La Sufisme : Ses Origines et Son Histoire
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Genres
أول هذه التطورات الكبرى التي شهدناها يمكن أن نصفه بأنه خطابي، ومن خلاله استخدم الصوفيون الأوائل المصادر النصية المتمثلة في القرآن والسنة من أجل تطوير مصطلحات صوفية مبجلة يصفون بها الأفكار والأنشطة التي روجوها. وسواء أشارت هذه المصطلحات الصوفية إلى أشخاص معينين مثل «أولياء الله»، أم إلى أنشطة محددة مثل «الذكر»، أم إلى توجهات اجتماعية معينة مثل «التوكل على الله»، فإنها ربطت الصوفيين منذ بدايتهم بالتطورات الأوسع نطاقا في الاتجاه السائد في الفكر الإسلامي. وبالإضافة إلى كون هذه المصطلحات مبجلة، يجب أيضا أن نستنتج أن الأتباع الذين التفوا على نحو متزايد حول الشيوخ الصوفيين وجدوا هذه المصطلحات مفهومة ومفيدة؛ مما سمح لهم بفهم تجاربهم الخاصة أثناء التأمل والصلاة؛ ومن ثم تعميق التزامهم بالرؤى النفسية والاجتماعية الأوسع نطاقا، التي كان يكونها المسلمون في هذه القرون. وكما رأينا، فإن هذه المصطلحات وأنواع النصوص المختلفة التي استخدمتها لشرح المعتقدات المتعلقة بالطريقة الصوفية والأولياء كانت مفهومة في كل من خراسان والعراق؛ مما ساعد في اكتساب الحركة - العراقية الأصل - أتباعا في المناطق الشرقية التي قد كونت في السابق حركات دينية خاصة بها. وفي هذه المناطق الشرقية وجدنا أكمل الأدلة النصية على تحول الصوفية من فكرة إلى تقليد، وهذه عملية رأينا فيها دورا محوريا في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر لأعمال السير التي استخدمت إطارا من النسب، لتوضح أن المعتقد الصوفي توارثته الأجيال (الطبقات) منذ وقت النبي محمد وحتى وقت كاتب السيرة. وفي هذا الصدد، نشهد عملية كانت فيها الكتابات والسير المتذكرة للصوفيين الأوائل في العراق (بالإضافة إلى الزهاد شبه التاريخيين في فترة سابقة) بمنزلة «ماض قابل للاستخدام»؛ أي تاريخ يمكن توظيفه استراتيجيا لبناء تقليد مرموق وشرعي.
ساعدت هذه المكانة المرموقة والشرعية الصوفيين على كسب المزيد من المؤيدين وحمايتهم من إمكانية انتقادهم بسبب ابتداعهم المنحرف. وبالإضافة إلى ذلك، وضعتا طرقهم مباشرة في إطار معرفي سائد اعتبر فيه التقليد والوحي أعلى مكانة من الابتكار والعقل.
115
إن محاولات الصوفيين المتكررة لربط أنفسهم بالماضي الموثوق فيه - سواء أكان ذلك من خلال استخدامهم للقرآن والحديث أم من خلال أنساب شيوخهم - تشير مرة أخرى إلى خطر فكرة رؤية الصوفيين باعتبارهم «متصوفين» يهتمون في الأساس بالسعي وراء التجربة. وعلى الرغم من أن السعي وراء التجربة - الذي أصبح يشير إليه كثير من الصوفيين في نهاية هذه الفترة باسم «الذوق» - كان سمة مهمة في النشاط الصوفي، فإننا يجب أن نتذكر أن الصوفيين كانوا منهمكين في صراع دائم لربط هذه التجارب بمفاهيم التقليد المشروعة، التي تعبر عنها المصطلحات القديمة. هذا لا يعني أن الصوفيين أصبحوا «عالقين» بعض الشيء في هذه المصطلحات وهذا التقليد؛ لأننا في الفصول القادمة سوف نرى أنه على الرغم من بقاء المصطلحات القديمة، فإن معناها وما تشير إليه قد توسعا كثيرا على يد الكتاب المتأخرين؛ فالتقليد في النهاية مصدر قابل للتعديل.
