلهم «مسلمين» صوفيين بدلا من كونهم روادا جذابين أو مؤسسين لأديان جديدة. وهكذا، فإن هذا الوعي الذاتي للصوفيين بأنهم أعضاء في مجتمع أكبر، يتكرر عبر الزمان من خلال موافقة الشيوخ السابقين الموثوق فيهم؛ هو ما جعلهم أعضاء في تقليد ومحافظين على استمراريته. والسبب في ذلك كما يقول عالم الاجتماع إدوارد شيلز هو أن التقليد ليس فقط «ما ينقل أو يتوارث من الماضي»، لكنه أيضا «كل ما له نماذج تمثيلية أو حراس.»
15
بالمثل، وكما هو الحال مع نماذج القدوة المقدمة من قبل أولياء الصوفية في الأزمان الماضية، الذين ما زالوا في الذاكرة، فإن «هناك سمة معيارية كامنة في أي تقليد اعتقادي مطروح للقبول.»
16
على النقيض من نموذج التصوف القديم للأفراد المنعزلين الهامشيين، فإن نموذج التقليد الجمعي القوي مفيد في فهم التاريخ الصوفي من عدة نواح؛ أولا: أنه يدرك أهمية دور السلطات الخارجية والماضية للأطراف الثلاثة في إعطاء قيمة كبيرة للتجارب والقرارات والتعاليم والكتابات الفردية. ثانيا: أنه يدرك أبعاد الصوفية الكثيرة غير العفوية والسلطوية والمناهضة للفردية في بعض الأحيان. ثالثا: أنه يناسب أغراض الدراسة التاريخية؛ لأنه على النقيض من انعدام القيمة الزمنية الذي يصاحب التركيز «الآني» الشديد للتصوف، فإن نموذج التقليد يوضح كيف أن متلقي التقليد يمتلكون وعيا ذاتيا تاريخيا خاصا بهم كأفراد يعيشون في علاقة مستمرة (إن لم تكن مفسرة ومبتكرة غالبا) مع ماضيهم. رابعا وأخيرا: أنه يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة التراكمية للصوفية خلال ظهورها التدريجي كمنتج ثقافي متعدد الأجيال ظهر في نهاية الأمر؛ ومن ثم فإنه يفسح مجالا أمام التطوير والتنوع. بالإشارة إلى هذه الدينامية التي يغطيها غالبا التماسك الظاهري للتقليد، يصف شيلز كيف أنه «من المحتمل أن يمر التقليد بتغيرات كبيرة جدا، ومع ذلك، قد يرى المتلقون أنه لم يتغير على نحو كبير.»
17
إن هذه الاستمرارية القائمة على النظر للماضي فيما يتعلق بالتعاليم التي يعتقد الصوفيون أنها ميراث النبي محمد لورثته الصالحين؛ هي ما جعلتنا نعرف الصوفية باعتبارها تقليدا وفقا للمعايير التي حددها إدوارد شيلز. (2) من الهامشية إلى القوة: تحديد سياق الصوفية
بعد تناول مسألة التقليد كمفهوم ومحتوى، يجب أن نلتفت الآن إلى التركيز السياقي لهذا الكتاب، الذي يقدم الصوفيين باعتبارهم لاعبين اجتماعيين مؤثرين وأقوياء، وليس باعتبارهم معارضين للحياة الاجتماعية؛ ومن ثم يعيشون على الهامش في المجتمع. وكما هو الحال مع تحول تركيز الكتاب من التصوف إلى التقليد، فعند تركيز الكتاب على قوة الصوفيين بدلا من هامشيتهم، فإننا نتناول مسألة إعادة التأكيد بدلا من مسألة الرفض. فعلى الرغم من أنه بالتأكيد كان يوجد الكثير من الصوفيين الهامشيين (والخارجين كذلك عن الأعراف على نحو كامل)، فإن الفكرة المقدمة في هذا الكتاب هي أنه بفضل الأتباع الأقوياء للصوفية وليس الهامشيين، تمكنت من ترك بصمة قوية جدا في المجتمعات التي انتشرت في ربوعها. ونتيجة للعمليات التاريخية والاستراتيجيات الجمعية الموضحة في الفصول التالية، فإن هذا الاكتساب للقوة كان تدريجيا بالتأكيد. إلا أنه بحلول فترتي العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، كان هذا الاكتساب حقيقيا على نحو كاف؛ بحيث يسمح لنا بالحديث عن «مؤسسة» صوفية اجتماعية ودينية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي. وعلى الرغم من وجود الكثير من الصوفيين الهامشيين والمنحرفين الذين عاشوا في هذه الفترة، فإن المؤسسة الصوفية حققت مكانتها وحافظت عليها بنجاح أفرادها في تقديم أنفسهم باعتبارهم مجسدين للإسلام الحنيف الذي جاء به النبي محمد، وبالتأكيد باعتبارهم ورثته الأحياء. وحتى في حالة ازدهار المجموعات الصوفية الرافضة للأعراف المجتمعية والهامشية اجتماعيا (كما في حالة الحركة «القلندرية» التي ظهرت في فترة العصور الوسطى)، فإنه من المنصف على الأرجح القول بأن قدرتهم على الإفلات من العقاب على انتهاكهم للأعراف الاجتماعية، كانت في حد ذاتها انعكاسا لما حظيت به الصوفية من قوة ومكانة في وقت هذه المجموعات.
Page inconnue
عند التحدث عن قوة الصوفيين، يجب أن نميز بين ثلاثة أنواع رئيسية من القوة التي سنرى اكتسابهم إياها في الفصول التالية؛ وهذه الأنواع هي: القوة الخطابية، والقوة الإعجازية، والقوة الاقتصادية. تشير القوة الخطابية إلى السلطة التي حصلت عليها الصوفية كخطاب يتضمن مجموعة مشروعة من الكلمات والمفاهيم، والنماذج المجتمعية والكونية المؤثرة، والنماذج السلوكية والخلقية التي يقتدى بها. كان خطاب الصوفية نفسه أحد مقومات التقليد؛ لأنه استمد سلطته من ربط نفسه بالقرآن والسنة؛ وهي النموذج النبوي الذي قدمه النبي محمد. إن القوة الخطابية التي اكتسبتها الصوفية من ربط نفسها بالسنة الحنيفة تشير إلى الطريقة التي لم يقتصر فيها دور الصوفية على كونها نوعا من التجارب أو حتى المعتقدات، بل كانت فيها خطابا له القدرة على تشكيل أفعال الآخرين من خلال تقليدهم للنماذج القدوة التي يقدمها. وبإبعادنا عن التركيز على التجربة التي لا وسيط فيها في نموذج التصوف، فإن هذه القدرة القوية على تشكيل السلوك والتصرف كانت أيضا من مقومات التقليد، من حيث قدرة التقاليد على تعزيز «أنماط أو صور للتصرفات»، وكذلك «المعتقدات التي تتطلب أو تزكي أو تنظم أو تبيح أو تحظر إعادة القيام بتلك الأنماط.»
18
النوع الثاني من القوة الذي سنعرض كيفية اكتساب الصوفيين له، هو القوة الإعجازية، التي تتمثل في قدرتهم - حسبما يرى الكثيرون - على اجتراح المعجزات والعجائب نتيجة لقربهم الخاص من الله. يرى إيه جيه آربري وكثير من المعلقين المسلمين الإصلاحيين في القرن العشرين أن هذا التعاطي الكبير مع الجانب الإعجازي مثل «الجانب المظلم من الصوفية في مرحلتها الأخيرة»، عندما «كان تأثيرها في أكثر فتراتها انحطاطا شرا بالكامل.»
19
إلا أنه في دراسة تاريخية مثل هذه يجب أن يكون الهدف هو الوصف والفهم بدلا من الوعظ. وعلى الرغم من أن نموذج تصوف القرن العشرين المتحرر علميا من الأوهام والبروتستانتي الثقافة يفرق على نحو قاطع بين التصوف وصانعي المعجزات، فإن الحقيقة التاريخية للأمر هي أن زعم الصوفيين المتعلق بصنع المعجزات كان غير قابل للانفصال عن زعمهم القرب التصوفي من الله. مرة أخرى، إن الأولياء الذين كونت أقوالهم وأفعالهم التقليد الصوفي هم من يجب أن يكونوا محور الاهتمام؛ فالمتصوف البارز هو الذي يصنع المعجزات. وعلى الرغم من أنه دائما ما كان يظهر المسلم العادي الذي يتحدى قدرة الصوفيين على إظهار تلك القدرات، فإنه - كما توضح الفصول التالية - كان يوجد عدد أكبر من الأشخاص - بداية من السلاطين والتجار وحتى الفلاحين ورجال القبائل - الذين سعوا إلى الاستفادة من هذه القدرات، من خلال تكوين علاقات مع الصوفيين. ونظرا لأن هذه العلاقات، سواء فيما يتعلق بالمحتالين أو الملوك، كانت عادة علاقات تتلمذ، فإن القدرة على اجتراح المعجزات تحولت بدورها إلى سبيل للتأثير الاجتماعي.
إن البناء على هذا التأثير الاجتماعي ودعمه نتج عنهما ثالث أنواع القوة التي اكتسبها الصوفيون، ألا وهو القوة الاقتصادية. فلقد بدأ الصوفيون البارزون، بداية من فترة العصور الوسطى، في تلقي هبات كبيرة (وهائلة في حالات قليلة) من الأراضي والعقارات من المريدين المنتمين إلى الطبقة الحاكمة، وكذلك تلقي عطايا نقدية أو عينية أقل من الأتباع الأقل غنى. وعلى الرغم من حديث هؤلاء الصوفيين البارزين المطول عن الزهد، فإن أشكال تبادل العطايا هذه وضعتهم ضمن النخبة الضئيلة المميزة في المجتمعات ما قبل الصناعية، التي كانت الصوفية نشطة فيها حتى العصور الحديثة. في هذا الصدد أيضا، نرى عمل الصوفية كتقليد؛ لأن الحاجة إلى نقل الأملاك عبر السلالات الأسرية جعلت الورثة الماديين للصوفيين الأقوياء اقتصاديا هم في الوقت نفسه ورثة التقليد الصوفي؛ لذلك ورثت السلالات الأسرية الصوفية الأملاك إلى جانب التعاليم والقدرات المباركة. ونظرا لأنه لا يمكن أن يوجد أي شكل من أشكال المعرفة القوية بمعزل عن أشكال القوة المادية، فقد كانت القوة الاقتصادية للصوفية مهمة للصورة العامة التي اكتسبتها؛ ولذلك أصبحت القوى الخطابية والإعجازية والاقتصادية للصوفيين في حالة اعتماد متبادل في نهاية المطاف. وإذا كان هناك يوما اتجاه لاعتبار ظهور امتلاك هذه القوة انتقاصا من ورع الرسالة الصوفية، فيمكن الرد بأن رؤية التاريخ الديني من هذا المنظور المحمل بالمعتقدات الشخصية رؤية عاطفية ورومانسية. في هذا الصدد أيضا، من المفيد النظر للصوفية باعتبارها تقليدا؛ لأنه لا يوجد تقليد يستطيع مطلقا الاستمرار وتكرار نفسه عبر الزمن دون الاستعانة بالموارد المادية التي تقيم البيوت، والمقررات المالية لتأليف الكتب وممارسة الطقوس، ودعم الأتباع الذين يكونون «التقليد» «الذي يتوارث.»
