Soudan
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Genres
تلك هي الخطة العامة التي التزمتها اللجنة في تكون آرائها، ولا غنى في هذا المقام عن بيان بضع قواعد وأساليب بحث اتبعتها اللجنة وهي تعالج بالفعل المسألة المطروحة أمامها، فنقول: إن العملية الأساسية هي تقسيم السنة إلى فصلين وعلى الأخص تحديد الوقت الذي يكف فيه السودان عن أخذ الماء من التصرف الطبيعي للنهر عند سنار. ولقد ذهب كتاب (ضبط النيل) إلى أن يكون هذا الوقت متفقا مع البدء في تفريغ خزان أسوان، فوضع خزان سنار ليمد ترعة الجزيرة بالماء اللازم لها بعد 18 يناير، وهو التاريخ الذي يقابل في أسوان البدء في تفريغ الخزان في سنة 1913-1914، وهي سنة الانخفاض الخارق للعادة. ولقد أقرت أغلبية اللجنة هذه الطريقة، غير أنها أشارت بجواز تغيير هذا التاريخ تبعا لحالة النيل في كل سنة على أن يكون ذلك بعد يوم 18 يناير عادة، رأت اللجنة ذلك أولى من جعل التاريخ المذكور ثابتا لا يتغير تبعا لحالة الفيضان في سنة 1913-1914، وقد كانت حالة شاذة.
ليس من رأي هذه اللجنة اعتبار وقت البدء في تفريغ خزان أسوان مقياسا صحيحا للدلالة على انتهاء مدة زيادة التصرف على المطالب، فقد يجوز مع انتهاء مدة هذه الزيادة ألا يبدأ بتفريغ الخزان، بل يحتفظ بمائه زمنا ما توقعا لشدة الحاجة إليه فيما يلي من الشهور. لهذا الاعتبار رأت اللجنة ألا تأخذ بهذا المقياس، بل تأخذ بانتهاء مدة الزيادة فعلا حسبما يعلم من تصرف الترع والموازنة على قناطر الدلتا وإقامة سد دمياط وسد رشيد.
فكرت اللجنة فيما إذا كانت تبني آراءها على الحالة الشاذة التي كانت في سنة 1913-1914، أو على معدل مجموعة من السنين ، أو تضع مقياس تدرج بمقتضاه يقدم التاريخ الذي نحن بصدده ويؤخر تبعا لحالة كل سنة، ونظرت إلى أرصاد الفيضانات فرأتها تتناول أكثر من 960 سنة ليس فيها سوى أربعة فيضانات بلغت من التقصير مبلغ فيضان سنة 1913-1914. ومع تسليمها بعدم إغفال مثل هذه الفيضانات لاحتمال حدوثها لا ترى اتخاذها أساسا يبنى عليه مشروع ما، وكذلك ترى أن العمل بجدول التدرج لا يخلو من تعقيد، وأن التغيرات التي تعتري مناسيب النيل ليست من الخطورة بحيث تأبى التقيد بتاريخ وسط يصطلح عليه، فقررت الأخذ به وتطبيقه على السنين المنخفضة لترى ما يترتب عليه من نتائج. ولم يفت اللجنة التسليم بالحاجة إلى ترتيب خاص للفياضانات التي تكون من قبيل فيضان سنة 1913-1914.
ولقد فكرت اللجنة فيما إذا كان ينبغي لها وهي تعالج مسألة التوسع في ري السودان أن تجمع إلى اعتبار المساحات التي تروى اعتبار كمية الماء التي تستعمل في أوقات معينة، فلقد سبق - كما قدمنا في الفقرة 26 - تحديد مساحة المنزرع في الجزيرة بثلاثمائة ألف فدان مع القيود التي توجبها بطبيعة الحال سعة الخزان ويقتضيها تحديد الوقت الذي فيه يتسنى أخذ الماء من المنصرف الطبيعي ومقدار هذا الماء.