في أثناء عملية التنافس والدمج، التي من خلالها توسع الصوفيون من ساحتهم الأولى في العراق، ساعدهم أيضا اندماجهم في الأطر المؤسسية الأوسع نطاقا للتيار السني (مثل: المذهب الشافعي والمدارس)، وكذلك تطويرهم لآليات مؤسسية خاصة بهم (مثل: العلاقة السلطوية بين الشيخ والمريد والخانقاوات). ومقارنة بمتطلبات المتصوفين القاسية مثل الزهاد والكرامية، فإن جاذبية الرسالة الصوفية ربما ساعدها أيضا الاهتمام بالامتثال الاجتماعي والاعتدال؛ إذ على الرغم من أنه كان هناك بالتأكيد صوفيون زهاد اكتسبوا شهرة في هذه الفترة، بين أوساط العلماء وبين العوام، فقد كانت مواءمة الصوفيين لتعاليمهم الروحانية مع الهياكل الدنيوية للحياة الاجتماعية والاقتصادية والأسرية؛ هي ما منحهم الدعم اللازم للاستمرار والانتشار على نحو يفوق حركات الزهد والحركات الباطنية الأخرى التي ازدهرت في وقتهم واضمحلت.
في نهاية الفترة ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، نرى أيضا أن فكرة كون الصوفيين أولياء لله، يستطيعون بصفة خاصة التمتع بقوة الله، قد مكنتهم من اكتساب طيف أكبر من الأتباع بين صفوف العوام، الذين كانت التدخلات الإعجازية في حياتهم العادية ذات أهمية أكثر إلحاحا من رؤيتهم المباشرة لله. إن هذا الانتشار للفكر الصوفي - الذي شهدناه في سير رجال مثل أبي سعيد الميهني - خارج دائرة العلماء والحضر ليصل إلى الأميين والريفيين؛ يجب ألا نعتبره عملية «تدهور»، بل شهد ذلك الانتشار النتائج الاجتماعية لأفكار الولاية التي استعرضها بعض المنظرين الصوفيين الأوائل. وكما سنرى في الفصل الثاني، فعلى الأرجح كان إطلاق العنان الكامل لهذا الانتشار للفكر الصوفي هو التطور الأهم في التاريخ الصوفي. وعلى الرغم من أننا لم نصل بعد إلى نهاية القصة، نتيجة لما سلف ذكره، فإننا يمكننا في الوقت الحاضر على الأقل القول في العموم إن الفترة ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر شهدت تطور الصوفية من مجرد لفظة مستخدمة محليا للإشارة إلى «لابسي الصوف»، إلى طريقة معرفية مفصلة في عدد متزايد من النصوص، وأخيرا إلى تقليد حاز على التمكين من خلال الآليات المؤسسية المتمثلة في الانتساب الجماعي وإعادة الإنتاج.
الفصل الثاني
إسلام الأولياء والطرق (1100-1400)
(1) سياقات متغيرة
في القرون ما بين منتصف القرن التاسع والقرن الثاني عشر، شهدنا ظهور الصوفيين باعتبارهم مجموعة من مجموعات إسلامية كثيرة تعمل في العراق وتكتسب أتباعا، وأيضا إحساسا واعيا بالتقليد، وأسلوبا تنظيميا مؤسسيا أكبر من خلال توسعهم شرقا في إيران وآسيا الوسطى. وفي حين ركز الفصل السابق على المنطقتين الأساسيتين للإنتاج الصوفي المبكر، المتمثلتين في العراق وخراسان، فإنه بحلول القرن الثاني عشر أصبح للصوفيين وجود كبير أيضا في الغرب الإسلامي في إسبانيا وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى بدايات توسعهم المؤثر على نحو هائل في الهند. وبعد أن أسس الصوفيون نقاط الانطلاق المؤسسية خاصتهم عبر منطقة واسعة، شهدت الفترة ما بين القرن الثاني عشر والقرن السادس عشر - التي سوف نتطرق إليها الآن - تحقيق الصوفيين صعودا هائلا لمكانة تمثلت في أنهم كانوا من المغرب إلى البنغال محاور اجتماعية وفكرية، في مختلف المجتمعات التي اخترقوها عبر هذه المنطقة الشاسعة. وبحلول القرن السادس عشر، كان الصوفيون حماة للملوك وتابعين لهم في آن واحد، وكانوا كذلك مهمين لحياة المجموعات المنتمية للطبقة الدنيا في المدن وفي الريف أيضا، وقد عزز تلك المكانة الدور الذي لعبوه في تحويل جماعات البدو والمزارعين إلى الإسلام عند توسيعهم للمناطق الحدودية.
Page inconnue