ومقارنة بالكثير من الأعمال السابقة التي تناولت الصوفية، إذا كان تحويل التركيز هنا نحو القوة والتقليد يوحي بتحول هوبزي، فإن هذا على الأرجح إجراء تصحيحي ضروري؛ إذ إن تلك الرؤية المتعلقة بوجود تقليد قوي تجعل زيادة أتباع الصوفية أمرا مفهوما على نحو أكبر، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعارضة التي أثارتها على نحو متزايد مع تزايد تأثيرها، سواء أكانت من السلطات الدينية المنافسة في فترة العصور الوسطى، أم من بناة الدول في أوائل العصر الحديث، أم من الإصلاحيين المسلمين في العصر الحديث. ففي نهاية المطاف، القوة والنفوذ والامتياز هي التي أدت إلى ظهور استراتيجيات الاستحواذ والدمج والمعارضة التي كثيرا ما أعاقت مسيرة الصوفية. وإذا كانت الفصول القادمة ستسلط الضوء على الصوفيين، بوصفها تأريخا للصوفيين وليس لمنافسيهم، فإنه يجب النظر إلى عرضنا لبعض منافسيهم على أنه يعكس المكانة العالية التي اكتسبها الصوفيون، الذين زعموا أنهم «القطب» أو المحور الذي يدور حوله الكون كله. (3) من السياقات إلى الخصائص: تعريف الصوفية
عند تقديم نبذة عن الخصائص الأساسية للصوفية، من الضروري في مثل هذه الدراسة التاريخية الإشارة أولا إلى أن الوصف التعريفي، الذي نحن بصدد قراءته، ظهر على نحو تدريجي فحسب من خلال سلسلة من التطورات التي أتتبعها في الفصلين الأول والثاني. وبعد قبول هذا التحذير التاريخي، يمكننا الآن تقديم تعريف أساسي للصوفية بوصفها تقليدا قويا من المعرفة والممارسة الإسلاميتين يحقق القرب من الله أو الوساطة لديه، ويعتقد أنه متوارث عن النبي محمد من خلال ورثته من الأولياء الصالحين الذين تبعوه. ومنذ بداية ظهور الصوفيين، نادرا ما اعتبروا أنفسهم سوى مسلمين. ومع زيادة نفوذ التقليد الصوفي، وبالنسبة إلى أعداد كبيرة من المسلمين، بدا أن الإسلام لا يمكن فصله عن الصوفية. وعلى الرغم من أن العرف يمنع ذلك، فقد يكون من الأفضل الحديث عن «الإسلام الصوفي» بدلا من «الصوفية»؛ إذ باستثناء بعض المجموعات الخارجة عن الأعراف، فإن الصوفيين في العموم اتبعوا أساليب التقليد الإسلامي، فواظبوا على الصلاة التي تعد العبادة الأساسية التي تمارس كل يوم، وأدوا صيام شهر رمضان المعظم، والتزموا بكافة أنواع الأحكام الشرعية المتبعة في مجتمعهم. والأكثر أهمية أنهم اتبعوا كذلك مجموعة من الممارسات النافلة، أهمها: ذكر الله الذي كانوا يؤدونه بطريقة إنشادية؛ و«المراقبة» وهي تأمل جوانب مختلفة من النفس والله؛ و«الإحسان» وهو إثراء الفضائل الأخلاقية من خلال اتباع «الآداب» (قواعد السلوك) الشرعية؛ و«الصحبة» أي التفاعل المحترم مع شيوخهم. واستخدمت بعض مجموعات من الصوفيين (لكن ليس كلها على أي حال) ما يعرف ب «السماع»؛ أي الاستماع الطقسي للموسيقى والشعر كوسيلة للوصول لما يعرف ب «الأحوال»، وهي حالات النشوة التي تجعلهم أكثر قربا من الله أو من الأولياء الصالحين.
لطالما شدد الصوفيون على ضرورة القيام بكل هذه الممارسات تحت إشراف شيخ مرشد تلقى هذا التقليد؛ ومن ثم فهو (من الناحية النظرية على الأقل) سلك هذا المسلك من قبل. وعلى نطاق واسع، اعتبرت الطاعة الكاملة للشيخ من أساسيات حياة الصوفي. ومنذ فترة العصور الوسطى، جمع هؤلاء الشيوخ والمريدون أنفسهم في جماعات تعرف ب «الطرق»، ومثلت هذه الطرق القنوات المفاهيمية - والمؤسسية في نهاية الأمر - عبر الزمان والمكان، التي ساهمت في تأسيس الصوفية كتقليد يعتبره أتباعه التراث السري للنبي محمد. مثلت طقوس الالتحاق بإحدى هذه «الطرق» وما يصاحبها من «بيعة» - أي تعهد بالولاء للشيخ - اكتساب الشخص الرسمي لصفة المريد. وعلى الرغم من أن طقوس الالتحاق تلك كانت غالبا ما تمارس من قبل مسلمين بالغين ساعين إلى التنوير الروحاني، فإنه من الناحية العملية خضع كثير من المسلمين لتلك الطقوس وهم أطفال؛ كي يتأكدوا من حصولهم على الحماية الاجتماعية والروحانية لشيوخهم في مسارهم عبر الحياة.
من الناحية النظرية، إن الهدف من الالتحاق بطريقة صوفية ما هو إلا تعلم ممارسات الآداب والذكر والمراقبة المتوارثة من شيوخها؛ بهدف الوصول إلى «فناء» النفس (أي الذات الدنيا) الذي يقود إلى «بقاء» الروح (أي الذات العليا). تلك التجارب يراها الصوفيون باعتبارها «مقامات» (أي محطات) في رحلة الصعود إلى الله، ويعتقدون أنها تمنحهم سلطة توجيه المسلمين الآخرين؛ أي توبيخهم أو حتى معاقبتهم. إن زعم المرور بهذه المقامات أثناء الطريق إلى الله يعني أن هؤلاء الشيوخ الكبار اعتبروا أولياء الله أثناء حياتهم وبعد مماتهم. أما الذين يحظون بأكبر قدر من التبجيل والهيبة من هؤلاء الشيوخ، فقد اعتبروا أنهم «برازخ» حية بين العالم البشري والعالم الإلهي (أي في مكانة وسطى)، ويعملون كوسطاء بين المؤمن العادي والهرمية السماوية المكونة من الأولياء والأنبياء والله.
Page inconnue
بنسب متفاوتة، اعتبر أن كل هؤلاء الأولياء يعلمون صفات الله الإلهية من خلال ما يمتلكونه من «معرفة» خاصة، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على صنع المعجزات أو ما يطلق عليه «الكرامات». وإذا كان زعما التنبؤ بالمستقبل وصنع الطلاسم الحامية (الأحجبة) يعتبران في العصور الحديثة منتميين لعالم «الشعوذة» أكثر من انتمائهما لعالم «التصوف»، فإن كلا الأمرين كانا من الخدمات المهمة التي كان يطلبها المريدون من شيوخهم الصوفيين. ونظرا لأن القدرات الإعجازية للأولياء كانت تتراوح بين شفاء الأطفال المرضى وتحديد نتائج المعارك الحربية، فقد كان السلاطين من ضمن مريدي هؤلاء الأولياء بقدر ما كان الفلاحون. وبالرغم من ذلك، لم يكن هؤلاء المريدون أقل أهمية من شيوخهم الأولياء فيما يتعلق باستمرار التقليد الصوفي؛ فمن خلال استقبالهم التعاليم والمعجزات وتقديمهم المناصرة والدعم، سمحوا بالاحتفاء بأفعال وتعاليم شيوخهم وتوارثها. ونظرا لكون الشيوخ والمريدين يمثلان شقي التقليد الصوفي المتلازمين، فقد اعتبرا لأغراض هذا الكتاب شريكين متساويين فيه.
ونظرا لمحورية هذه الروابط بين المريدين والشيوخ، وبعيدا عن كونها السعي الفردي للحصول على الخلاص الشخصي، فإنه من الممكن اعتبار الصوفية محصلة مجموعات مشابهة من العلاقات؛ وذلك على النحو التالي: العلاقة بين الأولياء وأتباعهم، والعلاقة بين قراء وكتاب النصوص الصوفية، والعلاقة بين النبي محمد والشيخ الوسيط والمؤمن البسيط، والعلاقة بين الشيخ ومن يطيعونه؛ حيث إن الطاعة الكاملة لطالما كانت الأساس العاطفي للتقليد الصوفي. وفيما يتعلق بمساعي الصوفيين الشخصية للخلاص، فقد فعلوا ذلك عادة من خلال إدارة تلك العلاقات بين الحي والميت، والمادي والنصي، والمرئي وغير المرئي. إن هذا الوصف للصوفية القائم في جوهره على العلاقات، هو ما جعل تعبيراتها ومكوناتها المتنوعة حاضرة في قلب كثير من المجتمعات المسلمة التي في حد ذاتها ترابطت معا بمجموعات من العلاقات التي تشربت هذه الروابط الصوفية المباركة، وتضافرت معها. إن نتائج هذه العلاقات التي أسفرت عن التقليد الصوفي الذي تراكم في أماكن كثيرة عبر قرون كثيرة، هي ما يركز عليه هذا الكتاب. (4) نظرة عامة على السرد المقدم في الكتاب
تقدم الفصول القادمة سردا تاريخيا لظهور التقليد الصوفي والانتشار الاجتماعي والجغرافي الذي صاحب استحواذه التدريجي على السلطة والمكانة. وقد اقتضت الحاجة لتقديم سرد متماسك وسلس وجود تقييم غير معلن على نحو كبير للمصادر الأساسية أو الثانوية المختلفة؛ ومن ثم، يجب على الطلاب الراغبين في تقييمات تأريخية دقيقة الرجوع إلى المقالات النقدية الحديثة التي كتبها باحثون مثلي ومثل ألكسندر كنيش ودينا لي جال.