لكي تتسنى معالجة هذا الموضوع على الوجه الصحيح يجب أن تكون الأرصاد المتعلقة به مبنية على المواسم ومقادير الماء، فلا بد إذن من تدوين الأرصاد المتعلقة بتشغيل الخزان وكمية الماء التي تستمدها الترعة الرئيسية يوميا؛ لأن هذه الأوقات ومقادير الماء هي خير ما يستأنس به في فرض القيود التي لا غنى عنها في ضبط العمل بأية طريقة يهتدي إليها كنتيجة لاقتراحات اللجنة.
أما تحديد المساحة، فلن يكون وسيلة لضبط الماء المستمد من النهر إلا إذا اشترط معه التقيد بأنواع الزراعة وبدورة زراعية خاصة، ثم إن تحديد الزراعة يجر إلى فروض لا بد فيها من التوسع في التقدير وأخذ بالأحوط. وهذا التوسع وما ينطوي تحته من حيطة يستلزمها الشك في سعة الخزان وفي الماء الضائع وفي الماء اللازم لكل نوع من أنواع الزراعة يحول دون انتفاع السودان انتفاعا كاملا بمياه كبيرة الفائدة، فهو يؤثر في السودان أثرا غير صالح دون أن يعود على مصر بفائدة، ومن ثم كان تحديد المساحة ما لم تقدر عن سعة، مدعاة للإسراف في الري، وبديهي أن الإسراف فيه لا يكون في مصلحة المنتفعين به.
أخذت اللجنة بتلك الاعتبارات، فاستقر رأيها على أن تجعل الأوقات ومقادير الماء أساسا لمقترحاتها دون أي أساس آخر، وهي مقتنعة بأن جهات الاختصاص لا تلقى عناء في استنباط الوسائل التي بها يضبط سحب الماء من النهر ومن الخزان، وبشرط إيجاد هذه الوسائل لا ترى اللجنة من الوجهة الفنية حاجة إلى تقييد مساحة المنزرع علاوة على تقييد مقادير الماء، فإن المعروف من تقاليد الري يجعل في تحديد الأوقات ومقادير الماء الضمانات الكافية. أما إن مست الحاجة إلى التقيد بمساحة المنزرع كما حصل من قبل، فإن ذلك يكون راجعا إلى أسباب لا تدخل في اختصاص اللجان الفنية.
بقيت مسألة لم يكن للجنة بد من التفكير فيها وهي تضع خطة البحث في الموضوع الذي من أجله شكلت؛ ذلك أن الجزء الأكبر من أرض الصعيد يروى بطريقة الحياض، وأكثر اعتماده على منسوب الفيضان الطبيعي، ولا يعتمد على القناطر إلا قليلا. فكل ماء يستنزفه السودان إبان الفيضان يحدث لا محالة في هذا المنسوب أثرا يتبعه ضرر بري الحياض المصرية ، فالتسليم بأن لهذه الحياض حقا مطلقا في مناسيب الفيضان غير منقوصة يستلزم حتما تحريم ماء الفيضان على السودان.
جال بخاطر اللجنة تلقاء هذه الحالة أن من المتعذر إرجاء كل تحسين في ري السودان إلى أجل غير مسمى أو الاندفاع بلا روية في هذا التحسين والغلو في استمداد الماء اللازم له على ما فيه من تعريض حياض الصعيد لضرر بليغ. لهذا رأت ألا يتشبث بمناسيب الفيضان إلى حد إغفال تقدم الري في السودان، بل يقتصر في التمسك بها على القدر اللازم لتحديد مدى هذا التقدم وسرعة السير فيه.
ومما ساعد اللجنة على الأخذ بهذا الرأي ما قررته الحكومة عقب تشكيل اللجنة من بناء قنطرة أخرى في الوجه القبلي وما قررته بعد ذلك من إقامة سد جبل الأولياء لانتفاع مصر به، فإن إنجاز هذين المشروعين يجعل مناسيب الفيضان أقل أهمية لحياة مصر مما لو اقتصر الأمر على مشروعات السودان.
Page inconnue