La Sufisme : Ses Origines et Son Histoire
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Genres
بنسب متفاوتة، اعتبر أن كل هؤلاء الأولياء يعلمون صفات الله الإلهية من خلال ما يمتلكونه من «معرفة» خاصة، هذا بالإضافة إلى قدرتهم على صنع المعجزات أو ما يطلق عليه «الكرامات». وإذا كان زعما التنبؤ بالمستقبل وصنع الطلاسم الحامية (الأحجبة) يعتبران في العصور الحديثة منتميين لعالم «الشعوذة» أكثر من انتمائهما لعالم «التصوف»، فإن كلا الأمرين كانا من الخدمات المهمة التي كان يطلبها المريدون من شيوخهم الصوفيين. ونظرا لأن القدرات الإعجازية للأولياء كانت تتراوح بين شفاء الأطفال المرضى وتحديد نتائج المعارك الحربية، فقد كان السلاطين من ضمن مريدي هؤلاء الأولياء بقدر ما كان الفلاحون. وبالرغم من ذلك، لم يكن هؤلاء المريدون أقل أهمية من شيوخهم الأولياء فيما يتعلق باستمرار التقليد الصوفي؛ فمن خلال استقبالهم التعاليم والمعجزات وتقديمهم المناصرة والدعم، سمحوا بالاحتفاء بأفعال وتعاليم شيوخهم وتوارثها. ونظرا لكون الشيوخ والمريدين يمثلان شقي التقليد الصوفي المتلازمين، فقد اعتبرا لأغراض هذا الكتاب شريكين متساويين فيه.
ونظرا لمحورية هذه الروابط بين المريدين والشيوخ، وبعيدا عن كونها السعي الفردي للحصول على الخلاص الشخصي، فإنه من الممكن اعتبار الصوفية محصلة مجموعات مشابهة من العلاقات؛ وذلك على النحو التالي: العلاقة بين الأولياء وأتباعهم، والعلاقة بين قراء وكتاب النصوص الصوفية، والعلاقة بين النبي محمد والشيخ الوسيط والمؤمن البسيط، والعلاقة بين الشيخ ومن يطيعونه؛ حيث إن الطاعة الكاملة لطالما كانت الأساس العاطفي للتقليد الصوفي. وفيما يتعلق بمساعي الصوفيين الشخصية للخلاص، فقد فعلوا ذلك عادة من خلال إدارة تلك العلاقات بين الحي والميت، والمادي والنصي، والمرئي وغير المرئي. إن هذا الوصف للصوفية القائم في جوهره على العلاقات، هو ما جعل تعبيراتها ومكوناتها المتنوعة حاضرة في قلب كثير من المجتمعات المسلمة التي في حد ذاتها ترابطت معا بمجموعات من العلاقات التي تشربت هذه الروابط الصوفية المباركة، وتضافرت معها. إن نتائج هذه العلاقات التي أسفرت عن التقليد الصوفي الذي تراكم في أماكن كثيرة عبر قرون كثيرة، هي ما يركز عليه هذا الكتاب. (4) نظرة عامة على السرد المقدم في الكتاب
تقدم الفصول القادمة سردا تاريخيا لظهور التقليد الصوفي والانتشار الاجتماعي والجغرافي الذي صاحب استحواذه التدريجي على السلطة والمكانة. وقد اقتضت الحاجة لتقديم سرد متماسك وسلس وجود تقييم غير معلن على نحو كبير للمصادر الأساسية أو الثانوية المختلفة؛ ومن ثم، يجب على الطلاب الراغبين في تقييمات تأريخية دقيقة الرجوع إلى المقالات النقدية الحديثة التي كتبها باحثون مثلي ومثل ألكسندر كنيش ودينا لي جال.
20
ولمساعدة القراء في وضع الصوفيين في إطار مفاهيم أكبر خاصة بالتاريخ الإسلامي، والتاريخ المقارن، والتاريخ العالمي في نهاية المطاف، قسم سرد الكتاب إلى أربع فترات تقليدية إلى حد كبير، لكنها فترات يعتقد أنها تشتمل على تطورات مميزة في التاريخ الصوفي نفسه. وهذه الفترات التي يتناولها الكتاب في أربعة فصول هي كالتالي: فترة أوائل العصور الوسطى (800-1100)، وفترة العصور الوسطى (1100-1400)، وفترة أوائل العصر الحديث (1400-1800)، وفترة العصر الحديث (1800-2000). الفصول مؤلفة بطرق مختلفة على نحو تدريجي؛ فبينما يركز الفصل الأول على المفكرين الأوائل والنصوص الأولى اللذين قدما الأسس والمصادر اللاحقة للتقليد الصوفي، يركز الفصل الثاني على العمليات التي تمكن من خلالها هذا التقليد من التكيف والتوسع في سياقات جغرافية واجتماعية مختلفة. ونظرا لتناول الفصل الثالث لفترة التوسع الصوفي «ذي الطابع العالمي» في أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى الصين، فإنه يتناول جوانب جغرافية، في حين أن الفصل الرابع يلتفت إلى التأريخ السياسي ليتتبع أحوال التقليد الصوفي في العصر الحديث، فيما يتعلق بفترتين مترابطتين، هما فترة الاستعمار وفترة عولمة ما بعد الاستعمار.