20
ولمساعدة القراء في وضع الصوفيين في إطار مفاهيم أكبر خاصة بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ المقارن، والتاريخ العالمي في نهاية المطاف، قسم سرد الكتاب إلى أربع فترات تقليدية إلى حد كبير، لكنها فترات يعتقد أنها تشتمل على تطورات مميزة في التاريخ الصوفي نفسه. وهذه الفترات التي يتناولها الكتاب في أربعة فصول هي كالتالي: فترة أوائل العصور الوسطى (800-1100)، وفترة العصور الوسطى (1100-1400)، وفترة أوائل العصر الحديث (1400-1800)، وفترة العصر الحديث (1800-2000). الفصول مؤلفة بطرق مختلفة على نحو تدريجي؛ فبينما يركز الفصل الأول على المفكرين الأوائل والنصوص الأولى اللذين قدما الأسس والمصادر اللاحقة للتقليد الصوفي، يركز الفصل الثاني على العمليات التي تمكن من خلالها هذا التقليد من التكيف والتوسع في سياقات جغرافية واجتماعية مختلفة. ونظرا لتناول الفصل الثالث لفترة التوسع الصوفي «ذي الطابع العالمي» في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى الصين، فإنه يتناول جوانب جغرافية، في حين أن الفصل الرابع يلتفت إلى التأريخ السياسي ليتتبع أحوال التقليد الصوفي في العصر الحديث، فيما يتعلق بفترتين مترابطتين، هما فترة الاستعمار وفترة عولمة ما بعد الاستعمار.
ونظرا للطابع المتغير للمصادر التي تناولت هذه الفترات المختلفة، واختلاف أنواع الخبرات والمناهج الأكاديمية التي انجذبت إلى تلك المصادر، فإنه لا بد من وجود تحول في التركيز مع تقدم هذه الفصول؛ من التركيز على كتابات «الرجال العظماء» الحضريين المستقلين في الفصل الأول، إلى العرض التدريجي لمجموعات اجتماعية وتطورات أخرى بدلا من التركيز على التطورات الفكرية. إن معظم القراء الأكثر حصافة سيدركون بسهولة أن هذا جزء من مسعى البحث التاريخي والتاريخ الصوفي نفسه؛ فمع ترك الكثير من الصوفيين، على اختلاف طرقهم، أنواعا مختلفة من التراث - سواء النصي، أو المادي، أو الطقسي - لورثتهم، تمكن الباحثون من تكوين صور أكمل لعوالمهم. على الرغم من ذلك، وعلى النقيض من الدراسات السابقة للصوفية، فقد خصصت في هذا السرد مساحات متساوية تقريبا لكل فترة من الفترات الأربع، هذا بالرغم من أنه من الجائز القول إن المتخصصين سوف يجدون الكثير من الأمور المألوفة حقا بالنسبة إليهم في أجزاء من الفصلين الأول والثاني؛ نظرا لأن الفترات الأولى قد حظيت بتناول أكبر بكثير. بالرغم من ذلك، عند تناول التوسع العالمي المتزايد تدريجيا للصوفيين، يقدم الفصل الثاني، والفصلان الثالث والرابع بصفة خاصة، تغطية لمناطق في أفريقيا ووسط آسيا وجنوبها الشرقي وجنوبها، وأخيرا أوروبا التي اعتبرت عادة هامشية بالنسبة إلى «مواطن» الصوفية، المفترض أنها واقعة في الشرق الأوسط. وحتى إذا وجد بعض القراء في بعض المواضع أن الموضوع مألوف بالنسبة إليهم، فإنني آمل أن يضفي نطاق التناول والنموذج الشامل لتقليد يتطور ويتوزع تدريجيا في سياقات كثيرة مختلفة؛ الأصالة على السرد ككل.
تتمثل خطورة تناول هذا القدر الكبير من الموضوعات في كتاب واحد في فقدان الوضوح وسط هذا الكم الكبير من البيانات، خاصة في الفترات التي شهدت التوسع السريع للصوفية بداية من أوائل العصر الحديث. لهذا السبب، قد يكون من المفيد في هذه المرحلة أن نوضح بأبسط طريقة التفسير الكلي للتاريخ الصوفي الكامن في هذا السرد. تتمثل الحجة باختصار في أن التقليد الصوفي تشكل على نحو تدريجي في أوائل فترة العصور الوسطى، داخل الدوائر نفسها التي تكونت فيها الفكرة الإسلامية المعيارية الخاصة بالسنة التي تمثل النموذج النبوي؛ ففي القرنين التاسع والعاشر، كتبت مجموعة متنوعة من المفكرين المقيمين في العراق وإيران سلسلة من الأعمال باللغة العربية، أصبحت أساسية في تقديم المصادر الاصطلاحية والمفاهيمية التي ستورث إلى الأجيال التالية. نقلت مصطلحات هذا المعجم الصوفي على هيئة كلمات مقترضة إلى اللغات الإسلامية المتعددة، ومثلت مع النماذج الخطابية التي طورتها الإطار المفاهيمي للصوفيين في العصور الحديثة.
21
ومنذ أوائل القرن الحادي عشر، بني الجيل الثالث والجيل الرابع من الصوفيين على أفكار المنظرين الأوائل، هذه الأفكار التي تكون متناقضة في بعض الأحيان؛ من خلال وضع سجلات أنساب وتواريخ لتعاليمهم تربطها بوقت قديم يعود إلى عصر النبي محمد. منذ هذه اللحظة فصاعدا، أصبح هذا الميل إلى النظر إلى الماضي ضروريا للوعي الذاتي التاريخي الذي قدم تعاليم الصوفيين كتقليد يمكنهم أن يقدموه على أنه العقيدة الأسمى التي توارثوها دون انقطاع عن النبي محمد نفسه.
بالتمسك بما حوله الصوفيون في فترة العصور الوسطى من بلاغة خطابية إلى تقليد راسخ ملموس، تمكنوا من الحفاظ على وضعهم المعياري المحترم عندما جعلهم انهيار السلطة الإسلامية المركزية ممثلين مهمين للكيانات القبلية الضعيفة التي ناصرتهم في المقابل. ومع توسعهم حينها في مناطق حدودية جديدة في جنوب شرق آسيا، وأيضا في أفريقيا في أوائل العصر الحديث، تمكنوا من الحفاظ على مكانتهم هذه حتى بالرغم من اندماجهم المتزايد في دول إمبريالية أكثر قوة، وحملة التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وأثناء الانهيار الكبير للقوة التجارية والسياسية الإسلامية في العصر الحديث، كانت الصوفية من بين المؤسسات الإسلامية القليلة الموجودة فيما قبل العصر الحديث، التي نجت من الاستعمار الأوروبي بلا تأثر إلى حد كبير. وباعتبار الصوفيين تجسيدا للتقليد النبوي، وكذلك للتقليد الصوفي في المجتمعات الكثيرة جدا، التي ظلوا يمتلكون فيها الأراضي ويسيطرون على شبكات التعليم والالتحاق بالطرق الصوفية؛ فإن استمرار مكانتهم البارزة في القرن التاسع عشر جعلهم ينجذبون إلى اتجاهات مختلفة بسبب مطالب كل من المريدين المحليين والحكام الاستعماريين.
Page inconnue
إن سياسات الإصلاح الإسلامي المعارضة للصوفية، التي دخلت القرن العشرين وهي واثقة في حالات كثيرة من مكانتها العالية المكتسبة من تحالفاتها الحديثة مع الدول الاستعمارية والدول الإسلامية على حد سواء؛ جعلت هذا الكيان الصوفي هدفا طبيعيا للمنافسة والهجوم. ومنذ بداية القرن العشرين تلقت الصوفية الهجوم الأقوى والأكثر نجاحا، سواء على يد إصلاحيين صعدوا إلى طبقة اجتماعية أعلى، وكانوا قادمين من خلفيات غير تقليدية مثل تعليم المدارس الحكومية أو الصحافة، أو على يد أتباع التيار الحداثي الحاصلين على تعليم علمي، الذين رفضوا الصوفية لكونها رمزا للتقليدية المنحطة التي أدت إلى وقوع المسلمين في قبضة الاستعمار. وعلى الرغم من أنه في نهاية القرن العشرين حافظ عدة ملايين من المسلمين على الروابط التي تربطهم بالأولياء الأموات والشيوخ الأحياء للتقليد الصوفي، وسمحت العولمة لرواد نشر التقليد الصوفي بالعثور على أتباع جدد في أمريكا وأوروبا؛ فقد أصبحت الصوفية بالنسبة إلى المسلمين المتعلمين بصفة خاصة تمثل الفساد والخرافة والتخلف.
أخيرا، ينبغي توضيح المقصود من استخدام الكتاب للفظة «عالمي». الأمر «العالمي» في السرد التاريخي المقدم هنا ليس له علاقة مباشرة بما كتب عن نظرية العولمة، بل هو محاولة لتقديم تناول لكل منطقة على الكوكب انتشرت فيها الصوفية على مدار فترة تزيد عن ألف سنة. علاوة على ذلك، فإن هذا التناول العالمي التدريجي مقدم كسرد تاريخي من الترابط، يوضح أن الصوفية وسيلة ثقافية للترابط والتبادل بين المناطق. ونظرا لامتداد الصوفية من شرق البحر المتوسط وغربه، إلى وسط آسيا وجنوبها في فترة العصور الوسطى، لتصل تدريجيا إلى جنوب شرق آسيا والصين وأفريقيا في أوائل العصر الحديث، وفي النهاية إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وحتى أستراليا في بداية القرن العشرين؛ فمن المعقول الزعم أن نطاق الانتشار الصوفي كان حقا عالميا. والأهم من ذلك، أن هذا السرد يحاول تحديد بعض العمليات التي تغير من خلالها هذا التقليد الديني الذي تكون في سياق مكاني وزماني (وأيضا لغوي وخطابي) معين؛ تغير من ناحية التكيف واستيعاب اللغات والعادات المحلية، عبر تقديمه إلى بيئات جديدة على نطاق عالمي تدريجي. وعلى الجانب الآخر، يتتبع السرد المشاكل التي سببها ذلك التوسع العالمي للصوفية نتيجة لتكيفها مع الكثير من البيئات المختلفة، خاصة أثناء توسعها الجغرافي الأسرع أثناء فترة أوائل العصر الحديث وفترة العصر الحديث اللتين اتسمتا ب «الطابع العالمي». من المهم على نحو خاص في هذا الصدد معرفة الطريقة التي أدت بها عمليات التكيف - التي انتشرت بمقتضاها الصوفية بداية من القرن السابع عشر في مناطق جديدة - إلى انتشار صور محلية متنوعة من التقليد الصوفي. وعندما صاحب استراتيجية التكيف العالمية تلك التقلبات الاقتصادية والسياسية لعصور الرأسمالية والاستعمار العالميين، أدى ذلك إلى حملة تصحيح إسلامية سعت إلى إصلاح التقليد الذي اعتز به الصوفيون ونشروه على مدار الألفية الماضية، وسعت إلى قمعه في نهاية المطاف. لذلك، فإن التكيف الثقافي للتقليد الصوفي ، الذي حدث من خلال استيعاب اللغات والعادات المحلية في التقليد، نقض على يد الصوفيين والمعادين للصوفيين في نهاية المطاف، الذين سعوا إلى إنهاء الزخم «التراكمي» للتقليد من خلال تجديد الاهتمام بتعلم اللغة العربية والسنة النبوية. ومع بداية القرن العشرين، عندما أصبح المسلمون أكثر احتكاكا بأنواع المعرفة الأوروبية، أصبحت الصوفية، التي ركبت موجة الانتشار العالمي للإسلام في بداية العصر الحديث، ضحية نجاحها السابق على نحو متزايد؛ ومن ثم أصبحت توجد دينامية دفع وجذب متأصلة تكشف عن نفسها من خلال هذه الدراسة المطولة والموزعة على نطاق عالمي.
في حين أن هذا الاستعراض لمحتوى الكتاب قدم فقط أقصر توضيح للتطورات الأساسية التي ستتناولها الفصول القادمة، فإنه يجب أن يكون واضحا أن الهدف الأساسي للسرد هو تقديم تاريخ الصوفية وفقا لتكوينها على يد مجموعة من العمليات «الطويلة الأمد»، التي من خلالها تشكل التقليد تدريجيا وانتشر، وأعيد تشكيله، وبالنسبة إلى كثيرين، رفض أخيرا في القرن العشرين بسبب المنافسة مع الأشكال البديلة الكثيرة من الإسلام، المطروحة في السوق الدينية العالمية.
الفصل الأول
الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
(1) السياق
المكان: بغداد في حوالي عام 850 ميلادية. إننا على بعد ما يزيد عن ثمانمائة ميل في الصحراء عن مكان إعلان النبي محمد نزول الوحي عليه في مكة، وقد مضى ما يزيد عن مائتي سنة على موته. وعلى الرغم من أن كلمة «صوفي» (أي مرتدي الصوف) كانت مستخدمة منذ سنوات كثيرة، باعتبارها لقبا أو حتى توبيخا للنساك الموجودين في البرية المحيطة، فإنها استخدمت هنا لأول مرة للإشارة إلى أشخاص في المدينة نفسها. وعلى النقيض من المنعزلين ساكني الجبال والصحراء الذين يكتنفهم الغموض ويعيشون على الهامش، فإن رجال المدينة هؤلاء لم يكتبوا فحسب كتبا تخبر الآخرين عن كيفية التصرف، لكنهم أيضا حققوا شهرة كافية في أعين المعاصرين والتابعين جعلتهم يناقشون كتبهم ويحافظون عليها. وفي إحدى المفارقات المألوفة في التاريخ الديني، تخبرنا الحقيقة الخالصة التي نعلمها عن هؤلاء الرجال أنهم لم يكونوا شخصيات منعزلة أو غير اجتماعية تنأى بأنفسها عن العالم، بل كانوا شخصيات عامة لديهم حياة عامة في مدينة ربما تكون الأغنى والأكثر عالمية في العالم. بحلول منتصف القرن التاسع كان قد عاش ثمانية أجيال من الآباء والأبناء منذ أن أسس النبي محمد مجتمع المسلمين، وفي العاصمة الثالثة لذلك المجتمع، كان العباد والعلماء من ورثة هذا المجتمع المؤسس أكثر وعيا من ذي قبل بمسئوليات الحفاظ على رسالة النبي محمد في غيابه. إنه وقت إنتاجية غير مسبوقة من الناحية التشريعية والأخلاقية، والروحانية والفكرية؛ فمن خلال تراث النبي والأجيال الأولى من المسلمين، ابتكرت معاني كثيرة للإسلام (ونوقشت وقمعت في بعض الأحيان). وعبر الجيل السابق، وجد المتعلمون وسيلة جديدة لنشر أفكارهم وتبادلها؛ إذ جلبت الطرق التجارية الكبرى للمدينة الورق من الصين ليحل محل الرق والبردي؛ فبدأ الكثير من الكتب يكتب (وينسخ ويباع)، ووجدت الأفكار الجديدة مؤيدين ومنتقدين لها، واكتسب الإسلام نفسه المعاني والأشكال المختلفة للتدين والمؤسسات التي سوف ترثها الأجيال القادمة وينسبونها إلى زمن النبي أو كلمات القرآن الذي جاء به. إذا كان التراث الورقي الذي تركه الصوفيون الأوائل لا ينقل المؤرخ إلى فترة أبكر من فترة أوائل القرن التاسع هذه، فإنه يمكن قول الأمر نفسه عن تدوين التقاليد الإسلامية الأساسية الأخرى مثل الشريعة والسنة النبوية؛ ففي حوالي عام 850، لم تكن المجموعة الصغيرة من الأشخاص الذين يدعون صوفيين منفصلة كليا في اهتماماتها عن الرجال الذين درسوا المبادئ الشرعية، أو بحثوا عن طرق لتمييز الروايات الصادقة عن الكاذبة الواردة عن أقوال وأفعال النبي. وعلى الرغم من أن كلمة صوفي يمكن أن تعني أمورا مختلفة عديدة في أزمنة لاحقة وأماكن أخرى، فهنا حيث انتشر المصطلح لأول مرة، كان يشير إلى الأفراد الذين لهم طريقة خاصة في سلوكهم وتقواهم. تمثلت تلك الطريقة في تقربهم الشديد إلى الله، وعزوفهم عن متع الحياة، لدرجة أنهم ارتدوا فعليا في البداية - ومع مرور الوقت مجازيا - الملابس الصوفية الثقيلة والخشنة، والمنتنة الرائحة، التي منحتهم اسم الصوفيين، الذي يعني «مرتدي الصوف».
نظرا لحقيقة أن الأكاديميين منذ منتصف القرن التاسع عشر بدءوا يبحثون عن «أصول» الصوفية في الفترة السابقة عن الفترة المذكورة آنفا، فالأمر يتطلب إعادة التأكيد على الأمور التي نجدها (وتلك التي لا نجدها) في بغداد في منتصف القرن التاسع، الذي ظهرت فيه أول بيانات موثوق فيها عن الصوفية. لدينا في الأساس لقب أو اسم وصفي (صوفي) يطلق على أشخاص معينين في منطقة بغداد (بعضهم ترك آثارا مكتوبة)، وسنرى أيضا فيما بعد أنه من المحتمل أنه كان يطلق أيضا على أشخاص خارج بغداد (لم يتركوا آثارا مكتوبة). أما الأمور غير الموجودة بعد في تلك الفترة، فهي الحركة الصوفية، ومجموعة المعتقدات المميزة لها، وبالتأكيد التقليد الصوفي؛ فكل هذه الأمور سوف تتطور لاحقا فحسب؛ ولهذا السبب ليس من الحكمة الحديث عن «الصوفية» كما لو كانت كيانا لديه وجود ذو معنى في ذلك الوقت، بل يمكننا القول إنه في منتصف القرن التاسع كان يوجد أشخاص يطلق عليهم صوفيون ستخضع تعالميهم تدريجيا (وبأثر رجعي كذلك) إلى التمحيص والاستيعاب على يد الأجيال التالية، مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب صوفيين ويصيغون طقوسا ومعتقدات وزيا لتمييز أنفسهم عن غيرهم، ويؤسسون سجلا تاريخيا قائما على الوعي الذاتي، ليمنح وزنا لأطروحاتهم التي يزعمون أنها صحيحة. ومن خلال الحفاظ على هذا الفرق بين اللقب والشخص، وبين الكلمة وما تشير إليه، سنكون مؤهلين على نحو أفضل للتعامل مع أولى المشكلات التاريخية اللازم مواجهتها هنا؛ ألا وهي: أصول الصوفية. (2) مشكلة أصول الصوفية
لن تكون مبالغة إذا قلنا إن الأكاديميين تناولوا مسألة أصول الصوفيين أكثر مما تناولوا أي مسألة أخرى في التاريخ الصوفي. إلا أن أهمية المسألة نسبية وليست مطلقة؛ إذ إنها تعتمد على نموذج العملية التاريخية التي نستخدمها في فهم الماضي. إن التركيز الأكاديمي على «الأصول»، الموجود منذ أمد بعيد، نشأ عن وجهة نظر ترى أن العملية التاريخية رأسية بالضرورة؛ أي أنها مجموعة «موروثات» و«مؤثرات» أثرت على كل جيل من الأجيال الماضية، وتلقاها أبناء كل جيل على نحو أعطى شكلا تراكميا لأفكارهم وأفعالهم وإنتاجهم. كان هذا النموذج مؤثرا بصفة خاصة في تطور مجالي الدراسات الدينية والدراسات الشرقية أثناء القرن التاسع عشر، الذي حدثت فيه اكتشافات أثرية ونصية جديدة متعلقة بالتاريخ المسيحي واليهودي القديم، وكان لهذا الأمر أثر كبير؛ إذ جعل أي ممارسة للفحص العلماني لأي تاريخ ديني فحصا «أثريا» يقوم على إزالة طبقات المؤثرات والموروثات المتراكمة، من أجل الكشف على ما يمكن وصفه بأنه «أسس» أي كيان تاريخي. إلا أن العملية التاريخية ليست مجرد عملية رأسية (ولا حتى في الأساس)، واستنادا إلى قرن ماض من التفكير القائم على علم الاجتماع، فقد زادت الآن احتمالية التفكير في ضوء التاريخ الذي يتكون داخل الطبقة الأفقية التي نرى أنها تتمثل في «السياق» و«المعاصرين». وفي هذا الصدد لا ينظر إلى الماضي على أنه أمر غير قابل للتغيير، بقدر ما يعتبر مجموعة من الموارد الثقافية التي يمكن أن تستمر أو تخضع للتعديل أو تنبذ بحسب الرغبة. وكما سنرى لاحقا في مناقشتنا للأدلة المكتوبة التي تركها الصوفيون الأوائل أنفسهم، فقد كانوا حذرين جدا في توجهاتهم تجاه ماضي مجتمعهم الإسلامي، وكذلك مجتمعات الأشخاص غير المسلمين الموجودين في الإمبراطورية الإسلامية.
لهذا السبب ولأسباب غيره، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين وكتاباتهم على أنهم نتاج لزمنهم «الأفقي». وهذا لا يعني أن الممارسات أو الأفكار أو حتى المصطلحات المميزة التي استخدمها الصوفيون لم تنشأ قبل القرن التاسع. على النقيض من ذلك، فإنه في المجتمع العالمي للعراق وغيره من السياقات الكثيرة المختلفة التي زاول فيها الصوفيون نشاطهم لاحقا؛ كانت القدرة على الاقتباس الانتقائي من الماضي من العوامل التي منحت الصوفيين جاذبيتهم. إلا أن اقتباس عناصر ثقافية معنية لا يعني التنازل عن تكامل المنتج النهائي؛ فكما يبدو أن المشرعين المسلمين الأوائل اقترضوا عناصر من قانون الولايات الخاص بالرومان المتأخرين عند وضع أنظمتهم القانونية، وأن الخوارج المسلمين صنعوا من أنفسهم نماذج سردية للعنف أو الاستشهاد لأغراض دينية، وهو الأمر الذي ظهر لأول مرة في الإمبراطورية البيزنطية؛ فإنه يبدو أن بعض الصوفيين الأوائل قد اقتبسوا مثلهم عناصر من الفكر المسيحي والممارسات المسيحية من أجل أهداف خاصة بهم.