ونظرا للطابع المتغير للمصادر التي تناولت هذه الفترات المختلفة، واختلاف أنواع الخبرات والمناهج الأكاديمية التي انجذبت إلى تلك المصادر، فإنه لا بد من وجود تحول في التركيز مع تقدم هذه الفصول؛ من التركيز على كتابات «الرجال العظماء» الحضريين المستقلين في الفصل الأول، إلى العرض التدريجي لمجموعات اجتماعية وتطورات أخرى بدلا من التركيز على التطورات الفكرية. إن معظم القراء الأكثر حصافة سيدركون بسهولة أن هذا جزء من مسعى البحث التاريخي والتاريخ الصوفي نفسه؛ فمع ترك الكثير من الصوفيين، على اختلاف طرقهم، أنواعا مختلفة من التراث - سواء النصي، أو المادي، أو الطقسي - لورثتهم، تمكن الباحثون من تكوين صور أكمل لعوالمهم. على الرغم من ذلك، وعلى النقيض من الدراسات السابقة للصوفية، فقد خصصت في هذا السرد مساحات متساوية تقريبا لكل فترة من الفترات الأربع، هذا بالرغم من أنه من الجائز القول إن المتخصصين سوف يجدون الكثير من الأمور المألوفة حقا بالنسبة إليهم في أجزاء من الفصلين الأول والثاني؛ نظرا لأن الفترات الأولى قد حظيت بتناول أكبر بكثير. بالرغم من ذلك، عند تناول التوسع العالمي المتزايد تدريجيا للصوفيين، يقدم الفصل الثاني، والفصلان الثالث والرابع بصفة خاصة، تغطية لمناطق في أفريقيا ووسط آسيا وجنوبها الشرقي وجنوبها، وأخيرا أوروبا التي اعتبرت عادة هامشية بالنسبة إلى «مواطن» الصوفية، المفترض أنها واقعة في الشرق الأوسط. وحتى إذا وجد بعض القراء في بعض المواضع أن الموضوع مألوف بالنسبة إليهم، فإنني آمل أن يضفي نطاق التناول والنموذج الشامل لتقليد يتطور ويتوزع تدريجيا في سياقات كثيرة مختلفة؛ الأصالة على السرد ككل.
تتمثل خطورة تناول هذا القدر الكبير من الموضوعات في كتاب واحد في فقدان الوضوح وسط هذا الكم الكبير من البيانات، خاصة في الفترات التي شهدت التوسع السريع للصوفية بداية من أوائل العصر الحديث. لهذا السبب، قد يكون من المفيد في هذه المرحلة أن نوضح بأبسط طريقة التفسير الكلي للتاريخ الصوفي الكامن في هذا السرد. تتمثل الحجة باختصار في أن التقليد الصوفي تشكل على نحو تدريجي في أوائل فترة العصور الوسطى، داخل الدوائر نفسها التي تكونت فيها الفكرة الإسلامية المعيارية الخاصة بالسنة التي تمثل النموذج النبوي؛ ففي القرنين التاسع والعاشر، كتبت مجموعة متنوعة من المفكرين المقيمين في العراق وإيران سلسلة من الأعمال باللغة العربية، أصبحت أساسية في تقديم المصادر الاصطلاحية والمفاهيمية التي ستورث إلى الأجيال التالية. نقلت مصطلحات هذا المعجم الصوفي على هيئة كلمات مقترضة إلى اللغات الإسلامية المتعددة، ومثلت مع النماذج الخطابية التي طورتها الإطار المفاهيمي للصوفيين في العصور الحديثة.
21
ومنذ أوائل القرن الحادي عشر، بني الجيل الثالث والجيل الرابع من الصوفيين على أفكار المنظرين الأوائل، هذه الأفكار التي تكون متناقضة في بعض الأحيان؛ من خلال وضع سجلات أنساب وتواريخ لتعاليمهم تربطها بوقت قديم يعود إلى عصر النبي محمد. منذ هذه اللحظة فصاعدا، أصبح هذا الميل إلى النظر إلى الماضي ضروريا للوعي الذاتي التاريخي الذي قدم تعاليم الصوفيين كتقليد يمكنهم أن يقدموه على أنه العقيدة الأسمى التي توارثوها دون انقطاع عن النبي محمد نفسه.
بالتمسك بما حوله الصوفيون في فترة العصور الوسطى من بلاغة خطابية إلى تقليد راسخ ملموس، تمكنوا من الحفاظ على وضعهم المعياري المحترم عندما جعلهم انهيار السلطة الإسلامية المركزية ممثلين مهمين للكيانات القبلية الضعيفة التي ناصرتهم في المقابل. ومع توسعهم حينها في مناطق حدودية جديدة في جنوب شرق آسيا، وأيضا في أفريقيا في أوائل العصر الحديث، تمكنوا من الحفاظ على مكانتهم هذه حتى بالرغم من اندماجهم المتزايد في دول إمبريالية أكثر قوة، وحملة التصحيح التي أعقبت بداية الألفية الإسلامية عام 1591. وأثناء الانهيار الكبير للقوة التجارية والسياسية الإسلامية في العصر الحديث، كانت الصوفية من بين المؤسسات الإسلامية القليلة الموجودة فيما قبل العصر الحديث، التي نجت من الاستعمار الأوروبي بلا تأثر إلى حد كبير. وباعتبار الصوفيين تجسيدا للتقليد النبوي، وكذلك للتقليد الصوفي في المجتمعات الكثيرة جدا، التي ظلوا يمتلكون فيها الأراضي ويسيطرون على شبكات التعليم والالتحاق بالطرق الصوفية؛ فإن استمرار مكانتهم البارزة في القرن التاسع عشر جعلهم ينجذبون إلى اتجاهات مختلفة بسبب مطالب كل من المريدين المحليين والحكام الاستعماريين.
Page inconnue