Page inconnue
1
إن هذه الاقتباسات النقدية والانتقائية لا تقلل بالضرورة من كون الإبداعات النهائية ناتجة عن الدوائر الإسلامية العالمية في العراق في القرن التاسع، إلا إذا كنا نعمل وفقا للمعيار الديني لا التاريخي، ذلك المعيار الذي ينص على أن كل ما هو إسلامي يجب أن يكون نابعا من القرآن. وبدلا من التفكير من منظور «الاقتباسات»، من الأفضل أن نعتبر أوجه التشابه جزءا مما وصف بأنه «لغة سيميائية مشتركة» كانت مألوفة لدى كل من المسلمين والمسيحيين واليهود في القرون الأولى من الحكم الإسلامي.
2
من الأمثلة الجيدة على هذه المصطلحات الرمزية (واللغوية بالتأكيد) مصطلح «صوفي» نفسه؛ فعلى الرغم من وجود مجموعة أصول لغوية بديلة مزعومة (بما فيها الكلمة اليونانية
sophia
التي تعني الحكمة)، فقد أصبح المصطلح مقبولا في العموم الآن باعتباره اشتقاقا من الكلمة العربية «صوف»، مما يجعل «الصوفي» هو الشخص الذي يرتدي الملابس الصوفية كما رأينا. أما الباحث الأكثر دقة في تاريخ المصطلح، فيرى أن هذا المصطلح ظهر لأول مرة في بيئة مسيحية وليس في بيئة إسلامية، للإشارة إلى اتجاه مخالف ظهر في أواخر القرن السادس بين المسيحيين النسطوريين في سلوقية-قطسيفون، على بعد حوالي عشرين ميلا جنوب المكان الذي شهد عام 762 تأسيس بغداد.
3
وعلى الرغم من أن اللغة الرسمية للكنيسة النسطورية كانت السريانية، فمع مرور العقود بعد الفتوحات العربية للمنطقة في الأعوام التي أعقبت وفاة النبي محمد عام 632، فقد كثير من النسطوريين قدرتهم على فهم اللغة السريانية، وطالبوا بكتابة المراسيم الكنسية باللغة العربية. لقد كانت اللهجة المسيحية العربية هذه هي التي نشرت مصطلح «لابس الصوف»، ومن ثم مصطلح «صوفي»؛ للإشارة إلى مجموعة من الزهاد المسحيين في العراق، الذين تشارك معهم الزهاد المسلمون الأوائل في كل من الكلمة والممارسة بصفتهما «ارتباطا بالمكانة البسيطة والمتواضعة، واهتماما بالقيم وليس الماديات.»
4
تتمثل نقطة الضعف في هذا الزعم في أن الأجزاء الرئيسية من الدليل إما مفترضة معتمدة على استخدامات نظرية للكلمة قائمة على التخمين، وإما معتمدة على الاستخدامات الأولية المزعومة المدونة فقط في مصادر متأخرة. لكن توجد مشكلات أكبر تخص هذا الزعم أيضا؛ أولا: توجد المسألة الخاصة بقدر الأهمية الذي نود أن نمنحه للاسم، والمسألة الفرعية المتمثلة فيما إذا كان هذا الاسم ومعنى أصله «الأصلي» لهما علاقة مباشرة أو اعتباطية بالأشخاص أو الأفكار أو النشاطات التي أصبحا يشيران إليها في السياقات الإسلامية اللاحقة. في دراسة كلاسيكية لثمانية وسبعين تعريفا من التعريفات الإسلامية القديمة لمصطلح «صوفي» ومصطلح «تصوف» المشتق منه، والذي يعني «لبس الصوف» أو «اتباع الصوفية»، وجدنا تعريفا واحدا فقط يشير إلى لبس الصوف، وقليلا من التعريفات الأخرى التي تشير إلى ممارسات الزهد في العموم، وكانت الغالبية العظمى من التعريفات تشير إلى القيم المعنوية والنزعات الأخلاقية.
Page inconnue
5
يبدو أن هذا الدليل ينقض الارتباط بين المعنى الإسلامي والمعنى المسيحي المزعوم لكلمة «صوفي»، بحيث يشير إلى أنه في سياقات الاستخدام المختلفة كانت «الأمور» التي تشير إليها الكلمة مختلفة تماما. إلا أن المشكلة في هذا الصدد أيضا تتمثل في أنه على الرغم من أن هذه التعريفات الثمانية والسبعين منسوبة إلى شخصيات في أوائل القرن التاسع، فإنها ظلت فقط باعتبارها اقتباسات في المصادر المتأخرة. مرة أخرى، نواجه مشكلة تتمثل في أننا كلما أوغلنا في الفترة السابقة على الانتشار الكبير للأعمال المكتوبة في القرن التاسع، أصبحت المصادر إما غير مباشرة وإما غير موجودة على الإطلاق؛ ومن ثم لا يصبح لدينا إلا اقتباسات متأخرة من شخصيات قديمة، أو تخمينات افتراضية للأنماط الكلامية القديمة.
ثانيا: إذا نظرنا إلى ما وراء موضوع اللغة، فإننا سنجد المسألة الأكثر جوهرية المتمثلة فيما إذا كان يوجد اقتباس من جانب المسلمين للممارسات المسيحية إلى جانب المفردات المسيحية، بالإضافة إلى المسألة الفرعية المتمثلة فيما إذا كان هذا الاقتباس قد شكل الأنشطة الفعلية لهؤلاء المسلمين الذين سيطلق عليهم اسم «صوفيين» في القرن التاسع. في هذا الصدد، من المفيد العودة إلى نموذج المصطلحات السيميائية واللغوية في بعض الحالات التي اشترك فيها المسلمون والمسيحيون، وليس النموذج الذي امتلكه كل منهم على نحو حصري. ومن المهم أيضا هنا أن نأخذ في اعتبارنا السياق؛ ففي القرون الأولى من التاريخ الإسلامي كان عدد المسيحيين في البيئات التي عاش فيها المسلمون في مناطق مثل سوريا والعراق ومصر يفوق عدد المسلمين. كان الهلال الخصيب في منطقة الشرق الأوسط، الذي كان مسيحي الطابع حتى أكثر من أوروبا الغربية في ذلك الوقت، ساحة تعج بالكنائس والأديرة وأضرحة القديسين. لم تنل هذه المواقع وقاطنوها الحماية القانونية للإمبراطوريات الإسلامية الجديدة فحسب، بل استوعبها أيضا الحكام المسلمون بعدة طرق مختلفة؛ فقد اعتبرت أضرحة الأنبياء والقديسين المسيحيين مزارات دينية للمسلمين، وأصبحت الأديرة بالنسبة إلى المسلمين أندية تقدم الخمر، ويتجمع فيها الشعراء، ومكتبات للمثقفين المهتمين بالأدب، وساعد الباحثون المسيحيون في ترجمة التراث الفكري اليوناني والروماني إلى العربية، الذي حفظه على نحو انتقائي الأسلاف المسيحيون.
6
وهكذا، لا يوجد أي شك في أنه كان هناك تنوع في أشكال تفاعل المسلمين مع المسيحيين، على الأقل حتى عام 850 تقريبا.
لطالما اعتبر أن لبس الصوف يشير إلى أوجه الشبه مع الممارسات الزهدية لمسيحيي الشرق، خاصة في سوريا؛ حيث كانت عاصمة المسلمين في دمشق في الفترة ما بين عامي 661 و750، قبل أن تنتقل إلى العراق بقيام الدولة العباسية. وكرد فعل على نزعات البحث عن أصول الصوفيين في الفكر الهندي التي ظهرت في القرن التاسع عشر، كشف الباحثون في ثلاثينيات القرن العشرين عن أدلة تفصيلية عن أوجه التشابه بين «الزهاد» المسيحيين والمسلمين؛ وقيل إن هذا التراث الزهدي المشترك مهد الطريق لتحول الصوفيين إلى «زهاد» ناضجين مهتمين بالتجربة والمعرفة بدلا من تعذيب الجسد.
7
إن هذا الوضع للمسلمين الأوائل في سياقاتهم التعددية رأيناه أيضا في الاتجاه الحديث الساعي إلى رؤية كل من التطورات المسيحية والإسلامية القديمة في إطار بيئتهما الاجتماعية المشتركة. وتمثلت هذه الطريقة في أبسط صورها في وضع الأدلة الخاصة بالأنشطة المسيحية والإسلامية جنبا إلى جنب، والإشارة إلى أوجه التشابه وأدلة التفاعل المباشر بينهما كلما أمكن، واستخدام ذلك كأدلة على تأثير المسيحيين على المسلمين، بالإشارة إلى أوجه التشابه من أمثال أنماط الصلاة، والأقوال والتوجهات، بالإضافة إلى الملابس.
8
إلا أن الجدل حول الأصول يتحرك في هذا الصدد في اتجاهين يجب الفصل بعناية بين نتائجهما المختلفة. بالنسبة إلى الباحثين الذين كتبوا في ثلاثينيات القرن العشرين، في الحالتين الإسلامية والمسيحية على حد سواء، كان الانعزال وتعذيب الجسد الخاصان بحياة الزهد مهدا طبيعيا (وعالميا في واقع الأمر) لتطور «التصوف». كان التصوف بدوره يعتبر حاجة عالمية تهدف إلى «معرفة الحقيقة المطلقة، وفي النهاية تكوين علاقة واعية مع الحق تتوحد من خلالها الروح مع الله.»
Page inconnue
9
بعبارة أخرى، إن هذا التفسير يقدم نموذجا تطوريا للتاريخ لا يكون فيه الزهد غاية في حد ذاته، بل لا بد أن ينضج ويتحول إلى تصوف، وهذا التصوف هو ما يقول المؤلف إن الصوفيين يمارسونه. إن هذا الانهيار للاختلافات (وبالطبع التعارض المحتمل) بين فئة الزهاد وفئة المتصوفين يقدم - نوعا ما - سردا خاليا من الصراع؛ ومن ثم، يعتبر الزهاد المسلمون القدماء الذين بدوا متأثرين بممارسات جيرانهم المسيحيين هم المسئولون المباشرون عن ظهور الصوفيين الذين احتاجوا بدورهم مرة أخرى - أثناء تطويرهم للنماذج الماورائية الأكثر تعقيدا للتفاعل البشري والإلهي الذي يتطلبه «التصوف» - إلى الأخذ عن المسيحيين الذين كانوا موجودين من قبلهم، وكانوا متقدمين عن المسلمين في المسعى العالمي نفسه للتطور الروحاني.
شكل 1-1: أساليب حياة الزهد: كشكولان (أي وعاءان للتسول)؛ أحدهما مصنوع من الخشب، والآخر من جوز الهند البحري (تصوير: نايل جرين).
تتمثل المشكلة في أنه عند النظر إلى الأدلة الموجودة في الجانب الإسلامي لا يبدو هذا التحول المبكر من الزهد إلى التصوف مباشرا على نحو واضح؛ لذلك، بدلا من رؤية الزهاد المسلمين باعتبارهم الأسلاف الطبيعيين للصوفيين، سيكون من الأفضل رؤيتهم باعتبارهم منافسين لهم؛ ففي العقود الحديثة، أثار الفحص الأكثر دقة للمناقشات المتعلقة بالزهد الإسلامي المبكر شكوكا جادة حول هذه الفكرة المتعلقة بوجود تدفق مباشر بين «الزاهد» و«الصوفي»، من خلال إظهار إلى أي مدى أدين تعذيب الجسد، والانعزال، وفوق كل ذلك التبتل، باعتبارها انحرافات عن السنة النبوية.
10
وكما سنرى عند تناول أقدم الأدلة الواضحة المتعلقة بآراء الأشخاص الذين يطلق عليهم الصوفيون، فإن كثيرا منهم كانوا واضحين في إدانة ممارسات الزهد ، واصفين إياها بأنها مظاهر علنية غير ضرورية لما يعد من قبيل التقوى الزائفة. (وعلى الرغم من الاستحسان الكبير الذي لاقاه العديد من زهاد العصور القديمة المتأخرة، فقد كانت النتيجة المثيرة للسخرية هي أن هؤلاء الزهاد كانوا في الواقع يتخذون الزهد حرفة ويتعالون به على غيرهم.) وللتعبير عن الأمر بمزيد من الوضوح، فإنه حتى لو كان الزهاد المسلمون قد قلدوا أسلوب الزهاد المسيحيين، فهذا لا يشير بالضرورة إلى وجود «أصل» مسيحي للصوفيين؛ لأنه نظرا لكون الصوفيين أبعد ما يكونون عن كونهم ورثة مباشرين للزهاد، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين على أنهم منافسون ومنتقدون لهم. و«الزاهد» لا يتطور وينضج ليصبح «صوفيا»، بل لقد أخرست أصوات «الزهاد» من خلال تهميش الصوفيين الأكثر نجاحا لهم، وحلولهم محلهم في نهاية المطاف.
حتى الآن شككنا في أهمية أوجه التشابه في المسميات والممارسات بين الزهاد المسيحيين والصوفيين المسلمين. المشكلة الرئيسية في مثل هذه الدراسات الهادفة إلى تتبع الأثر هي أنه على الرغم من وجود الكثير من الأدلة على أوجه التشابه وحتى عمليات التواصل بين المسلمين والمسيحيين، فإنه لا يكاد يوجد أي دليل مباشر على «الاقتباس» الفعلي المفترض أن يكون أساسا لأوجه التشابه. يمكن القول إن هذا ليس بالأمر المفاجئ؛ فنظرا لأن المسلمين كانوا يدركون جيدا ثراء الفكر والممارسة المسيحية في القرون الأولى للإسلام، فقد كان من غير المحتمل أن يعلنوا عن حاجتهم إلى اقتباس أفكار وأساليب من دين من المفترض أن دينهم قد حل محله. ويمكن قول الأمر نفسه عن الأدلة الخاصة بالانتقال الأكثر غموضا للمعتقدات الماورائية والكتابات التي تسرد سير الأشخاص. في هذه المنطقة الأكثر ضبابية، اقترحت طريقة بديلة لتقييم التأثير المسيحي المحتمل، والتي لم تكن تبحث عن تكرار مسألة الانعزال أو اقتراض الكلمات، بل تبحث عن إعادة إنتاج «نسق أو تركيب أو بنية»، وهذا أمر أكثر تعقيدا، ولذلك يقل احتمال كونه عشوائيا.
11
فمن خلال نوع من البنيوية التاريخية، قيل إن تأثر الصوفيين بالمسيحية النسطورية يمكن تتبعه عبر تكرار أنماط العقيدة أو السير الموجودة أولا في الأعمال المسيحية، ولاحقا في الكتابات الصوفية.
12
Page inconnue
ومن أمثلة ذلك كتابات المسيحي العراقي المنتمي للقرن السابع، إسحاق النينوي؛ إذ ساد اعتقاد يرى أن نموذجه الثلاثي المتعلق بارتقاء الروح من خلال سلسلة مجموعات ثلاثية من الأنشطة والفضائل، ظهر مرة أخرى لاحقا في توضيحات الصوفيين لفكرهم.
13
وفي محاولة للخروج من مأزق توثيق أوجه التشابه فحسب والاختيار بين ما كان من قبيل الصدفة وما كان دليلا على الاقتباس المباشر، تزعم طريقة البنيوية التاريخية تلك وجود تكرار لأنماط معقدة بالغة التفاصيل على نحو يحول دون تكرارها دون نقل مباشر. إن أكمل ممارسة على هذا المنوال أجريت على الروايات التي تسرد سيرة رابعة العدوية (المتوفاة عام 801)، تلك الزاهدة المسلمة الشهيرة التي عاشت في البصرة في جنوب العراق، التي يزعم الصوفيون أنها واحدة من أسلافهم، وأوضحت بقدر من النجاح كيف أن الأساطير الإسلامية عن رابعة العدوية اعتمدت على روايات سردية مسيحية أقدم عن غانيات تائبات.
14
إلا أننا حتى لو سلمنا بانتقال صور أفكار معينة، فإنه في نهاية المطاف لن يكون لدينا فهم أكثر وضوحا لطريقة حدوث ذلك، وبالنسبة إلى المؤرخين فإن تلك الحاجة إلى تفسير واضح لطريقة حدوث الأمر تعادل أهمية وجود دليل على حدوثه. وكما هو الحال مع النوع الأقدم من التاريخ الفكري الذي سيطر يوما ما على دراسة الصوفية، فإننا دون فهم العملية تصبح أمامنا نصوص من المفترض أنها مترابطة، لكن دون أن يكون لدينا أي فكرة عن القراء الذين من المفترض أنهم يربطونها معا. وحتى في حالة إمكانية تحديد هذه التشابهات البنيوية المباشرة، فهذا مرة أخرى يمكن تفسيره بعملية على أنه نتيجة لمتخيل رمزي أفقي مشترك - «لغة سيميائية مشتركة» - أكثر من كونه نتيجة للنقل الأحادي الجانب المتمثل في أخذ المسلمين عن المسيحيين.
إذا كانت الدراسات الحديثة لا تقدم صورة واضحة عن أصول الصوفية، فهذا يثير تساؤلا حول ما إذا كانت كتابات الصوفيين عن أنفسهم تقدم صورة أفضل. فمع مرور الزمن أصبح الصوفيون بالتأكيد أكثر اهتماما بماضيهم، وأثناء تكوينهم لتقليدهم قدموا كل أنواع قصص السير المتعلقة بأسلافهم التي تعود للماضي لتربط تعاليمهم بالنبي محمد. وكما سنرى بمزيد من التفصيل فيما يلي، فإن المشكلة تتمثل في أن المصادر الرئيسية التي تتناول هؤلاء الأسلاف يعود تاريخها إلى فترة متأخرة إلى حد كبير عن وقت حياتهم (وفي كثير من الأحيان، تكون قد كتبت بعدهم بعدة قرون). وعلى غرار حالة رابعة العدوية، فإن سير أسلاف الصوفيين المزعومين هؤلاء من أمثال إبراهيم بن أدهم (المتوفى عام 777)، وفضيل بن عياض (المتوفى عام 803)، وبشر بن الحارث (المتوفى عام 841) - الذين ينتمون جميعا لوسط آسيا - وذي النون المصري (المتوفى عام 861)؛ أصبحت واقعة في شرك المجازات والموضوعات المكررة المعتمدة على الموروثات الشعبية قدر اعتمادها على الحقيقة.
15
وكما سنرى في الفصل الثاني عندما نأتي لمناقشة السير التي دونت قصص الحياة المفترضة لهؤلاء الأسلاف، سنجد أن الزعم الذي يقول بوجود سلسلة منظمة من الأسلاف يخبرنا عن الترابط النصي للتراث في القرن الحادي عشر أكثر مما يخبرنا عن حياة وظروف الصوفيين الأوائل، الذين عاشوا قبل ذلك بثلاثمائة عام. وكما رأينا بالفعل، ففي منتصف القرن التاسع لم يكن يوجد بعد تقليد صوفي، ولا حتى حركة متماسكة، بل مجرد مجموعة أشخاص في الغالب مميزين جدا يطلق عليهم صوفيون؛ لذلك، فالمسألة إلى حد كبير ليست وجود أشخاص مثل إبراهيم بن أدهم من عدمهم، ولا معرفة إن كانوا جزءا من اتجاه قديم نحو الزهد أم لا، بل تتمثل المسألة أولا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا بأية طريقة مجموعة متماسكة عبر هذه المسافات الشاسعة. وثانيا: فيما إذا كان من الممكن اعتبار أنهم كونوا اتجاها أو مسارا ورثه الصوفيون لا قمعوه.
من الناحية التاريخية، إن هذه المشاكل المتعلقة بأصول الصوفية تتضخم من ثم من خلال التأكيد على وجود انتقال رأسي قائم على السبب والتأثير، يقدم وراثة الأفكار على رفضها، وانتقال الحركات على قمعها. بيد أن حقيقة الأمر هي أنه على غرار التاريخ المبكر للمسيحية، فقد كانت القرون الأولى للإسلام فترة منافسة شديدة بين مقدمي نسخ دينية متعارضة جذريا في الغالب ، كانت فيها أنماط الولاء السياسي، والنشاط الاقتصادي، وقواعد السلوك اليومية، والقيود القانونية؛ خاضعة لجدل شديد وعنيف في بعض الأحيان. وبدلا من البحث عن انتقال منظم ومتعدد الأجيال من الزهد إلى التصوف، الذي لطالما ميز دراسة التاريخ المبكر للصوفية، فمن خلال إلقاء النظر على كل طبقة زمنية على حدة يمكننا رؤية الانقطاعات والاختلافات التي تسمح لنا بتقييم ما إذا كان مصير أفكار وأفعال الجيل السابق الاستمرار أم الرفض.
دعونا نتناول حالة «الزهاد» باعتبارها مثالا توضيحيا؛ فبدراسة السير اللاحقة التي كتبها الصوفيون أنفسهم، عادة ما اعتبر المؤرخون «الزهاد» «صوفيين منتظرين»، إلا أننا إذا وضعنا هؤلاء الزهاد في سياق ظروف زمنهم، فإننا يمكن أن نرى كيف أنهم خدموا مقاصد مختلفة للغاية، وسعوا نحو أهداف مختلفة تماما مقارنة بالصوفيين الذين ظهروا في القرون اللاحقة. كان القرن الثامن الذي يمثل أوج انتشار «الزهاد» فترة كان فيها المسلمون لا يزالون أقلية في أراضي إمبراطوريتهم، وجعل توسيع فتوحاتهم المناطق الحدودية مهددة باستمرار بإعادة الغزو.
Page inconnue
16
في مثل هذه المناطق الحدودية انتشر الكثير من «الزهاد»، مثل إبراهيم بن أدهم، حيث شاركوا في الحروب الحدودية، وجلب لهم ورعهم الديني وزهدهم الشديد النصر في تلك المعارك، وجلب كذلك الشهرة التي ستنقل أسماءهم إلى الأجيال التالية. وعند تناول هؤلاء الزهاد في ضوء واقعهم القاسي في زمنهم، سندرك أنهم كانوا المعادل الإسلامي للمناصرين البيزنطيين الأشداء أتباع القديسين المحاربين المسيحيين، الذين حمت أضرحتهم الجانب الآخر من المناطق الحدودية الإمبراطورية نفسها، أكثر من كونهم مجرد سالكين ساعين إلى الله غير مرتبطين بزمن معين.
17
ونظرا لعمل هؤلاء الزهاد المسلمين المحاربين في هذه المناطق الحدودية الثقافية المتصارع عليها، فقد تأثروا في كتاباتهم السردية وأفعالهم بنظام قيمي متجاوز للعقائد، تشاركوا فيه مع الزهاد المحاربين المسيحيين الموجودين في تلك الفترة.
18
مرة أخرى، إننا ربما لا نركز هنا على مسألة أخذ المسلمين عن المسيحيين بقدر تركيزنا على مسألة وجود ساحة ثقافية ومنطقة جغرافية مشتركتين، تنافس فيهما المسلمون والمسيحيون داخل مجموعة من الأطر المتداخلة، سواء أكانت هذه الأطر سردية أم أخلاقية أم ماورائية.
بطبيعة الحال، لم يكن كل «الزهاد» المسلمين الأوائل محاربين على الحدود، بل على الأرجح قضى كثير منهم وقتا أكبر في التحاور مع المسيحيين بدلا من محاربتهم. لكن ما يتضح عند النظر إلى هذه الشخصيات في ضوء أوقاتهم العصيبة، هو أن الزهاد المسلمين في القرن الثامن لم يكونوا فقط شخصيات أكثر تعقيدا مما كان سيجعلهم الدور الغائي «للمتصوف البدائي»، بل كانوا أيضا شخصيات مميزة على نحو واضح، ولديهم أدوار اجتماعية وأهداف أخلاقية مختلفة تماما عن أدوار وأهداف الأشخاص الذين سيطلق عليهم صوفيون في منتصف القرن التاسع في مدن العراق الأكثر هدوءا، بدلا من المناطق الحدودية في سوريا أو آسيا الوسطى. وكما توضح الكتابات التاريخية اللاحقة للصوفيين أنفسهم، التي سعوا فيها إلى تقديم الزهاد الأوائل باعتبارهم أسلافا لهم، فإن البحث عن نماذج سابقة لهم عادة ما يخبرنا عن السعي إلى اكتساب الشرعية أكثر مما يخبرنا عن العمليات التي من خلالها تشكلت الأفكار والحركات.
19
وبدلا من محاولة تتبع التطورات في إحدى الفترات وفقا لظروفها المختلفة تماما عن الفترات السابقة، دعونا نظل في الفترة والظروف «الأفقية» التي في ظلها اكتسب عدد صغير من المسلمين لقب صوفيين، ونرى ما إذا كنا سنستطيع أن نشرح على نحو أفضل أصولهم في طبقتهم الزمنية بدلا من الطبقات السابقة عليهم. (3) صوفيو العراق (800-900)
في أوائل القرن التاسع، خضع الزهد لجدل موسع بين الدارسين الحضريين الذين تزايدت أهميتهم في المجتمع المسلم أثناء هذه الفترة. وفي تلك الفترة حل محل نموذج المجتمع المسلم القديم الذي يقوده فرد واحد ينتمي إلى آل النبي محمد (أي الخليفة أو الإمام)؛ أفكار جديدة عن السلطة أعطت صياغاتها المختلفة وزنا متفاوتا لكل من العقل والتقوى، ممثلين في الفهم الكامل للنصوص الدينية والقرب الشديد من الله. وكان الفلاسفة المسلمون وعلماء الدين العقلانيون المسمون ب «المعتزلة» - الذين استمدوا ريادتهم من منطلق قراءاتهم في الفلسفة اليونانية الرومانية التي تولي الصدارة للعقل - مؤثرين بنحو خاص في بغداد في القرن التاسع.
Page inconnue
20
وفي العقود الأولى من ذلك القرن، كان الفريق العقلاني مؤثرا على نحو كاف فيما يتعلق بتقديمه للعقل على النقل؛ بحيث أقنع قائد الإمبراطورية الإسلامية، الخليفة المأمون (الذي حكم من عام 813 إلى عام 833)، ببدء «محنة» (أي تحقيق تعسفي) في محاولة استمرت على مدار ثماني عشرة سنة لفرض معتقد يقول إن القرآن ليس نصا أبديا، بل مخلوق في زمن سياقي تاريخي.
21
على الجانب الآخر من الجدل، كان يوجد علماء متعددون سعوا إلى الدفاع عن سلطة الوحي، لا سيما أنه بدا أنه يقدم أسسا أكثر ثباتا (أو دستورية إن جاز التعبير) للتشريع، ووجد الكثيرون أنه أقل عرضة للتلاعب به من قبل الطبقة الحاكمة مقارنة بالعقل. واعترضوا بصفة خاصة على مزاعم الخليفة المأمون المتعلقة بموثوقية رؤيته لمعنى النص القرآني. وبالإضافة إلى الدفاع عن مكانة القرآن، كان هؤلاء العلماء مهتمين أيضا بالدفاع عن آلاف الروايات الخاصة بأقوال وأفعال محمد المعروفة بالحديث، وإبراز مكانتها. ووسط هذه الجدالات التي تجمعت بطبيعة الحال في بغداد بصفتها عاصمة الخلافة العباسية، بدأ في الظهور ما يعرف اليوم بالإسلام السني. إن تلك «الكتلة الدستورية» القائمة على افتراض أن المسلمين يمثلون مجتمعا معنويا أكثر منه سياسيا، يربط بين أفراده التزام تجاه رسالة القرآن والسنة النبوية كما هي مدونة في الحديث؛ أعطت بالرغم من ذلك مكانة خاصة لعلماء الدين الذين كانت لديهم خبرة في فهم النصوص الدينية تمكنهم من تحديد ماهية الرسالة الفعلية للقرآن والحديث.
22
على الجانب الآخر، كان يوجد أشخاص ظلوا أوفياء للفكرة الإسلامية القديمة التي ترى تمثل السلطة والمعرفة الدينية في شخص واحد، وعلى الرغم من أن أفكارهم استغرقت أيضا عقودا طويلة حتى تبلورت، فقد احتفظوا بلقبهم القديم وهو الشيعة؛ حيث إنهم كانوا أنصار الإمام علي، قائدهم الأول وصهر النبي محمد. وبعد قرنين من رحيل النبي محمد عن مجتمع المسلمين الذي أسسه، كانت هذه الجدالات محاولات لفهم المصادر التي تركها لذلك المجتمع؛ سواء تلك التي مصدرها الوحي المتمثل في القرآن، أو سنته المتمثلة في الحديث، أو أسرته المتمثلة في نسل علي.
يحظى سياق الجدالات المستمرة والمصادر الثقافية هذا بالأهمية ؛ إذ إنه يمنعنا من الوقوع في شرك اعتقاد أن الصوفيين بصفتهم «متصوفين» كانوا في الأساس أشخاصا يسعون إلى تكوين علاقة مباشرة مع الله؛ ومن ثم لم يكونوا في حاجة كبيرة إلى إرشاد القرآن أو السنة النبوية. وسوف يمنعنا هذا السياق أيضا من افتراض أن الصوفيين منذ نشأتهم كانوا في منافسة مع علماء الدين.
23
على النقيض من ذلك، فمن خلال أقدم المصادر التي لدينا عنهم، بدا أنهم كانوا مهتمين بشدة بالقرآن والسنة النبوية، وهذا الاهتمام بالنصوص المكتوبة هو ما مكننا من كتابة تاريخهم. ونظرا لأنه في هذه الفترة كانت تعاملات معظم هذه الشخصيات مع القرآن والحديث من خلال الحفظ الشفهي بدلا من اللجوء المنتظم إلى الكتب المكتوبة بخط اليد، فإن التركيز يجب أن يتحول من الجانب المكتوب إلى الجانب الشفهي، لكن ستظل الفكرة العامة هي أن الصوفية وعلماء الدين كانوا على حد سواء في اهتمامهم بالنصوص الشفهية والنصوص المكتوبة، مع مجادلة الصوفيين في مدى تبيان التجربة للمعاني الحقيقية لهذه النصوص.
24
Page inconnue
ربما كان يوجد في هذه الفترة أشخاص كثر كانت لهم حالات تواصل مباشرة مع الله لم تكن لها علاقة بالقرآن، وكان يوجد بالتأكيد بين الصوفيين الأوائل من زعم أن مسعاهم التجريبي المعروف باسم «التحقيق» قد جعل مزاعمهم المعرفية مقدمة على تلك المعتمدة فقط على النص القرآني. وباستثناء شخصية بارزة سوف نتناولها في القسم القادم، فإننا إلى حد كبير لا نعلم إلا قليلا عن مثل هؤلاء الشخصيات، إما لأنهم لم يكونوا ضمن أعضاء الطبقة المنتجة للنصوص، وإما لأنهم كانوا غير قادرين على كسب دعمهم.
عند وضع الصوفيين الأوائل في سياق زمنهم «الأفقي»، سنحتاج إلى إدراك أن ظهورهم ينتمي إلى عملية تكوين طبقة علماء أوسع نطاقا، لم تكن مزودة فحسب بمعرفة القرآن والحديث والمهارات الخاصة بتفسيرهما، بل كانت أيضا تكتسب نفوذا اجتماعيا متزايدا بسبب امتلاكها لهذه المعرفة النصية أو الشفهية وتطبيق نموذجها القويم. ونظرا لعيشهم في المدن الكبرى، فإنهم لم يكونوا هؤلاء الزهاد المنعزلين ساكني الجبال أو المناطق الحدودية. ولم يكونوا من ساكني الأبراج العاجية المنعزلين عن الواقع في المدينة نفسها؛ لأن معرفة الحلال والحرام والقدرة على إقناع الآخرين من خلال الفتوى أو السلطة الأخلاقية الشخصية كانت لهما تأثيرات عملية هائلة. وعلى الرغم من وجود استثناءات، فإن الحكم العام سيظل كما هو في الأجيال التالية، وهو يتمثل في أن الصوفيين الناجحين، سواء أكانوا علماء أم شعراء أم علماء في الماورائيات أم علماء في الأخلاق، نادرا ما كانوا بمعزل عن العلم والتأليف أو عن الحديث والقرآن؛ تلك الأمور التي وضعت أسس التعلم الإسلامي. وبالرغم من ذلك، فإن الصوفيين الأوائل لم يكونوا مؤلفين فحسب، ويجب أن نرى أن مزاعمهم حول المعرفة التجريبية لا تجعلهم مختلفين بالكامل عن طبقة علماء الدين الناشئة، بل تجعلهم مجموعة فرعية خاصة أو حتى مجموعة منشقة تشترك في الكثير مع هؤلاء العلماء، باستثناء زعم واحد يتمثل في سلطة التواصل المباشر مع العوالم الإلهية.
إذا كان القرآن والحديث هما مصدرا الأشخاص الذين يسمون بالصوفيين، فكيف إذا استخدموا هذين المصدرين في تكوين معتقداتهم وممارساتهم وفي فهم تجاربهم؟ باختصار، فعلوا ذلك عن طريق الحفظ والتطبيق؛ فقد حفظوا كل آيات القرآن عن ظهر قلب، وطبقوا كل ما جاء في الحديث من أخلاق في سلوكهم.
25
والأهم أنهم تبنوا أيضا ألفاظا من القرآن لخلق مصطلحات يجيزها النص القرآني لوصف الممارسات وأشكال التجربة الروحانية التي أضافوها إلى الطقوس الدينية للأعضاء الآخرين في طبقة العلماء؛ لذلك فهذا النوع من المعرفة ليس سلبيا، وإذا كنا قد أكدنا على علاقة الصوفيين بالكتب، فإننا يجب أن نوضح طريقتهم في استخدامها؛ فالكتب بالنسبة إليهم أدوات للتأمل من ناحية، والعمل من ناحية أخرى.
26
وعلى الرغم من أننا أوضحنا أنه بظهور الورق تزايد على نحو كبير إنتاج الكتب في بغداد مقارنة بما كان يحدث في العالم الغربي، فإن هذه الكتب كانت لا تزال تكتب بخط اليد، وتعتبر من المقتنيات الثمينة. وهذه العوامل المادية أثرت على ثقافة القراءة التي نشأت بسببها، لكن كان يوجد عائق واحد يتمثل في أن النصوص الدينية كانت تستغرق وقتا أطول في كتابتها على الورق أكثر مما تستغرقه النصوص غير الدينية؛ كالقصائد والأعمال العلمية وكتب الطهي. وكما هو الحال في مجتمعات المخطوطات الأخرى التي وجد فيها استخدام الكتب داخل إطار أشكال تعلم شفهية أوسع نطاقا، كانت الكتب تقرأ بتعمق وعلى نحو متكرر، وهي عملية كانت تتعقد في بعض الأحيان بالحاجة إلى أن يكتب المرء نسخته الخاصة من الكتاب، أو أن يحفظه عن ظهر قلب كي يحصل عليه. وفي حين كان العلماء أنفسهم يجيدون القراءة والكتابة، فإن بعض أتباعهم لم يكونوا كذلك؛ ومن ثم كانوا يستمعون إلى الكتب في كل مرة تقرأ فيها. وبدلا من تمييز صفحة بقلم تظليل، كان هؤلاء القراء السمعيون معتادين على حفظ واستيعاب المحتويات ذهنيا. وكما سنرى لاحقا، فإن ثقافة القراءة الجهرية للكتب أثرت أيضا على شكل المحتويات؛ فبعد عدة قرون لاحقة كانت معظم كتب الصوفية تشتمل على السرد القصصي الشخصي، أو ذكر النقاط الرئيسية للموضوع بطريقة مسجوعة؛ بحيث يتمكن السامعون من تذكرها بسهولة. إلا أنه قبل اعتياد الصوفيين على تدوين كتبهم، فإنهم كانوا يقرءون القرآن والحديث بهذه الطريقة النشطة والذاتية مثل بقية المتعلمين في هذه الفترة.
هذا المعنى للقراءة باعتباره نوعا من التفاعل النشط مع النص القرآني يمكننا من تناول أحد الجدالات الرئيسية الأخرى المثارة حول أصول الصوفية. إن فكرة نشأة الصوفية عن القرآن لاقت أكبر قدر من المؤيدين لها بين الباحثين الفرانكوفونيين، ومؤخرا بين الأمريكيين، ورأوا غالبا أنها نظير «النزعة الداخلية» لروايات «النزعة الخارجية» التي ترجع أصول الصوفية إلى مؤثرات مسيحية أو غير مسلمة.
27
أظهر تتبع أصول المفردات الخاصة أو المعجم الصوفي الذي طورته الأجيال الأولى من الصوفية في كتاباتها؛ أنها كانت إلى حد هائل مفردات مردها القرآن. واستخدم ذلك بدوره في القول بأن الصوفية كانت منتجا إسلاميا «داخليا» يتميز بالتماسك والترابط، وليست نتيجة لمؤثرات خارجية.
Page inconnue
28
بطبيعة الحال، تنطوي الحجة على بعض العيوب الأساسية المتعلقة بالتفريق المسبق بين الكلمات والأمور؛ فمجرد اختيار الصوفيين وصف ممارساتهم أو معتقداتهم بمصطلحات قرآنية لا يعني بالضرورة أن الممارسات أو المعتقدات الفعلية نفسها مصدرها القرآن. استخدم نقاد هذه النظرية أسلوب القرآن الذي رأوا أنه جاف أو طائفي أو سردي، لتوضيح أن القرآن كدليل في حد ذاته لا يمكن أن يكون مصدر معتقدات الصوفيين: «فالنص [القرآني] يتميز بالصرامة والإحكام، وقد اضطر متصوفو الإسلام إلى أن يعملوا جاهدين من أجل استنباط معان باطنية تعكس تواصلهم الشخصي مع الله.»
29
بيد أن جواب هذه المسألة يمكن أن يكمن في كلمات النقد نفسه؛ فقد اضطر الصوفيون بالفعل إلى العمل بكد في معالجة النص القرآني؛ لأن هذا التعاطي التأملي والنشط مع معانيه هو بالضبط طريقة معالجتهم له. وبدلا من صياغة الجدل حول ما يمكن أن نراه كقراء متأخرين في القرآن (الصرامة والإحكام)، والمطالبة بامتلاك النص نفسه بطريقة أو بأخرى للقدرة على خلق معتقدات وحركات في العالم الخارجي، فإنه من الأفضل أن نحول منظورنا نحو التساؤل عما رآه الصوفيون الأوائل أنفسهم في القرآن، وأن نسأل أنفسنا كيف أنتجت أساليب القراءة الفعالة التي اتبعوها تلك المعاني من خلال التفاعل الإبداعي بين حياتهم وظروفهم وبين النص القرآني؛ ومن ثم، لا تصبح المسألة متمثلة فيما إذا كانت «الصوفية» قد نشأت عن القرآن أم لا، بل تصبح متمثلة فيما إذا كان صوفيو القرن التاسع قد استخدموا القرآن باعتباره مصدرا لفهم العالم من حولهم ولخلق طرق تعامل أخلاقي وفكري وعملي مع العالم.
30
لا يوجد خطأ في التساؤل حول ما إذا كان الصوفيون قد جعلوا أفكارهم تنبع من كتاب الإسلام المقدس؛ لأن هذا بالضبط هو طريقة قراءة الكتب المقدسة. استخدم الحديث بطرق مشابهة، واستخدمت جماعات مختلفة آلافا من الروايات المتناقضة غالبا التي تروي أقوال أو أفعال النبي محمد للدفاع عن أفعالهم أو لانتقاد أفعال الآخرين. وكما هو الحال مع القرآن، لم يكن الحديث في حد ذاته «أداة» أو «مصدرا» بالضرورة للحركات الدينية، بل كان مصدرا استخدمه الصوفيون مثلما فعل معاصروهم الآخرون في تكوين تعاليمهم والدفاع عنها. أخيرا، استخدم القرآن أيضا بين الصوفيين باعتباره مصدرا للعبارات المغناة التي كونت ممارسة الإنشاد الصوفي الخاصة بذكر الله (وهو مصطلح مأخوذ أيضا من القرآن). في مثل هذه السياقات، كانت كلمات القرآن ليست مجرد مصدر للمعنى اللغوي، بل كانت مثيرا صوتيا لحالات ذهنية مختلفة.
شكل 1-2: تأمل القرآن: صحيفة للآيتين 199-200 من سورة البقرة تعود للعراق في القرن التاسع (معرض فرير للفنون، مؤسسة سميثسونيان، واشنطن: بيرتشيس، إف194217، إف1937. 6. 7ب).
بهذه الطريقة، يمكننا أن نرى كيف استخدم الصوفيون الأوائل مصادر الماضي الخطابية المميزة (القرآن والسنة النبوية) لتطوير «طريقتهم الدينية» وتأسيسها اعتمادا على مصادر السلطة الشرعية المعترف بها لدى معاصريهم. إن للكلمات تاريخا، ومن ثم تتغير معانيها مع مرور الزمن، وفي الأزمان والأماكن المختلفة التي تقرأ فيها كلمات النص القرآني المحفوظة، تستخدم للإشارة إلى أمور مختلفة في العالم عن تلك التي أشارت إليها في زمان ومكان نزوله؛ ولذلك استخدم القرآن في بغداد في منتصف القرن التاسع باعتباره مصدرا لغويا لمصطلحات كانت لها معان مختلفة وأشارت إلى أنشطة وفضائل ومشاعر مختلفة عما أشارت إليه للقراء المسلمين من الأجيال السابقة. ونظرا لأن العراق في هذه الفترة كان مجتمعا أكثر تعقيدا وعالمية إلى حد كبير عن شبه الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن؛ فقد كانت الأفعال والأفكار التي ارتبطت بمصطلحاته مختلفة بالضرورة في هذا الزمن المتأخر. ونظرا للتبادلات الثقافية اليومية التي حدثت في العراق في القرن التاسع، فإنه سيكون من المفاجئ لو أن بعض الأفعال أو الأفكار التي ارتبطت بكلمات القرآن لم تقتبس من قبل سكان المنطقة غير المسلمين الكثيرين. فعندما تكتب مسيحية أمريكية معاصرة - استجابة لتوصية الكتاب المقدس بالإحسان - شيكا لإحدى المنظمات الخيرية، فإنها لا تعد أقل تدينا لأن مثل هذه الإجراءات المصرفية ابتكرت في الجمهورية الهولندية، وليس في فلسطين الرومانية. إذا، في نهاية المطاف، فإن مسألة ما إذا كانت الصوفية قد نشأت عن القرآن أم عن أمور مقتبسة من المسيحية، هي مسألة زائفة تبسط الطريقة التي قرئ بها النص القرآني، والتي أنتجت بها الأفكار والأفعال الدينية.
بين أوساط مفسري القرآن والحديث المتخصصين، كان الصوفيون الأوائل أقرب إلى اتجاه الدفاع عن الوحي والتقليد وتقديمهما على العقل ؛ فقد كانوا بعيدين كل البعد عن كونهم زنادقة منتهكين لأحكام الشريعة، أو راديكاليين روحانيين؛ لذلك، فإننا على الأرجح يجب أن نراهم باعتبارهم جماعة محافظة بوجه عام. وبدلا من الهروب من المجتمع مثل الزهاد الأوائل، كانوا في الغالب داعمين بشدة للنظام الأخلاقي والقانوني الناشئ. وعلى غرار الحركة السنية الناشئة التي اشتركوا فيها، اتبعوا الأمر القرآني الذي ينص على «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، حتى لو أزعج ذلك من لا يرغبون في التحلي بالأخلاق.
31
Page inconnue